تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)

____________________________________

[٢] (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) «لا» للنفي ، وقد سبق أن الإتيان بها لنكتة مليحة ، هي أن الحالف يريد أن يبين ويؤكد المطلب غير حالف مع الإيماء إلى الحلف ، كما تقول «لا أقسم بحياتك إلا أن الأمر كذا» تريد أن لا تحلف به ـ لأمر ـ مع الإلماع إلى الحلف لتحصل فائدة التأكيد.

[٣] (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) وهي النفس اليقظة التي تلوم صاحبها عن التقصير في خدمة الله سبحانه ، وإن كان الإنسان في أرقى درجات الطاعة. وقيل أن جهة نفي القسم أن الكفار لم يكونوا يقرّون بالمقسمين ، فكأنه قيل لا أحلف بهما لأنكم لا تقرون بذلك.

[٤] (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) أي هل يظن (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) بعد الموت لأن يحشر؟ والمعنى أيظن أنه لا قيامة ولا معاد؟.

[٥] وقد كان زعم الإنسان بعدم الجمع ، من جهة حسبانه انه تعالى غير قادر على ذلك ، ولذا جاء السياق لدفع هذا الزعم الباطل بقوله : (بَلى) نجمع عظامه فإنّا نكون (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي رؤوس أصابعه ، وهذا في غاية القدرة ، لأن خطوط أصابع الناس يختلف بعضها مع بعض وإن كان البشر عشرات الآلاف من الملايين ، ومن يقدر على صنع وإعادة أدق أجزاء الإنسان قادر على إعادة غير ذلك من سائر أجزائه : قالوا : وأعجب ما في الإنسان أربعة : اختلاف الأصوات ، والوجوه ، وخطوط البنان ، وذبذبات الخطوط حتى أنّ

٥٦١

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)

____________________________________

إنسانين لو خطّا كان من المستحيل عادة أن يتساوى خطهما ، وإنما يعرف الاختلاف بالمجاهر والآلات الحديثة :

[٦] إن الإنسان لا يكفر بالمعاد ، لأنه ينكر في قلبه قدرة الله سبحانه على البعث (بَلْ) إنما ينكر لأنه (يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ) أي يعصي (أَمامَهُ) أي في مستقبل عمره ، وحيث إن الاعتراف بالآخرة يمنع عن فجوره ، ينكر حتى يكون الطريق مفتوحا لفجوره ، وإذ خوّف من الآخرة أنكرها ليسكت المنكر له :

[٧] ف (يَسْئَلُ) سؤال منكر (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)؟ أي متى يكون ، بمعنى أنه لا يكون ، وإلا فأين هو؟

[٨] ثم يأتي السياق ليبين وقت يوم القيامة (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي شخص عند معاينة الأهوال ، أو تقلب البرق ، أو خرج منه البرق ، فإن الإنسان لدى الاصطدام يخرج من عينه مثل البرق.

[٩] (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب نوره ، فظهر جرما كمدا بلا نور.

[١٠] (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) بأن يختل نظامهما الفلكي فيرى كل واحد منهما بجنب الآخر.

[١١] (يَقُولُ الْإِنْسانُ) المكذب بيوم القيامة (يَوْمَئِذٍ) أي في هذا اليوم (أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي إلى أين يمكن الفرار من هذه الأهوال؟ وهذا استفهام للإنكار ، والتحسر ، بأنه لا يمكن الفرار.

٥٦٢

كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)

____________________________________

[١٢] (كَلَّا) فإنه لا يمكن الفرار (لا وَزَرَ) وهو ما يتحصن به الإنسان من جبل ونحوه ، أي لا ملجأ للفرار والهرب.

[١٣] (إِلى) حساب (رَبِّكَ) أيها الإنسان (يَوْمَئِذٍ) أي في هذا اليوم (الْمُسْتَقَرُّ) أي المنتهى ، فالصالحون إلى جنته ، والطالحون إلى ناره.

