تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣)

____________________________________

[١١] (وَلا تُطِعْ) يا رسول الله ، وهو عطف على «فلا تطع» (كُلَّ حَلَّافٍ) أي كثير الحلف بالباطل لقلة مبالاته (مَهِينٍ) أي ذليل من «هان» بمعنى ذلّ. وهذان من صفات الكفار لأنهم لما لا يجدون سبيلا إلى إثبات باطلهم يتمسكون بالحلف ، ومثل هذا الإنسان يشعر في نفسه بذلة المغلوبية ، وإن هرج وتشدّق وصاح وحلف.

[١٢] (هَمَّازٍ) كثير الهمز للناس ، والهمز هو الطعن في الغير بشدة (مَشَّاءٍ) كثير المشي بين الناس (بِنَمِيمٍ) أي بالنميمة والفتنة والإفساد ليضرب بعض الناس ببعض ، والنميم والنميمة بمعنى واحد.

[١٣] (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كثير المنع للخير فكلما رأى إرادة الإنسان للخير منعه ، لدناءة نفسه (مُعْتَدٍ) أي مجاوز عن الحق ، من اعتدى بمعنى تجاوز وظلم (أَثِيمٍ) أي كثير الإثم والعصيان.

[١٤] (عُتُلٍ) جاف غليظ (بَعْدَ ذلِكَ) الذي ذكر له من الصفات (زَنِيمٍ) أي دعي ملصق إلى قوم ليس منهم بالنسب. قالوا : والمعنى بذلك «الوليد بن المغيرة» (١) وهذه غالبة في الأشرار الذين يصدون عن الحق ، ويحضرون كل شر ، وقد رأيناهم في عصرنا ، إبان المد الأحمر ـ وكأن النفس إذا انحرفت عن جادة الهدى تجمعت فيها كل تلك الصفات.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١٠ ص ٨٩.

٤٨١

أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ

____________________________________

[١٥] (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لأنا أعطيناه المال والبنين يكذب بآياتنا جزاء للإحسان بالإساءة ، فهو متعلق بما يأتي في قوله «قال أساطير».

[١٦] (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) تقرأ عليه آيات القرآن (قالَ) في شأنها (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديث الأقوام السابقين التي سطرت بلا أن يكون لها أصل ، و «أساطير» جمع أسطورة ، وهي القصة الخيالية الوهمية بلا أن يكون لها حقيقة. ومن الغريب شباهة هذا القول من مكذبي عصر الرسول بما يقوله المكذبون في عصرنا ، من أن الإسلام رجعية وارتجاع.

[١٧] (سَنَسِمُهُ) أي سنعلمه يوم القيامة بعلامة يعرف بها أنه مجرم ، فالسين للاستقبال ، و «نسم» مضارع من «وسم» بمعنى نعلمه بعلامة (عَلَى الْخُرْطُومِ) أي على أنفه ، وسمي خرطوما تشبيها بخرطوم الفيل تحقيرا له ، كما أن الوسم على الخرطوم من جهة أن الأنف مظهر الكبر والإعراض.

[١٨] (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) أي اختبرنا أهل مكة (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي أصحاب البستان الذي كان قرب صنعاء.

فقد قال الإمام الباقر عليه‌السلام : إن أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلى أصحاب الجنة ـ وهي جنة كانت في الدنيا وكانت باليمن يقال لها

٤٨٢

____________________________________

«الرضوان» على تسعة أميال من صنعاء (١) ، وقصة أصحاب الجنة كما رواها القمي عن ابن عباس : انه كان شيخ له جنة ، وكان لا يدخل بيته ثمرة منها ولا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه ، فلما قبض الشيخ ورثه بنوه وكان له خمسة من البنين ، فحملت جنته في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملت قبل ذلك ، فراحوا الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمر ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم ، فلما نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا ، وقال بعضهم لبعض : إن أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله وخرف فهلموا نتعاقد عهدا فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين «أي مسلمي زمانهم» في عامنا هذا شيئا حتى نستغني وتكثر أموالنا ، ثم نستأنف الصنعة فيما يستقبل من السنين المقبلة.

