تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

١

٢

٣
٤

تقريب القرآن الی الأذهان

الجزء السابع

من آیة ٨٤ من سورة المائدة

الى آية ١١١ من سورة الأنعام

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٦

وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٤)

____________________________________

[٨٤] هذه الآية وطرفاها وردت في قصة النجاشي ملك الحبشة ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام مع جماعة من المؤمنين إلى النجاشي فأكرمهم وأعزّ وفادتهم ، ثم أنه بعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة من القسيسين فقال لهم : انظروا إلى كلامه ومصلاه. فلما وافوا المدينة دعاهم رسول الله إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) ـ إلى قوله ـ (سِحْرٌ مُبِينٌ) (١) ، فلما سمعوا ذلك من رسول الله بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي وأخبروه خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرءوا عليه ما قرأ عليهم ، فبكى النجاشي وبكى القسيسون وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه وخافهم على نفسه وخرج من بلاد الحبشة يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما عبر البحر توفي ، فنزلت هذه الآيات :

(وَإِذا سَمِعُوا) أي هؤلاء النصارى (ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) من القرآن (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) أي من البكاء (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي لمعرفتهم أن المتلوّ عليهم حق ، فإن الإنسان إذا عرف الحق ، رأى الخارج على خلافه ، أو رأى اضطهاد أهله ، بكى رقة على الحق أو القائم به (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) بدينك ورسولك (فَاكْتُبْنا) أي سجلنا ، سواء كان كتابة حقيقية أو لا (مَعَ الشَّاهِدِينَ) الذين شهدوا

__________________

(١) المائدة : ١١١.

٧

وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٥) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٧)

____________________________________

بالحق ، والمراد بهم المسلمون هنا.

[٨٥] (وَما لَنا) أي يقول هؤلاء النصارى : لأي عذر (لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) إيمانا حقيقيا كإيمان المسلمين (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) من القرآن والإسلام (وَ) الحال أنّا (نَطْمَعُ) أي نرجو ونأمل (أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا) في الجنة (مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ).

[٨٦] وقد حقق الله لهم الرجاء الذي رجوه (فَأَثابَهُمُ اللهُ) أي جازاهم وأعطاهم الثواب (بِما قالُوا) أي بسبب قولهم ذاك المنبثق عن عقيدتهم الراسخة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي بساتين تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار (خالِدِينَ فِيها) أي لهم الخلود فلا انقضاء للنعيم ولا زوال لهم (وَذلِكَ) الثواب (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون العقيدة والقول والعمل.

[٨٧] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) كاليهود وسائر المسيحيين والمشركين (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) فلم يقبلوها (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الذين يلازمون النار ، كما خلد أصحاب الجنة فيها.

[٨٨] وفي سياق ذكر الرهبان وهم يحرمون الطيبات على أنفسهم ، يأتي النهي

٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ

____________________________________

للمسلمين عن تحريم ما أحلّ الله ، كما ينهى عن الإسراف والاعتداء ، فإن كلا الطرفين منهي عنه مذموم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أي لا تجعلوها بمنزلة المحرمات فتجتنبوا عنها اجتنابكم عن المحرمات ولفظة «ما» موصولة ، أي طيبات الأشياء التي أحلها الله لكم ، ولعلّ الإتيان بها لإفادة العموم ، إذ لو قال : «طيبات أحل الله لكم» كان المتبادر منه طيبات خاصة ، وليست إضافة طيبات إلى «ما» تفيد التقييد ، بل هو من باب «قطيفة خز».

وقد نزلت هذه الآية في الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وبلال وعثمان ابن مظعون ، فأما علي عليه‌السلام فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله ، وأما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا ، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا ـ كل ذلك بقصد الامتناع عن شهوات الدنيا رجاء ثواب الله ـ فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة : ما لي أراك متعطلة؟ فقالت : ولمن أتزيّن ، فو الله ما قربني زوجي منذ كذا وكذا فإنه قد ترهّب ولبس المسوح وزهد في الدنيا. فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرته عائشة ، فخرج فنادى الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات؟! إني أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار فمن رغب عن سنتي فليس مني ، فقام هؤلاء فقالوا : يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك ، فأنزل الله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) (١) (٢) ، ولا يخفى أن مثل ذلك لا يضر مقام عصمة الإمام لأنه :

أولا : قيّد ب «إلا ما شاء الله».

