تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا

____________________________________

[٣٥] (وَكَأْساً) وهو إناء الشراب (دِهاقاً) أي مملوءة ، من «الدهق» بمعنى شدة الضغط ، كأنه لا مجال فيها للماء أو الشراب بعد ذلك.

[٣٦] (لا يَسْمَعُونَ) أي المتقون (فِيها) أي في الجنة كلاما (لَغْواً) لا فائدة فيه (وَلا كِذَّاباً) أي تكذيبا من بعضهم لبعض.

[٣٧] وإنما يكون المتقون في هذا النعيم الأبدي (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) يا رسول الله لهم ، على أعمالهم الحسنة في الدنيا ، في حال كون ذلك الجزاء (عَطاءً حِساباً) أي عطاء بالحساب ، فليس الأمر اعتباطا.

[٣٨] ثم بين ربك بما يدل على عظمته سبحانه بقوله : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) فكل شيء له خلقا وتربية (الرَّحْمنِ) وجيء بهذا الوصف للدلالة على أنه سبحانه رحيم بعباده يتفضل عليهم بالمغفرة والرحمة ، وأنهم إنما استحقوا الثواب برحمته لا بأعمالهم (لا يَمْلِكُونَ) أي البشر (مِنْهُ) تعالى (خِطاباً) فلا يقدر أحد أن يكلم الله سبحانه أو يشفع لأحد إلا بإذنه ، فهو رحيم ذو هيبة وجلال ، وليس كرحيم الدنيا الذي إذا عطف قلبه على أحد يمكن التسلط عليه للين قلبه.

[٣٩] ثم بين معنى (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) بقوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) وهو ملك عظيم كما ورد في الأحاديث (١) (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) كما يصطف

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ١٠ ص ٢٤٧.

٦٠١

لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ

____________________________________

الجيش أمام الملك ، وذلك مما يزيد القيامة هيبة وهولا (لا يَتَكَلَّمُونَ) أي أولئك الملائكة والروح ، أو أيّ متكلم (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) بالكلام ، في أي شأن من الشؤون (وَقالَ صَواباً) وكأن هذا في بعض المواقف ، وفي بعض المواقف الأخر يتكلم كل أحد بما يريد من صدق وكذب كما قال سبحانه : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (١) أو المراد بالتكلم ـ الشفاعة ـ.

[٤٠] (ذلِكَ الْيَوْمُ) الذي وصف هو اليوم (الْحَقُ) الكائن لا محالة ، فلا كذب في الإخبار به. قالوا : إذا طابق الخبر الواقع فباعتبار كونه مطابقا للواقع يسمى صدقا ، وباعتبار مطابقة الواقع له يسمى حقا (فَمَنْ شاءَ) منكم أيها الناس (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ) أي إلى رضاه وثوابه (مَآباً) ، بالإيمان والطاعة ، كأن المؤمن اتخذ إلى ربه مآبا ، والكافر اتخذ إلى ربه غيره مآبا ، حيث يبتعد عن لطفه ورحمته بسبب الكفر والعصيان فليس مآبه إليه.

[٤١] (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) أيها الناس (عَذاباً قَرِيباً) فإن الآخرة قريبة وإن ظنها الناس بعيدة ، كما قال سبحانه : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً) (٢).

ثم بيّن وقت ذلك العذاب بقوله : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ

__________________

(١) الأنعام : ٢٥.

(٢) المعارج : ٧ و ٨.

٦٠٢

يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)

____________________________________

أي يرى جزاء أعماله ويلاقيه. ونسبة التقديم إلى اليد لكونها العضو الفعال في الأمور المرتبطة بالإنسان (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) لهول ما يرى من العذاب ، فإنه يتمنى أن كان في الدنيا ترابا ، ولم يكن إنسانا حتى يكفر فيبتلي بذلك العذاب العظيم. لكن تمنيه هناك لا ينفع ، كما لا ينفع تمني كل مجرم إذا وقع في مخالب الجزاء.

٦٠٣

(٧٩)

سورة النازعات

مكيّة / آياتها (٤٧)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «النازعات» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، ألوهية ، ورسالة ، ومعادا. ولما ختمت سورة النبأ بذكر أحوال القيامة افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الله المالك لكل شيء والمتصرف الوحيد في الكون ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحمة المكررة في الدنيا والآخرة.

٦٠٤

وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦)

____________________________________

[٢] (وَالنَّازِعاتِ) أي قسما بالنازعات ، وهي الملائكة التي تنزع أرواح الكفار عن أبدانهم بشدة (غَرْقاً) أي إغراقا في النزع ، كما يغرق النازع في القوس فيبلغ به غاية مدّ الوتر.

[٣] (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) أي قسما بالملائكة الناشطات التي تنشط في قبض أرواح الكفار نشاطا ، أو تنشط في الذهاب بأرواحهم نحو الهاوية بعد نزعها.