فرضي بذلك أربعة وسخط الخامس ، وهو الذي قال الله فيه «قال أوسطهم ألم أقل لكم لو لا تسبحون» .. فقال لهم أوسطهم اتقوا الله وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا ، فبطشوا به وضربوه ضربا مبرحا ، فلما أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع ، فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله أن يصرموا إذا أصبحوا ولم يقولوا «إن شاء الله» ، فابتلاهم الله بذلك الذنب ، وحال بينهم وبين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه ، فأخبر عنهم في الكتاب فقال «إنا بلوناهم» إلى آخر القصة ـ كما يأتي ـ ولعل تشبيه كفار مكة بأولئك الأخوة من حيث إنهم كفروا نعمة الله سبحانه ،

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٨٢.

٤٨٣

وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا

____________________________________

فابتلاهم بالقحط والجدب ، كما أن الأخوة لما أرادوا منع الفقراء خلافا لأمره سبحانه ابتلاهم الله بالنار التي أحرقت جنتهم (١).

(إِذْ أَقْسَمُوا) أي حلفوا بالله (لَيَصْرِمُنَّها) أي يقطعون ثمرها من «الصرم» بمعنى القطع (مُصْبِحِينَ) أي في حال كونهم داخلين في الصباح قبل أن يجلو النهار ، ليخفوا الأمر على الفقراء والمساكين.

[١٩] (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي لم يستثنوا عند الحلف بإتيان كلمة إن شاء الله ، وإنما يقال لهذه الكلمة : الاستثناء ، لأن القائل يقول أفعل كذا إلا أن يشاء الله منعي ، وفي معنى ذلك إن شاء الله ، وبعدم الاستثناء كانوا قد أساؤوا أولا بنية المنع عن الفقراء ، وثانيا بعدم الاستثناء بالنسبة إلى ما عزموا عليه في المستقبل.

[٢٠] (فَطافَ عَلَيْها) أي على الجنة (طائِفٌ) أي شيء من العذاب طاف على البستان (مِنْ) قبل (رَبِّكَ) يا رسول الله (وَهُمْ نائِمُونَ) بعد في فراشهم ، قالوا بعث الله نارا على البستان فأحرقت.

[٢١] (فَأَصْبَحَتْ) الجنة (كَالصَّرِيمِ) أي كالمقطوع ثماره ، من «صرم» بمعنى قطع ، أو كالليل المظلم ، ويقال الليل والنهار صريمان لانصرام أحدهما عن الآخر.

[٢٢] (فَتَنادَوْا) أي الأخوة أصحاب الجنة ، نادى بعضهم بعضا

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٨١.

٤٨٤

مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)

____________________________________

(مُصْبِحِينَ) أي حال كونهم داخلين في الصباح.

[٢٣] وكان النداء من بعضهم لبعض (أَنِ اغْدُوا) أيها الأخوة ، أي أسرعوا غدوة (عَلى حَرْثِكُمْ) أي زرعكم وثمركم (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) من «صرم» بمعنى قطع ، أي إن تريدون قطع الثمار.

[٢٤] (فَانْطَلَقُوا) مضوا إلى البستان (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي يتسارون بينهم ، وأصله من خفت فلان نفسه ، إذا أخفى نفسه لئلا يراه أحد ، ومنه يسمى مقابل الجهر إخفاتا.

[٢٥] وكان التخافت بسبب (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) أي الجنة (الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ) أي في يوم الصرم وقطع الثمر (مِسْكِينٌ) فاعل يدخل.

[٢٦] وهكذا ذهبوا حتى وصلوا إلى الجنة (وَغَدَوْا) أي أصبحوا (عَلى حَرْدٍ) بمعنى المنع يقال حاردت السنة : إذا منعت قطرها (قادِرِينَ) أي قدروا على المنع عن الثمر لا على الثمر ، وهذا كالاستهزاء بهم كما يقال فلان امتلأت كفه من الهواء عوض امتلائها من المال ، يعني أنهم أصبحوا ممنوعين من الثمر ، فقد قدروا على الحرد والحرمان لا على الثمار والأعناب.

[٢٧] (فَلَمَّا رَأَوْها) أي رأوا الجنة على تلك الصفة (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (إِنَّا لَضَالُّونَ) أي ضللنا الطريق ، فليست هذه جنتنا.