__________________

(١) البقرة : ٢٢٦.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢٣ ص ٢٤٣.

٩

وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ

____________________________________

وثانيا : أنه من قبيل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (١) ، ولعل السر في المقامين أن الأمر كان جائزا قبل النهي ، ولفظة «لم» ليس للتقريع ، بل للإرشاد وإعطاء الحكم.

(وَلا تَعْتَدُوا) حتى تسرفوا في تناول الطيبات ، أو تتعدوها إلى الخبائث (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قد تقدم أن معنى «لا يحب» في هذه المقامات : أنه يكرههم ويبغضهم.

[٨٩] (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أي في حال كون الرزق حلالا ـ أي مباحا ـ طيبا ، أي لا ضرر فيه ولا خبث (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ) أي بالله (مُؤْمِنُونَ) فلا تخالفوا أوامره ولا ترتكبوا زواجره.

[٩٠] (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اليمين التي أجازها الله سبحانه هي التي تكون منعقدة وتترتب على حنثها الكفارة ، أما اليمين اللفظية ـ التي تتداول على ألسنة الناس حيث يحلفون على كل صغيرة وكبيرة ـ واليمين التي لم يعط الله الرخصة في متعلّقها كيمين تحريم الطيبات على النفس زهدا ، فهي لغو من اليمين لا تترتب عليها كفارة ، ولا يكون نقضها حنثا (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) عن قصد وتعمّد مع

__________________

(١) التحريم : ٢.

١٠

فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ

____________________________________

صلاحية المتعلّق للانعقاد ، فقول الإنسان : «لا والله» و «بلى والله» لغو لم يقصد به عقد اليمين ، كما يعقد العقد ، بل هو من قبيل التأكيد كما أن عقده بدون صلاحية المتعلق لا يفيد شيئا. وقد سبق ذلك في سورة البقرة ، لكن التكرار هنا فذلكة للحكم المتقدم وتمهيد للكفارة.

(فَكَفَّارَتُهُ) أي كفارة ما عقّدتم من الأيمان ، وسميت الكفارة كفارة لأنها تكفّر الذنب وتستره ، وإنما تجب الكفارة إذا حنث الإنسان مقتضى يمينه (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) جمع مسكين ، والمراد به الفقير ، يعطي كل واحد مدا من الطعام ، وهو ما يقرب من ثلاثة أرباع الأوقية ـ بحقة كربلاء ـ أو ثلاثة أرباع الكيلو ، أو يطعمهم إطعاما (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) فلا يجب في إطعامهم الحد الأعلى وهو الأرز مثلا ، ولا يجوز الأدنى كإطعامهم بالدخنة مثلا (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) أي يكسي كل واحد من العشرة بثوبين «المئزر والقميص» بأي جنس كان (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي عتق عبد أو أمة لوجه الله سبحانه ، وإنما عبر عن الإنسان بالرقبة ، لعلاقة الكل بالجزء (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أحد الأمور الثلاثة للكفارة فكفارته صيام (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) متتابعات ـ كما ذكر الفقهاء ـ و (ذلِكَ) المتقدم من الأمور الثلاثة ثم الصيام (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) جمع يمين وهو الحلف (إِذا حَلَفْتُمْ) ثم حنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) فلا تحنثوها بل

١١

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٩٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩١) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ

____________________________________

أوفوا بها (كَذلِكَ) البيان ، أي مثل هذا البيان الذي بيّن به الكفارة ، وحكم اللغو في اليمين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) واضحة لا لبس فيها ولا غموض (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله سبحانه حيث أرشدكم إلى مصالحكم.

