تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا

____________________________________

[٢] (إِذا جاءَكَ) يا رسول الله (الْمُنافِقُونَ) والمراد به عبد الله بن أبيّ ، وقد تقدم أن الجمع قد يستعمل بمعنى الجنس ، ويراد به الفرد ، وإنما يعبر بالجمع لإفادة أن من هذا وصفه فحكمه حكم ذلك الفرد الصادر منه الفعل كما أن الفرد قد يأتي بمعنى الجنس ، حيث تسلخ منه الفردية ، وتبقى الجنسية التي في ضمن الفرد ، والمنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام (قالُوا) في محضرك (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) بأن هذا هو اعتقادنا القلبي ، لا إظهارنا اللفظي فقط (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) وهذه جملة جاء بها القرآن تمهيدا للجملة التالية ، لئلا تنصرف إلى إنكار الله سبحانه رسالته حيث يكذب المنافقين (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في ادعائهم أنهم يعتقدون برسالة الرسول من أعماق قلوبهم ، فإنهم إنما آمنوا باللسان وقلبهم باق على الكفر والجحود.

[٣] (اتَّخَذُوا) أي هؤلاء المنافقون (أَيْمانَهُمْ) جمع يمين وهي القسم أي حلفهم (جُنَّةً) أي وقاية يتسترون بها حتى لا يصيبهم أذى من الرسول والمسلمين (فَصَدُّوا) أي منعوا بسبب حفظ أنفسهم على الكفر باطنا ـ بالحلف الكاذب ـ (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي طريق دينه وثوابه لأنهم بنفاقهم يحفظون أنفسهم في زمرة المسلمين ، ثم يشاغبون خفية ، ويمنعون الناس عن الإيمان الصحيح (إِنَّهُمْ) أي المنافقين (ساءَ ما كانُوا

٤٢١

يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ

____________________________________

يَعْمَلُونَ) أي بئس العمل عملهم حيث يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر صدا عن سبيل الله.

[٤] (ذلِكَ) النفاق إنما كان بسبب أنهم (آمَنُوا) بألسنتهم (ثُمَّ كَفَرُوا) بقلوبهم ، فإن المنحرف الطبع إذا رأى خيرا أسرع إليه مخلصا وإذا رأى التصادم مع مصالحه يبقى في ظاهر الموافقة ـ حزنا ـ ويتراجع في الباطن ترجيحا لمصالحه (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) إذ تمرنوا على الكفر والتمادي في صفة يوجب تطبع النفس بها إذ تكون ملكة للمتمادي ، والطابع هو الله سبحانه ، الذي خلق النفس البشرية هكذا ، وإن كان الطبع بسبب نفاقهم ، والمراد بالقلوب الأنفس (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون حقيقة الإيمان والتقوى لأن نفوسهم انحرفت ، وإذا انحرفت النفس رأى الجميل قبيحا والقبيح جميلا.

[٥] (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) أي نظرت إليهم يا رسول الله أو أيها الرائي (تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) بحسن منظرهم وتمام خلقتهم وجمال صورهم (وَإِنْ يَقُولُوا) أي يتكلموا في أي شأن من الشؤون (تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي أصغيت إلى كلامهم لجميل بيانهم وفصاحة منطقهم ، فهم مع حسن المنظر وعذوبة البيان (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) فارغون عن الصفات الحسنة والفضائل ، كالخشبة الفارغة التي لا تتمكن أن تقف بنفسها فتستند لحائط ونحوه لتقف وتستقيم.

٤٢٢

يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ

____________________________________

فالخشبة التي أكلت جوفها الأرضة ظاهرها جميل وباطنها فارغ لا تتمكن أن تقف هي لركاكتها وهؤلاء كذلك لهم ظاهر من غير باطن (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ) وكل نازلة (عَلَيْهِمْ) لجبنهم وفراغ قلوبهم عن فضيلة الإيمان ، فإن المؤمن ثابت القلب رابط الجأش أما المنافق فإنه خائف دائما أن يظهر باطنه فيفضح ، ولذا كلما حدث شيء خاف وجبن أن يقع فيه ويفضح باطنه ، والفاجعة والنازلة تسمى صيحة لارتفاع الصياح فيها من باب علاقة السبب والمسبب (هُمُ الْعَدُوُّ) أي أن هؤلاء المنافقين هم أعداؤك الوحيدون يا رسول الله الكاملون في العداوة إذ الكفار لظهورهم يؤمن شرهم ، أما المنافق فهو يخفى في الجماعة المؤمنة بإظهار الإيمان حيث لا يرى ولا يعرف حتى يفسد ويسبب المشاكل.

