تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١)

____________________________________

[٣٦] (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) حذرا من أن يكون قصر في حقهما ، أو يطالبانه بشيء.

[٣٧] (وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته ، وهو من باب المثال ، وإلا فالزوجة أيضا تفر من زوجها (وَبَنِيهِ) أي أولاده ، والمراد إنه يفر من أعز أقربائه وعشرائه.

[٣٨] (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الفارين ، أو كل من حضر في القيامة (يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ) أي أمر عظيم (يُغْنِيهِ) عن شؤون غيره لأنه مبتلى بحساب نفسه يشغله عن الاهتمام بالآخرين.

[٣٩] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة ، وهي وجوه المؤمنين (مُسْفِرَةٌ) أي مشرقة مضيئة ، «من أسفر» بمعنى ظهر فإنها تظهر عليها آثار الفرح والسرور.

[٤٠] (ضاحِكَةٌ) من السرور (مُسْتَبْشِرَةٌ) استبشرت بالخير والثواب أي فرحت وتهللت.

[٤١] (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة ، والمراد بها وجوه الكفار والعصاة (عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي سواد وكآبة وحزن ، مشتق من الغبار وهو التراب المتصاعد الذي يعلو الأشياء.

[٤٢] (تَرْهَقُها) أي تعلو تلك الوجوه وتغشاها (قَتَرَةٌ) وهي ظلمة الدخان ، فالغبار والدخان وعبوس النفس كلها تظهر على وجوههم ، ولا يجليها رضوان الله ورحمته ، كما يجلي وجوه المؤمنين ، لو فرض

٦٢١

أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)

____________________________________

مرورها من محلات القيامة المغبرة.

[٤٣] (أُولئِكَ) الذين وصفوا بتلك الأوصاف السيئة (هُمُ الْكَفَرَةُ) جمع كافر (الْفَجَرَةُ) جمع فاجر أي العاصي ، يعني أن الكفار والفجار هم الذين تكون على وجوههم غبرة وقترة.

٦٢٢

(٨١)

سورة التكوير

مكية / آياتها (٣٠)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الفعل من هذا المصدر ، وهو قوله «كورت» وهي كسائر السور المكية تبين قضايا العقيدة في أصولها الثلاث ، وحيث ختمت سورة «عبس» بذكر القيامة ، افتتحت هذه السورة بذكر علاماتها.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله الذي هو المبدأ لكل شيء ، فمنه سبحانه جاء الكون ، وإليه مصير الخلق ، الرحمن الرحيم بكل شيء خلقا وتربية ولطفا.

٦٢٣

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧)

____________________________________

[٢] (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي ذهب نورها فأظلمت ، والتكوير هو اللف ، كأن المراد لف ضوؤها ، فذهب انبساطها في الآفاق ، فتصير سوداء مظلمة.

[٣] (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) بأن يذهب نورها وضياؤها ، من الكدرة.

[٤] (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) قلعها الله عن مكانها ، وسيرها كالهباء في الفضاء.

[٥] (وَإِذَا الْعِشارُ) وهي النوق الحوامل ، جمع «عشراء» وهي الناقة الحامل ، والناقة التي وضعت لتمام (عُطِّلَتْ) أي تركت هملا بلا راع ولا محافظ ، وذلك كناية عن أن أهوال ذلك اليوم بحيث توجب أن يذهل الإنسان عن أعز ماله.

[٦] (وَإِذَا الْوُحُوشُ) جمع وحش ، وهو الحيوان البري الذي لا يأنس ، أو مطلق الحيوان (حُشِرَتْ) أي جمعت في ذلك اليوم ليقتص للمظلوم منها من الظالم.

[٧] (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي حولت إلى النيران ، ومنه تسجير التنور ، بإيقاد النار فيه.