[٢٨] ولما تأملوا ورأوا أنها جنتهم بعينها ، أضربوا عن كلامهم الأول وقالوا

٤٨٥

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها

____________________________________

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) عن الثمار وعن خير الجنة ، فلقد احترقت.

[٢٩] (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أعقلهم ، ويقال للأعقل أوسط ، لأنه لا إفراط في أمره ولا تفريط (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) حينما أردتم منع الفقراء (لَوْ لا) أي هلا (تُسَبِّحُونَ) وتنزهون الله سبحانه؟ فقد قال لهم حين ما تواطأوا على منع الفقراء : أيها الأخوة اذكروا الله ونزهوه عن القبيح فإنه منزه عن أن يعطي الأغنياء ويحرم الفقراء ، لكنكم ركبتم رؤوسكم وأعرضتم عن النصح ، فهذا جزاء نيتكم السيئة.

[٣٠] وبعد انتهاء كل شيء (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) فإنه تعالى ليس ظالما في إحراق بستاننا ، بل (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) حيث قصدنا منع الحقوق عن الفقراء.

[٣١] (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي بعض الأخوة (عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا على ما سبق منهم من النية السيئة.

[٣٢] (قالُوا يا وَيْلَنا) أي يا قوم ويلنا ، أو يا ويلنا أحضر فهذا وقتك ، والويل هي الحالة السيئة (إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) في عزمنا على منع الفقراء حقوقهم ، والطغيان هو الظلم المتجاوز حده.

[٣٣] (عَسى رَبُّنا) أي لعل الله سبحانه (أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) أي خيرا من

٤٨٦

إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ

____________________________________

هذه الجنة ، بأن يتفضل علينا ببدلها وعوضها ، ف (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) نرغب إليه ونطلب غفرانه ونسأله أن يعوضنا بدل الجنة.

[٣٤] (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي كعذاب أصحاب الجنة ، يكون عذاب العاصين في الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) من عذاب الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو علموا مقدار عذاب الآخرة ، لعلموا أنه أكبر من عذاب الدنيا.

[٣٥] وفي مقابل هؤلاء المتقون (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا الكفر والمعاصي ، بأن خافوا عقاب الله سبحانه (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في الآخرة وكونه عند الله باعتبار القرب إلى رضاه لا القرب المكاني (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي بساتين يتنعمون فيها.

[٣٦] (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا لله سبحانه (كَالْمُجْرِمِينَ) الذين أذنبوا وعصوا الله سبحانه؟ وهذا استفهام إنكاري ، أي كيف نجعل المسلم والمجرم ـ في الآخرة ـ سواء؟ وقد كان الكفار يقولون : إن كان بعث وجزاء لكان حالنا في الآخرة أفضل من أحوال محمد وأصحابه.

[٣٧] (ما لَكُمْ) أيها الكفار؟ (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) حكما جائرا في أن المجرم كالمسلم عند الله تعالى؟ وهل يعقل هذا الحكم؟

[٣٨] (أَمْ) أي هل أن حكمكم بذلك ليس اعتباطا ، بل (لَكُمْ كِتابٌ)

٤٨٧

فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١)

____________________________________

سماوي نزل على الأنبياء السابقين (فِيهِ تَدْرُسُونَ) وتقرؤون مساواة المجرم والمسلم؟

[٣٩] تدرسون ب (إِنَّ لَكُمْ) أنتم الكفار (فِيهِ) أي في ذلك الكتاب (لَما تَخَيَّرُونَ) أي للشيء الذي تختارونه من الثواب في الآخرة ، وجملة «إن لكم ...» أول الكلام على سبيل الاستهزاء ، ولذا كسرت همزة إن ، وإن كان في الحقيقة من متعلقات «تدرسون» كما فسرنا.

