تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

الاستفراخ ، وهذا لا ينافي قدرة الله على ذلك ، إذ الله يخلق كل شيء ممكن ، وهذا شيء ممكن خلقه سبحانه ، وتفصيل المسألة في كتب الفلسفة.

[٣٧] وإذ بينا لكم مصير المطيع والعاصي فاصرفوا كل طاقاتكم في سبيل الإطاعة ، والاجتناب عن المعصية ، إذ لله وحده (الْحَمْدُ) لأن كل خير منه ، حتى أن الإنسان إذا عمل الخير ، فإنه سبقه جعل الله له القدرة على الخير ، فإنه هو (رَبِّ السَّماواتِ) ما في الجهات العليا (وَرَبِّ الْأَرْضِ) ما في الجهة السفلى ، وإنما جعلت السماوات جمعا والأرض مفردا ، لأن ما نسكنها أرض ، وكل ما سوى ذلك فهو سماوات لأنها أعلى من هذه الأرض ، أما جمع الأرض في الأدعية ، وفي قوله سبحانه (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (١) فلملاحظة النسبة (رَبِّ الْعالَمِينَ) كل عالم ، عالم الجن ، وعالم الملائكة ، وعالم الإنسان ، وعالم الحيوان ، إلى غيرها ، وحيث التداخل بين العوالم وبين السماوات والأرض ، لم يأت بالواو في «رب العالمين» وجيء بالجمع العاقل باعتبار تغليب العاقل على غيره لأن العاقل أشرف.

[٣٨] إنه «الله» الذات المستجمع لجميع الكمالات و «رب» ويربي وينمي الأكوان (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) لأنه أكبر من كل شيء ، كبرا معنويا ، وأكبر من أن يوصف (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو القاهر الذي ليس لشيء

__________________

(١) الطلاق : ١٣.

١٢١

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)

____________________________________

كبر وقهر مستقل ، إن ما استفاده منه ، فهو يستحق الحمد ، لأنه الله ، ولأنه رب ، ولأن له الكبرياء وهو يستحق الحمد ، لأنه كامل ، ولأنه رب ، ولأنه الكبير القاهر المشرف على كل شيء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الوحيد الذي غيره ذليل أمام عظمته (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) (١) (الْحَكِيمُ) وضع كل شيء حسب الحكمة في موضعه اللائق به.

__________________

(١) طه : ١١٢.

١٢٢

(٤٦)

سورة الأحقاف

مكية / آياتها (٣٦)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «الأحقاف» وهي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة ألوهية ورسالة ومعادا.

ولما ختمت سورة «الجاثية» بصفات الله سبحانه ابتدأت هذه السورة ، بأن القرآن من تنزيل هذا الإله العظيم ، ليكون الناس أقرب إلى قبوله لأنه منزل من عند الله سبحانه.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) باسم الله نبدأ ، ليطابق ابتداءنا في اللفظ ، الابتداء في الخلق ، فكما أن الله سبحانه أول كل شيء ، كذلك اسمه أول كل كلام ، وهو مكرر الرحمة ، يرحم بدء وختاما بمختلف أشكال الرحمة ، ولعله لذا جيء بلفظي الرحمن والرحيم ، فإن اختلاف اللفظ دليل على اختلاف المعنى ، فالرحمن إشارة إلى نوع من الرحم ، والرحيم إشارة إلى نوع آخر.

١٢٣

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

____________________________________

[٢] (حم) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والراسخين في العلم ، ولعله يأتي زمان يدرك الناس هذا الكنز المعنوي ، كما انه لا يمر زمان إلا ويدرك الناس كنوزا كونية ، فإن العلوم كلها قوانين وضعها الله في الكون ، مثل قانون جاذبية الأرض وقانون أرخميدس في الماء وقانون الأطياف في النور وغيرها ، وإذا كان رمزا لم يلزم أن يعرفه الكل ، فإن الرموز بين رؤساء الحكومات وكبار أعضاء الدولة في صلاح الناس ، وإن كان كل الناس لا يعرفونها.