[٨] (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) بأن قرنت كل نفس إلى من يشاكلها فالمؤمن مع المؤمن ، والكافر مع الكافر ، أو زوجت نفوس المؤمنين بحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين ، أو زوجت النفوس بالأحباء ، بعد

٦٢٤

وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤)

____________________________________

مفارقتها عنها في حال الموت.

[٩] (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ) من وئد بمعنى دفن الشيء حيا ، فقد كانت العرب تئد البنات خوف الفقر والعار (سُئِلَتْ) أي يسأل عنها.

[١٠] (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)؟ يسأل عن الذين وأدوا بناتهم : بأي ذنب صدر منهن قتلتموهن ، وهن بريئات لا ذنب لهن؟

[١١] (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي صحائف أعمال الناس تنشر ليقرأها أصحابها ويطلعوا على ما فيها من خير وشر حتى يجازون بما عملوا.

[١٢] (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) الكشط هو القلع عن شدة ، كأن السماء جلد يكشط ويقلع عن الكون ، وذلك كناية عن تبدل الأنظمة العلوية حتى يرى الإنسان السماء غير السماء كما يرى البدن المكشوط جلده بغير شكله السابق.

[١٣] (وَإِذَا الْجَحِيمُ) أي النار (سُعِّرَتْ) أي أوقدت ، بأن ترتفع نارها ولهيبها لتشتد وتزداد حرارة وهولا.

[١٤] (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي قربت ، كأنها في محل بعيد في الفضاء ثم تدنى إلى الأرض التي هي المحشر والموقف ، أو المراد قربت إلى المؤمنين قربا زمانيا.

[١٥] إذا كانت هذه الأمور (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي عرفت أعمالها

٦٢٥

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)

____________________________________

التي عملتها في دار الدنيا من خير وشر وسعادة وشقاء والتي أحضرتها ليوم القيامة ، فإنها تعرف بأعمالها لتجازى عليها.

[١٦] ثم جاء السياق لتثبيت أمر الرسالة وبيان أن القرآن ليس كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما يزعم الكفار ـ (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) قد سبق أن «لا» للنفي ، وإنما يؤتى بها لنكتة هي إرادة تعظيم القسم والإشعار به مع عدم الحلف واقعا. كما تقوم لرجل عظيم «لا أقسم بحياتك لكن الأمر كذا». و «الخنس» جمع الخانس ، وهو الذي يستتر ويرجع ، والمراد بها الكواكب ، أي لا أقسم بالكواكب التي تستتر عند مغيبها في المغرب ، أو لضياء النهار.

[١٧] (الْجَوارِ) جمع جارية ، لأن الكواكب تجري وتسير في السماء (الْكُنَّسِ) جمع «كانس» وهو الذي يستتر في محله ، كالضبي الذي يأوى إلى كناسه أي منزله ، وكأن المعنى لا أقسم بالكواكب السيارة التي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي في أماكنها ، فإن أول الليل يرى الإنسان الكواكب رجعت عن مغيبها ، ثم يرى جريانها ثم اختفاءها عند المغرب أو عند إضاءة الصباح.

[١٨] (وَ) قسما ب (اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي أقبل ، أو بمعنى أدبر.

[١٩] (وَ) قسما ب (الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي أسفر وأضاء.

[٢٠] ثم جاء متعلق الحلف بقوله : (إِنَّهُ) أي إن هذا القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) المراد به جبرئيل عليه‌السلام ، في مقابل أن يكون من مخترعات

٦٢٦

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥)

____________________________________

الرسول ـ كما زعم الكفار ـ وكونه قول جبرئيل يراد به حكايته لذلك عن الله سبحانه ، لا إنه قوله الاستقلالي ـ كما لا يخفى ـ.

[٢١] (ذِي قُوَّةٍ) جسدية وعقلية ، فيتمكن من النزول من السماء إلى الأرض ، ويبلغ رسالة الله إلى الرسول كاملة بلا زيادة أو نقصان (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي له مكان عظيم عند الله سبحانه ـ الذي هو صاحب العرش ، المالك للكون كله ، كما يقال للملك «صاحب العرش» كناية عن كونه ملكا ـ و «مكين» بمعنى متمكن.

