تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤)

____________________________________

في جميع الأمور ، فإن أحكامه سبحانه توصل إلى السعادة بأيسر الطرق وأسهلها.

[١٠] (فَذَكِّرْ) يا رسول الله الناس بما أودع فيهم من الفطرة الدالة على الألوهية والمعاد وما أشبه (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي إن كان الذكر في معرض النفع ولو إتمام الحجة ، أما إذا علم الرسول أن ذكره لا ينفع إطلاقا في الهداية لليأس ، ولا في إتمام الحجة لتمام الحجة على المخاطبين سابقا ، فلا لزوم للتذكير. وقيل «إن» بمعنى «قد» أي قد نفعت الذكرى ، بمعنى قد تنفع.

[١١] (سَيَذَّكَّرُ) أصله «يتذكر» أدغمت التاء في الذال وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن (مَنْ يَخْشى) أي سيتعظ بالقرآن وبكلامك من يخشى عقاب الله سبحانه.

[١٢] (وَيَتَجَنَّبُهَا) أي يبتعد عن الموعظة والذكرى (الْأَشْقَى) أي الأكثر شقوة ، فإن الكافر المجتنب للذكرى أكثر شقاء من العاصي.

[١٣] (الَّذِي يَصْلَى) أي يدخل ويلازم (النَّارَ الْكُبْرى) وهي نار جهنم.

[١٤] (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) أي في تلك النار ليستريح (وَلا يَحْيى) حياة هادئة مريحة.

[١٥] (قَدْ أَفْلَحَ) أي فاز ونجح (مَنْ تَزَكَّى) أي تطهر باجتناب الرذائل ، والتحلي بالفضائل.

٦٦١

وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)

____________________________________

[١٦] (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي تذكر الله سبحانه بقلبه ، والإتيان ب «اسم» للتعظيم (فَصَلَّى) لله ، أي خضع وخشع ، أو أتى بالصلاة فإنها دليل خشوع الإنسان وتذكره لله تعالى. وفي بعض الروايات أن المراد بها زكاة الفطرة وصلاة العيد ، والظاهر أنها من باب المصداق ، وانطباق الكلي على مصاديقه يمكن أن يكون بعد مدة ـ عند وجود المصداق فلا يقال : كيف يصح والسورة مكية ولم يكن هناك زكاة فطرة ولا صلاة عيد؟

[١٧] (بَلْ) أنتم أيها الناس لا تفعلون ذلك ، وإنما (تُؤْثِرُونَ) أي تختارون (الْحَياةَ الدُّنْيا) أي الحياة القريبة ، تختارونها على الآخرة فتصرفون أموالكم وأوقاتكم في ملاذّها ، لا في الزكاة والصلاة.

[١٨] (وَالْآخِرَةُ) أي الجنة (خَيْرٌ) من الدنيا ، لأن نعيمها أكثر ولا يشوبها كدر (وَأَبْقى) لأنها دائمة مستمرة ، بخلاف الدنيا فإنها فانية زائلة.

[١٩] (إِنَّ هذا) الذي ذكر من فلاح المتزكي المصلي ، أو سائر ما ذكر في هذه السورة (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) فكل كتب الله المنزلة تحرض على الزكاة والصلاة وسائر الخيرات ، وليس هذا بدعا من القرآن.

[٢٠] (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) وذكر هذين النبيين من باب المثال ، وإلا فكل الأنبياء كانوا يدعون إلى التزكي والتطهر والصلاة والزكاة.

٦٦٢

(٨٨)

سورة الغاشية

مكيّة / آياتها (٢٧)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الغاشية» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، وحيث تضمنت سورة الأعلى انقسام الناس في الآخرة إلى قسمين ، جاءت هذه السورة لمثل ذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله المالك لكل شيء فهو أفضل شيء يبتدأ به ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة على كل العباد.

٦٦٣

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦)

____________________________________

[٢] (هَلْ أَتاكَ) أيها الإنسان ، أو يا رسول الله (حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) أي خبر القيامة؟ وتسمى بالغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها ، والاستفهام للإلفات والإيقاظ.

[٣] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (خاشِعَةٌ) ذليلة بسبب ما عملت من الكفر والآثام ، وإنما نسب الخشوع إلى الوجوه لظهوره فيها.