[٣] إن هذا القرآن هو (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) وإنما قال «تنزيل» لأنه أنزل من فوق أي الفوق المعنوي لأن الله سبحانه أرفع من الكل ، كما يقال في العرف أن الأمر صدر من الجهات العليا ، يريدون جهة السلطان ، وإن كان بيت السلطان تحت الجبل ، والمأمور فوق الجبل مثلا ، إذ السلطان أعلى رتبة من السوقة والمأمورين (مِنَ اللهِ) لا من الجن ، بالكهانة ، ولا من لسان أعجمي ، ولا من نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كانوا يرمون القرآن بكل ذلك (الْعَزِيزِ) فبعزته أرسل رسولا وأنزل دستورا ، إذ لو لا العزة لم يكن له ذلك (الْحَكِيمِ) الحكمة وضع الأشياء موضعها ؛ فإنزاله الكتاب إنما هو حسب الحكمة ، لإصلاح الدين والدنيا ، وقد كان الله قادرا على أن يخلق الكون مثل ما ينتهي إليه في آخر نقطة من الكمال ، إلا أن هذا اللون من الخلق كان يتطلب بلسان الحال إفاضة الوجود والله فياض مطلق لا بخل فيه ، ولذا خلق هذا اللون المتدرج في الصعود أيضا.

[٤] (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) تقدم في آخر سورة الجاثية وجه جمع

١٢٤

وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)

____________________________________

السماوات وإفراد الأرض (وَما بَيْنَهُما) في كل خلل وفرج منهما ، كالإنسان والملك ونحوهما ، فالمخلوقات فيهما باعتبار ، وبينهما باعتبار آخر (إِلَّا بِالْحَقِ) لا هزوا ولا لعبا ، والمراد بالحق المطابق للصلاح ، خلافا للهزو الذي ليس مطابقا للصلاح ، لا يقال قدر من اللعب أيضا مطابق للصلاح ، ولذا أجاز يعقوب عليه‌السلام أن يلعب أولاده ، لأنه يقال ذلك يصلح للإنسان المخلوق بهذه الكيفية الخاصة ، الذي لا يقدر من العمل الجدّي المستمر فيحتاج إلى الترفيه ، لا بالنسبة إلى الله الذي لا يتعب ولا يمسه لغوب (وَ) إلا إلى (أَجَلٍ) زمان (مُسَمًّى) سمي عندنا إذا انتهى ذلك الأجل هلكت السماوات والأرض وما بينهما (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ) (١) فليس الخلق فوضى في المدة ، كما يزعمه الجاهلون ثم إن الأجل له إطلاقات «القطعة من الزمان» مثل إن أجل زيد خمسون سنة ، و «آخر الزمان» مثل إن أجل زيد إلى سنة ألف وأربعمائة من الهجرة وكلاهما محتمل في الآية الكريمة (وَ) مع ذلك (الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) من العقاب في الدنيا لمخالف قوانين الله ، فكل من لم يعمل بالشريعة وجد ضنك العيش (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (٢) ومن العقاب في الآخرة بالنار والجحيم (مُعْرِضُونَ) فلا يعملون بالأوامر ، مع أن الخلق بالحق ، وإن المدة قصيرة ذات أجل ، وقد كان مقتضى العقل أن يعمل الذين كفروا بالإنذار ، بعد ما يشاهدون من حقيقة الخلق وبعد ما

__________________

(١) القصص : ٨٩.

(٢) طه : ١٢٥.

١٢٥

قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)

____________________________________

علموا من عدم البقاء السرمد ، وإنما لكل شيء أجل.

[٥] ثم إنكم أيها الكفار ، لا حجة لكم في كفركم ف (قُلْ) لهم يا رسول الله (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني أيها الكافرون عن حال (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام ، سواء كان ، شمسا ، أو قمرا ، أو بشرا ، أو حجرا ، أو غير ذلك (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فهل خلقوا نباتا أو حيوانا أو بحرا أو برا ، أو غير ذلك ، ولا يحق لهم أن يقولوا أن فرعون مثلا خلق تلك المدينة إذ فرعون لم يخلق ، وإنما فرعون جاء بالمعدات أي حركة عضلاته فقط ، وإنما مادة البناء وصورته كلاهما لله سبحانه ولذا قال سبحانه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (١) (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) شراكة (فِي) خلق (السَّماواتِ) وحيث رأيتم إنهم شركاء الله في خلق الأرض والسماوات فاتخذتموهم شركاء لله وكفرتم بوحدانيته وإذ ادعيتم الشراكة في الخلق (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن يؤيد اشتراك الأصنام في الخلق ، إن كنتم تدعون أنكم على دين ، كما كان بعضهم يدعي أنه على دين إبراهيم عليه‌السلام ، أو دين عيسى عليه‌السلام ، أو دين موسى عليه‌السلام ، ومع ذلك كانوا يجعلون الأصنام أو المسيح ، أو عزيرا ، شركاء لله (أَوْ أَثارَةٍ) بقية (مِنْ عِلْمٍ) بأن يدل المنطق على صحة اعتقادكم بالآلهة الباطلة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أن الأصنام

__________________

(١) الفرقان : ٣.