(فَاحْذَرْهُمْ) يا رسول الله عن أن يختلطوا بالمسلمين ويطلعوا على أسرارهم ، لأنهم عرفوا بمناطق العزة ونقاط الضعف ، فهم أقدر من العدو الخارج على الإفساد والمؤامرة (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم بأن يقتلهم الله ليستريح المسلمون من شرهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق مع الأدلة الواضحة؟

[٦] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) أي هلموا وأتوا (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) أي يطلب لكم غفران الله لما صدر منكم من الذنب (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي

٤٢٣

وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

حركوها حركة المعرض ، وعطفوها نحوا إلى جانب يخالف جانب القائل تكبرا وإعراضا (وَرَأَيْتَهُمْ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أيها الرائي (يَصُدُّونَ) أي يمنعون عن سبيل الحق (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) يظهرون كبرهم وأنهم لا حاجة لهم إلى استغفار الرسول.

[٧] وإذ كان أولئك منافقين ف (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) في عدم الانتفاع وعدم غفران الله لهم (أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) يا رسول الله (أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فإن الاستغفار إنما ينفع المؤمن دون المنافق (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أبدا لأنهم يبطنون الكفر (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) بالألطاف الخفية (الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الذين خرجوا عن طاعة الله بالنفاق والشقاق.

[٨] (هُمُ) المنافقون (الَّذِينَ يَقُولُونَ) بعضهم لبعض (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) من المؤمنين أصحاب الحاجة (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي يتفرقوا عنه ، ويأتي التعليق على كلامهم هذا بقوله (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) التي يبذل منها لمن حوالي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد ظن هؤلاء المنافقون أن خزائن الأرزاق والأموال بأيديهم حتى إذا قطعوا الأموال على المؤمنين يتفرقون ، وجهلوا أن الشمس

٤٢٤

وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ

____________________________________

والأرض والماء والهواء التي هي خزائن الأموال والأرزاق كلها بيد الله تعالى فيبذل منها على المسلمين بالزراعة والاكتساب وما أشبه ، فليس منع أولئك سببا لتفرق هؤلاء المؤمنين من حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون أن الخزائن بيد الله تعالى.

[٩] (يَقُولُونَ) هؤلاء المنافقون (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) من غزوة بني المصطلق (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) يريدون المنافقين أنفسهم (مِنْهَا) أي من المدينة (الْأَذَلَ) يريدون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويأتي الرد عليهم (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) وهو مع المؤمنين (وَلِرَسُولِهِ) بإعزاز الله له (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بتمسكهم بالإسلام الموجب لسعادة الدنيا والآخرة وعزتهما (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) فيظنون أن العزة لهم حيث يجدون أعوانا من المنافقين ومقدارا يسيرا من المال ، وقد دلت التجربة على ذلك ، فقد جاء الأذل ، وهو ابن أبيّ ـ إلى الأعز ـ وهو الرسول ، يعطي البراءة عما اقترفه.

[١٠] وإذا تقدم ذكر النفاق الذي هو إبطان الكفر وإظهار الإيمان جاء السياق ليذكّر المسلمين بأن لا يفعلوا ما هو من أخلاق المنافقين من الإقبال على الدنيا ، وجعل الآخرة وراء ظهرهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) أي لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ

٤٢٥

ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)

____________________________________

ذِكْرِ اللهِ) بأن تشتغلوا بها فلا تراعوا حق الله فيها ولا تحضروا للصلاة وغيرها من سائر الفرائض اشتغالا بالمال والولد.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الاشتغال بالمال والولد عن ذكر الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم إذ لا نجاة لهم في الآخرة من العذاب.