[٤] (عامِلَةٌ) قد عملت في النار وكدت (ناصِبَةٌ) وتعبت ، فإن النصب بمعنى التعب ، ولكنها لم تنتفع بأعمالها وأتعابها ، بل بالعكس صارت دنياه سببا للعذاب والعقاب.

[٥] (تَصْلى ناراً) أي تدخل تلك الوجوه النار وتلازمها (حامِيَةً) قد حميت حتى تناهت في الحرّ.

[٦] (تُسْقى) أي أصحاب تلك الوجوه ، وقد أطلق الوجوه على أصحابها بعلاقة الجزء والكل ، من قبيل إطلاق «الرقبة» على الإنسان (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قد بلغت حرارتها وأناها إلى منتهى الدرجة ، فإن آنية بمعنى البالغة أشد درجات الحرارة.

[٧] ذاك شرابهم ، فما هو طعامهم؟ (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وهو نبت يضر ولا ينفع. وفي حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه شيء يكون في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حرّا من النار (١).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١٠ ص ٣٣٦.

٦٦٤

لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)

____________________________________

[٨] (لا يُسْمِنُ) أكله (وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) فآكله يحس بالجوع بعد أكله كما يحس بالجوع قبل أكله.

[٩] ذلك أحوال العصاة فلننظر إلى أحوال المتقين (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (ناعِمَةٌ) منعمة في أنواع اللذات ظاهر عليها أثر النعمة والسرور.

[١٠] (لِسَعْيِها) في الدنيا وما عملت سابقا (راضِيَةٌ) حيث قد حصلت على الجنة بسببها.

[١١] (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) رفيعة المكان والقدر ، فإن قصورها ومكانها في أعالي الجو.

[١٢] (لا تَسْمَعُ) أولئك الأشخاص أصحاب الوجوه الناعمة (فِيها) في الجنة (لاغِيَةً) أي كلمة ساقطة لا فائدة فيها.

[١٣] (فِيها) أي في تلك الجنة (عَيْنٌ جارِيَةٌ) تجري حتى يتناول الماء كل إنسان يمر بها ، والماء الجاري أطيب ذوقا وأجمل في النظر.

[١٤] (فِيها) أي في تلك الجنة (سُرُرٌ) جمع سرير ، وهو الكرسي (مَرْفُوعَةٌ) في المكان ، وفي القيمة ، وفي القدر.

[١٥] (وَأَكْوابٌ) جمع كوب ، وهو قدح صغير جميل (مَوْضُوعَةٌ) على حافات الأنهر للاستقاء والشرب ، وفي تقابل «موضوعة» ل «مرفوعة»

٦٦٥

وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩)

____________________________________

بلاغة بديعة.

[١٦] (وَنَمارِقُ) جمع نمرقة ، وهي الوسادة التي يتكأ عليها (مَصْفُوفَةٌ) قد صف بعضها إلى جانب البعض.

[١٧] (وَزَرابِيُ) جمع زربي ، وهو البساط (مَبْثُوثَةٌ) أي منتشرة مفروشة للجلوس عليها.

[١٨] وإذ ذكر سبحانه بعض أحوال الجنة والنار عطف السياق نحو الأدلة الدالة على الألوهية ، تعبئة للناس نحو السعادة الأبدية (أَفَلا يَنْظُرُونَ) هؤلاء المنكرون للخالق (إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) في إحكام وتدقيق ، وليس لأي حيوان بالذات خصوصية ، في التذكير بالله سبحانه والدلالة عليه ، إذ كل حيوان آية دالة على وجود الله وسائر صفاته ، وإنما ذكر الإبل لأنها إحدى الآيات الأليفة للعرب ، مع مناسبة لها بسائر ما ذكر في الآيات التالية فإن السماء المرفوعة والأرض المسطوحة الوسيعة والجبال المرفوعة إنما تلائمها الإبل السائرة عبر الصحاري حيث لا شيء إلا الأرض والجبال والسماء.

[١٩] (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)؟ والمراد بها الكواكب ، أو المدارات ، أو ما يرى من الهواء الملون.

[٢٠] (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) على الأرض كالأوتاد لئلّا تزول وتتحرك وتضطرب؟.