١٢٦

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥)

____________________________________

وغيرها شركاء لله سبحانه ، وإذ لا دليل لكم من كتاب سابق ، ولا من علم وبرهان ، فاتركوا الأصنام وسائر المعبودات ، واعبدوا إلها واحدا فقط ، وإنما قال سبحانه «أثارة من علم» لأنهم كانوا جهالا وهم أيضا ما كانوا يدعون أنهم علماء ، ولكن الجاهل قد يبقى له بعض العلم والمنطق عن أسلافه.

[٦] (وَ) هؤلاء الكفار الذين يتركون الله سبحانه ويدعون غير الله من الأوثان ، سواء تركوا الله إطلاقا ، أو تركوا الله في الجملة ، بأن أشركوا معه غيره ، لا أحد أكثر ضلالا منهم إذ (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) فهو قد ترك السميع المجيب القادر على قضاء حوائجه واتخذ إلهه صنما لا يجيبه (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ولو دعاه طول حياة الدنيا ، وجعل يوم القيامة غاية مع أن الأصنام لا تجيبهم إلى الأبد وحتى بعد يوم القيامة ، إنما هو لأجل أن هؤلاء يعترفون في يوم القيامة بضلال أنفسهم ، ففي يوم القيامة لا دعوة من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فلا دعوة للكفار حتى يطرح الكلام في أنه هل تجيبهم الأصنام أم لا ، مثل قولهم لا كلمتك إلى أن تموت ، فليس المراد أكلمك بعد الموت ، بل المراد أن موضوع الكلام ينتفي (وَهُمْ) أي تلك الآلهة البشرية أو الحجرية أو الشمس والقمر ونحوها ، وإنما جيء بلفظ العاقل ، لأن بعض المعبودات عقلاء ، أو لأن الكفار لما أنزلوها منزلة العقلاء بعبادتهم لها ، جيء الكلام على منطقهم (عَنْ دُعائِهِمْ) أي دعاء الناس لتلك الأصنام (غافِلُونَ) لأنها جمادات فلا تشعر طلب الكفار منها ، أو عباد مشغولون بأحوال أنفسهم ، فالغفلة كناية عن عدم

١٢٧

وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا

____________________________________

قضاء حاجة عبادها ، فإذا قضوا حاجة لهم ، فإنما في الحقيقة ، ليست مرد الحاجة لتلك الأفراد بل لله سبحانه.

[٧] (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) أي جمعوا يوم القيامة (كانُوا) تلك الأصنام (لَهُمْ) للبشر الذين يعبدونها (أَعْداءً) لأن الأصنام تضر عبادها ، بإدخالهم النار ، كما يفعل العدو بعدوه (وَكانُوا) تلك الأصنام (بِعِبادَتِهِمْ) أي عبادة البشر لها (كافِرِينَ) فإن الله ينطق الأصنام ليظهروا تبريّهم من عبادها ، أو كناية عن أنه لو كان لتلك الأصنام لسان لكفرت بعبادها ، وقد قال الله تعالى في آية أخرى (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) (١) ولا مانع من نطق الجماد بقدرة الله تعالى ، وفي الآيات والأخبار دلالة على ذلك كقوله سبحانه (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٢) وقوله سبحانه (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) (٣) وقوله عز من قال (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (٤) وقوله سبحانه (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٥) إلى غير ذلك ... وحاصل الآيتين الكريمتين أنه لا فائدة في عبادة هذه الأصنام وإنما تضر في الآخرة ، عوض أن تنفع.

[٨] (وَ) هؤلاء الكفار اتخذوا الباطل ، وتركوا الحق وعاندوه ، أما اتخاذهم الباطل فلما سبق من عبادتهم الأصنام ، وأما تركهم الحق فلأنهم (إِذا

__________________

(١) فاطر : ١٥.

(٢) فصلت : ١٢.

(٣) الأحزاب : ٧٣.

(٤) النازعات : ١٥.

(٥) الزلزلة : ٥.