[٩١] وبعد ذكر تحليل الطيبات يأتي بيان تحريم الخبائث (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ) وهي كل ما أسكر سواء كان من العنب أو غيره (وَالْمَيْسِرُ) هو القمار بجميع أنواعه (وَالْأَنْصابُ) وهي الأصنام كانوا يذبحون لها الذبائح ويلطخونها بدمائها (وَالْأَزْلامُ) قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة وذلك نوع من أنواع القمار خصّص بالذكر لاشتهاره في زمن الجاهلية ، وقد مر تفسير هذه الكلمات سابقا (رِجْسٌ) أي خبيث (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فإن الشيطان هو الذي أمر بتعاطيها ، مقابل عمل الرحمن ، بمعنى : هو الذي أمر به وعمله ، فإن الشيطان هو الذي عمل هذه الأشياء إما حقيقة كما يظهر من بعض الأحاديث ، وإما مجازا باعتبار وسوسته وإلقائه في قلوب الفاسقين (فَاجْتَنِبُوهُ) أي اجتنبوا تعاطي هذه الأشياء فلا تشربوا الخمر ولا تضربوا الميسر ولا تعبدوا الأصنام وتستقسموا بالأزلام (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي كي تفوزوا بخير الدنيا وسعادة الآخرة.

[٩٢] (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) بوسوسته وأمره بشرب الخمر ولعب الميسر

١٢

أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩٢)

____________________________________

(أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ) أيها المسلمون (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) والفرق بينهما أن أصل التعدي من فعل الجوارح ، وأصل البغضاء من فعل الجوانح (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي بالنسبة إليهما ، فإن «في» تستعمل بمعنى «النسبة» كما قالوا في قولهم : «الواجبات الشرعية في الواجبات العقلية» أن «في» بمعنى النسبة ، أي بالنسبة إلى الواجبات العقلية.

في المجمع : أن سعد بن أبي وقاص ورجلا من الأنصار كان مؤاخيا لسعد دعاه إلى طعام فأكلوا وشربوا نبيذا مسكرا فوقع بين الأنصاري وسعد مراء ومفاخرة فأخذ الأنصاري لحى جمل فضرب به سعدا ففزر أنفه. فأنزل الله ذلك فيهما (١).

أقول : إن إيقاع العداوة بواسطة الخمر ظاهر ، إذ السكر الموجب لذهاب العقل يوجب كل شيء ، وإيقاعه بسبب القمار ، من جهة الاختلاف بينهما فيمن له الغلب أولا وبغض المغلوب للغالب ثانيا.

(وَيَصُدَّكُمْ) كل واحد من الخمر والميسر (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) إذ الإسكار يوجب عدم الالتفات إلى الله سبحانه ، والقمار بإشغاله الحواس ، منسي له الله تعالى (وَعَنِ الصَّلاةِ) لما هو واضح مما تقدم (فَهَلْ أَنْتُمْ) أيها المسلمون (مُنْتَهُونَ) عنهما ، فتتركونهما لهذه المضار ، وصيغة الاستفهام بمعنى النهي كما هو واضح.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ٤١١.

١٣

وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٣) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

____________________________________

[٩٣] (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في الأوامر والنواهي ، ومن المعلوم أن طاعتهما واحدة ، وإنما يذكر الله لأنه الأصل في الإطاعة ، ويذكر الرسول لأنه المبلغ الذي بيّن الأمر والنهي (وَاحْذَرُوا) من مخالفتهما فإن ذلك موجب لخزي الدنيا والآخرة (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن إطاعتهما (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فانتظروا العقوبة حيث قد بلّغكم الرسول فلم ينفعكم البلاغ وتجاوزتم الحد.