[٤٠] (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) أي عهود ومواثيق علينا بأن أخذتم منا عهودا (بالِغَةٌ) تلك العهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) تكون هي لكم جيلا بعد جيل (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أن تلك العهود هي أن لكم أنتم كلما حكمتم من تساوي المؤمنين بكم ، وإدخالكم الجنة؟

[٤١] (سَلْهُمْ) يا رسول الله ، أصله «اسأل» حذفت الهمزة تخفيفا (أَيُّهُمْ بِذلِكَ) الذي ذكروا من أن لهم مثل ما للمسلمين (زَعِيمٌ) كفيل؟ فمن الكفيل بأن يكون لهم مثل ما للمسلمين؟ وإذ لا كتاب ولا إيمان ، ولا كفيل فليعرفوا أن كلامهم فارغ خال من كل حجة ودليل.

[٤٢] (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي آلهة أخرى هم يعطون هؤلاء الكفار في الآخرة مثل ما يعطي الله المؤمنين؟ (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) في يوم القيامة ليأخذوا منهم ـ وهذا استهزاء بهم ـ (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في كلامهم

٤٨٨

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ

____________________________________

إن لهم مثل ما للمؤمنين.

[٤٣] فليأتوا بشركائهم في (يَوْمَ) القيامة الذي تظهر فيه الأهوال والشدائد حتى أنه (يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) فإن الخوف إذا كان شديدا كشف الإنسان عن ساقه ، بأن رفع ثوبه ليكون أسهل في الهرب ، فلا يأخذ فاضل ثوبه رجله ، وهذا كناية عن الهول ـ كما إن «كثير الرماد» كناية الجود (وَيُدْعَوْنَ) هؤلاء الكفار في ذلك اليوم (إِلَى السُّجُودِ) فيقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ «اسجدوا» (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لأن فقار ظهرهم تتداخل وتصلب حتى لا يتمكنون من الانحناء للسجود كما يظهر من الأحاديث.

[٤٤] (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) لا يرفعون نظرهم من الأرض ذلة ومهانة ووجلا (تَرْهَقُهُمْ) أي تغشاهم (ذِلَّةٌ) فإنها تظهر من حركاتهم وسكناتهم ووجناتهم (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ) هؤلاء الكفار ـ في دار الدنيا ـ (إِلَى السُّجُودِ) والخضوع لله سبحانه (وَهُمْ سالِمُونَ) فلا يسجدون ، ولذا جوزوا بتلك الذلة ، وبعدم تمكنهم من السجود يوم القيامة.

[٤٥] (فَذَرْنِي) أي دعني يا رسول الله (وَمَنْ) أي مع الكافر الذي (يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي بحديث التوحيد والرسالة والمعاد وهذا تهديد ، معناه اني سأجازيهم ، كما يقول القائل «دعني وإياه» أي اتركه فإني سوف أحاسبه (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) الاستدراج هو طلب الشيء درجة

٤٨٩

مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)

____________________________________

درجة حتى يصل إلى النهاية المقصودة ، أي نوجب على هؤلاء العقوبة بإعطائهم الحياة والمال حتى يتدرجوا في الكفر والعصيان ، ويستحقوا بذلك أشد العذاب (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) إنه استدراج إلى العذاب والعقاب ، بل يظنون إنها نعمة وصحة ومال وجاه.

[٤٦] (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم ، فإن الإملاء والإمهال بمعنى واحد (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي ما أدبّره لعذاب الأشقياء متين مستحكم لا ينفصم ولا يدخله النقص والخلل.

[٤٧] ثم عطف على قوله (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ) قوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) أي تسأل يا رسول الله من هؤلاء الكفار (أَجْراً) على أداء الرسالة والدعاء إلى الإسلام (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) أي من لزوم تلك الغرامة ، والمال الذي تطلبه منهم (مُثْقَلُونَ) قد أثقلهم ذلك المطلوب ، ولذا يريدون الفرار من تلك الغرامة ، فعدم إيمانهم هل لأنهم يقولون لا فائدة في الإيمان ، لأنهم مطمئنون ، من كتاب قرءوه أنهم في الجنان مثل المسلمين ـ أم لأنهم يعرفون الفائدة في الإيمان ، وأن الجنة تتوقف عليه ، ولكن في الإيمان غرامة وهم يفرون من تلك الغرامة؟

[٤٨] (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي أن الوحي ينزل عليهم بأن ما هم فيه من الكفر والعصيان هو الصحيح (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ذلك الغيب ويعملون به ، ولذا لا يرضخون للإسلام ، لأن عندهم مثل ما عندك من الوحي والكتاب؟