[١٤] (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ) أي يخبر الإنسان ، والمخبر هو الله سبحانه بواسطة الأنبياء والشهداء (يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (بِما قَدَّمَ) إلى الآخرة في حياته ، من الأعمال الصالحة (وَ) ما (أَخَّرَ) كما لو أوقف وقفا ومات فجرت الصدقة بعد مماته ، وإنما يخبر بذلك للجزاء والثواب ، أو النكال فإن المحسن أو المجرم ، يقرأ أولا ما عمل ثم يجازى.

[١٥] ومهما اعتذر الإنسان بشتى الأعذار ، فإنه مما لا تقبل منه (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ) وما عمل في الدنيا (بَصِيرَةٌ) التاء للمبالغة ، أي كامل العلم والعرفان ، أو التاء للتأنيث ، أي حجة بصيرة ، فإن الأعضاء تشهد بما صدر منه.

[١٦] (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي ولو اعتذر لم ينفعه عذره ، أو يعلم ما صنع وإن اعتذر في ظاهر لفظه ، فإن الإلقاء بمعنى الإعطاء ، كما يقال فلان ألقى بحجته ، «ومعاذير» جمع معذرة ، أو معذار.

[١٧] ثم يأتي السياق لتوجيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كيفية تحمل القرآن إذا ما يوحى إليه ، ولعل المناسبة الربط بين أحوال القيامة وبين العمل الذي

٥٦٣

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ

____________________________________

يوجه إليه القرآن. قال ابن عباس : كان النبي إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه وحرصه على أخذه وضبطه مخافة أن ينساه ، ونحوه نقل عن سعيد بن جبير ، أقول : ولعل هذا العمل كان منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثناء هذه السورة ، ولذا جاء هذا التوجيه في الأثناء (لا تُحَرِّكْ) يا رسول الله (بِهِ) أي بالقرآن (لِسانَكَ) بأن تقرأه كلمة كلمة بمجرد قراءة جبرئيل قبل أن يتم الوحي (لِتَعْجَلَ بِهِ) أي لتأخذه على عجلة مخافة أن تنساه.

[١٨] (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) أن نجمعه ونؤلّفه (وَقُرْآنَهُ) أي أن نقرأه عليك.

[١٩] (فَإِذا قَرَأْناهُ) وذلك بقراءة جبرئيل لك (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي قراءته.

[٢٠] (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي إيضاحه وتفسيره في مجملاته ومتشابهاته فعلينا الجمع والقراءة والبيان ، وعليك الرسالة والتبليغ. وفي الحقيقة الأمر من المدهشات لو لا الرسالة ، فإنه كيف يتسنى للشخص أن يحفظ هذا المقدار الكبير من الكلام بدون تكرار في القراءة عن كتاب. ألا ترى أن أبلغ الخطباء وأذكرهم إذا صعد المنبر وقرأ مقدار صفحتين ، وكان عرفه على حفظه لم يتمكن من قراءته مرة ثانية كما قرأ أولا ، لكن وعد الله سبحانه للرسول بقوله «فلا تنسى» هو الذي أوجب حفظه بمجرد قراءة جبرئيل ، ولو كان الرسول غير صادق في دعواه ـ كما زعم الكفار ـ كيف تسنى له هذا الحفظ المدهش.

[٢١] ثم رجع السياق إلى الكلام السابق بقوله : (كَلَّا) لا تتدبرون القرآن ،

٥٦٤

بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦)

____________________________________

ولا تتفكرون في المعاد «إرادة لأن تفجروا أمامكم» (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي الدنيا الحاضرة.

[٢٢] (وَتَذَرُونَ) أي تتركون (الْآخِرَةَ) فلا تعملون لها.

[٢٣] فاعلموا أن من عمل هنا للآخرة كان حاله هناك حسنا ، ومن لم يعمل كان حاله سيئا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (ناضِرَةٌ) أي ناعمة بهيجة حسنة وهي وجوه المؤمنين.