[٩٤] ولما نزل تحريم الخمر والميسر قال بعض الصحابة : يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ـ يريدون هل من إثم على الذين قتلوا أو ماتوا قبل التحريم ، وهم يتعاطونهما؟ ـ فنزلت هذه الآية (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) أي إثم وحرج وعصيان (فِيما طَعِمُوا) سابقا قبل التحريم من الخمر وتعاطوا من الميسر وغلّب أحد اللفظين تخفيفا كما قال الشاعر : «علفتها تبنا وماء باردا» (إِذا مَا اتَّقَوْا) «ما» زائدة ، (وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي إذا كان طعامهم مصاحبا للتقوى والإيمان والعمل الصّالح ، ثمّ إنّ الإنسان قد يكون مؤمنا وعاملا للصالحات لكنّه ليس متّقيا ، أي ليس في نفسه حالة رادعة وملكة الخوف من الله سبحانه ، ولذا ذكر سبحانه التقوى في عداد الإيمان

١٤

ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا

____________________________________

والعمل الصالح. ثمّ كرر سبحانه الجملة السابقة أي «اتّقوا وآمنوا وعملوا الصّالحات» بتعبير (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) بلا ذكر العمل الصالح و (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) بلا ذكر الإيمان ، ولا يخفى أن الإحسان هو عبارة عن العمل الصالح. ولعل الوجه في التكرار إفادة الدوام في الصفات الثلاثة ، أي أن عدم الجناح مشروط «بالإيمان والتقوى والعمل الصالح» سابقا ، «وبالإيمان والتقوى والعمل الصالح» مستمرا فيما بعد ، وقد كررّ «التقوى» في الجملة الثانية لتأكيد أن كلّا من الإيمان والعمل الصالح لا ينفع بدون التقوى ، والذي يقرّب إرادة الدوام من الجملة الثانية دخول «ثمّ» فيها ، فاستمرار التقوى مع الإيمان ، واستمرار التقوى مع العمل الصالح ، شرط في عدم الجناح.

وهنا سؤال : إن ظاهر الآية «اشتراط عدم الجناح بالطعام ، بالإيمان والتقوى والعمل الصالح» وإذا فرضنا أن الطعام كان محللا ـ كما عرفت في شأن النزول ، إذ كانت الخمر لم تحرم بعد ـ فما معنى هذا الشرط؟ فقد كان شرب الخمر ـ قبل تحريمها ـ مباحا حلالا للمسلم والكافر ، فأي معنى لتقييد التحليل بالإيمان؟

والجواب : أن الشرط لا مفهوم له ، فليس المعنى «الجناح إذا لم يؤمنوا» إذ الشرط كما يساق غالبا لبيان المفهوم ، نحو «إن جاءك زيد فأكرمه» المفهوم منه «إن لم يجئك فلا تكرمه» يساق أحيانا لبيان تحقق الموضوع ، نحو : «إن رزقت ولدا فاختنه» فإنه لا مفهوم له ب «إن لم ترزق ولدا فلا تختنه» إذ أن «لم يرزق ولدا» يكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، وإنما الجملة «إن رزقت» معناها : «يجب الختن للولد» ..

١٥

وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ

____________________________________

وهنا كذلك ، إذ الآية مسوقة لبيان «أن المؤمنين الذين شربوا وهم متقون عاملون بالصالحات ليس عليهم جناح» في مقابل توهم الأصحاب أن عليهم الجناح ، لا أنه سيق للمفهوم حتّى يقال بعدم استقامة مفهومه ... ثم إنه من المحتمل أن يكون في تناول الكفار للمباح حضر ، كما دلّ الدليل أن في تناول المباح للنصّاب حضر ، فمن شرب من نهر الفرات من أعداء الصديقة الطاهرة عليها‌السلام كان شربه محرما ، وعلى هذا فللمفهوم مجال واسع في الآية.

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في أمورهم ، وكأنه حث على الإحسان وإن لم يكن المحسن من أهل الإيمان. ولا يخفى أن من طعم محرما وتذرّع لرفع الحد عنه بهذه الآية ، فهو مخطئ إذ الآية تشترط في عدم الجناح الإيمان والتقوى والعمل الصالح ، ومن المعلوم أن التقوى والعمل الصالح يتنافيان مع عمل المحرم.

