تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها

____________________________________

على حالة في قلوبهم ، تمنعهم عن وعي كلام الرسول ، فصارت ملكة لهم ، والنسبة إلى الله ، لأن الله سبحانه جعل هذه الملكة عقيب تكرار اللامبالاة ، كما جعل العدالة عقيب تكرار الكف عن المحرمات (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) في الباطل ولم يتبعوا الحق ، فهؤلاء المنافقون حالهم حال الكفار الذين تقدم أنهم اتبعوا أهوائهم فهم مثلهم في العقاب ، وإيمانهم الظاهري لا ينفعهم.

[١٨] (وَ) بالعكس من المنافقين الذين يزدادون غيّا ، إذ كل مرة ينصرفون عن كلام الرسول وأوامره تزداد غشاوة قلوبهم سمكا ، كما في سائر الملكات التي تتقوى بالتكرار والممارسة (الَّذِينَ اهْتَدَوْا) حقيقة من المؤمنين (زادَهُمْ) الله (هُدىً) بكلمات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ تتقوى ملكة الإيمان في قلوبهم (وَآتاهُمْ) أعطاهم الله (تَقْواهُمْ) اللائقة بهم ، إذ ترفع درجات التقوى في نفس الإنسان المؤمن حتى تصل إلى غايتها الممكنة.

[١٩] فليرجع المنافقون عن غيهم قبل مجيء يوم القيامة وإلا ندموا على ما فعلوا إذا رأوا العذاب (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي المنافقون إلى شيء (إِلَّا السَّاعَةَ) كناية عن أنهم لا يؤمنون حقيقة ولو جاءهم كل آية (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة بدون استعداد سابق ، لكن إذا كان المنافقون ينتظرون الساعة ، فليعلموا أنها قريبة إذ قد (جاءَ أَشْراطُها) علاماتها التي منها بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانشقاق القمر ، فالمدة من زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٦١

فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ

____________________________________

إلى الساعة ، أقرب من المدة بين آدم عليه‌السلام والساعة ، أو موسى عليه‌السلام والساعة وهكذا (فَأَنَّى لَهُمْ) للمنافقين (إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي ما ذكّروا به ، والمراد بذكراهم الساعة ، وقوله سبحانه «فأنى» جواب «فهل» أي إن كان ينظر المنافقون إلى الساعة حتى يؤمنوا : فأولا : جاءتهم علاماتها فاللازم أن يؤمنوا :

فأولا : جاءتهم علاماتها فاللازم أن تؤمنوا

وثانيا : ما هي فائدة مجيء الساعة إذ حين ذاك لا يقبل الإيمان ، وقوله سبحانه «فأنى» للامتناع ، أي ليس لهم حين قيام الساعة ، أن يؤمنوا.

[٢٠] وإذا علمت يا رسول الله سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين والمنافقين (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أثبت على علمك ، لأن العلم فياض إلى الإنسان آنا بعد آن ، كما أن النور فياض من الشمس آنا بعد آن ، فبإمكان الإنسان أن يبقى على علمه وبإمكانه أن يترك علمه ويعمل عمل غير العالم (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أكمل النفس بالاستغفار فإن العلائق المادية الضرورية ، حيث لا يمكن رفعها ، كان لا بد من التواضع أمام الله ، بالاستغفار ، حتى يحوز على الكمال الممكن ، مثلا ان العاري الذي لا ملابس له ، إذا جاءه إنسان اعتذر من عريه والاعتذار ليس لأنه فعل خطأ بل لأجل التواضع أمام ذلك الإنسان وهذا النحو من التواضع يزده جاها عند الزائر ، وهذا هو سبب استغفار الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام.

أما العبادات الخاصة في كلام الإمامين أمير المؤمنين

١٦٢

وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ

____________________________________

والسجاد عليه‌السلام وغيرهما عليهم‌السلام فإنها كنايات ومجازات تشبيها للنواقص الضرورية بالنواقص الحقيقية (وَ) استغفر (لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بطلب غفران الله لهم (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) تقلبكم في كافة أحوالكم (وَمَثْواكُمْ) حين ترجعون إلى بيوتكم للمنام والاستراحة ، فاللازم أن تخشوه وتستغفروه لأنه معكم دائما ، فهو سبحانه جدير بأن تعتقدوا به ، كما في «واعلم ...» وأن تستغفروه كما في «واستغفر ...».