٦٦٦

وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)

____________________________________

[٢١] (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)؟ أي بسطت لتصلح طرائق للناس ، والمراد أفلا يتفكرون في هذه المخلوقات حتى يستدلوا بها على وجوده سبحانه وسائر صفاته؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع.

[٢٢] (فَذَكِّرْ) يا رسول الله الناس بهذه الآيات (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) تبين لهم الحقائق ليتذكروا ما أودع في فطرتهم من الألوهية والمعاد وما أشبه.

[٢٣] (لَسْتَ عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء القوم (بِمُصَيْطِرٍ) أي بمسلط ، حتى تكون مسئولا عن انحرافهم ، وإنما شأن الأنبياء التذكير والوعظ ، فمن شاء اهتدى ومن شاء انحرف.

[٢٤] (فَذَكِّرْ) ، فإن الذكرى تنفع (إِلَّا) في (مَنْ تَوَلَّى) أي من أعرض عن الحق (وَكَفَرَ) بالله واليوم الآخر ، وذلك لا يفلت من قبضة الله سبحانه.

[٢٥] (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو عذاب الآخرة.

[٢٦] (إِنَّ إِلَيْنا) أي إلى جزائنا وحسابنا (إِيابَهُمْ) أي رجوعهم بعد الموت ، من «آب» بمعنى رجع.

[٢٧] (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا) بعد الإياب (حِسابَهُمْ) فيحاسب كل بما عمل ، ويعطى جزاؤه إن شرا فشر وإن خيرا فخير.

٦٦٧

(٨٩)

سورة الفجر

مكيّة / آياتها (٣١)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الفجر» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها ، ولما ختمت سورة الغاشية بذكر عذاب «من تولى» في الآخرة ابتدأت هذه السورة بذكر تعذيبهم في الدنيا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الله الذي بيده كل شيء ، وهو المبدأ والمعاد ، وهل شيء أولى بالابتداء من اسم الله تعالى؟ الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة على العباد.

٦٦٨

وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ

____________________________________

[٢] (وَالْفَجْرِ) أي قسما بالفجر ، وهو انفجار الصبح قبل طلوع الشمس ، فإن النور يظهر ممتدا في جانب المشرق قبل ساعة ونصف من الطلوع.

[٣] (وَلَيالٍ عَشْرٍ) أي قسما بالليالي العشر من ذي الحجة ـ على ما ذكروا ـ وكأن الحلف هنا بما ينشأ منه الخير ، فإن الفجر ينشأ منه الضياء ، وهذه الليالي محل الأعمال والطاعات.

[٤] (وَ) قسما ب (الشَّفْعِ) ركعتا صلاة الليل (وَالْوَتْرِ) الركعة الأخيرة منها ، أو الشفع يوم تروية ، والوتر يوم عرفة ـ كما روي ـ.

[٥] (وَ) قسما ب (اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي يمضي ، كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) (١) وأصله «يسري» حذف الياء للسياق ، والمقسم له محذوف ، تقديره لنعاقب الكفار ، دلّ عليه قوله «ألم تر ..».

[٦] (هَلْ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من الأيمان (قَسَمٌ) يكن (لِذِي حِجْرٍ) أي ذي عقل؟ فإن «الحجر» من أسماء العقل ، سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عن الإتيان بما لا يليق به ، والاستفهام للتأنيب ، بمعنى كيف لا تصدقون بما نقول بعد هذه الأيمان؟.

[٧] (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها السامع ، والمراد بالرؤية العلم ، أي ألم تعلم (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) أي بقبيلة عاد؟

[٨] (إِرَمَ) عطف بيان ل «عاد» ، وهي اسم أرض بنت عاد عليها أبنية فخمة

__________________

(١) المدثر : ٣٤.

٦٦٩

ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠)

____________________________________

جميلة ، وإنما مع أن تكون «إرم» عطف بيان ، لأن «عادا» اسم لقبيلتين «عاد» الأولى و «عاد» الثانية ، فالأولى كانت صاحبة «إرم» والتقدير «عاد إرم» ، وهذا كما تقول «مررت ببني هاشم ، المدينة المنورة» (ذاتِ الْعِمادِ) جمعه عمد ، أي أبنية إرم التي كانت لها أعمدة ، ويستعمل العماد في القوة والشرف ، يقال «فلان رفيع العماد».