[١١] (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) فيما أمرنا من الخمس والزكاة والصلاة وسائر الحقوق ـ ولعله عام يشمل الإنفاق من العلم والجاه والقوة بالإضافة إلى الإنفاق من المال ـ (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي يحضره الموت ، بأن تأتي أسبابه وعلائمه (فَيَقُولَ) يا (رَبِّ لَوْ لا) أي هلّا (أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) بأن أبقى في الدنيا ولو مدة قليلة لأصلح شأني (فَأَصَّدَّقَ) أي أتصدق وأزكي مالي وأنفقه في سبيل الله (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أصلي وأصوم وأحج وأبذل نفسي في سبيلك وحسب أوامرك.

[١٢] وهل ينفع هذا الطلب؟ كلا (وَ) ذلك لأنه (لَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً) بإبقائها في الدنيا زيادة على المدة المقدرة لها (إِذا جاءَ) وحضر (أَجَلُها) فلا يتمكن من العمل الصالح ببدنه والإنفاق من ماله (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أيها البشر فلا تفعلوا ما يوجب العقاب والنكال.

٤٢٦

(٦٤)

سورة التغابن

مدنية / آياتها (١٩)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «التغابن» وهي كسائر السور المدنية تعالج النظام إلى جنب بيان العقيدة ، ولما ختمت سورة المنافقين بالأمر بالطاعة والنهي عن المعصية ، افتتحت هذه السورة بذكر المطيع والعاصي.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نبتدئ باسم الله الجامع لجميع صفات الكمال ، وهل هناك أحق بالابتداء ممن هو الأول والآخر ، ومن كان قبل كل شيء ثم كوّن كل شيء؟ الرحمن الرحيم الذي يرحم كل شيء والرحمة في الإنسان حالة في القلب ، ولكن فيه سبحانه يراد بها فعل يترتب على الرحمة من الفضل والإنعام إذ لا مجال فيه سبحانه لمثل هذه الصفات ، ولذا قالوا «خذ الغايات واترك المبادي».

٤٢٧

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ

____________________________________

[٢] (يُسَبِّحُ) لعل التعبير بالماضي في بعض السور باعتبار معنى التسبيح ، وبالمضارع في البعض باعتبار الحال والاستقبال (لِلَّهِ) أي ينزهه عن النقائص (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ظرفا ومظروفا ـ كما سبق ـ (لَهُ الْمُلْكُ) فهو المالك المطلق الحقيقي ، وسائر المالكين ملكهم محدود ، وإضافي لاختصاص الشيء بتخصيص الله سبحانه لا أنهم ملاك حقيقيون (وَلَهُ الْحَمْدُ) ، إذ المحامد كلها راجعة إليه ، فإن الحمد إنما يكون على الجميل الاختياري ، وفاعل كل جميل هو الله سبحانه ، أما سائر من يحمد فهو محمود حمدا مقيدا إضافيا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على الإيجاد والإعدام والتصرف كيفما شاء.

[٣] (هُوَ) الله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أيها البشر (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) بالله بسوء اختياره بعد وضوح الحجة وظهور المحجة (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) بالله وبما جاء به الرسل ، وهذا التفريع لبيان أنه لا ينبغي الكفر بعد كون الملك والخلق له سبحانه ، وبعد تسبيح الكون لعظمته (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) أنتم أيها البشر (بَصِيرٌ) يرى الأشياء ، ثم يجازيكم عليها.

[٤] (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ظرفا ومظروفا (بِالْحَقِ) فلم يكن الخلق عبثا ولغوا ، كما يفعل الأطفال ، من صنع التماثيل من طير ونحوه للهو ، فإن خلقها كان لحكمة وغاية ومقصد (وَصَوَّرَكُمْ) بأن جعل

٤٢٨

فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥)

____________________________________

لكم الصور الظاهرة من الحواس والكيفيات والصور الباطنة بأن جعل لكم العقل والملكات (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بصورة عامة ، وإن كان في البشر من ليس حسن الصورة ، فإن الأحكام يراد بها النوع لا كل فرد ـ كما قرر في علمي البلاغة والأصول ـ (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي تصيرون إلى حسابه وجزائه بعد الموت ، أو في القيامة.