[٢١] وإذ تبين أن الله هو الإله الوحيد الواجب إنفاذ أمره وطلب الغفران منه ، فاللازم إطاعته في الذهاب إلى الجهاد ، بالإضافة إلى أن المؤمنين هم طلبوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجهاد ووعدوا أن يجاهدوا إذا أمروا به (وَ) قد كان (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا) أي هلا «تحريض وطلب» (نُزِّلَتْ سُورَةٌ) تأمرنا بالجهاد (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) مبينة لا لبس ولا تشابه فيها ـ فلا تكون محلا للعذر بالتأويل ـ (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) بأن كان فيها أمرا بالحرب (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) من المنافقين ومرض القلب هنا انطباعه على خلاف الأوامر والفرار من الطاعة (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) يا رسول الله (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ) فإن من غشي عليه (مِنَ) جهة قرب (الْمَوْتِ) إليه تدور عينه في حالة بهت ، ثم يشخص بصره إلى ناحية لا يتمكن من حركتها ، وهكذا حال الجبناء

١٦٣

فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢)

____________________________________

عند شدة الخوف ومثل هؤلاءفالموت أولى (لَهُمْ) من الحياة ، وهذا دعاء عليهم بالهلاك.

[٢٢] إن المنافقين قالوا قبل نزول سورة القتال (طاعَةٌ) أي نحن مطيعون (وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي كان قولهم قولا معروفا ، حول الجهاد (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي صار الجهاد عزما وجدّا بنزول السورة في شأنه ، انسحب المنافقون عن الميدان ، فعصوا عوض الطاعة ، وأخذوا يتكلمون بما لا يليق بإنسان مؤمن أن يتكلم بمثله عوض «قول معروف» كانوا يتكلمون به سابقا ، وهذه الآية تفسير للآية السابقة (وَيَقُولُ الَّذِينَ ...) «فإذا نزلت ...» (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) فيما زعموا من الحرص على الجهاد ، بأن أطاعوا عند نزول حكم القتال (لَكانَ) الصدق (خَيْراً لَهُمْ) في دينهم ودنياهم.

[٢٣] وحيث أنهم هربوا من القتال ، أخذوا يغيّبون أنفسهم في القرى وغيرها لئلا يكونوا بحضور المؤمنين وأخذوا يفسدون بالطعن في الرسول وفي أرحامهم المؤمنين الملتفين حوله ليبرروا موقفهم في الابتعاد عن الرسول وعن المؤمنين ، كما هو شأن كل منافق يبتعد عن القيادة ويخالف الإطاعة (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) هل يتوقع منكم إلا هذا ، فإن «عسى» بمعنى الاحتمال القريب الوقوع (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الجهاد (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالطعن في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) الذين التفوا حول الرسول وأطاعوا أوامره ،

١٦٤

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ

____________________________________

وهذه الصفة تنطبق على كل من يتولى عن القيادة الإسلامية الصحيحة في كل زمان ومكان.

[٢٤] (أُولئِكَ) الذين تلك صفاتهم ـ وإن كانوا مؤمنين حسب الظاهر ـ هم (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) فأبعدهم عن كل خير ، بسبب انحرافهم عن جادة الإيمان (فَأَصَمَّهُمْ) الله عن استماع الحق (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) عن رؤية الحق ونسبة الفعلين إلى الله ، بينما أنه بأنفسهم صموا أسماعهم وغمضوا أعينهم عن الحق ، من جهة أن الله تركهم وشأنهم ، كما يقال أفسد الوالد ولده ، إذ تركه وشأنه حتى فسد.

[٢٥] (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) هؤلاء المنافقون (الْقُرْآنَ) ليفهموا أن الله جازى المخالفين من الأمم السابقة بعقاب الدنيا وعذاب الآخرة ، لعلهم يردعون عن غيّهم (أَمْ عَلى قُلُوبٍ) قلوبهم (أَقْفالُها) فلا يمكنهم التدبر؟ أي يقدرون فلا يتدبرون ، أم لا يقدرون؟ وهذه عبارة بلاغية تقال في مورد كناية عن أن الطرف معاند لا ينفع معه الوعظ والإرشاد ، كما يقال «لمن سقط في البئر» هل غمضت عينيك أم أنت أعمى؟ ولعل تنكير القلوب لأجل إفادة ابتعادها حتى كأنها نكرة ، وإضافة الأقفال إليها ، لبيان أن للقلوب أقفال خاصة ، هي التعامي والعناد ، مما يسبب عدم نفاذ العلم والفضيلة فيها.