١٢٨

تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً

____________________________________

تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) الدالة على التوحيد والرسالة والمعاد ، في حال كونها (بَيِّناتٍ) واضحات يفهمها كل عاقل (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قالوا (لِلْحَقِ) الذي بيّنّا لهم (لَمَّا جاءَهُمْ) واضحا (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي واضح كونه سحرا ، فجعلوا الحق الواضح ، سحرا واضحا ، بسبب عنادهم ، ثم إن الفرق بين السحر والمعجز : أولا : أن العقل يميز بينهما ، فهل أن للكون إلها عالما قادرا سحر؟ وهل أن الصنم والبشر إله خالق؟

وثانيا : إن الإعجاز بدون أدوات ، والسحر يأتي بأدوات. وثالثا : إن الساحر لا يقدر على كل شيء بل على أشياء خاصة ، بينما صاحب الإعجاز على كل شيء مقدور في ذاته.

[٩] إنهم كانوا يقولون أن الآيات سحر ، وكانوا يقولون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفتر على الله ، لأنه يدعي أنه نبي من قبل الله ، والحال أنه ليس بنبي (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) «أم» بمعنى «بل» كأنه تعجب من دعواهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفتر (قُلْ) في جوابهم يا رسول الله لا يمكن أن يفتري البشر على الله ، إذ اللازم على الله أن يفضحه ، فإن العقلاء يحتجون على المفترين بما لا يتمكن من رده ف (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) افتريت القرآن (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) يقال «يملك الوزير من الأمير» أي أن الأمير إذا أراد شيئا ولم يرده الوزير يتمكن الوزير أن يصرف الأمير عن إرادته ، لكن الإنسان لا يملك أن يصرف الله عن إرادته ، وقد أراد

١٢٩

هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ

____________________________________

سبحانه فضح مدعي النبوة كذبا ، لأنه سبحانه نصب الأدلة العقلية على خلافه ، كما نصب الأدلة العقلية على فضح مدعي الطب كذبا ، ومدعي الهندسة كذبا ، لأن الأول لا يقدر على شفاء المرضى ، والثاني لا يقدر على جعل الهندسة لبناء دار ونحوها ، والرسول إن كان كاذبا فهل كان يقدر على جواب كل سؤال وحل كل مشكلة؟ فلو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاذبا ، لا يملك أحد أن يصرف الله عن إرادته في فضح الكاذب ... ثم هددهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ) تندفعون (فِيهِ) من الشرك وتكذيب آياته والافتراء على رسوله ، وسيجازيكم عليه (كَفى بِهِ) أي بالله (شَهِيداً) شاهدا (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد لي بالصدق ، لأنه لم يفضحني ، بالأدلة العقلية ويشهدكم بالانحراف بما قد نصب من الأدلة العقلية المبينة لبطلان المبطل (وَ) لا بأس لكم فإن تبتم تاب الله عليكم لأنه (هُوَ الْغَفُورُ) لعباده التائبين (الرَّحِيمُ) بهم يتفضل عليهم من رحمته زيادة على غفران ذنوبهم.

[١٠] وقد كان كفار مكة يستدلون على عدم رسالة الرسول بأنه لو كان رسولا لزم أن يأتيهم بكل آية يقترحونها من الإعجاز ، عنادا فيهم وتضليلا للسذج ف (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم (ما كُنْتُ بِدْعاً) جديدا بديعا (مِنَ الرُّسُلِ) حتى أتاكم بكل ما تقترحونه من الآيات ، فهل كانت الرسل تأتي بكل آية تقترحها عليهم أممهم؟ حتى يأتيكم بمثل أولئك الرسل ، كلما تقترحون من الآيات ، فإن كانت الحجة

١٣٠

وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ

____________________________________

كافية ، فقد أتيتكم بالقرآن وبمعجزات أخر تكفي في إثبات النبوة ، وإن كانت الحجة غير كافية ، فالإتيان بالمعجزة أيضا غير مفيدة لإقناعكم ، أرأيت لو عالج الطبيب أعصى الأمراض ، وتحدى الأطباء ، فهل للأطباء أن يقولوا أنت لست بطبيب ، وإلا فعالج مرضى آخرين؟ وإذا قالوا ذلك ألم يحمل كلامهم على العناد؟ (وَ) كذلك الكفار كانوا يقولون للرسول إن كنت رسولا فقل لنا ما هو مصيرنا في الدنيا وما هو مصيرك؟ وأجابهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) فإن علم الغيب تفصيلا خاص بالله تعالى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) «إن» نافية أي ما أتبع في المجيء بالآيات ، وفي الإخبار عن المغيبات ، إلا كما يوحى إلي ، وليس من الصلاح إجابة كل معاند بما يقترح ، وإلا كان مهزلة ، وكرروا قولهم أنه سحر ، فما ذا يفعل الرسول لمن يرد العناد؟ وقبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءهم موسى بكل آية فقالوا (سِحْرانِ تَظاهَرا) (١) كما انه ليس من الصلاح أن يخبرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل ما يريدون من المغيبات لأنه إن كان لإقناع المصنف فقد اقتنع بما رآه من إعجاز القرآن وغيره ، وإن كان لإقناع المعاند ، فالمعاند لا يقتنع ولو جاءهم الرسول بكل آية ، أليس عيسى عليه‌السلام أخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ومع ذلك كفروا به؟ (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) منذر بأنّ من لم يسمع كلامي له حياة سيئة في الدنيا وفي الآخرة