فقد قالوا إن «شداد» من أبناء «عاد» توسع سلطانه ، وعظم أمره ، وكان كافرا بالله ، فسمع بالجنة وأوصافها ، فقال نبني في الأرض مثلها ، فبناها في «إرم» وسميت بهذا الاسم ، وكانت عظيمة فخمة جميلة ذات قصور وحدائق وأثاث ورياش ، فلما أن أراد هو وقومه وجيشه دخولها أهلكهم الله سبحانه ، بأن بعث عليهم صيحة عظيمة فهلكوا جميعا.

[٩] (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها) أي مثل قبيلة عاد ـ في القوة والثروة وما أشبه ـ أو مثل «إرم» في الفخامة والضخامة والجمال (فِي الْبِلادِ) والظاهر أن المراد عدم خلق مثلها في تلك الأزمنة ، لا مطلقا.

[١٠] (وَ) ألم تر كيف فعل ربك ب (ثَمُودَ) قوم صالح (الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ) أي قطعوا الصخور من الجبال ، وجاؤوا بها (بِالْوادِ) أي وادي قرى ، وهو مسكنهم فبنوا بها البيوت الصخرية؟

[١١] (وَ) ألم تر كيف فعل ربك ب (فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) جمع «وتد» الذي كان يدق في جسم مخالفيه الوتد ، ويذره حتى يموت ـ كما قيل ـ

٦٧٠

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ

____________________________________

والمراد به فرعون موسى عليه‌السلام وقد مثل الله سبحانه بأقوى الأمم في زمانهم ، ليبين أنهم حيث عتوا وخالفوا أوامر الله سبحانه أهلكهم سبحانه ولم تنفعهم قوتهم شيئا ومصير هؤلاء الكفار ـ الذين هم أضعف من أولئك ـ مصير أولئك لو تمادوا في الكفر والطغيان.

[١٢] (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) أي تجبروا على أنبياء الله ، وعملوا بالكفر والمعاصي.

[١٣] (فَأَكْثَرُوا فِيهَا) أي في البلاد (الْفَسادَ) بالقتل والفجور وغيرهما.

[١٤] (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) وإنما عبر عن العذاب بالسوط لشدة إيلامه ، ونسب إليه الصب لأن السوط حيث فيه لين يأتي إلى الجسم تدريجيا مشابها للصب ، الذي يأتي على الجسم بتدريج ـ وفي هذا التعبير من البلاغة ما لا يخفى ـ.

[١٥] (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَبِالْمِرْصادِ) هو المحل الذي يجلس الإنسان ليرصد ويراقب أحوال غيره ـ من حيث لا يرونه ـ وهذا كناية عن أنه سبحانه مطلع على الناس ، فمن كفر وأساء مراقب من قبله تعالى ، لا يفوته.

[١٦] وهكذا يطغي الإنسان ـ ليكون له ذلك المصير ـ إذا لم يسترشد بإرشادات الله تعالى (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) والمراد به الذي لم يهتد بنور الإيمان (إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي امتحنه واختبره ، و «ما» مزيدة جيئت

٦٧١

فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ

____________________________________

للتأكيد ، ولعل النكتة في زيادتها الإلماع إلى أن «ابتلاءه» ليس بابتلاء حقيقة ، وإنما هو شيء طفيف يصيبه ومع ذلك لا ينجح في الامتحان (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) بأن جعل له مكانا كريما ذا شرافة ، ونعمة وافرة ، ليختبره هل يعمل بوظيفته في الثروة والجاه أم لا؟ فيفرح بذلك ويظنه ثوابا له وجزاء على عمله ، وأنه باستحقاق أوتي ما أوتي ويقول (رَبِّي أَكْرَمَنِ) حذفت الياء تخفيفا ، أي أن هذا لكرامتي على الله ، ولا يعتبره امتحانا.

[١٧] (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) أي امتحنه الله سبحانه بالفقر والضعة (فَقَدَرَ) أي ضيق (عَلَيْهِ) أي على الإنسان (رِزْقَهُ) فجعله فقيرا مملقا فيحزن لذلك ويظن أن ذلك هوان من الله عليه ، ويقول (رَبِّي أَهانَنِ) أي أهانني ، ولا يعتبر ذلك ابتلاء ، وهذا بخلاف الإنسان المؤمن الذي يرى كل شيء يصيبه اختبارا وامتحانا ، فيخاف من النعمة لئلا يعصي الله فيها فلا يشكره ، ولا يحزن من الفقر لأنه يعتبره امتحانا له إن صبر كان رفعا لدرجته.