[٢٢] وهو (مُطاعٍ) للملائكة ، أي يطيعونه الملائكة لكبر مقامه (ثَمَ) أي هناك في الملأ الأعلى (أَمِينٍ) على الوحي فلا يزيد فيه ولا ينقص.

[٢٣] فالقرآن إذا كلام الله تعالى ، أما الرسول (وَما صاحِبُكُمْ) أيها الكفار ـ والمراد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي صحبهم ـ (بِمَجْنُونٍ) قد خلط عقله كما تتقوّلون عليه.

[٢٤] (وَلَقَدْ رَآهُ) أي رأى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرئيل (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) في ناحية المشرق عند الأفق الواضح ، فلم يكن وهما أو إلقاء من الشياطين أو ما أشبه ـ كما تزعمون ـ.

[٢٥] (وَما هُوَ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَلَى الْغَيْبِ) أي وحي الله سبحانه له (بِضَنِينٍ) بمتهم ، من «الضنة» بمعنى التهمة ، أو ببخيل.

[٢٦] (وَما هُوَ) أي ليس القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) مرجوم أي مطرود

٦٢٧

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)

____________________________________

باللعن ، كسائر الكهانات التي هي أقوال الشياطين تلقى على الكهنة.

[٢٧] (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أيها الكفار؟ وكيف لا تؤمنون والقرآن شاهد صدق على نفسه ، بأنه ليس كلام مجنون ، ولا كلام شيطان ، ولا ما زيد فيه أو نقص لبخل الرسول بإعطاء الوحي كاملا ، فإنه من طرف المنزل ، وهو الله ، ومن طرف المنزل إليه وهو الرسول ، أحسن كتاب للهداية.

[٢٨] (إِنْ هُوَ) أي ليس القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي لجميع الأجيال والعوالم ، عالم الإنس وعالم الجن ، يذكرهم بما أودع في فطرتهم من الأمور المرتبطة بالألوهية والرسالة والمعاد ، والأخلاق وما أشبه ذلك.

[٢٩] (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) أيها المكلفون (أَنْ يَسْتَقِيمَ) في عقيدته وعمله ، بأن لا ينحرف يمينا أو شمالا ، وإنما خصهم لأنهم المنتفعون بالذكر ، كما تقول «هذا معلم لمن شاء أن يتلمذ عنده» تعني أن المريد هو المستفيد منه ، وإن كان هو مستعد لتعليم كل فرد.

[٣٠] (وَما تَشاؤُنَ) أنتم الاستقامة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فإن الإنسان لا يتمكن على الاهتداء إلا بعد مشيئة الله بنصب الأدلة وقد شاء سبحانه ذلك ، وأرسل الرسول ، وأنزل الكتاب ، فلم يبق إلا مشيئة البشر أن يقبلوا الهدى ويتبعوا السبيل. وفي هذا تحريض العباد على المشيئة إذ الله رب العالمين قد شاء ، فهل يحق للبشر أن لا يشاء؟

٦٢٨

(٨٢)

سورة الإنفطار

مكيّة / آياتها (٢٠)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على فعل المصدر وهو قوله «انفطرت» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها ، وحيث كانت سورة «التكوير» لبيان أهوال القيامة ، جاءت هذه السورة مؤكدة لتلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نشرع في السورة باسم الإله الذي له كل شيء ، فإن الله علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال ، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد ويتفضل عليهم بتكميل نواقصهم.

٦٢٩

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦)

____________________________________

[٢] (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقت وظهر فيها أثر الانفطار حتى إذا شاهدها الإنسان رآها كالحائط المنفطر.

[٣] (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي تهافتت واختلفت أمكنتها وبطل نظامها الحالي ، من النثر وهو التبعثر.