[٢٤] (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي إلى رحمته سبحانه وفضله ولطفه ، وهذا كما تقول «أنظر إلى فلان» وهو بعيد عنك ، تريد إلى فضله ورحمته ، أو إلى حركاته وأعماله.

[٢٥] (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (باسِرَةٌ) شديدة العبوس والتقطيب ، فإن الإنسان المحزون الخائف يبسر وجهه ، وهي وجوه الكافرين والعصاة.

[٢٦] (تَظُنُ) أصحاب تلك الوجوه ، ونسبة الظن إلى الوجوه مجاز (أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي داهية تكسر فقار الظهر من شدتها ، وإنما قال «تظن» لأن الإنسان مهما رأى العذاب قريبا لا يستعد لأن يعترف بنزوله عليه رجاء أن يدفع عنه ، فهو ظان بالعذاب لا متيقن.

[٢٧] (كَلَّا) ليس الأمر على ما توهم الكفار من أنها دنيا بلا آخرة ، فإنه سيظهر لهم كذب هذا الزعم (إِذا بَلَغَتِ) الروح (التَّراقِيَ) جمع

٥٦٥

وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣)

____________________________________

«ترقوة» ، وهي العظام المكتنفة بالحلق ، وهذا كناية عن الإشراف على الموت.

[٢٨] (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) لعل المراد أن الملائكة تسأل بعضها بعضا من يرقى بروح هذا الشخص هل ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟

[٢٩] (وَظَنَ) المحتضر أو من حضره (أَنَّهُ الْفِراقُ) أي أن الذي نزل به هو فراقه من الدنيا ، وابتعاده عن الأحبة.

[٣٠] (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) هذا كناية عن عدم الحيلة في إرجاعه إلى الدنيا ، وشفائه من الموت ، فإن الإنسان الذي تلتف رجليه ، لا يتمكن من الهرب والفرار عن المكروه.

[٣١] (إِلى رَبِّكَ) أيها الإنسان (يَوْمَئِذٍ) أي في يوم الاحتضار (الْمَساقُ) أي السوق ، فلا علاج إلا الذهاب إليه ، وقد تم عمرك في الدنيا.

[٣٢] فهل عمل هذا الإنسان الكافر عملا ينجيه هناك؟ كلا (فَلا صَدَّقَ) ما يجب التصديق به (وَلا صَلَّى) لله الصلوات المفروضات.

[٣٣] (وَلكِنْ) عوض ذلك (كَذَّبَ) بالله وما يجب الإيمان به (وَتَوَلَّى) أي أعرض عن الحق.

[٣٤] (ثُمَ) لترتيب الكلام ، لا لترتيب المطلب في الخارج (ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي يتكبر افتخارا بتكذيبه ، من المط وهو التمدد ، فإن الإنسان

٥٦٦

أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧)

____________________________________

المتبختر يمدد بدنه ، ولعل المراد ب «ذهب إلى أهله» أن المتبختر إنما يظهر معظم كبره لأهله حين يرجع إليهم من خارج البيت.

[٣٥] (أَوْلى لَكَ) الحالة التي أنت عليها من الإيمان والإطاعة ، والإتيان ب «لك» بمعنى أن المتكبر الطاغي أولى له حالته السيئة من الأمر الحسن الذي يدعى إليه ، لأنها تجانسه لا الحسن (فَأَوْلى) أي أيضا نقول أولى لك تأكيدا لعدم قابليته للإيمان والهداية.

[٣٦] (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) للتأكيد. وقد روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ ذات مرة بيد أبي جهل وقال له : «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا وإني لأعز أهل هذا الوادي ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية (١).

أقول : وقد تمكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وربه تعالى أن يفعلا به كل شيء ، فقد قتل أبو جهل في بدر ، والتحق بالسعير. ولفظة «أولى لك» تهديد ، أي إنك سترى عاقبة ما اخترت من الانحراف.

[٣٧] (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) أي هل يظن الإنسان (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي مهملا بلا أمر ولا نهي ولا حساب ولا جزاء؟ فإن «سدى» بمعنى «مهمل».