[٢٦] وليعلم هؤلاء المنافقون الذين يفرون من القتال ، أن الشيطان صار قائدهم ، بعد أن كانوا تحت سلطان الله الخالق العظيم ، فهم انساقوا وراء عدوهم (إِنَّ الَّذِينَ

١٦٥

ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦)

____________________________________

ارْتَدُّوا) رجعوا (عَلى أَدْبارِهِمْ) بدل أن يسيروا إلى الأمام ، رجعوا قهقرى من طرف الدبر إلى الخلف (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ) ظهر (لَهُمُ الْهُدَى) وعرفوا الحق (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) سهل لهم ركوب الآثام ، من السول بمعنى الاسترخاء (وَأَمْلى لَهُمْ) أي قرر عليهم ، كالذي يملي على الآخر الشيء ليكتبه ، فالشيطان أولا جعلهم رخوا ، ثم قرر لهم أن يخرجوا عن الطاعة.

[٢٧] وإنما تمكن الشيطان من الأخذ بقيادهم ، لأنهم انحرفوا عن طاعة الرسول إلى طاعة الكفار وحيث بدلوا قيادة الله إلى قيادة الشيطان تمكن الشيطان منهم (ذلِكَ) التمكن من الشيطان من قيادهم بسبب أنهم (قالُوا) للكفار (لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) إذ الكفار كرهوا القرآن والرسول (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) كما هو شأن المنافقين دائما ، إنهم يميلون قليلا إلى جانب الأعداء ، وهذا الميل القليل ينتهي بهم إلى الميل الكثير ، ثم تبديل القيادة من الإيمان إلى الكفر ، وفي هذا تنبيه على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يميل قليلا ، وإلا انحرفوا ، كما قال الله سبحانه (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) (١) (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) السر الذي ناجوا به

__________________

(١) الروم : ١١.

١٦٦

فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)

____________________________________

الكفار أولا حتى حصل الانحراف أخيرا ، وفي هذا تهديدهم وتنبيه للآخرين أن لا يتخذوا الكفار أولياء ، إذ الكافر بالآخرة يحرّف المسلم.

[٢٨] هذا حالهم في الدنيا فضيحة وانحراف (فَكَيْفَ) بهم في الآخرة (إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) آخذين أرواحهم في حال كون الملائكة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) ضرب الوجه لتوجههم إلى الكفار وضرب الدبر لاستدبارهم الحق والمؤمنين.

[٢٩] وإنما صار (ذلِكَ) حالهم عند الموت بسبب أنهم (اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من ترك أوامره (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) كرهوا رضى الله (فَأَحْبَطَ) أبطل الله (أَعْمالَهُمْ) الصالحة والتسلسل الطبيعي ، أنهم اتبعوا ما أسخط الله فذهبوا إلى المنافقين ، فارتدوا ، فخربت دنياهم وآخرتهم ، وأسلوب القرآن ، كأسلوب الكون في جمع المختلف ، حيث كان القصد جمال الكون ، فماء إلى جنب شجر ، إلى جنب حيوان إلى آخره ، وكذلك فعل الله سبحانه في كتابه التكويني وذلك لشحذ الذهن ، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في كتاب «حول القرآن الحكيم».

[٣٠] ثم ليعلم هؤلاء المنافقون أن نفاقهم لحفظ ماء وجههم عند كلا الجانبين يعود عليهم بأكبر الضرر حيث إن الكفار لا يعتمدون عليهم ،

١٦٧

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠)

____________________________________

كما هو واضح ، والمؤمنون يعرفون ضمائرهم فيسلبون اعتمادهم أيضا ، فيبقون مكروهين من الجانبين (أَمْ حَسِبَ) بل زعم (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) مرض النفاق (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أحقادهم ، نحو الرسول ونحو المؤمنين ، كلا ليس كذلك بل تظهر أحقادهم ، كما قال الإمام علي عليه‌السلام : «ما نوى امرء شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه» (١).