٤٩٠

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ

____________________________________

[٤٩] وإذ ترى يا رسول الله من الكفار الإعراض بلا حجة أو دليل (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) في إبلاغ الرسالة ، وتحمل المشاق في سبيله (وَلا تَكُنْ) يا رسول الله (كَصاحِبِ الْحُوتِ) أي يونس عليه‌السلام الذي طلب العذاب لقومه ، وخرج من بينهم ، لما رأى عدم الفائدة في دعوتهم فقد كان عمله ذلك ترك الأولى بمثل مقام الرسالة (إِذْ نادى) الله سبحانه بإنزال العذاب على قومه (وَهُوَ مَكْظُومٌ) قد كظم غيظه على القوم فهو مكظوم الغيظ ، يقال كظم غيظه : إذا حبسه ، أو المعنى نادى في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (١) وهو محبوس في بطن الحوت ، لكن المعنى الأول أقرب إلى قوله (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ).

[٥٠] (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) بقبول توبته واستغفاره فان التوبة نعمة من الله سبحانه على العبد (لَنُبِذَ) يونس ، أي طرح من بطن الحوت (بِالْعَراءِ) أي الأرض الجرداء الخالية عن الشجر والسقف حتى يهلك من الحر والبرد والجوع (وَهُوَ مَذْمُومٌ) لما ارتكبه من الدعاء على قومه ، فقد كان ذلك تركا للأولى ، وذلك ـ وإن لم يكن عصيانا ـ إلا أنه ليس مناسبا لمقام الأنبياء ، ولذا يحتاجون إلى التوبة والتطهير من ذلك.

[٥١] وإذا تداركته نعمة من ربه فاستغفر وتاب (فَاجْتَباهُ) أي اصطفاه

__________________

(١) الأنبياء : ٨٨.

٤٩١

رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)

____________________________________

واختاره (رَبُّهُ) بأن قبل توبته وأرجعه إلى مكانه الأول (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين يصلحون لأداء رسالته سبحانه.

[٥٢] فاصبر يا رسول الله لحكم ربك ، ولا تكن كيونس ، واعلم بأن الكفار يريدون إزالتك عن دعوتك (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ) «إن» مخففة من الثقيلة ، أي أنه يقرب الكفار من أن يزلقوك ، و «زلق» بمعنى لم يتماسك على الأرض بل وقع لتمايل رجله ، أي يريد الكفار أن يوقعوك فلا تقوم للتبليغ ، وهذا للتشبيه ، فإن الذي يترك القيام بالبلاغ كالإنسان الذي وقع فلا وقوف له على رجليه (بِأَبْصارِهِمْ) أي بأعينهم ، فقد كانوا ينظرون إلى الرسول شزرا ، والنظر العدائي يوجب انقطاع الإنسان عما قام به ، فإن الشخص إذ رأى الازدراء من السامع لم يتقدم بالكلام (لَمَّا سَمِعُوا) أولئك الكفار (الذِّكْرَ) أي القرآن (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَمَجْنُونٌ) قد خلط عقله وزال ، فكلامه باطل لغو.

[٥٣] (وَما هُوَ) والحال أنه ليس هذا القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يذكرهم ما أودع في فطرتهم من التوحيد والمعاد وما أشبه.

٤٩٢

(٦٩)

سورة الحاقة

مكية / آياتها (٥٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الحاقة» ، وهي كسائر السور المكية تشتمل على معالجة قضايا العقيدة ، وحيث تعرضت سورة «القلم» في أواخرها بقضايا القيامة ووعيد الكفار بها ابتدأت هذه السورة بذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نشرع باسم الإله الذي له ما في الكون ، فاسمه الكريم أفضل شيء يشرع به في الأمور ، إنه يبارك على ما ابتدئ فيه باسمه ، كما ورد «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لمن سأله ولمن لم يسأله ، وإن كان من سأله مورد عنايته وألطافه الخاصة ، بالإضافة إلى رحمته التي وسعت كل شيء.