__________________

(١) القصص : ٤٩.

١٣١

مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)

____________________________________

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١) (مُبِينٌ) واضح كوني منذرا ورسولا ، فاللازم أن آتي إليكم بالقدر الذي يثبت أني منذر ورسول ، لا أن آتي بالمقترحات العنادية لكم.

[١١] (قُلْ) يا رسول الله لي شاهدان على صدقي ، فكيف تكفرون أنتم ، مما يسبب لكم أشد الوبال. الأول : الإعجاز. الثاني : تصديق أهل الكتاب الذين هم أهل خبرة لي ، وذلك كما ادعى إنسان أنه طبيب ثم عالج الأمراض ، وصدقه الأطباء ، فهل يبقى هناك شك في كونه طبيبا؟ ومن أنكر كونه طبيبا أليس يكون معاندا؟ (أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ) بدليل أنكم عاجزون عن الإتيان بمثله (وَ) الحال أنكم (كَفَرْتُمْ بِهِ) أليس ذلك يسبب الوبال لكم؟ (وَ) أرأيتم إن كان (شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الذين هم أهل كتاب وخبرة كعبد الله بن سلام الذي كان من علماء بني إسرائيل وآمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَلى مِثْلِهِ) أي مثل قولي أنه من عند الله (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أنتم ، أليس ذلك يسبب لكم الوبال؟ وقد حذف الجواب «لأنه كان من عند الله ...» للتهويل ، مثل قولك مهددا لولدك ، إن شربت الخمر؟ تريد أنه يلاقي عقوبة بسبب شربه ـ كما ذكروا في علم البلاغة ـ ثم ألمع سبحانه إلى الجواب بقوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين

__________________

(١) طه : ١٢٥.

١٣٢

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)

____________________________________

ظلموا أنفسهم بالعناد ، الله لا يوصلهم إلى مطلبهم ، لأن الهداية قد تكون بمعنى إراءة الطريق نحو (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (١) أي أريناهم الطريق ، وقد تكون بمعنى الإيصال إلى المطلوب نحو (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (٢) أي لا توصلهم إلى المطلوب ، وإلا فالهداية بإراءة الطريق كانت من شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وإذا لم يوصلهم الله إلى مطلبهم خسروا الدنيا والآخرة.

[١٢] ثم إن هؤلاء الكفار بالإضافة إلى كفرهم بالله ، وبالرسول ، وبالقرآن ، أخذوا يستهزئون بالمؤمنين (وَ) ذلك بأن (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي قالوا عنهم ، وكأنه جاء «باللام» مرة دلالة على أنهم قالوا في حضور المؤمنين وب «سبقوا» غائبا ، مرة دلالة على أنهم قالوا في غيبة المؤمنين ، للدلالة على أن الكفار كانوا يقولون ذلك في كل حال (لَوْ كانَ) الإيمان والقرآن (خَيْراً ما سَبَقُونا) أي لم يسبقنا المؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (إِلَيْهِ) إلى الإيمان والقرآن ، وذلك لأننا أكثر عقلا منهم ، فلو كان خيرا لكنا نحن السابقين (وَ) سبب قولهم هذا هو أنهم (إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) ولم يسلكوا سبيل الهداية (فَسَيَقُولُونَ) للترفيه عن أنفسهم إنه ليس بخير بل (هذا) القرآن وما جاءه الرسول (إِفْكٌ) كذب (قَدِيمٌ) كما في آية أخرى (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) (٣) فهم لم يقبلوا عنادا ، واستهزءوا بالمؤمنين ، وقالوا إنه ليس بخير ،

__________________

(١) فصلت : ١٨.

(٢) القصص : ٥٧.

(٣) الفرقان : ٦.