[٣١] (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) رؤية العين بأن ينزل جبرائيل ويقول إنهم فلان وفلان ، لكن الله على الأغلب يترك الأمور مع الأنبياء على طبيعة الحياة ، من دون إعجاز ، ليتخذهم الناس أسوة ، لئلا يقول الناس أنهم قدروا على إدارة الأمور من جهة الوحي والغيب ، ولا نتمكن نحن مثلهم فيتقاعسوا عن العمل (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) سيما الإنسان ملامح وجهه ، لكنا لا نشاء ذلك ، لما تقدم ثم ابتدأ سبحانه بقوله (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي أن فلتات ألسنتهم تدلّك عليهم واللحن هو الإمالة ، فإن المنافق يميل بكلامه ، حيث إن قلبه لا يرضى أن يتكلم حسب موازين الإيمان (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) أعمال المؤمنين والمنافقين فاللازم مراقبته سبحانه ، وهذا تهديد للمنافق بأنه بالإضافة إلى أنه يفضح في الدنيا ، فهو يجزي بالجزاء في الآخرة ، لأن الله يعلم عمله.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٢ ص ٢٠٤.

١٦٨

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى

____________________________________

[٣٢] ثم لا يظن المؤمنون أنهم بمعزل عن الاختبار ، وإن الاختبار أسقط المنافقين ، وأظهر طيب جوهر المؤمنين ، وانتهى كل شيء ـ كما يزعم ذلك من نجح في الامتحان الأول غالبا ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي نمتحنكم أيها المؤمنون (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) من غير المجاهدين ، إذ لا يكفي الامتحان الأول بالإيمان في ترك الإنسان وشأنه ، وقوله «حتى نعلم» أي يقع علمنا على الخارج ، أي يصل العلم إلى مرتبة الفعلية بعد أن كان الله عالم لكل ذلك من قبل (وَالصَّابِرِينَ) إذ من الممكن الشروع في الجهاد ، لكن لا يصبر عليه المجاهد (وَ) حتى (نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي نمتحن أخباركم ، فإنه كما يمتحن الإنسان بالجهاد ونحوه ، يمتحن خبره هل أن من يصل إليه خبر المجاهد وغير المجاهد ، يتبع المجاهد أو غير المجاهد ، وامتحان الخبر كناية عن امتحان من يصل إليه الخبر ، مجازا.

[٣٣] ثم إن الكفار والمنافقين يظنون أنهم يضرون الله وينفعون أنفسهم ، والحال أنهم لا يضرونه بل يضرون أنفسهم بحبط أعمالهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظاهرا وباطنا ، أو باطنا فقط كالمنافق (وَصَدُّوا) منعوا الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بأن جعلوا الناس في الطرق المنحرفة ، حيث الناس ـ إذا كانوا هم بأنفسهم ـ مشوا في سبيل الله المستقيم (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) هم في شق «أي طرف» والرسول في شق (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ) ظهر (الْهُدى) إذ قبل إتمام الحجة عليهم لا يحبط أعمالهم الصالحة

١٦٩

لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤)

____________________________________

(لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بكفرهم وصدهم (وَسَيُحْبِطُ) الله (أَعْمالَهُمْ) يبطلها فلا يعطيهم جزاء حسنا لصدقتهم وعتقهم وإقرائهم الضيف ونحو ذلك ، فهم ضروا أنفسهم ولم يضروا الله ، بينما كانوا يزعمون أنهم ينفعون أنفسهم ويضرون الله.

[٣٤] ف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إذا علمتم أن المخالفة تعود بالضرر على المخالف (أَطِيعُوا اللهَ) في أوامر القرآن (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما يأمر (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) الصالحة بسبب العصيان فإن العصيان يحبط العمل الصالح.

[٣٥] وليعلم الكفار أن باب التوبة لهم مفتوح ، فإذا رجعوا إلى الإيمان والطاعة ، غفر الله لهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَ) آمنوا وعملوا صالحا أعطوا جزاء إيمانهم وكل عمل صالح سبق إيمانهم أو لحقه ، أما إذا (ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لأنه لا ينفع الإيمان والندم بعد الموت وقد ذكرنا سابقا أن العناد على الكفر يوجب تبدل الجوهر إلى الناري الذي لا يبدله بعد الموت إلى الجوهر النوري ، ولذا لا غفران لمن مات بكفر ، أو رأى الموت بعينه ، كما ذكره سبحانه بقوله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ). (١)

__________________

(١) النساء : ١٩.