٤٩٣

الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦)

____________________________________

[٢] (الْحَاقَّةُ) هي من أسماء القيامة ، وإنما سمي المحشر بها لأنها ساعة تحق وتتحقق ، من «حق» بمعنى ثبت وصدق ووجب ، وهي في الإعراب مبتدأ خبره :

[٣] (مَا الْحَاقَّةُ؟) كما تقول : زيد ما زيد؟ وهو استفهام معناه التفخيم ، أي أيّ شيء هي؟ وما أكثر أهوالها وشدائدها.

[٤] (وَما أَدْراكَ) يا رسول الله ، أو أيها الإنسان (مَا الْحَاقَّةُ) أيّ أيّ شيء هي ، فإنك إذا لم تعاينها لم تعلم شدائدها ، وهذا ليس نفيا بعلم الرسول ـ لو كان الخطاب موجها إليه ـ بل كناية عن شدتها.

[٥] ثم جاء السياق ليبين أحوال جملة من الأمم الماضية الذين كذبوا بالقيامة فأخذهم الله سبحانه وأهلكهم (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) أي قبيلة ثمود ، وهم قوم صالح عليه‌السلام (وَ) قبيلة (عادٌ) قوم هود عليه‌السلام (بِالْقارِعَةِ) أي بالقيامة ، وتسمى «قارعة» لأنها تقرع الأشياء وتدكها وتقرع القلوب وتخفيفها.

[٦] (فَأَمَّا ثَمُودُ) فقد جوزوا على تكذيبهم بأنهم أهلكوا (بِالطَّاغِيَةِ) أي بالصيحة الطاغية التي طغت عليهم فخلعت قلوبهم وأهلكتهم.

[٧] (وَأَمَّا عادٌ) فقد جوزوا على تكذيبهم بأنهم أهلكوا (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي باردة شديدة العصوف (عاتِيَةٍ) قد عتت عند حدها المألوف ، والريح مؤنث سماعي.

٤٩٤

سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)

____________________________________

[٨] (سَخَّرَها) الله (عَلَيْهِمْ) بأن كانت مرسلة نحوهم (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) فكانت تهلكهم ببردها وصريرها (حُسُوماً) أي في حال كون تلك الليالي والأيام ولاء متتابعة ، مأخوذ من «حسم الداء بمتابعة الكي» ، أو بمعنى أنها حسمتهم أي قطعت نسلهم بحيث لم يبق منهم أحد (فَتَرَى) أيها الرائي (الْقَوْمَ) أي قبيلة عاد (فِيها) أي في تلك الأيام (صَرْعى) مصروعين ، جمع صريع ، وهو الشخص الواقع ميتا (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي أصول نخل بالية ، فإن أعجاز جمع عجز وهو أصل النخل والخاوي الخالي الذي لا شيء في جوفه ، وشبهوا بذلك لأن استطالة جسمهم وبقائهم في الأرض يشبه ذلك.

[٩] (فَهَلْ تَرى) أيها الرائي (لَهُمْ) أي لأولئك الأقوام المكذبين (مِنْ باقِيَةٍ) أي من نفس باقية؟ وهذا استفهام للإيقاظ ، أي لم يبق منهم أحد ، وكذلك كل أمة كذبت لا بد لهم من الفناء حتى لا يبقى منهم أحد.

[١٠] (وَجاءَ فِرْعَوْنُ) وقومه العاصون لموسى عليه‌السلام (وَمَنْ قَبْلَهُ) من قوم نوح عليه‌السلام ونحوهم (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) أي قرى لوط التي قلبت ـ من «ائتفك» أي انقلب ـ والمراد أهل تلك القرى (بِالْخاطِئَةِ) أي بالخطإ ، فإنها مصدر «خطأ» أو المراد بالخصلة الخاطئة نسبت الخطأ إليها مجازا بعد ما كان منسوبا إلى القوم.

٤٩٥

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ

____________________________________

[١١] (فَعَصَوْا) أولئك الأقوام (رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي كل قوم رسوله ، والمراد بالرسول الجنس لا الواحد ـ كما تقدم وجهه سابقا ـ (فَأَخَذَهُمْ) الله بالعقوبة (أَخْذَةً رابِيَةً) أي زائدة في الشدة من «ربي» بمعنى زاد وطغى.