١٣٣

وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)

____________________________________

وإنما هو كذب سابق ، وكل قولهم وعملهم هراء وبدون حجة ، وإنما هو كلام المستكبرين والمعاندين ، فإن رمي كل حق بأنه ليس بخير ، وأن المؤمنين به لا عقل لهم ، وإنه إفك قديم ، سهل ، لكن الإتيان بالدليل على ذلك غير ممكن ، ولذا قالوا في المثل «ما أسهل كيل التهم وأصعب إقامة الأدلة عليها».

[١٣] (وَ) كيف يكون هذا إفك والحال أن (مِنْ قَبْلِهِ) قبل القرآن (كِتابُ مُوسى) عليه‌السلام التوراة تشتمل على ما يشتمل عليه هذا القرآن ، في حال كونه (إِماماً) يقتدي به الناس ، فهل من يقتدي بكتاب موسى عليه‌السلام لا عقل له؟ (وَرَحْمَةً) لرحم البشر ، والكذب ضد الرحم ، فقولهم «ليس بخير» و «إفك» جوابهم أنه ككتاب موسى عليه‌السلام فهو «إمام» و «رحمة» (وَهذا) القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لما في كتاب موسى عليه‌السلام من أصول الدين والأخلاق ، ونحوهما ولكن مع فارق ، فالتوراة كان لسانا عبريا ، والقرآن (لِساناً عَرَبِيًّا) وإنما أنزل (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) إنذارا بخسران دينهم ودنياهم (وَ) ليكون (بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) للذين أحسنوا بالإيمان به وباتباعه ، بأن لهم خير الدنيا والآخرة ، أما أن القرآن لم نزل على لغة العرب؟ فيرده أنه بأية لغة نزلت كان موضع هذا التساؤل؟ ولو قيل لماذا لم ينزل بكل لغة؟ فجوابه أن كونه بلغة واحدة أحسن لأنها تصبح لغة واحدة لكل البشر يتفاهمون بها بالإضافة إلى لغاتهم الخاصة بهم.

[١٤] وحيث عرفتم أيها المؤمنون خير ما تمسكتم به ، وعرفتم بطلان حجج الكفار ، فلا يستفزنكم أذاهم واستهزائهم لكم ، وكونوا مستقيمين في

١٣٤

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً

____________________________________

دينكم حتى تنالوا جزاء الاستقامة ف (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) وتركوا الأصنام ، بأن صحت عقيدتهم (ثُمَّ اسْتَقامُوا) في اتباع أوامره سبحانه (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من مكروه آت (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لمكروه سابق ، فإن الخوف من المكروه المرتقب ، والحزن من المكروه الوارد الكائن الآن ، أو الماضي ، وذلك ليس بمعنى أن المؤمنين لا يصيبهم حزن وخوف ، بل بمعنى «النسبية» فخوفهم وحزنهم ، بالنسبة إلى خوف الكفار وحزنهم ، قليلا جدا بحيث يمكن سلب كونه خوفا أو حزنا ، لأنهما قليلان مؤقتان ، ومقترنان بالبشارة بالأجر والثواب ، بخلاف خوف الكفار وحزنهم.

[١٥] وإنما كان خوفهم وحزنهم مؤقتا لأن (أُولئِكَ) المؤمنين (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) في الآخرة ، فما يلاقونه من الأتعاب في الدنيا ينقضي بسرعة (خالِدِينَ فِيها) أبدا (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) والاعتقاد نوع من العمل أيضا ، لأنه عمل القلب ، فلا يقال : لماذا لم يقل سبحانه : ... بما كانوا يعتقدون ويعملون؟.

[١٦] (وَ) كما أننا وصينا الإنسان بعدم الشرك وعبادة الله الذي هو منعم حقيقي عليه كذلك (وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) اللذان هما سبب وجوده فكل واحد منهما منعم مجازي على الإنسان ، والوصية قول مؤكّد سواء كان في الحياة أو بعد الممات (إِحْساناً) أي أن يعمل الحسن ، وقوله سبحانه «إحسانا» من باب المبالغة مثل «زيد عدل»