١٧٠

فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦)

____________________________________

[٣٦] وإذا علمتم أيها المؤمنون أن الله معكم ، وضد الكافرين (فَلا تَهِنُوا) لا تضعفوا عن القتال (وَ) لا (تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) المسالمة مع الكفار خوفا منهم ، بخلاف ما إذا كانت الدعوة إلى السلم لمصلحة قلة المسلمين أو نحو ذلك أو كما قال سبحانه وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (وَ) الحال (أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) جمع أعلى ، فإن المسلم أعلى حجة ، وأعلى قوة ، لأن إيمانه يجعله أعلى من جهة المعنويات وهي مهمة جدا في الانتصار (وَاللهُ مَعَكُمْ) ينصركم ويثبت أقدامكم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ) أي لن يضيع منكم (أَعْمالَكُمْ) فأنتم أعلى منطقا ونفسا ، والله معكم ، وترجون جزاء حسنا ، وبهذه الجهات الثلاث لا ضعف في المسلمين ويجب أن يعلموها حتى لا يهنوا ولا يدعوا إلى السلم.

[٣٧] وإن كان الفرار من الجهاد ، لأجل حب الحياة فاعلموا (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) لا حقيقة لها كما لا حقيقة للّعب فإن الشيء الذي يلعب به الصبيان شبيه بالأمور الواقعية ، وكذلك الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة (وَلَهْوٌ) يلهي الإنسان ويصرفه عن الأهداف الحقيقية ، التي هي رضى الله والجنة (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بالله (وَتَتَّقُوا) بترك اللهو واللعب (يُؤْتِكُمْ) الله (أُجُورَكُمْ) اللائقة بكم ، فإن الأجر اللائق بعمل الإنسان ، هو رضى الله والجنة (وَ) لا تخافوا من الإيمان والتقوى ، حيث يزعم بعض الناس أنه لو آمن يجب عليه أن يدفع ماله في سبيل الله ، كلا ليس كذلك (لا يَسْئَلْكُمْ) الله (أَمْوالَكُمْ) كلها ،

١٧١

إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ

____________________________________

بل شيئا يسيرا منها كالخمس والزكاة وهي لمنفعتكم أيضا.

[٣٨] وإنما لا يسأل الله كل أموالكم «أي غير الضرورية لكم» مع أن سؤال كل الأموال أولى لما فيه من توسعة رقعة الإسلام ومن إنقاذ الناس من براثن المستكبرين؟ لأنه (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أي كل الأموال (فَيُحْفِكُمْ) فيبالغ في الطلب ، فإن الإحفاء بمعنى المبالغة (تَبْخَلُوا) عن عطاء الكل (وَيُخْرِجْ) الطلب (أَضْغانَكُمْ) أحقاد صدوركم ، وليس المراد أن الضغن كامن فيظهر ، بل هو من قبيل إخراج النبات أي أوجده ، والحاصل أن طلب كل المال ، وإن كانت فيه مصلحة إلا أنه تركه سبحانه ، لأن أضراره أكثر من منافعه فهو من قبيل «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك».

[٣٩] وإذ مهد الجو ، بذكر أن الحياة زائلة فلا ينبغي للإنسان أن يتعلق بها ، وأن الله لا يريد كل أموالكم صار المجال لإظهار وجوب دفع بعض المال ، وليس ذلك لأمر شخصي ، بل لإقامة حكم الله وفي سبيل الله (ها) للتنبيه (أَنْتُمْ) أيها المؤمنون (هؤُلاءِ) أي هم الذين ـ والإتيان بهذه العبارة لجلب الانتباه أكثر فأكثر ـ (تُدْعَوْنَ) يدعوكم الله ، ولعل الإتيان بالمجهول ، لئلا يكون رده من البخلاء ردا على الله مباشرة؟ إذ قال «يدعوكم الله» (لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) للغزو ولمصالح المسلمين ولسد عوز المحتاجين (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) فلا يعطي أو يعطي أقل من الحق الواجب عليه (وَ) اعلموا أن (مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)