[٣٨] (أَلَمْ يَكُ) الإنسان (نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي يصب ويراق ألا يستدل بذلك وبما اختلف عليه من الأطوار أن الله قادر على أن يعيده.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ١٦٨.

٥٦٧

ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)

____________________________________

[٣٩] (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) وهي القطعة من الدم المنعقد ، فإن النطفة تتبدل إلى تلك (فَخَلَقَ) الله منها بشرا سويا (فَسَوَّى) أي سوى خلقه بإعطائه الآلات والأجهزة والمشاعر وغير ذلك.

[٤٠] (فَجَعَلَ مِنْهُ) أي من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ) أي الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) فمن يا ترى صنع كل ذلك غيره سبحانه؟

[٤١] (أَلَيْسَ ذلِكَ) الله الذي فعل هذا (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)؟

فمن قدر على الابتداء قدر على الإعادة ، فكيف ينكر الكافر قدرته سبحانه على البعث والنشور؟

٥٦٨

(٧٦)

سورة الإنسان

مدنية / آياتها (٣٢)

وتسمى بسورة الدهر ، سميت السورة بهذين الاسمين لاشتمالها على لفظي «الإنسان» و «الدهر» ، وهي كسائر السور المدنية مشتملة على ما يرتبط بالنظام إلى جنب معالجتها لقضايا العقيدة ، وحيث ختمت سورة القيامة بذكر أحوال الإنسان من حين كونه نطفة إلى حين البعث ، افتتحت هذه السورة بذكر ابتداء الإنسان ، ليرتب عليه معاده ونشره.

نزلت هذه السورة في الخامس والعشرين من ذي الحجة في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وجارية لهم تسمى فضة ، وذلك أنه مرض الحسن والحسين عليهما‌السلام فأعادهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة من الصحابة ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا ، فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما الله سبحانه. ونذرت فاطمة وكذلك فضة ، فبرآ وليس عندهم شيء ، فاستقرض على ثلاثة أصوع من شعير من يهودي فطحنت الزهراء عليها‌السلام صاعا منها فاختبزته ، وصلى علي المغرب وقربته إليهم ، فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم فأعطوه أقراصهم

٥٦٩

جميعا ولم يفطروا إلا بالماء ، فلما كان اليوم الثاني صاموا جميعا ، وأخذت فاطمة عليها‌السلام صاعا فطحنته واختبزته ، ولما كان المغرب قدمته للإفطار فإذا يتيم على الباب يستطعم ، فأعطوه ولم يذوقوا إلا الماء في إفطارهم ، فلما كان اليوم الثالث عمدت فاطمة عليها‌السلام إلى الصاع الثالث فطحنته واختبزته ، ولما كان المغرب وأرادوا أن يفطروا فإذا أسير بالباب يستطعم ، فأعطوه أقراصهم الخمسة ولم يفطروا إلا بالماء ، فلما كان اليوم الرابع وقد قضوا نذورهم أتى علي ومعه الحسن والحسين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبهما ضعف ، فبكى رسول الله مما رأى فيهما من الضعف ، فنزل جبرئيل بسورة «هل أتى» (١).

وفي بعض الأحاديث أن الله سبحانه أنزل عليهم مائدة من السماء (٢). قالوا : ومن غريب أمر هذه السورة أنها وصفت نعيم الجنة كله باستثناء ذكر «الحور» تكريما لفاطمة عليها‌السلام.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي هو أول كل شيء ، فمن حسن الابتداء أن يبدأ باسمه الكريم في كل أمر ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم لكل ناقص ، فيكمل نقصه ومن تكميل النقص غفران الزلل حتى يكون الإنسان وكأنه لم يذنب.

__________________

(١) تأويل الآيات الظاهرة : ص ٧٢٤.

(٢) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف : ج ١ ص ١٠٧.