[٤] (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) كما تتفجر العيون ، بأن أخذت تغلي بالماء أو باللهب.

[٥] (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي قلب ترابها لخروج الأموات منها ، والشيء المبعثر هو المتفرق.

[٦] إذا صار كل ذلك ، فقد قامت القيامة و (عَلِمَتْ) كل (نَفْسٌ) والمراد بالنفس الجنس ، ولذا أدخلنا عليها «كل» (ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) أي يعرف كل إنسان ـ بالنظر إلى صحيفة عمله ـ ما قدم إلى الآخرة في حال كونه في الدنيا وما أخر إلى الآخرة بعد وفاته ، بما خلف من صدقات جارية وكتب علم ودين أو أشياء ضارة وما أشبه ذلك ، فإنه يعرف بكل ذلك ليجزي حسب ما عمل إن حسنا فحسن ، وإن سيئا فسيء.

[٧] ثم يأتي السياق لإيقاظ الإنسان من نومه ، بقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)؟ أي أيّ شيء خدعك بربك حتى صرت تعصيه

٦٣٠

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠)

____________________________________

وتخالفه ، آمنا من عذابه وعقابه؟ وهل كان من العدل أن تقابل كرمه بالعصيان؟ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ـ وفي حديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تلا هذه الآية قال : غره جهله (١).

[٨] (الَّذِي خَلَقَكَ) بأن أوجدك منيا (فَسَوَّاكَ) جعل أجهزتك سليمة معدة لمنافعها (فَعَدَلَكَ) أي جعل بعض أعضائك عدل بعض كعينين ويدين ورجلين وما أشبه بحيث يتناسب أحدهما مع الآخر دون كبر في بعض وصغر في بعض.

[٩] (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ) «ما» زائدة لتأكيد اختلاف الصور (رَكَّبَكَ) أي ركبك في أية صورة شاء من أنواع الصور الحسنة والقبيحة والمليحة أو غيرها وهكذا ، فإن بسائط الجسم من لحم وعظم وشحم ودم وغيرها ركب سبحانه منها صورة كل إنسان بشكل خاص.

[١٠] فهل بعد ذلك كله تنكرون وجود الله ، أو قدرته على البعث (كَلَّا) ليس الأمر على ما تزعمون (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أي بالجزاء لا تؤمنون ، بل تكذبون.

[١١] وتظنون أن لا حساب (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ) أيها الناس (لَحافِظِينَ) من الملائكة ، يحفظون أعمالكم بكتابتها في دواوين لتجزون عليها يوم القيامة ، و «حافظين» اسم «إنّ».

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٩٤.

٦٣١

كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ

____________________________________

[١٢] (كِراماً) أي ملائكة كراما ذوي رفعة ومكانة رفيعة (كاتِبِينَ) يكتبون أعمال بني آدم.

[١٣] ولا يسقط من حسابهم شيء ، بل (يَعْلَمُونَ) كل (ما تَفْعَلُونَ) من طاعة ومعصية وخير وشر.

[١٤] ثم في يوم القيامة يجازى كل حسب ما عمل (إِنَّ الْأَبْرارَ) جمع «بر» وهو المحسن في العقيدة والعمل (لَفِي نَعِيمٍ) الجنان ورفاهها وخيرها.

[١٥] (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) جمع «فاجر» وهو العامل بالمعاصي ، كفرا كان أو غيره (لَفِي جَحِيمٍ) اسم من أسامي جهنم ، وهي النار الكثيرة.

[١٦] (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها ملازمين لها (يَوْمَ الدِّينِ) أي يوم القيامة.

[١٧] (وَما هُمْ) أي الفجار (عَنْها) أي عن الجحيم (بِغائِبِينَ) بأن يغيبوا عن النار في بعض الأوقات ، بل إنهم مؤبدون فيها بلا انقطاع.