[١٢] لقد أخذنا الأقوام المكذبين وأنجينا المصدقين ، كما إنا أنجينا المؤمنين بنوح عليه‌السلام الذين هم أجدادكم أيها الناس (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي جاوز الحد المألوف حتى أغرق الأرض كلها (حَمَلْناكُمْ) إنما نسب الحمل إليهم باعتبار أنهم من أولاد من حملوا (فِي الْجارِيَةِ) أي في السفينة التي كانت تجري في تلك المياه الكثيرة.

[١٣] (لِنَجْعَلَها) أي نجعل تلك الفعلة التي فعلنا بكم حين آمنتم (لَكُمْ) أيها الناس (تَذْكِرَةً) تتذكرون بها نعم الله سبحانه (وَتَعِيَها) من «وعى» بمعنى أدرك ، أي تحفظها وتدركها (أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي أذن تعي المواعظ وتستمع للعبر بقصد التفهم والعمل.

[١٤] وإذا رأيتم عاقبة المكذبين وعاقبة المصدقين في الدنيا فاسمعوا عاقبتهما في الآخرة (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) أي نفخ إسرافيل في البوق لأجل إحياء البشر نفخته الثانية (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) بلا زيادة عليها إذ لا حاجة إلى أكثر منها ، فإن البشر يحيون بمجرد النفخة.

[١٥] (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أما حمل الأرض فباعتبار رفع منحدراتها

٤٩٦

فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)

____________________________________

حتى تستوي مع سائر بقاعها ، وأما رفع الجبال فباعتبار أنها تنسف حتى تكون كالهباء لتستوي ظهر الأرض كلها بلا رفع ولا خفض ، وتكون ساحة القيامة عليها (فَدُكَّتا) أي كسرتا ودك بعضها على بعض (دَكَّةً واحِدَةً) فإن «الدك» يشمل الأرض والجبال مرة واحدة لا تدريجا.

[١٦] (فَيَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي القيامة ، وسميت «واقعة» لأنها تقع قطعا.

[١٧] (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) بمعنى انفرجت حتى ينظر الإنسان إليها فيراها متفطرة كانفطار الجدار ونحوه (فَهِيَ) أي السماء (يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (واهِيَةٌ) من «وهى» بمعنى ضعف ، لأن نظامها يختل ، ومداراتها تتداخل وتخرب.

[١٨] (وَ) يرى (الْمَلَكُ) النازل للحساب وسائر الأعمال (عَلى أَرْجائِها) أي على أطراف السماء ونواحيها ، و «أرجاء» جمع «رجا» بمعنى الطرف والناحية (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) يا رسول الله ، وهو محل سمي بالعرش يصدر منه أوامر الله سبحانه ، كما أن البيت الحرام محل مضاف إليه سبحانه تشريفا (فَوْقَهُمْ) أي فوق أكتافهم (يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (ثَمانِيَةٌ) من الملائكة العظام ، وكل ذلك لتكثير الهول ، والتناسب مع مدارك الإنسان الذي يرى العظمة ويشعر الخوف من هذه الأمور.

٤٩٧

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١)

____________________________________

[١٩] (يَوْمَئِذٍ) أي في هذا اليوم (تُعْرَضُونَ) أنتم أيها البشر في ذلك العرض الهائل الرهيب (لا تَخْفى مِنْكُمْ) نفس (خافِيَةٌ) فليس أحد هناك مخفيا لأنه لا محل للاختفاء ، بل كلهم بارزون يراهم الناس معهم أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

[٢٠] وهناك ينقسم الخلق إلى قسمين : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) أي صحيفة أعماله التي أدرج فيها الملائكة كل ما عمل في دار الدنيا (بِيَمِينِهِ) أي بيده اليمنى ، وذلك علامة الفلاح والنجاة (فَيَقُولُ) لأهل القيامة ـ في فرح وسرور ـ (هاؤُمُ) أي تعالوا وخذوا ، اسم فعل أمر بصيغة الجمع ، مفرده «ها» (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) وانظروا ما فيه من الحسنات ، والهاء في «كتابيه» ونحوه للسكت ، يقرأ في الوقف ولا يقرأ في الوصل ، وكأنه جيء به للتنفس بأن لا يحبس النفس على الياء.