٥٧٠

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ

____________________________________

[٢] (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) استفهام للتقرير حتى يقر الإنسان بهذه الحقيقة ، فيرتب عليه أنه إذا لم يكن ثم كان ، كان مكوّنه قادرا على أن يعيده بعد أن يفنى ويهلك (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) أي زمان طويل من الأزمنة السالفة (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أي شيئا يذكر ، بأن كان معدوما لا أثر له؟ والجواب : أنه نعم كان كذلك ، وهل لأحد أن ينكر هذه الحقيقة.

[٣] (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) هي المني (أَمْشاجٍ) جمع «مشيج» من مشجت بمعنى خلطت ، أي النطفة أخلاط مختلفة من ماء الرجل وماء المرأة ، ومن الأجزاء المتجمعة من المأكولات المختلفة ، وإنما خلقناه ل (نَبْتَلِيهِ) أي نمتحنه بما نكلفه من الأعمال ، هل يحسن أم يسيء؟ (فَجَعَلْناهُ) أي الإنسان (سَمِيعاً بَصِيراً) يسمع ويبصر ليتم عليه التكليف.

[٤] (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي الطريق إلى الحق ببعث الأنبياء وإرسال الكتب ، ف (إِمَّا) يكون (شاكِراً) لأنعم الله سبحانه بالإيمان والإطاعة ، (وَإِمَّا) يكون (كَفُوراً) كثير الكفر ، فإن كل كافر هو كفور باعتبار مختلف الأزمنة والأحوال.

[٥] (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي هيأنا (لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) لأن يجروا بها جمع سلسلة

٥٧١

وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)

____________________________________

وهي قطعات الحديد المتداخلة ، وهي غير منصرفة ، لأنها على وزن «مفاعل» (وَأَغْلالاً) جمع غل لأن يقيدوا بها (وَسَعِيراً) أي نارا مستعرة ، أي ذات لهب واتقاد ، والمراد تهيؤ ذلك لهم في الآخرة.

[٦] (إِنَّ الْأَبْرارَ) جمع برّ وهو المؤمن الصالح (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) وهي القدح التي تكون فيه الخمر ، أو سائر أقسام المشروبات ولعل تقديم الشراب لمناسبته مع ما تقدم من «السعير» الموجبة لطلب الإنسان الماء ـ مناسبة الضد للضد ـ (كانَ مِزاجُها) أي ما يمزج بشرابها (كافُوراً) لبرودته وعذوبته وطيب عرفه ، وإتيان الضمير مؤنثا لأن الكأس مؤنث سماعي.

وقد كانت العرب تمزج الخمر بالكافور حينا وبالزنجبيل حينا ، ولذا ذكروا أن خمر الجنة كذلك ، تماشيا مع مداركهم ، وإن كان هناك ما لا يشبه أطعمة الدنيا وأشربتها ، لذة وفضلا.

[٧] (عَيْناً) أي أن تلك الكأس تملأ من عين ، وكأنها منصوبة على تقدير الفعل ، أي نبشركم أو نهنئكم (يَشْرَبُ بِها) أي منها ـ والإتيان بالباء لنكتة بلاغية ـ (عِبادُ اللهِ) الذين عبدوا الله وأطاعوه حق طاعته (يُفَجِّرُونَها) أي يجرونها ويخرجونها حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم (تَفْجِيراً) ومن المتعة أن يكون المنزل بحيث يمكن تفجير العين فيه ، فإنه تلهي وتلذذ.

٥٧٢

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)

____________________________________

[٨] ثم وصف عباد الله بقوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي كانوا في الدنيا بحيث إذا نذروا نذرا وفوا به ولم يغشّوا ، والنذر هو أن يلتزم الإنسان على نفسه خيرا لأجله سبحانه ، كأن ينذر الصيام أو الصدقة أو ما أشبه (وَيَخافُونَ يَوْماً) أي من أهوال ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة (كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي منتشرا في كل جهة ، حتى يشمل كل كافر وآثم ، وليس كشرور الدنيا التي تكون خاصة بأرض أو إنسان أو محل.