[٥] (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ) ما في (الْأَرْضِ) مما يحدث وما يعدم وما يتصرف فيه كيف يتصرف (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) أي تعملونه سرا عن الناس (وَما تُعْلِنُونَ) تعملونه علنا في محضر الناس ، أو المراد من السر الأعم مما يدور في الصدور وما يعمل سرا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بالأشياء التي تدور في قلوب البشر ، وهذا يؤيد كون «ما تسرون» بمعنى تعملون سرا لا الأعم ، وإلا كان تأكيدا ـ وهو خلاف الأصل ـ.

[٦] وإذ بين السياق آيات حول الألوهية ، جاء ليهدد الكافرين الذين أعرضوا عن الله والإيمان به بقوله (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها الناس (نَبَأُ) أي خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث إنهم أعرضوا عن الإيمان (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي عذبهم الله سبحانه حتى ذاقوا عاقبة كفرهم وتكذيبهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع

٤٢٩

ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى

____________________________________

في الآخرة بالإضافة إلى العذاب الذي ذاقوه في الدنيا.

[٧] (ذلِكَ) العذاب إنما شملهم وأخذهم بسبب أنه (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ) من عند الله (بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة الظاهرة والحجج والمعاجز (فَقالُوا) أولئك الكفار ، في رد دعوة الرسل (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أي كيف يمكن أن يكون الرسول الذي هو بشر مثلنا يهدينا؟ و «بشر» جنس ولذا جيء له بصيغة الجمع «يهدوننا» (فَكَفَرُوا) بالرسل وبما جاءوا به (وَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن قبول الحق (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أي فعل فعل المستغني عن الشيء وهو تركه وشأنه ، وهذا بعد أن طلب منهم الهداية والرشاد فلم يقبلوا ، وإنما جيء من باب «الاستفعال» الظاهر في الطلب ، لأن الغناء في المتعارف إنما يأتي بعقب الطلب فهو من باب التشبيه بالمحسوس ، وإذ كان الكلام موهما لاحتياج الله بهم قبل ذلك جاء السياق ليدفع هذا التوهم بقوله (وَاللهُ غَنِيٌ) بذاته لا يحتاج إلى شيء ولا أحد (حَمِيدٌ) بأفعاله لا يحتاج إلى أن يحمد ولا ينقص عن كونه محمودا بالذات عدم حمد الناس له.

[٨] إن الكفار تولوا عن الإيمان بالله وعن الإيمان بالرسل ، وكذلك تولوا عن الإيمان بالبعث (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلم يكن ذلك تيقنا بل زعما وظنا (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) بعد الموت ، ولن يحيوا للحساب والجزاء (قُلْ) يا رسول الله ردّا لزعمهم (بَلى) ليس الأمر كما زعمتم

٤٣٠

وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ

____________________________________

(وَ) حق (رَبِّي) الله ، بل (لَتُبْعَثُنَ) أي لتحشرن أحياء بعد الموت (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ) أي تخبرن ـ على صيغة المجهول ـ والمخبر هو الله والملائكة والأنبياء ومن يعينونه للحساب والإخبار (بِما عَمِلْتُمْ) من الكفر والمعاصي ، فإن المجرم يخبر بعمله ثم يعاقب (وَذلِكَ) البعث والإخبار (عَلَى اللهِ) تعالى (يَسِيرٌ) سهل هين ، فإن من خلق الخلق ابتداء قادر على أن يعيدهم.

[٩] وإذا تحقق البعث والحساب وتحقق الجزاء (فَآمِنُوا) أيها البشر (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) بالإذعان بهما واتباع أوامرهما (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن إذ هو ينير سبيل الحياة المظلمة ليرى الإنسان طريقه نحو السعادة ومن المعلوم أن الأئمة عليهم‌السلام من مصاديق ذلك النور ـ كما ورد (١) ـ (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) أيها البشر (خَبِيرٌ) عالم مطلع ، فإذا آمنتم جزاكم بالثواب والأجر ولا يذهب إيمانكم هدر.