[١٨] وإذا تقدم ذكر يوم القيامة جاء السياق لتهويل شأنه (وَما أَدْراكَ) أيها الإنسان (ما يَوْمُ الدِّينِ)؟ أي أيّ شيء هو؟ فإن أهوالها لا تدرك ، حتى يراها الإنسان رأي العين.

[١٩] (ثُمَ) لترتيب الكلام وتكثير التهويل (ما أَدْراكَ) أيها الإنسان

٦٣٢

ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)

____________________________________

(ما يَوْمُ الدِّينِ)؟ أي ما هو الجزاء.

[٢٠] إنه (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) ، فلا يقدر أحد الدفاع عن غيره ، أو إنقاذه بسائر الوسائل (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم (لِلَّهِ) وحده ، ولا ينفع للنجاة إلا العمل الصادر لله تعالى.

٦٣٣

(٨٣)

سورة المطفّفين

مكيّة ـ مدنيّة / آياتها (٣٧)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المطففين» ، ولعل السورة مركبة من المدنية والمكية لاشتمالها على ما يشبه النظام إلى جنب قضايا العقيدة ، وحيث ختمت سورة الانفطار بذكر القيامة وأحوال الناس فيها ، ذكر في هذه السورة ذلك أيضا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي له الملك وهو الأول لكل شيء ، فما أجدر أن يبتدأ باسم الكريم ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على العباد ويكمل نقص كل إنسان.

٦٣٤

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥)

____________________________________

[٢] (وَيْلٌ) وهي كلمة تقال بمعنى سوء الحال ، أي أن سوء الحال (لِلْمُطَفِّفِينَ) و «التطفيف» هو نقص الكيل والميزان.

[٣] ثم فسره سبحانه بقوله : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) أي كالوا ما على الناس ليأخذوه لأنفسهم ، كما لو دفعوا مالا لاشتراء من من الحنطة ، فإذا كالوها (يَسْتَوْفُونَ) أي يأخذون بمقدار حقهم وافيا ، ولما كان الكيل والوزن من جنس واحد اكتفى بأحدهما عن ذكر الآخر.

[٤] (وَإِذا كالُوهُمْ) أي كالوا لهم (أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي وزنوا لهم ، بأن أرادوا بيع من من الحنطة مثلا للناس وقبض الثمن لأنفسهم (يُخْسِرُونَ) أي ينقصون فيما يعطون ، فمثلا ينقصون من المنّ حقة. ولا يخفى أن العمل الأول ليس محرما ، وإنما يكون بشعا إذا قيس بالعمل الثاني ، كما أن إطراء الناس في وجههم ليس محرما ، ولكن إذا ضم إلى ذمهم في قفاهم صار بشعا ، وسمي الفاعل لذلك ذا لسانين ، وكان له يوم القيامة لسانان من نار ـ كما ورد ـ.

[٥] ثم يأتي السياق ليهددهم بقوله : (أَلا يَظُنُ) والإتيان بلفظ الظن لإفادة أن مجرد الظن كاف في الانقطاع ، فكيف بالعلم (أُولئِكَ) المطففون (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) ، أي يبعثون.

[٦] (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) في يوم القيامة الذي يحاسب فيه كل إنسان بما عمل.

٦٣٥

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)

____________________________________

[٧] وهو (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) من قبورهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي لحسابه وجزائه.

[٨] (كَلَّا) ليس الأمر على ما زعمتم من أنه لا حساب ولا جزاء ، بل هناك يجازي كل إنسان بما عمل ، ف (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) جمع فاجر ، وهو العاصي لله سبحانه ، سواء كان بالكفر أو الإثم ، والمراد بكتابهم ما أدرج فيه أسماؤهم وخصوصياتهم (لَفِي سِجِّينٍ) وهو السجل على جهة التخليد فيه ، يعني أنه قرر لهم السجن الأبدي ، وهكذا سجل أسماؤهم بأنهم في سجين ، كما تقول : «كتاب فلان في المجرمين» أي أنه كتب مجرما في ضمن سائر المجرمين.