[٩] (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي لأجل الله سبحانه ، وعلى حبه تعالى ، أو بمعنى على أنهم يحبون الطعام لجوعهم (مِسْكِيناً) وهو الفقير الذي أسكن الفقر حركاته ، فإن الغني يتحرك هنا وهناك أما الفقير فإنه يسكن لعدم مال له يصرفه في أموره (وَيَتِيماً) وهو الطفل الذي مات أبوه ، أو أبواه ، وقد يطلق على من ماتت أمه (وَأَسِيراً) الذي أسر في الحرب ، وقد كان أهل البيت عليهم‌السلام وفوا بالنذر وأطعموا الثلاثة ـ كما تقدم ـ.

[١٠] وقصدهم حين الإطعام هو (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ) أيها الفقراء (لِوَجْهِ اللهِ) أي لذاته سبحانه وإنما جيء ب «الوجه» كناية عن الاتجاه والقصد ، تشبيها بوجه الإنسان الذي يتوجه الإنسان إليه حين طلب مرضاته (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ) أيها الفقراء (جَزاءً) لنا ، كأن تعملوا بعض أعمالنا جزاء تصدقنا لكم (وَلا شُكُوراً) بأن تشكروننا ولو باللسان ـ وإنما الصدقة خالصة لله سبحانه ، للتقرب من رضوانه ـ.

٥٧٣

إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها

____________________________________

[١١] (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) لو عصيناه بأن لم نف بالنذر ، أو لم نطعم المسكين لوجهه (يَوْماً عَبُوساً) أي مكفهرا تعبس فيه الوجوه. ونسبة العبوس إلى اليوم من باب علاقة الحال والمحل ، من قبيل «يا سارق الليلة» (قَمْطَرِيراً) أي صعبا شديدا.

[١٢] (فَوَقاهُمُ اللهُ) أي حفظهم وكفاهم (شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي يوم القيامة (وَلَقَّاهُمْ) أي استقبلهم وأعطاهم (نَضْرَةً) في الوجوه ، وهي البهجة والحسن (وَسُرُوراً) في القلوب.

[١٣] (وَجَزاهُمْ) أي كافأهم وأعطاهم جزاء (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم (جَنَّةً وَحَرِيراً) مكانا للسكنى ، ولباسا وأثاثا.

[١٤] في حال كونهم (مُتَّكِئِينَ) أي مستريحين (فِيها) أي في الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة ، وهي سرير العروس في الحجلة (لا يَرَوْنَ فِيها) أي في تلك الجنة (شَمْساً) تحرقهم (وَلا زَمْهَرِيراً) أي بردا يؤذيهم.

[١٥] (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) يعني أن ظل أشجار الجنة قريبة منهم فإن الضياء الموجود هناك وفيه شيء من الحرارة محجوب بالأشجار وحيطان القصور والسقوف ، ويكون الهواء في ظلالها أهنأ وأطيب ، وإنما جعل كذلك لتطلب الإنسان تغيير الهواء من الظل إلى الحر ،

٥٧٤

وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها

____________________________________

وبالعكس ، و «دانية» حال عطف على «متكئين» (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها) جمع قطف وهو الثمرة (تَذْلِيلاً) أي سهلت أخذ ثمارها باليد ، لقربها ونضجها فتقطف بسرعة.

[١٦] (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) والطائف هم الوالدان المخلدون (بِآنِيَةٍ) أي ظرف كأنها الإبريق ونحوه مما فيه الماء (مِنْ فِضَّةٍ) لعل فيها الشراب (وَأَكْوابٍ) جمع كوب ، وهو القدح الصغير ، وذلك لصب الشراب من الآنية في الأكواب لتناول الناس الأبرار (كانَتْ) تلك الأكواب (قَوارِيرَا) أي زجاجات.

[١٧] (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) فهي من زجاجة بلون الفضة لتجمع بين اللذتين في المشاهدة.