[٢١] (إِنِّي ظَنَنْتُ) في الدنيا (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) في الآخرة ، ولذا عملت صالحا حتى حصلت على هذه المرتبة الرفيعة من الفلاح والنجاح والإتيان ب «ظننت» لعله لإفادة أن مجرد الظن كاف في العمل الصالح إذ رفع الضرر المظنون واجب بحكم العقل.

[٢٢] (فَهُوَ) أي صاحب الكتاب الذي أعطي كتابه بيمينه (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) نسبة الرضا إلى العيش مجاز ، فإن صاحب العيش هو الراضي أو أن اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول ـ كما قالوا في أن هذين يأتي كل واحد منهما

٤٩٨

فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧)

____________________________________

في مكان الآخر ، ف (حِجاباً مَسْتُوراً) (١) بمعنى ساترا كما تقدم ـ.

[٢٣] (فِي جَنَّةٍ) أي بستان (عالِيَةٍ) رفيعة القدر والمكان.

[٢٤] (قُطُوفُها) جمع «قطف» وهو ما يجتنى بسرعة ، أي ثمارها الناضجة أو أن القطف والقطع (دانِيَةٌ) أي قريبة إلى الشخص ، حتى لا يحتاج في قطفها إلى التجشم والتعب ، فإذا أرادها قربت من يده ليقطعها.

[٢٥] ويقال لهم ـ على وجه التكريم والإجلال ـ (كُلُوا) من ثمار الجنة ولحومها وسائر مأكولاتها (وَاشْرَبُوا) من أنهارها (هَنِيئاً) لكم أي تهنئون هنيئا ، بلا داء ولا علة يوجبها الأكل والشرب بسبب ما (أَسْلَفْتُمْ) أي قدمتم من أعمالكم الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي الماضية ، والمراد بها أيام الدنيا التي خلت ومضت.

[٢٦] وإذ رأينا أحوال أهل الجنة فلننظر إلى أحوال أهل النار (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) أي أعطي (كِتابَهُ) أي كتاب أعماله التي أدرجها الملائكة فيه (بِشِمالِهِ) أي بيساره ، وذلك علامة أهل النار (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ) أي لم أعط (كِتابِيَهْ) حتى أرى ما يسوؤني فيه.

[٢٧] (وَلَمْ أَدْرِ) أي يا ليتني لم أعرف (ما حِسابِيَهْ) أي أيّ شيء حسابي.

[٢٨] (يا لَيْتَها) أي ليت الموتة التي متها في الدنيا (كانَتِ الْقاضِيَةَ) تقضي

__________________

(١) الإسراء : ٤٦.

٤٩٩

ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣)

____________________________________

على حياتي إلى الأبد فلم أبعث بعدها لأرى سيئات أعمالي وأبتلي بالخزي والعذاب.

[٢٩] (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي ما دفع عني مالي من عذاب الله شيئا.

[٣٠] (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) وسلطنتي وجاهي ذهبتا ، فلا مال ينفع ولا سلطان ينجع ـ مما كرست حياتي وجهودي لهما ـ.

[٣١] ثم يأتي الخطاب من المصدر الأعلى للملائكة الموكلين بهذا المجرم (خُذُوهُ) فلا تتركوه يفر ويهرب (فَغُلُّوهُ) أي أوثقوه بالغل ، وهو الحديد الذي يربط أعضاء الإنسان بعضها ببعض لئلا يتمكن من الفرار.

[٣٢] (ثُمَّ الْجَحِيمَ) بعد إغلاله بالغل (صَلُّوهُ) أي أدخلوه فيها والجحيم هي النار العظيمة.

[٣٣] (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها) أي طولها بالذراع (سَبْعُونَ ذِراعاً) والطول لتشديد العذاب والغم عليه (فَاسْلُكُوهُ) أي اربطوه بها ، وقيل تدخل من حلقه وتخرج من دبره ، وهذا هو سلكه فيها.

[٣٤] ثم يأتي السياق ليبين علة هذه الأنواع من العذاب (إِنَّهُ) أي هذا المجرم (كانَ) في الدنيا (لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) مع عظمته سبحانه ، كان يعاند ولا يؤمن.

٥٠٠