[٩] ثم جاء السياق لتهويل أمر سجين بقوله : (وَما أَدْراكَ) أيها الإنسان ، أو يا رسول الله (ما سِجِّينٌ)؟ فما أعلمك به ، بل أنتم لا تدرون به.

[١٠] إنما هو (كِتابٌ مَرْقُومٌ) قد رقم وكتب وفرغ منه ، فلا يمكن تبديله وتغييره ، بأن يمحي اسم الفاجر منه ، ليدرج في كتاب الأبرار.

[١١] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (لِلْمُكَذِّبِينَ).

[١٢] ثم حدد معنى المكذبين ، والمراد بهم بقوله : (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي بيوم القيامة ، فإن الدين بمعنى الجزاء ، والتكذيب بيوم القيامة يلازم التكذيب بسائر الأصول.

٦٣٦

وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)

____________________________________

[١٣] (وَما يُكَذِّبُ بِهِ) أي بيوم القيامة (إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) يعتدي ويظلم ويتجاوز عن الحد (أَثِيمٍ) يأثم ويعصي في كثرة ويبالغ في الاعتداء.

[١٤] (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ) أي تقرأ على ذلك المعتدي (آياتُنا) الدالة على الألوهية والتوحيد وسائر الأصول ، أو المراد بها القرآن (قالَ) هذه التي تتلونها هي (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) حكاياتهم وكلماتهم الخرافية ، جمع «أسطورة» وهي القصة الخيالية التي لا حقيقة لها ، وفي هذا اليوم يسمون الدين «رجعية» عبارة أخرى عن «أساطير الأولين».

[١٥] (كَلَّا) ليست الآيات أساطير (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) «الرين» في الأصل بمعنى الغلبة ، أي غلب عليها (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الذنوب والآثام ، حتى أن عصيانهم سبّب تحجّر قلبهم ، فلا يرون الحق إلا باطلا ، والآيات إلا أساطير. قال الصادق عليه‌السلام : يصدأ القلب ، فإذا ذكرته بالله انجلى (١).

[١٦] (كَلَّا) لا يبقى هؤلاء في خير ونعيم إلى الأبد ، كما يظن الكفار بأنهم هناك أيضا يحظون بكرامة الله وإحسانه قائلين (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٢) (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ) أي عن لطفه ورحمته (يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (لَمَحْجُوبُونَ) ممنوعون ، وهذا كما

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١٠ ص ٢٩٣.

(٢) الكهف : ٣٧.

٦٣٧

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)

____________________________________

تقول «حجبني فلان عن الملك» أي منع لطفه عني.

[١٧] (ثُمَّ إِنَّهُمْ) بعد أن حجبوا عن فضل الله ولطفه (لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي داخلون فيها ملازمون لها.

[١٨] (ثُمَّ يُقالُ) لهم بعد أن دخلوا الجحيم على وجه التقريع والتوبيخ (هذَا الَّذِي) ذقتموه من العذاب والنكال (كُنْتُمْ بِهِ) في الدنيا (تُكَذِّبُونَ) وتقولون : لا جنة ، ولا نار ، ولا حساب ، ولا جزاء.

[١٩] (كَلَّا) ليس الأمر كما زعمتم من أنكم أهل كرامة الله ، إن الكرامة ليست لكم ، وإنما هي للأبرار (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) أي الكتاب الذي أدرج فيه أسماؤهم وعين فيه مقاماتهم ، و «أبرار» جمع برّ وهو المحسن عقيدة وعملا (لَفِي عِلِّيِّينَ) أي مراتب عالية ، فإنهم مكتوبون في سجلهم أن مقامهم هناك.