قال الصادق عليه‌السلام : ينفذ البصر في فضة الجنة كما ينفذ الزجاج

(١). أقول : فهي جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة ولينها (قَدَّرُوها) أي قدروا تلك الأكواب (تَقْدِيراً) كأنها صنعت ب «الماكنة» في توحيد أشكالها ومزاياها ، لا كالأواني المصنوعة باليد التي يراها الإنسان مختلفة تنبو عنها العين لاختلافها.

[١٨] (وَيُسْقَوْنَ فِيها) أي في الجنة ، والفاعل هم الأبرار المقدم ذكرهم (كَأْساً) أي شرابا في الكأس ـ بعلاقة الحال والمحل ـ (كانَ مِزاجُها)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨ ص ١١١.

٥٧٥

زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ

____________________________________

أي مزج بشرابها (زَنْجَبِيلاً) أي ما يشبه الزنجبيل في الطعم وهو عقار معروف كانوا يخلطونه بالشراب ـ كما تقدم ـ.

[١٩] (عَيْناً) بدل من زنجيل ، أو منصوب على تقدير الفعل كما ذكر سابقا (فِيها) أي في الجنة (تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) فالشراب الممزوج بالزنجبيل يؤخذ من تلك العين ، وسميت «سلسبيلا» لسيلانه في الأنهار عذبا صافيا رقراقا ، أو لأنه سائغ في الخلق لصفائه وخفته ، فلا يتوهم أن الزنجبيل يوجب لذعا وحرقة.

[٢٠] (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) معنى الطواف هو الذهاب من عند هذا إلى ذاك إلى ذلك ، وهكذا حتى يرجع إلى الأول ، و «الولدان» جمع ولد ، ومعنى مخلدون باقون في الجنة إلى الأبد ، وهم قسيم للحور ، فهم أولاد وتلكم بنات (إِذا رَأَيْتَهُمْ) أيها الإنسان (حَسِبْتَهُمْ) أي ظننتهم (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) لصفاء ألوانهم وبريقها ، وتفرقهم هنا وهناك يشبههم باللؤلؤ غير المنظوم ، لانتشارهم في الخدمة.

[٢١] (وَإِذا رَأَيْتَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (ثَمَ) أي الجنة ، فإن ثم بمعنى هنا لك (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) أي وسيعا ، فإنه يعطي لأقل أهل الجنة منزلة من القصور والجنان ما يكفي لأن يضيف الثقلين في ضيافة واحدة.

[٢٢] (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) أي يعلوهم ، والمراد يلبسون ثيابا

٥٧٦

وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ

____________________________________

سندسا ، وهو الحرير الأخضر الرقيق ، (وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو الحرير الخشن والرقيق أنعم للبدن ، والخشن أجمل في المنظر (وَحُلُّوا) أي يحلّون بالزينة (أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) جمع سوار ، وهو ما يلبس في اليد من الحلي ، والفضة هنا أثمن من الذهب ـ كما قالوا ـ وقد كانت العادة في الملوك والكبراء لبس السوار (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) فليس كشراب الدنيا نجسا أو موجبا للرذيلة من السكر ونحوه.

[٢٣] ويقال لهم : (إِنَّ هذا) النعيم الذي أنتم فيه (كانَ لَكُمْ جَزاءً) على إيمانكم وأعمالكم الصالحة ، «وكان» لمجرد الربط (وَكانَ سَعْيُكُمْ) وتعبكم في الدنيا (مَشْكُوراً) شكره الله سبحانه وقدره ، ولذا جزاكم بهذا الثواب.

[٢٤] ثم يأتي السياق ليسلي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عملا يلاقيه من الأذى في سبيل الدعوة إلى مثل هذه الجنات ، بعد ما بين جزاء العالمين (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) والتأكيد ب «نحن» لدفع كلمات الكفار حول القرآن ، بأنه كهانة أو شعر أو يعلمه بشر ، أو ما أشبه ذلك.