١٧٢

وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)

____________________________________

لأن ضرر البخل عائد عليه ، فكان البخل عن النفس من قبيل «منع عن نفسه الخير» وإنما يعود ضرر البخل إلى الإنسان نفسه ، لأن مجتمع البخلاء لا ينمو وإذا لم ينمو المجتمع تضرر الجميع ، بما فيهم البخيل نفسه (وَ) لا يزعم أحد أن الله إنما يطلب المال لأنه فقير ، وأن الذين يطلب منهم أغنياء؟ ف (اللهِ) هو (الْغَنِيُ) ، إنه يملك كل الكون ، ويملك ان يخلق كل شيء بإرادته ، فهل مثله فقير؟ (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) حتى أنكم تحتاجون في استمرار حياتكم إليه تعالى ، وهل مثل هذا الإنسان يسمى غنيا؟ بل إنما يطلب منكم المال ليمتحنكم ، وليعود نفعه إليكم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) فلا تنفقون (يَسْتَبْدِلْ) الله بكم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) يقيمهم مقامكم ، فإن الخير يلتف حوله الناس ، وإنما المهم أن يكون الإنسان من أهل الخير (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) في المخالفة لأوامره سبحانه ، ومن الطبيعي أن تأتي الأجيال اللاحقة لتعتبر بنواقص الأجيال السابقة فيكملوها فلا يكونوا أمثال أولئك السابقين.

١٧٣

(٤٨)

سورة الفتح

مدنية : آياتها (٣٠)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الفتح» وهي كسائر السور المدنية مشتملة على أحكام الشريعة ولما ختمت سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقضايا الجهاد بالنفس والمال ، افتتحت هذه السورة بثمرة تلك المجاهدات ، حيث فتح الله على نبيه مكة المكرمة ، ببركة جهاده وجهاد المجاهدين من أصحابه.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الذي يمنح كل خير ، والذي منه فتح مكة «الرحمن الرحيم» بعباده ، ولذا يمنحهم ما فيه صلاحهم برحمته الواسعة.

١٧٤

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)

____________________________________

[٢] (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) يا رسول الله (فَتْحاً مُبِيناً) واضحا ، قالوا نزلت بعد أن رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبية ، والمراد أنه سيفتح له ، فنزل المضارع المحقق الوقوع منزلة الماضي ، لأنه في كونه يقينا مثل المستقبل ، أو المراد أن الحديبية فتح ، لأنها كانت سبب الفتح ومفتتحه.

[٣] وإنما فتحنا لك (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) على الفتح (وَما تَأَخَّرَ) أي أن الفتح سبب لغفران كل الذنوب ، والمراد به ، إما ذنوبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الكفار ، فإنه كان عاقا قاطعا للرحم عندهم وقد قتل رجالهم وسبّ آلهتهم قبل الفتح وبعد الفتح ، فإذا سلط عليهم ، غمضوا عن ذنوبه ، كما هي العادة أن الإنسان إذا تسلط غفر الناس ما يزعمون له من ذنوب ، وإما المراد بالذنوب ، ما ذكروا من ذنوب الأنبياء ، من أنها تعد ذنوبا بالنظر إلى الكمال الواقعي يمنعه الاضطرار إلى المأكل والمشرب وما أشبه ، فهو نوع من التواضع ، يرفع النقص الذي ألجئ إليه اضطرارا ، وإما المراد ذنوب الأمة فإن ذنب الأتباع يعد ذنب الرئيس ـ عرفا ـ فالجهاد تكميل للمضطر إليه ، أو سبب غفران ذنب الأمة (وَ) ل (يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء الإسلام وضم السيطرة إلى النبوة (وَ) ل (يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) فإن الهداية تتلاحق آنا بعد آن ، وفي حالة بعد حالة ، مثلها مثل الحياة ، ومثل ماء النهر ، فكل خطوة بعدها إما هداية أو ضلال ، لأنه إن مشى مستقيما ـ بعد تلك الخطوة ـ فهو هداية وإلا كان ضلالا ، والفتح سبب الهداية ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٧٥

وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)

____________________________________

يمشي في البلد المفتوح بسيرة حسنة وهي هداية جديدة.