[١٠] وذلك البعث والجزاء إنما يكون في (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) الله (لِيَوْمِ) يسمى بيوم (الْجَمْعِ) لاجتماع الخلائق فيه للحساب (ذلِكَ) اليوم (يَوْمُ التَّغابُنِ) وهو تفاعل من الغبن بأن يغبن كلّ الآخر ، فإن أهل الجنة يغبنون أهل النار باتخاذ منازلهم في الجنة ـ فإن لكل إنسان منزل في الجنة ومنزل في النار ـ وبالعكس يغبن أهل النار أهل الجنة باتخاذ

__________________

(١) التحصين لابن طاووس : ص ٥٨٥.

٤٣١

وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)

____________________________________

منازلهم في النار ـ وتسمية هذا الطرف : غبنا من باب الجناس ، من قبيل (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) ـ.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) بأن يعتقد به وينزهه عما لا يليق به (وَيَعْمَلْ صالِحاً) أي عملا صالحا ، والمراد به جنس العمل الصالح ، لا عملا واحدا (يُكَفِّرْ) الله (عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي يمحي عن ديوانه ما أسلف من الذنوب والمعاصي ، فإن التكفير بمعنى الستر والمحو (وَيُدْخِلْهُ) الله سبحانه (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ) من عسل وخمر ولبن وماء ، في حال كونهم (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين في تلك الجنات (أَبَداً) لا زوال لهم عنها إلى غير النهاية (ذلِكَ) الدخول في الجنة خالدا ، هو (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والفلاح الذي ليس وراءه فلاح.

[١١] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بحججنا وأدلتنا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها ، فإن صاحب الشيء هو الملازم له في حال كونهم (خالِدِينَ فِيها) أي باقون فيها أبدا (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس النار مرجعا ومآلا للإنسان.

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

٤٣٢

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)

____________________________________

[١٢] وإذ دعا سبحانه إلى الإيمان بيّن بعض ثمار الإيمان الطيبة التي ينالها الإنسان في هذه الدنيا قبل الفوز بالجنان في الآخرة ، وقدم لذلك مقدمة بقوله (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي لا تصيب الإنسان مصيبة ولا يقع الإنسان في مشكلة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فالله سبحانه هو الذي يقدر الأشياء فلو لا تقديره لم يقع شيء في الكون ، فإن الله سبحانه قادر على أن يسكن الكوارث حتى لا تنزل بالإنسان ، وإنما قرر سبحانه المصائب لتنزل بالإنسان للامتحان والاختبار ، وليس معنى ذلك أن المصائب السيئة ينزلها الله سبحانه ، بل معناه أنه تعالى لا يأخذ أمامها حتى لا تنزل ، فمن يقتل ظلما ـ بإذن الله ـ أي لا يمنع الله القاتل ـ منعا تكوينيا بأن تشل يده ـ حتى لا يتمكن من القتل وإنما يأذن ولا يأخذ بيد القاتل لكون الدنيا دار اختبار ، فلو كان سبحانه يجبر على ترك القبيح لكان الإنسان بمنزلة الحجر والجماد في أفعاله الاضطرارية ويبطل الثواب والعقاب.

وإذ قدم السياق هذه المقدمة ، أتى إلى ثمرة الإيمان بقوله (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) إيمانا صحيحا راسخا (يَهْدِ) الله (قَلْبَهُ) حتى يطمئن بأن ما يصيبه إنما هو بعلم الله ، وأنه يجازيه بالثواب والأجر على ما أصابه ، وإذا علم الإنسان أن ما أصابه من الضرر يتدارك بأضعاف الخير ، اطمأن قلبه ولم تصدمه المصيبة كثيرا (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيجازي كل امرء بما عمل.

٤٣٣

وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا

____________________________________

[١٣] (وَأَطِيعُوا اللهَ) أيها البشر في ما أمركم (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما أتاكم به (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الإطاعة (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي أن يبلغكم بلاغا ظاهرا ، وقد بلّغ فليس عليه شيء وإنما يرجع وبال العاقبة إليكم حيث أعرضتم بعد البلاغ.

[١٤] (اللهُ) الذي تدعون إلى الإيمان به هو الذي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له ولا نظير (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) بأن يكلوا أمورهم إليه ، ويعتمدوا عليه.