[٩٥] وفي سياق التحليل والتحريم ، وتتميما لما تقدم في أول السورة من قوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ) وقوله : (إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) يأتي ذكر الصيد في حال الإحرام وكفارته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) من «بلا» بمعنى اختبر ، يعني ليختبركم الله ويمتحنكم (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أي ببعض الصيد المحرّم على المحرم (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) فيكون في طريقكم إلى الحج بعض أقسام الصيد سهل التناول حتى أن أحدكم لو مدّ يده لتمكن من أخذه ، ولو شرع رمحه لتمكن من صيده ، وبالأخص فراخ الطير وصغار الوحش وبيض الطير

١٦

لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً

____________________________________

المحرم ، فقد ابتلي المؤمنين في عمرة الحديبية بكثرة الصيد في طريقهم إلى مكة وقد كان ذلك اختبارا من الله لهم ، أيّهم يطيع فيتجنب وأيّهم يعصي فيصيد؟!

وإنما كان ذلك الاختبار (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي بالسر والخلوة ، وبعيدا عن أعين الناس ، وقد تقدّم سابقا أن اختبار الله ليس لأنه لا يعلم ، وإنما لأجل أن يظهر معلومه ، ويتم الحجة كما أن «ليعلم» يراد به «ظهور معلومه» فإن العلم حيث كان من الأمور ذات الإضافة صح أن يكون السبب له انكشاف المعلوم للعالم ، وأن يكون وجود المعلوم في الخارج ، والمراد بالغيب ما غاب عن الحواس ، وهو إما بالنسبة إلى الله ، أو بالنسبة إلى سائر الناس أي في حال عدم رؤيتكم لله سبحانه ، أو عدم رؤية الناس لكم (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد النهي ـ المستفاد من الكلام ـ بأن صاد وخالف أوامر الله (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

[٩٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي في حال كونكم محرمين ، والمراد بالصيد كل وحش أكل أم لم يؤكل إلّا ما استثني ، و «حرم» جمع «محرم» ، يقال : أحرم الرجل إذا دخل في الحرم أو في الإحرام ، فالآية تدل على حرمة الصيد الحرمي ، والصيد الإحرامي ، كما أن ذلك ، عام للحج والعمرة (وَمَنْ قَتَلَهُ) أي قتل الصيد (مِنْكُمْ) أيها المحرمون (مُتَعَمِّداً) وهذا القيد لا مفهوم له ، لأنه من مفهوم

١٧

فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ

____________________________________

اللقب الذي ثبت عند العلماء عدم المفهوم له ، فإن للخطأ أيضا كفارة ، كما ثبت في السنة ، ولعل فائدة القيد كونه الغالب الذي يتناوله الإنسان ، بالإضافة إلى أنه يترتب على ما يأتي من قوله : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ)(فَجَزاءٌ) عليه كفارة (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) «من» بيان لجزاء ، أن جزاءه أن يكفر بإحدى النعم الثلاث المشابهة لذلك الصيد المقتول. فمثلا : الظبي شبيه بالشاة ، وحمار الوحش وبقرته شبيهان بالبقرة ، والنعامة شبيهة بالجزور (يَحْكُمُ بِهِ) أي بالمثل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي رجلان عادلان ، فيحكمان أن الحيوان الفلاني الذي اصطيد هو مثل الحيوان الفلاني من الأنعام الثلاثة ـ الشاة والبقرة والإبل ـ فكلما حكما بأنه مثل الصيد أخذ كفارة له.

وقد ورد في الأحاديث : أن المراد بذوي العدل هم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام (١) فما وجد من النصوص في مورد المماثلة وجب الحكم به ، وما لم يرد فالظاهر عدم المانع في التمسك بظاهر الآية من كفاية إخبار عادلين عارفين بالمماثلة ، إن لم يوجد نص بالخلاف بالقيمة أو ما أشبه.