[١٨] (كَلَّا) ليس الأمر كما ظن هذا الإنسان ، فإن التنعيم ليس لكرامة ، والإفقار ليس لإهانة بل كل ذلك مختلف ، والمجموع للابتلاء والاختبار (بَلْ) إنهم غافلون عن حكمة الإعطاء والمنع ، ذاهلون أن كل ذلك للابتلاء ، ولذا لا يقومون بواجب العطاء ـ ولم يذكر القيام بواجب الفقر من الصبر ، لأن الكلام كان موجها نحو الأغنياء من الناس الذين مثل لهم بمصارع عاد وثمود وفرعون ـ فـ (لا تُكْرِمُونَ

٦٧٢

الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١)

____________________________________

الْيَتِيمَ) الذي مات أبواه ، بإيوائه وإعطائه.

[١٩] (وَلا تَحَاضُّونَ) من الحض ـ وهو الحث ـ أي لا يحث بعضكم بعضا (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي الفقير الذي أسكنه فقره عن الحركة في الأمور.

[٢٠] (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أي الميراث (أَكْلاً لَمًّا) شديدا تلمون جميعه في الأكل ، بلا إعطاء حقوق الميت ، وحقوق الله ، وحقوق سائر ذوي الميراث ، فإنهم كانوا يحرمون النساء والصبيان والضعفاء من الورثة ، فلا يعطونهم من حقهم شيئا ، وهذا دليل الشرة نحو المال وإنهم لا يجعلون المال دليلا للابتلاء ، بل دليلا لتكريم الله لهم.

[٢١] (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي حبا كثيرا شديدا ، حتى أنهم لا ينفقونه فيما يجب أو يستحب إنفاقه ، كما هو شأن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولا يجعل المال دليل الابتلاء ليعمل فيه بأمر الله ويخشى مغبته.

[٢٢] (كَلَّا) ليس الأمر كما زعمتم بأنه لا عواقب وخيمة لأعمالكم هذه ، فإن من يظن تكريم الله له يسهل عليه العمل بالوظائف في أموره وشؤونه ف (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) أي كسر كل شيء على ظهرها (دَكًّا دَكًّا) كسرا كسرا ، من جبال ومرتفعات وأنصبة وأشباهها ، وذلك لأن الأرض تسوى حتى لا يبقى على ظهرها عوج ولا أمت.

٦٧٣

وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥)

____________________________________

[٢٣] (وَجاءَ رَبُّكَ) أي أمر ربك ، كما يظهر ملوك الدنيا في هيبة وجلال ، فإن الهيبة والجلال التي تظهر يوم القيامة لله سبحانه تكون بمثابة مجيء الله سبحانه ، لكنه حيث كان منزها عن الجسم ولوازمه ، يجيء آثار جلاله (وَ) جاء (الْمَلَكُ) المربطون بذلك اليوم في حال كونهم (صَفًّا صَفًّا) أي مصطفين صفوفا متعددة.

[٢٤] (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (بِجَهَنَّمَ) بأن تمتد نيرانها إلى المحشر بعد ما كانت مبتعدة مستعدة لالتهام الكفار والعاصين (يَوْمَئِذٍ) أي في هذا اليوم ـ وأصله يوم إذ كان كذا ـ (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يتعظ ويخاف ويهتدي (وَ) لكن (أَنَّى لَهُ الذِّكْرى)؟ أي من أين ينفعه التذكر في ذلك اليوم ، فقد مضى وقت نفع التذكر ، وإنما هناك جزاء فقط لا عمل.

[٢٥] (يَقُولُ) الإنسان العاصي ، (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ) عملا صالحا (لِحَياتِي) هذه التي تبقى إلى الأبد ، ولكن لا ينفعه التمني ، كما يقول المثل «ندم زيد ولما ينفعه الندم».

[٢٦] (فَيَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب مثل عذاب الله أحد ، فإن عذابه ليس كسائر أنواع عذاب الناس بعضهم لبعض ، وإنما هو عذاب غريب عجيب.