[١٥] وإذ دعا السياق الناس إلى الإيمان ، جاء ليبين بعض أعداء المؤمن الذين يثنونه عن الإيمان ليتخذ منهم حذره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي نسائكم (وَأَوْلادِكُمْ) أي بعضهم ، ولذا جيء ب «من» (عَدُوًّا لَكُمْ) لأنكم مؤمنون وهم كافرون أو منافقون (فَاحْذَرُوهُمْ) أن لا يصدوكم عن الحق والهدى (وَ) إذا آذوكم بسبب إيمانكم ف (إِنْ تَعْفُوا) عنهم دون الانتقام (وَتَصْفَحُوا) وهو أن يعرض الإنسان ويبدي صفحة وجهه أمام المكروه (وَتَغْفِرُوا) بأن تستروا ذنبهم فلا تنتقموا منهم ، وكان للأمر ثلاث مراتب : ستر الذنب ، وعدم المقابلة

٤٣٤

فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ

____________________________________

حتى بالكلام ، وعدم الانتقام.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوبكم ، أو لذنوبهم ـ إذا تابوا ـ (رَحِيمٌ) بعباده ، فعلى المؤمن أن يتعلم الغفران والرحمة منه سبحانه ، وهذا بالإضافة إلى الثواب ، خطة حكيمة في جلب الناس إلى الإيمان ، فإن السلم في مقابل العدو ، يخفف من حدته ويلقي في نفسه حب مبدأ المسالم حتى ينجذب إليه.

[١٦] (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي امتحان لكم ، كي يتبين من يطيع الله فيهما ومن يعصيه وهذا من باب المثال ، وإلا فأقرباء الإنسان وزوجه أيضا فتنة وامتحان (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وثواب كبير لمن أطاعه ولم يخالفه لأجل أهله وماله. قال الإمام الباقر عليه‌السلام إن الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعلق به ابنه وامرأته وقالوا ننشدك الله أن تذهب عنا وتدعنا فنضيع بعدك ، فمنهم من يطيع أهله فيقيم فحذرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا ، فلمّا جمع الله بينه وبينهم أمره الله أن يحسن إليهم ويصلحهم فقال «وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم» (١).

[١٧] (فَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه ، بامتثال أوامره (مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي بقدر

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٧٢.

٤٣٥

وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧)

____________________________________

استطاعتكم فإنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (وَاسْمَعُوا) من الرسول ما يأمركم (وَأَطِيعُوا) بعد ما سمعتم ، وكأن المراد من السماع أن يستمعوا للعمل (وَأَنْفِقُوا) من أموالكم في سبيل الله (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي إنفاقا خيرا ، فإنه عائد لأنفسكم إذ تعطون بدله في الدنيا والآخرة (وَمَنْ يُوقَ) أي يحفظ (شُحَّ نَفْسِهِ) أي بخلها ، بأن يحفظه الله سبحانه من البخل ، فينفق كما أمر الله سبحانه (فَأُولئِكَ) المتصفون بتلك الصفات أو من وقي شح نفسه (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون ، من أفلح بمعنى فاز وظفر بالسعادة.

[١٨] ثم أن هذا المال الذي ينفقه الإنسان لا يذهب ضياعا بلا عوض بل هو بمنزلة قرض يقرضه الإنسان لله سبحانه ، فيرده عليه أضعافا مضاعفة (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بأن يكون الإنفاق لله وفي سبيله بلا منّ ولا رياء ولا سمعة ولا حب المدح وما أشبه من مفسدات العمل (يُضاعِفْهُ) الله (لَكُمْ) أي يعطي بدله أضعافا ، حتى أن الواحد يصل عوضه إلى سبعمائة وأكثر (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم بسبب ذلك الإنفاق (وَاللهُ شَكُورٌ) أي فاعل الشكر ، فإن الإنسان الشاكر يثني المشكور ويبذل له عوض عمله ، وهكذا الله سبحانه يمدح المعطي ويبذل له عوضه (حَلِيمٌ) فلا يعاجل العاصي بالعقوبة ، فهو شاكر للمطيع ، حليم عن العاصي.

٤٣٦

عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)

____________________________________

[١٩] وهو يعلم كل إنفاق وعمل صالح ، فلا يضيع الحسن عنده ، فإنه (عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) ما ظهر ، أي السر والعلانية والمحسوس وغير المحسوس (الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه فيقدر على كل شيء (الْحَكِيمُ) الذي يفعل الأشياء حسب الحكمة والصلاح.