[٢٠] ثم جاء السياق لتعظيم مقامهم بقوله : (وَما أَدْراكَ) أيها الإنسان ، أو يا رسول الله (ما) هي (عِلِّيُّونَ)؟

[٢١] إنه (كِتابٌ مَرْقُومٌ) قد رقم وسجل فلا يمحى عنه أسماء الأبرار.

[٢٢] (يَشْهَدُهُ) أي يعرفه ويعلم مزاياه (الْمُقَرَّبُونَ) أي الملائكة المقربون ، وفي ذلك كرامة أخرى للأبرار ، لأن الإنسان يجب أن يطلع الناس وغيرهم على أعماله الحسنة.

٦٣٨

إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦)

____________________________________

[٢٣] ثم جاء القياس يعين مكان الأبرار الذي كتب في كتابهم أنهم في عليين (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) في الملاذ والمشتهيات.

[٢٤] وهم جالسون (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة ، وهي كرسي العروس الذي تجلس عليه (يَنْظُرُونَ) إلى هنا وهناك ليلتذوا بالنظر كما التذوا بسائر أنواع الحواس.

[٢٥] (تَعْرِفُ) أيها الإنسان ، إذا نظرت إلى أولئك الأبرار (فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي بريقه وحسنه وجماله ، فإن الإنسان الذي في نعمة وراحة يظهر على وجهه بريق ولمعان ونضارة.

[٢٦] (يُسْقَوْنَ) والساقي هم الملائكة بأمره سبحانه (مِنْ رَحِيقٍ) هو الشراب الخالص من كل كدورة وفساد (مَخْتُومٍ) قد ختم على آنيته بعد أن سد رأسه ، لئلا يصيبه الأذى من الخارج ، كالمربيات والأشربة التي تقفل وتختم في العلب في الدنيا.

[٢٧] (خِتامُهُ مِسْكٌ) فإن المداد الذي يختم به على أواني الرحيق من المسك المذاب ، وفي ذلك تشويق وأناقة ودلالة على النعيم وكثرة الرفاه (وَفِي ذلِكَ) النعيم (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله سبحانه ، وأصل التنافس التزاحم على الشيء ، إن نعيم الجنة هو القابل لأن يتزاحم فيه الناس ، وذلك بأن يبادر إلى كل الأعمال الصالحة لينالها ، لا أن يتنازعوا في ملذات الدنيا

٦٣٩

وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠)

____________________________________

فإنها زائلة فانية.

[٢٨] (وَمِزاجُهُ) أي الشيء الذي مزج بذلك الرحيق (مِنْ) عين تسمى بال (تَسْنِيمٍ) وهي عين جيدة ، سميت بالتسنيم لارتفاعها ، من سنم بمعنى ارتفع.

[٢٩] في حال كون ذلك التسنيم (عَيْناً) أو منصوب على المدح (يَشْرَبُ بِهَا) أي منها (الْمُقَرَّبُونَ) الذين قربوا إلى رضوان الله تعالى بأعمالهم الصالحة.

[٣٠] ثم يأتي ليبين أن ما يراه المجرم والمحسن هناك إنما هو جزاء أعمالهم (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي فعلوا الجرائم والآثام في دار الدنيا (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) على وجه السخرية بهم والاستهزاء لهم ، و «من» ابتدائية ، كأن ضحكهم كان يبتدئ وينشأ من طرف المؤمنين ، وهذا حكاية عن أحوالهم وهم في الدنيا وكأن الحكاية في الآخرة حين يعاتب المجرمين ويثاب المحسنون.

[٣١] (وَإِذا مَرُّوا) أي المؤمنون (بِهِمْ) أي بالمجرمين (يَتَغامَزُونَ) بأن يشير بعضهم إلى بعض بالعين والحاجب استهزاء بالمؤمنين ، ومن المعلوم أن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كان ممن يتغامز به المنافقون ولذا ورد في بعض الروايات تفسير الآية بذلك (١) ، وهو من باب المصداق.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ١٧٢.

٦٤٠