١٣٥

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ

____________________________________

فيقدم لهما قطعة من الحسن ، أي أحسن الأعمال ، حتى كأن العمل ذات الحسن واللازم أن يخص الأم بزيادة الإحسان لزيادة أتعابها في سبيله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) كارهة الحمل لمشقته في أغلب أوقات الحمل ، بل وكثيرا ما في أوله أيضا حيث الاضطرابات التي تطرأ على المرأة عند الحمل ، وحيث الحزن النفسي من أتعاب الحمل والطلق وغير ذلك (وَوَضَعَتْهُ) حين الولادة (كُرْهاً) لمشقات الولادة فهي كارهة (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) فإن الحمل ستة أشهر على الأقل ، والإرضاع سنتان فالمجموع ثلاثون شهرا ، تعاني فيها الأم مشاكل جمة من جهة الولد ، هذا بالإضافة إلى المشاكل في المستقبل التي تعانيها بسبب رعاية الولد وعنايتها به ، أليس بعد هذه الأتعاب تستحق الأم الإحسان إليها من جانب الأولاد ، وهنا ينقسم الأولاد إلى قسمين قسم يعمل بوصيتنا له في الإحسان إلى أبويه ، وقسم لا يعمل ، كما انقسم الناس أمام الله سبحانه إلى قسمين قسم مؤمن ، وقسم كافر ، فالقسم المطيع يكون حاله (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) استحكم قوته البدنية والعقلية ، كأن يشدّ من التبعثر ، وبهذا البلوغ يتمكن عقله من الفهم على وجوب الإحسان إليهما ، ويتمكن بدنه من القيام بخدمتهما (وَ) هذه الحالة تمتد حتى (بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) حيث القوة البدنية تأخذ بالضعف ، وحيث أن الغالب موت الأبوين قبل بلوغ الولد ذلك ، فلا حاجة لهما إلى خدمة الولد (قالَ) الإنسان يا (رَبِّ أَوْزِعْنِي) ألهمني وخذ أمامي حتى لا أنحرف عن الجادة ، فإن معنى وزعه : منعه (أَنْ

١٣٦

أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)

____________________________________

أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) فإن قوة الشباب ذهبت احتاج الإنسان إلى الاستعانة بالله أكثر في التوفيق للشكر ، ولأن حالة الحدة تأخذ مجراها إلى الإنسان فهو يكون أبعد من الشكر ، لأن مشكلات الحياة تستفزه فيكون أقرب إلى الكفران ، والشكر للنعمة التي كانت على الوالدين ، نوع إطاعة لله وإحسانه إليها (وَ) أوزعني (أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) فأريد منك يا رب أن توجه قلبي ولساني بالشكر ، وجوارحي بالعمل الصالح (وَ) يا رب أدعوك أن (أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) اجعلهم صالحين ، و «في» باعتبار أن الصلاح يقع فيهم ، و «لي» باعتبار أن صلاح الذرية عائد إلى الوالدين ، سمعة وثوابا ، ولعل الإتيان بهذه الجملة هنا للدلالة على أن الإحسان إلى الأبوين يؤثر في إحسان الذرية للإنسان ، فصلاح الإنسان يسبب صلاح الذرية ، أما ما سلف مني من المخالفة ف (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) يا رب وأستغفرك عن ذلك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لك أعترف بذلك ، ليكون الإنسان أقرب إلى التواضع ، فالإنسان الحسن هو الذي عبد الله ولم يشرك به ، وأحسن إلى والديه من حين بلوغ أشده إلى حين أربعين سنة ، وحيث فقد الوالدين ببلوغ الأربعين دعا لهما ، واعترف بفضلهما ، وطلب من الله أن يعينه في المستقبل «حالة ضعفه» أن يشكره كما كان يشكره سابقا ، وطلب منه إصلاح ذريته .. وقد صبت هذه الحقيقة في هذا القالب البلاغي الرائع الذي يمشي بالإنسان من حين حمل الأم له إلى

١٣٧

أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي

____________________________________

حين بلوغه أربعين سنة ، وإنما لم تختم الآية الإنسان ، إلى حين الموت لبقاء فجوة في النفس ، كما هي العادة في الألواح الجميلة ، ليذهب الخيال كل مذهب.

[١٧] (أُولئِكَ) الأفراد الذين هذه صنعتهم من العبادة والشكر والدعاء (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي بقبول أحسن ، لا أن أعمالهم الأحسن فقط تقبل ، فهو من باب «القلب» مثل : عرضت الناقة على الحوض (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) فلا يجازون بها ، فهم يكونون (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) وقد وعدنا بذلك (وَعْدَ الصِّدْقِ) لا خلف فيه بل صادق مطابق للواقع (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) «الذي» صفة «وعد» فهؤلاء حسناتهم مقبولة وسيئاتهم مغفورة ، ومقرهم الجنة.