٤٣٧

(٦٥)

سورة الطلاق

مدنية / آياتها (١٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه المادة «طلقتم» وغيره ، وهي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام إلى جنب العقيدة ، وحيث ختمت سورة التغابن بالتحذير من بعض النساء ، ابتدأت هذه السورة ببعض أحكامهن.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله ليكون عونا لنا في مهامنا ، فإنه خير مستعان إذ له العلم والقدرة والحكمة ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة ولو كان الإنسان عاصيا له غير مطيع لأوامره ، فهو يتفضل فوق الاستحقاق ويعين وإن لم يستحق المستعين الإعانة.

٤٣٨

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ

____________________________________

[٢] (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحيث أن خطاب العظيم يراد به هو ومن معه جاء السياق بلفظ الجمع في قوله (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) أي أردتم طلاق النساء ، فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة ، كما أن الإرادة تستعمل بمعنى الفعل ـ كما سبق ـ (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي وقت عدتهن ، وهي كونهن في طهر غير المواقعة ، فإن «العدة» بمعنى التعداد ، والعدد ، و «لام» لعدتهن ، للتعدية ، أي كون الطلاق في العدة التي هي أيام الطهر (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي أحسبوا أيام عدة المرأة التي إذا مرت خرجت من حبالة الزوج الأول وجاز أن تنكح رجلا جديدا (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) فلا تخالفوا أمره بالطلاق في حال الحيض ، أو عدم إحصاء العدة حتى تبقى المطلقة تنتظر الانقضاء ، لتكوين بيت جديد ، ولا تعرف ذلك.

(لا تُخْرِجُوهُنَ) المطلقات (مِنْ بُيُوتِهِنَ) أي مساكنهن وقت الطلاق حتى تنقضي العدة ، فإن سكناها ما دامت في العدة على الزوج (وَلا يَخْرُجْنَ) هن من البيوت مدة العدة فإن خرجت بلا ضرورة أثمت (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) معصية فاحشة أي متجاوزة في الإثم (مُبَيِّنَةٍ) أي ظاهرة كالزنى ، كما روي عن الصادق عليه‌السلام (١) ، فإذا زنت أخرجت عن البيت ليقام عليها الحد ، وفي بعض الروايات تفسيرها بأن

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٤٩٩.

٤٣٩

وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ

____________________________________

تؤذي أهل البيت بلسانها فإنها تخرج إلى محل آخر وذلك لإيذائها (١) (وَتِلْكَ) الأحكام التي ذكرت للطلاق (حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) بأن يخالف أحكامه (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي عرضها للعقاب والنكال ، ثم بين سبحانه بعض الحكمة في الأحكام المتقدمة بقوله (لا تَدْرِي) النفس (لَعَلَّ اللهَ) سبحانه (يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ) العزم على الطلاق ، أو بعد ذلك الطلاق ، (أَمْراً) فإن تأخير الطلاق إلى الطهر الذي لم يواقع فيه ربما يغير من رأي الزوج ، فلا يطلق وجعل العدة وعدم الإخراج من البيت ربما أوجب نزولهما عن الغضب الموجب للطلاق فيتراجعا عما قصدا من الطلاق.

[٣] (فَإِذا بَلَغْنَ) النساء المطلقات (أَجَلَهُنَ) أي وصلن إلى رأس المدة ـ قبل انقضاء العدة ـ بأن بقيت من العدة شيء ، تخبر الرجل بين أن يرجع إليهن ، أو يذرهن حتى تنقضي العدة (فَأَمْسِكُوهُنَ) إن أردتم الرجوع (بِمَعْرُوفٍ) أن تعاشروهن كما أمر الله سبحانه بالحسنى (أَوْ فارِقُوهُنَ) بأن تدعوهن على حالهن حتى تنقضي العدة (بِمَعْرُوفٍ) بدون إيذاء لها ، وأخذ بعض أثاثها ، أو إثارة قلاقل حولها كما هو من فعل الجهال. (وَأَشْهِدُوا) إذا أردتم الطلاق (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٢ ص ٢٢٠.

٤٤٠