[٤] (وَ) ل (يَنْصُرَكَ اللهُ) فإن الفتح سبب النصرة «وإن كان نفس الفتح أيضا نصرة» (نَصْراً عَزِيزاً) فيه عزة ومنعة فالفتح صار سببا لأربعة أمور ، غفران الذنب ، وتمام النعمة ، والهداية الجديدة ، والنصرة العزيزة.

[٥] وليشكر المؤمنون نعمة الفتح فإن الله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) الصفة الموجبة للسكون والطمأنينة (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) فإن تهيئة الإنسان للمقدمات توجب إفاضة الله للنتائج ، كما أن تهيئة الزارع للزرع توجب إفاضة الله النبات ، ولما استعد المؤمنون للإطاعة بقتال الأعداء ، ذهب منهم الخوف والاضطراب وصارت لهم الطمأنينة ، مما أوجبت فتحهم السريع (لِيَزْدادُوا إِيماناً) جديدا (مَعَ إِيمانِهِمْ) القديم ، فإن سكون القلب يوجب التفكر حسنا ورؤية الأشياء كما هي الواقع ، فيرون فضل الله عليهم وبذلك يزدادون إيمانا (وَ) لا يزعم المؤمنون أنهم ، بدون فضل الله تمكنوا من الفتح ، بل كان معهم جند الله ، مثل إلقاء الرعب في قلوب الكافرين ، وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين ، إذ (لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجنود المادية والمعنوية (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) يعلم كيف ينصر المسلمين على الكافرين (حَكِيماً) يضع الأشياء موضعها فلما أن هيّأ المسلمون أنفسهم للقتال ، كانت الحكمة تقتضي نصرتهم ، كما أن الأب الحكيم يمدّ ولده بالمال كلما رأى حسن طاعته له.

١٧٦

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ

____________________________________

[٦] وإنما فعل سبحانه ما فعل من النصرة للمؤمنين ، بعد أن أطاعوا أوامره ليزيد ثوابهم فيدخل (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) لأنهن أيضا كنّ مجاهدات (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها ، في حال كونهم (خالِدِينَ فِيها) أبدا (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي يغطيها ويزيلها ، فإن الجهاد سبب غفران الذنب ، كما هو سبب رفع الدرجة في الجنة ، فالمراد بإدخالهم الجنة في أثر الجهاد ، الجنة الرفيعة التي لو لا الجهاد لم يستحقوها (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) لأنه منتهى رغبة الإنسان ، أن يكون في لذة دائمة ، ولعل ذكر «عند الله» للإفادة بأنهم في نعمة معنوية أيضا ، لأنهم يلتذون بأنهم قرب الله سبحانه ، قربا معنويا.

[٧] (وَيُعَذِّبَ) عطف على «يدخل» أي أن الله نصر المؤمنين لأمرين :

الأول : لأجل رفعة درجات المؤمنين في الآخرة. والثاني : ليزيد عذاب (الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) لأنهم بنفاقهم في باب هذه النصرة زاد عذابهم في الآخرة (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) لأنهم ببقائهم على الشرك ومحاربتهم للرسول زاد عذابهم (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) حيث كانوا يظنون أن الله لا ينصر رسوله ، وأنه كذب سبحانه مع رسوله في ما وعده من النصرة (عَلَيْهِمْ) على أولئك المنافقين والكفار (دائِرَةُ السَّوْءِ) أي ما كانوا يظنونه من عدم النصرة ، حتى يسوء

١٧٧

وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨)

____________________________________

المؤمنون ، دائر عليهم وحائق بهم ، وسميت دائرة ، من دوران الفلك ، فقد دارت دائرة سيئة بالنسبة إليهم ، وقوله سبحانه «عليهم ...» إما إخبار أو ادعاء عليهم (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قطعهم عن رحمته (وَلَعَنَهُمْ) أبعدهم عن كل خير ، وذلك لأن الله تعالى لا يتغير حاله ، ولا يعروه غضب ونحوه كما قرر في علم أصول الدين (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي أن جهنم موضع سوء يصيرون إليه بعد موتهم.