[١٨] (وَ) بالعكس من هذا القسم من الإنسان المؤمن الشاكر لله ولوالديه القسم الثاني من الإنسان (الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) لما كبر وعقل (أُفٍّ لَكُما) فهو كافر بهما ، وكافر بعقيدتهما التي هي التوحيد ، فقد جمع بين الكفرين ، و «أف» كلمة «تضجر» و «إهانة للمخاطب» (أَتَعِدانِنِي) ـ من الوعد ـ (أَنْ أُخْرَجَ) بعد الموت ، من قبري للحساب (وَ) الحال أنه (قَدْ خَلَتِ) مضت (الْقُرُونُ) والسنوات الكثيرة (مِنْ قَبْلِي) فلم يرجع أحد من الأموات ، وإنكار البعث مستلزم لإنكار الألوهية وإنكار

١٣٨

وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا

____________________________________

الرسالة (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يطلبان من الله هدايته ويقولان له (وَيْلَكَ) السوء لك إذا بقيت على هذه العقيدة (آمِنْ) بالله ، فهما يدعوان لإيمانه ، ويطلبان منه الإيمان (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث (حَقٌ) فلا تكفر به ، ومجرد الاستبعاد وأنه لماذا لم يحشر السابقون ، ليس دليلا على العدم (فَيَقُولُ ما هذا) الذي تقولانه من البعث (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) جمع أسطورة ، وهي الخرافة ، التي قالها السابقون بدون برهان ودليل.

[١٩] (أُولئِكَ) أمثال هؤلاء الذين كفروا بالله وبالبعث ، ولم يشكروا والديهم فلم يطيعونهما (الَّذِينَ حَقَ) ثبت (عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الذي قلناه ووعدنا به بأن من لم يؤمن جزاءه جهنم ، فهم داخلون (فِي أُمَمٍ) جماعات كافرة (قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ) السابقين (قَبْلِهِمْ مِنَ) كفرة (الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ولعل ذكر الجن لأجل التهويل (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) خسروا دنياهم وآخرتهم ، و «إنهم» إما جملة مستأنفة تحسّريّة ، وإما عطف بيان ل «القول» فمعناه ثبت عليهم أنهم خاسرون.

[٢٠] (وَ) كما أن القسم المؤمن من الناس نوفيهم أعمالهم بإدخالهم الجنة كذلك هؤلاء الكافرين نوفيهم أعمالهم ف (لِكُلٍ) من القسمين (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) إذ الأشد إيمانا والأحسن عملا درجته فوق ذي

١٣٩

وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها

____________________________________

الإيمان العادي والعمل الصالح العادي ، وكذلك بالنسبة إلى الأكفر والكافر والأعصى والعاصي (وَلِيُوَفِّيَهُمْ) الله (أَعْمالَهُمْ) التي منها عقائدهم ، لأن العقيدة عمل العقل ، ومعنى التوفية ، إرجاعه إليهم وافيا ، بدون زيادة أو نقيصة ، ثم هل الجزاء نفس العمل أخذ صورة الآخرة ، كما أن الدجاجة نفس البيضة ، والشجرة نفس النواة ، والولد نفس المني ، ـ ولذا قال سبحانه «أعمالهم» ـ أو إن الجزاء جزاء العمل ، مثل «دينار» يعطيه الإنسان أجرة للبناء؟ احتمالان ، وإن كان ظاهر الأدلة والمؤيدات النقلية والعقلية الأول (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص من حسنة المؤمن ، ولا يزاد في سيئة الكافر.

[٢١] ثم إن القرآن مشى بالفريقين «عقيدتهم وعملهم» في الدنيا حتى أوصلهما إلى الآخرة ، وقد رأينا المؤمن كيف أنه دخل الجنة فلننظر إلى الكافر وحاله يوم القيامة لنرى (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) في حال كونهم واقفين على شفيرها ، في ذل وهول عظيمين ، فيقرأ عليهم وثيقة الاجرام ، فيقال لهم (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) إن البدن والعقل والطاقات وسائر ما للإنسان مما يتمكن من التصرف فيه ، طيب منحها الله له ، لأجل إسعاده ، لكن الكفار يصرفونها لأجل شقائهم ، كمن أعطى ولده مالا لأجل أن يكتسب به لتأمين مستقبله فصرفه في شرب الخمر والزنى والقمار مما أوجب أمراضه الجسدية والعقلية (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) بتلك الطيبات حتى نفذت ولذا ليس عندكم الآن شيء لراحتكم وسعادتكم ، بل حصلتم بتلك

١٤٠