[٢٥] (فَاصْبِرْ) يا رسول الله في تبليغ القرآن (لِحُكْمِ رَبِّكَ) بأن تبلغ رسالاته في وسط هذا الموج العاتي من الإنكار والإيذاء والاستهزاء

٥٧٧

وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ

____________________________________

(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء (آثِماً) أي عاصيا (أَوْ كَفُوراً) أي كافرا ، يعني لا تطع الآثم في إثمه ولا الكفور في كفره ، بأن لا تبلغ الأصول أو الفروع إطاعة لها وجلبا لرضائها فقد ورد أن أبا جهل نهى الرسول عن الصلاة ، كما أن عتبة والوليد قالا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج (١). والآية عامة تشمل كل كافر يأمر بالكفر وآثم يأمر بالإثم.

[٢٦] (وَاذْكُرِ) يا رسول الله (اسْمَ رَبِّكَ) بالذكر والدعاء والصلاة (بُكْرَةً) أي صباحا (وَأَصِيلاً) أي عصرا ، يعني استمر على شأنك والدعاء إليه في طرفي النهار.

[٢٧] (وَمِنَ اللَّيْلِ) أي بعض الليل (فَاسْجُدْ لَهُ) أي لله سبحانه والمراد بالسجود الصّلاة والعبادة ، أي اخضع لله سبحانه (وَسَبِّحْهُ) أي سبح الله ونزهه عما لا يليق به (لَيْلاً طَوِيلاً) فإن الليل ربيع العباد يتخذون طوله وسيلة للضراعة والاستكانة ، فإن الخواطر الكامنة لا تجيش إلا بطول الضراعة والابتهال. وقد ورد أن «بكرة» لصلاة الصبح و «أصيل» للظهرين و «اسجد له» للعشائين و «سبّحه» لصلاة الليل.

[٢٨] (إِنَّ هؤُلاءِ) الكفار الذين تراهم معرضين عن الله مقبلين على شهواتهم (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي الدنيا والشهوات العاجلة (وَيَذَرُونَ)

__________________

(١) عين العبرة : ص ٦٠.

٥٧٨

وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠)

____________________________________

أي يتركون (وَراءَهُمْ) في مستقبلهم (يَوْماً ثَقِيلاً) هو يوم القيامة الذي يثقل على الإنسان لما فيه من الأهوال والشدائد ، فلا يعملون لذلك اليوم.

[٢٩] إنهم يكفرون بالله الذي خلقهم وأعناقهم بيده (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) من العدم (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي أحكمنا خلقهم ، بتنظيم الأجهزة ، فإن «الأسر» أصله الشد ، ومنه سمي الأسير أسيرا ، لأنه يشد بالحبال ، فالمعنى أحكمنا شدهم في الخلقة ، بحيث لا ينفصم جزء من جزء ، بل الأجزاء كلها متماسكة مترابطة (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) مكانهم (تَبْدِيلاً) بأن أهلكنا هؤلاء وجئنا بدلهم مكانهم.

[٣٠] (إِنَّ هذِهِ) السورة ، أو هذه العظات والعبر المذكورة في القرآن (تَذْكِرَةٌ) تذكر الناس بما أودع في فطرتهم ، وإلفات لهم نحو الكون وآياته (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي مضى في طريق مرضاته سبحانه ، بعد ما رأى الحق ، وميّز بين الصدق والكذب.

[٣١] (وَما تَشاؤُنَ) أنتم أيها البشر الإيمان والهداية ، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) بأن يرسل الرسول ويوضح الطريق ، إذ الهداية لها طرفان : طرف من جانبه بنصب الأدلة ، وطرف من جانبكم بالاتباع والاهتداء (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بمصالحكم (حَكِيماً) فيما يفعل ، فإن الحكمة وضع

٥٧٩

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)

____________________________________

الأشياء موضعها ، والله لا يفعل شيئا إلا بالحكمة والمصلحة.

[٣٢] (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي في سعادة الدنيا والآخرة وليس الإدخال اعتباطا بل إنما يدخل سبحانه عباده الصالحين (وَالظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو العصيان (أَعَدَّ) أي هيأ سبحانه (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما موجعا ، في الدنيا بعيشة ضنك وفي الآخرة بالنار والنكال.

٥٨٠