٦٧٤

وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)

____________________________________

[٢٧] (وَ) يومئذ (لا يُوثِقُ وَثاقَهُ) أي مثل وثاقه سبحانه وتعالى (أَحَدٌ) والوثاق هو الشد ، يقال أوثقته أي شددته.

[٢٨] ثم يخاطب المؤمنون بقوله سبحانه (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) من أهوال ذلك اليوم ، لما عملت في الدنيا من الإيمان والإطاعة.

[٢٩] (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي إلى ثوابه وجزائه في حال كونك (راضِيَةً) عن الله سبحانه (مَرْضِيَّةً) له تعالى ، فإنه سبحانه راض عنك بسبب إيمانك وأعمالك.

[٣٠] (فَادْخُلِي فِي) زمرة (عِبادِي) الصالحين.

[٣١] (وَادْخُلِي جَنَّتِي) فأنت في رضاي وفي جنتي ، وكأن الخطاب للنفس لزيادة التكريم ، حتى كأنها هي التي تحملت أتعاب الجسد ، فاستحقت أن تكون هي صاحبة المثوبة.

٦٧٥

(٩٠)

سورة البلد

مكيّة / آياتها (٢١)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «بلد» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة وتحتج عليها ، وحيث كانت السورة السابقة لتقسيم الناس إلى صالحين وطالحين جاءت هذه السورة لتبين ذلك بوجه آخر.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نبتدئ باسم الله ، وإنما جاء بالاسم لأنه هو المبدوء به لا الذات ، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بتكميل نواقصهم وإبلاغهم الكمال الممكن فيهم تكوينا وإرشادا.

٦٧٦

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)

____________________________________

[٢] (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) والمراد به مكة ، و «لا» إما للنفي جيء بها للتلويح إلى القسم مع تعظيم المقسم به ، وإما زائدة ، فالمعنى أقسم بهذا البلد ، والآية الثانية تناسب الأمرين باعتبارين.

[٣] (وَأَنْتَ) يا رسول الله (حِلٌ) أي مقيم قد حللت (بِهذَا الْبَلَدِ) فإنه قد تشرف بك ، فإن شرف المنزل بشرف النازل ، و «الحل» بمعنى الحال ، وكلاهما بمعنى الساكن ، فهذا البلد إنما يقسم به لشرفه بك أو يعظم فلا يقسم به لشرفه بك.

[٤] (وَ) قسما ب (والِدٍ وَما وَلَدَ) أي كل والد وكل ولد ، أو المراد آدم عليه‌السلام وأولاده ، فإن كل خلق الله عظيم يصح أن يجعل في معرض القسم. نعم ليس لنا أن نحلف بكل شيء ، لما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت» (١).

[٥] وجواب القسم قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي في تعب ومشقة ، فإنه يكابد الشدائد والمصائب والمتاعب ، فإن «الكبد» لغة بمعنى شدة الأمر ، والمعنى أنه لا يزال يكابد الأتعاب ـ بما قدر الله له وللكون من الأنظمة ـ ولذا قال تعالى في حديث قدسي «إني ما جعلت الراحة في الدنيا والناس يطلبونها فيها فلا يجدوها».

[٦] إن الإنسان الذي خلق في عناء ومشقة ، ليدل ذلك على ضعفه وعجزه إذا رأى بعض القوة في ذاته عتا وتكبر وزعم أنه لا قادر عليه

__________________

(١) متشابه القرآن ومختلفه : ج ٢ ص ١٩٨.

٦٧٧

أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩)

____________________________________

(أَيَحْسَبُ) أي هل يظن ويزعم الإنسان (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) بسلبه القوة والثروة والحياة وما أشبه؟

[٧] وإذا قيل له : ابتغ مرضاة الله ببذل الأموال في سبيله لأنك عبد عاجز ضعيف له سبحانه ، وهو قادر على تقليبك كيف يشاء (يَقُولُ) في الجواب : (أَهْلَكْتُ) في الإنفاق (مالاً لُبَداً) أي كثيرا ، مأخوذ من تلبد الشيء إذا تراكم بعضه على بعضه ، وحسبي ما أنفقت ـ كما أن هذا هو منطق الأثرياء غالبا ـ.