[٨] (وَ) يؤكد سبحانه للمؤمنين وجوب إقدامهم في الحروب لأجل الإسلام ، كرر سبحانه (لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالحر والبرد والمطر والريح من جنوده في السماء ، والرعب في القلب والتشتت للشمل ونحوهما من جنوده في الأرض ، إلى غيرهما من جنوده الكثيرة (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) يقدر أن يفعل ما يريد لعزته (حَكِيماً) يضع الأشياء موضعها ، فإذا نصر المؤمنون دينه ، نصرهم.

[٩] ولما ذكر شيء من صفاته سبحانه ، ذكر بعض صفات رسوله ، القائد للمؤمنين ليعلم المؤمنون أن قائدهم صالح لقيادتهم إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (شاهِداً) على الناس لتشهد على المؤمن بالإيمان وعلى الكافر بالكفر وعلى المنافق بالنفاق (وَمُبَشِّراً) تبشر المؤمنين بخير الدنيا والآخرة (وَنَذِيراً) تنذر الكافرين والمنافقين بشر الدنيا والآخرة.

١٧٨

لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ

____________________________________

[١٠] وإنما أرسلنا الرسول (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) لأنه الدال إلى الله وإلى رسوله (وَتُعَزِّرُوهُ) تقووه بالنصرة وذلك بتقوية دينه ونصرة أحكامه (وَتُوَقِّرُوهُ) تعظموه (وَتُسَبِّحُوهُ) تنزهوه عن الشريك وعن المناقص (بُكْرَةً) صباحا (وَأَصِيلاً) عصرا.

[١١] وإذ عرف المسلمون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حق المعرفة فاللازم أن يعرفوا أن بيعتهم له لازمة عليهم ، لأن بيعته بيعة لله تعالى ، فإذا نكث الإنسان بيعته ، فبالإضافة إلى أنه خان الله ورسوله ، كان ضارا لنفسه ، إذ فائدة البيعة تعود إلى نفس المؤمن (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) يا رسول الله (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) إذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممثل لله تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فقد كان أسلوب البيعة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفع يده ممدودة باطنها إلى الأرض وظاهرها إلى السماء ، فيأتي المبايع فيمر باطن كفه بكف الرسول مبتدأ من رأس الخنصر منتهيا إلى رأس إبهام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذه هي كيفية البيعة ، وهي رمز أن البائع قد باع كل شيء له من نفس ومال وغيرهما ، للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال سبحانه (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (١) وإتيان الصيغة بباب المفاعلة ، لأنه باع ما عنده ليأخذ بقدره من الجنة ، فالبيع من الطرفين ، وإذا أراد شخص نقض البيعة مع أمير أو ما أشبه ، كان يمر بيده من رأس الإبهام

__________________

(١) التوبة : ١١١.

١٧٩

فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ

____________________________________

إلى رأس الخنصر ، وكما يستفاد من روايتين ذكرهما الفيض «رحمه‌الله» في الصافي ، ويد الله كناية ، مثل بيت الله وناقة الله (فَمَنْ نَكَثَ) نقض البيعة (فَإِنَّما يَنْكُثُ) بما يعود ضرره (عَلى نَفْسِهِ) لأنه إذا لم يتبع سبيل الله اتبع السبل المنحرفة التي في سلوكها الضلال والعذاب (وَمَنْ أَوْفى) أي وفى ، كلاهما بمعنى واحد كما قال سبحانه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) وهل فائدة باب الأفعال الدلالة على كمال الوفاء تأكيدا له (بِما) أي بالذي (عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ) الله في الدنيا والآخرة (أَجْراً عَظِيماً) والسين لأجل أن الحصول على الفوائد الدنيوية لا يكون إلا متأخرا ، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في بيعة الرضوان عام الحديبية ، وقد كان تخلف عن رسول الله في سفره إليها قبائل أسلم وجهينة ومزينة وغفار وغيرهم فإنهم بعد أن استنفرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتلّوا بالشغل بأموالهم وأهليهم ، فنزلت فيهم هذه الآية (٢).

[١٢] (سَيَقُولُ لَكَ) يا رسول الله (الْمُخَلَّفُونَ) كأن ضعف إيمانهم سبب مخالفتهم ، ولذا جيء بصيغة المفعول ، مثل (أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) بصيغة المجهول (مِنَ الْأَعْرابِ) وهم أهل البادية ، ولا يسمى أهل

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٩ ص ١٩٠.

١٨٠