(هَدْياً) أي في حال كون الكفارة تهدى هديا (بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي يذهب بها إلى صوب الكعبة فإن أصاب الصيد وهو محرم بالعمرة ذبح جزاءه بمكة وإن كان محرما بالحج ذبحه بمنى (أَوْ) يكون جزاء الصيد (كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) فإذا لم يجد الأنعام أخذ بقيمتها الطعام

__________________

(١) الكافي : ج ٤ ص ٣٩٧.

١٨

أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٦) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ

____________________________________

وتصدق به على المساكين (أَوْ) يكون جزاء الصيد (عَدْلُ ذلِكَ) أي معادل الإطعام (صِياماً) فلكل مدّين صوم يوم ، وتفصيل هذه الأمور تطلب من الفقه في كتاب الحج.

وإنما شرعت الكفارة (لِيَذُوقَ) الصائد (وَبالَ) أي عقوبة (أَمْرِهِ) أي عمله وهو الاصطياد المنهي عنه (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من الصيد فمن صاد متعمدا وكفّر عفا سبحانه عن ذنبه (وَمَنْ عادَ) إلى الصيد متعمدا مرة ثانية فلا كفارة عليه من عظم ذنبه ، فإنه لا يغسل بالكفارة بل ينتقم (اللهُ مِنْهُ) في الآخرة انتقاما لهتكه حرمة الإحرام أو حرمة الحرم.

هذا ما فسّرت به الآية الكريمة في الأحاديث ، وإن كان لا يبعد انصراف الآية الكريمة إلى «ما سلف» قبل التحريم والعفو باعتبار أنه غير جائز حتى عند الجاهليين ، وما أعيد بعد التحريم ، فيكون العفو عما سلف من قبيل «الإسلام يجبّ عما قبله» والمراد بالانتقام الكفارة والعقاب (وَاللهُ عَزِيزٌ) قادر غالب (ذُو انْتِقامٍ) ينتقم من كل من عصاه وخالفه.

[٩٧] (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) والمراد من البحر الأعم من النهر ، فإن العرب تسمي النهر بحرا ، فإن صيده مباح في حال الإحرام ، ولو في الحرم ـ لو صار فيه بحر ، أو أتى بصيده إليه ـ هذا بالنسبة إلى صيده

١٩

وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٧) جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ

____________________________________

(وَ) أما بالنسبة إلى أكله ف (طَعامُهُ) أي طعام البحر ، قد متعتم به (مَتاعاً) والمتاع ما يتمتع به الإنسان (لَكُمْ) أيها المحرمون (وَلِلسَّيَّارَةِ) أي القوافل السيارة التي تسير كثيرا ، فإن السمك يجفّف للسفر ، وإنما خصص بالسفر مع أنه طعام للحضر أيضا ، لكثرة انتفاع المسافر ، إذ لا يمكن غالبا ذبح الأنعام في السفر ، فينتفع المسافر بالسمك المجفف انتفاعا كثيرا (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) الأعم من الوحش والطير (ما دُمْتُمْ حُرُماً) جمع «محرم» ، أي ما دمتم في الإحرام وما دمتم في الحرم ـ كما تقدم ـ يقال : رجل حرام ، إذا كان محرما أو كان في الحرم (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه ، فلا ترتكبوا نواهيه (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الحشر هو الجمع ، أي يكون مصيركم وحشركم إليه ، فيجازيكم بما اقترفتم من الذنوب والآثام.

[٩٨] وفي سياق حكم الصيد في حال الإحرام ، يأتي الكلام حول ما جعله سبحانه حراما من المكان والزمان ، ليهدي الناس في فترات معينة وأماكن معينة عن الخصام والانتقام ، الذي يكدّر الحياة البشريّة (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) سمّيت الكعبة «كعبة» لتربيعها وإنّما قيل للمربّع : كعبة لنتوء زواياه الأربع ، مقابل المدوّر ، والكعب هو النتوء والارتفاع (الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على الكعبة ، وإنّما جيء بهذا العطف ، لأنّه كانت لدى الجاهليين ، كعبات متعدّدة وكانوا يحجّون إليها ويطوفون بها ، فهدمها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمّى البيت الحرام ، لحرمته

٢٠