[٨] (أَيَحْسَبُ) أي يزعم (أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) حيث أنفق؟ بل إنّ الله رآه وعرف قدر إنفاقه ولم يكن ما أنفق كثيرا بالنسبة إلى أمواله وبالنسبة إلى مقابلته بالثواب المرجو في الآخرة للمنفقين. قيل : إنها نزلت في الحرث ، وذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله؟ فأمره أن يكفر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٩] إنه يبخل عن بذل بعض ماله في سبيل الله الذي أودع فيه القوى التي لا تثمن بثمن فلم يؤدّ شكرها ، ولم يبصر بسببها طريق الرشاد (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ليبصر بهما ويرى طريقه؟

[١٠] (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ)؟ لينطق به ويتجمل بالشفة لعدم قبح منظره بفغر الفم.

٦٧٨

وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥)

____________________________________

[١١] (وَهَدَيْناهُ) أي أرشدناه (النَّجْدَيْنِ)؟ أي سبيل الخير وسبيل الشر ، وأصل «النجد» هو العلو ، وكأن الطريق موجب لارتفاع الإنسان ارتفاعا معنويا بوصوله إلى حاجته ، أو لظهور الطريق سمي نجدا تشبيها بالمرتفع من الأرض.

[١٢] (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) «الاقتحام» هو الدخول في الشيء بشدة ، و «عقبة» هي الطريق الصعب في الجبل ، أي أن الإنسان لم يشكر تلك النعم التي أعطيناها إياه باقتحام الأمور الحسنة والعمل بها ، وسميت عقبة لشدة أمرها على الإنسان.

[١٣] (وَما أَدْراكَ) أيها السامع (مَا الْعَقَبَةُ) أي ما هي العقبة؟ وهذا التعبير لتعظيم أمرها والإجلال لها ، ثم فسرت العقبة بأنه عتق العبد والإطعام.

[١٤] العقبة هي (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي تحرير العبد من إسار الرق ، وإنما أطلق على الإنسان «الرقبة» بعلاقة الجزء والكل ـ كما قرر في البلاغة.

[١٥] (أَوْ إِطْعامٌ) «أو» بمعنى الواو ، يعني أن من أفراد «العقبة» إطعام الناس (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) «السغب» هو الجوع ، والمسغبة المجاعة.

[١٦] (يَتِيماً) مفعول «إطعام» أي ليطعم الطفل الذي مات أبوه (ذا مَقْرَبَةٍ) أي ذا قرابة من المطعم ، فإن الإحسان إلى الأقرباء أفضل من الإحسان

٦٧٩

أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨)

____________________________________

إلى غيرهم ، كما قال عليه‌السلام : «لا صدقة وذو رحم كاشح» ـ (١).

[١٧] (أَوْ مِسْكِيناً) وهو الفقير الذي أسكنه الفقر ، فإن الأغنياء يتحركون في مختلف حوائجهم ، أما الفقراء فإنهم حيث لا مال لهم لا يتمكنون من التصرف في الشؤون (ذا مَتْرَبَةٍ) بمعنى الحاجة الشديدة من قولهم «ترب الرجل» إذا افتقر ، وأصله من التراب ، لأن الفقر يلازم التراب ، لعدم فراش له ليقيه منه ، فالمعنى قد لصق بالتراب من شدة فقره.

[١٨] (ثُمَ) لترتيب الكلمة لا ترتيب المطلب (كانَ) ذلك الإنسان الذي لم يقتحم العقبة (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وما جاء به ، وهذا عطف على النفي ، أي لم يقتحم العقبة مع كونه مؤمنا (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي أوصى بعضهم بعضا بأن يصبر على الشدائد ، طاعة كانت أو معصية أو مصيبة ، بأن يعمل الأول ، ويترك الثاني ، ولا يجزع في الثالث (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي برحم الناس والعطف عليهم ، فإن «مرحمة» مصدر ميمي بمعنى الرحم.

[١٩] (أُولئِكَ) المتصفون بفك الرقاب وإطعام الطعام والتواصي بالصبر والمرحمة (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) يؤخذ بهم ـ في القيامة ـ ناحية اليمين نحو الجنان ، ويعطون كتابهم بأيمانهم ، أو أنهم أصحاب يمن وبركة.

__________________

(١) راجع من لا يحضره الفقيه : ج ٢ ص ٦٨ ، وردت كلمة محتاج بدل كاشح في الحديث.

٦٨٠