[٤] (وَالسَّابِحاتِ) أي قسما بالملائكة التي تسبح في الفضاء بعد قبض الأرواح ، و «السبح» هي الحركة بسهولة كحركة السابح في الماء (سَبْحاً) مصدر تأكيدي. وروي : أن المراد بذلك الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين يسلّونها سلّا رقيقا.

[٥] (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) أي قسما بالملائكة التي تسبق بالأرواح ـ أو بأرواح المؤمنين ـ نحو الملأ الأعلى ، والإتيان بالفاء هنا وبالواو قبله للتفنن في الكلام الذي هو نوع من البلاغة.

[٦] (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) أي قسما بالملائكة التي تدبر الأمور بإذن الله سبحانه.

[٧] قسما بأولئك الطوائف من الملائكة أن ما يأتي من أهوال القيامة وأخبار الجنة والنار صدق مطابق للواقع. وقد حذف هذا في الكلام لدلالة الآيات التالية عليه ، أذكر يا رسول الله (يَوْمَ تَرْجُفُ) أي تتحرك وتضطرب (الرَّاجِفَةُ) أي الأرض ، كما قال سبحانه (يَوْمَ تَرْجُفُ

٦٠٥

تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١)

____________________________________

الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) (١).

[٨] (تَتْبَعُهَا) أي تتبع رجفة الأرض (الرَّادِفَةُ) أي التي تردف وتتبع الأرض في اختلال النظام والاضطراب ، وهي السماء ، أو المراد بالراجفة النفخة الأولى ، وبالرادفة النفخة الثانية.

[٩] (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ) أي في هذا اليوم ، وهو يوم القيامة (واجِفَةٌ) أي شديدة الاضطراب.

[١٠] (أَبْصارُها) أي الأبصار المنسوبة إلى تلك القلوب ، أو أبصار أصحابها (خاشِعَةٌ) أي ذليلة ، لا تنظر إلا من طرف خفي خشية ورهبة وخوفا وخجلا.

[١١] (يَقُولُونَ) أصحاب تلك القلوب (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي الطريقة التي جئنا فيها ، فإن «الحافرة» هي الطريقة التي مرّ فيها الإنسان ، تسمى بذلك باعتبار أنه حفرها بتأثير أقدامه فيها. وهذا حكاية عن أولئك ، حال كونهم في الدنيا حيث يتساءلون : هل نحن نرجع إلى الحياة بعد الموت حتى نكون كالسابق؟ وهذا استفهام إنكاري منهم للمعاد.

[١٢] (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي وقت كنا عظاما بالية ، من «نخر» : إذا

__________________

(١) المزمل : ١٥.

٦٠٦

قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥)

____________________________________

بلى. أي كيف نرجع إلى حالتنا الأولى بعد أن متنا وصرنا عظاما؟.

[١٣] (قالُوا) هؤلاء المنكرون للمعاد (تِلْكَ) أي تلك الرجعة التي تقولون بها أنتم المؤمنون (إِذاً) أي إذا كانت كما تقولون (كَرَّةٌ) أي رجعة إلى الدنيا (خاسِرَةٌ) فإن الإنسان خاسر في تلك الكرة ، وإنما أسندت الخسارة إلى الكرة مجازا ، بعلاقة الظرف والمظروف. وقد قال الكفار ذلك على وجه الاستهزاء ، لأنهم لم يكونوا يرضون بذلك.

[١٤] وجاء الردّ عليهم بقوله : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي أن الكرة ليست صعبة على الله سبحانه ، وإنما الكرة هي صيحة واحدة يصيح بها إسرافيل في الصور ـ في النفخة الثانية ـ وسميت الصيحة «زجرة» لأنها تزجر وتردع المخاطب عن سيره الأول إلى نحو السير الثاني.

[١٥] (فَإِذا هُمْ) أي البشر كلهم (بِالسَّاهِرَةِ) أي راجعون عن بطون الأرض إلى ظاهرها ، فإن «الساهرة» هي وجه الأرض ، وإنما سميت بذلك لأن الإنسان يسهر عليها ولا ينام ـ إذا كان في صحراء ـ خوفا من العدو والسبع ـ بعلاقة الحال والمحل ، فإن الإنسان يسهر في الأرض ، لكن السهر نسب إلى المحل. وفيه إشارة إلى أن المحشر يكون في أرض مستوية كالفلات لا اعوجاج فيها ولا بناء ولا شجر.

[١٦] ثم يأتي السياق ليبين طرفا من قصة موسى وفرعون ليعتبر الكفار كيف عوقب فرعون لما لم يؤمن (هَلْ أَتاكَ) أي هل جاءك وهل سمعت (حَدِيثُ مُوسى) أي قصته.

٦٠٧

إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢)

____________________________________

[١٧] (إِذْ) أي في حين (ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أول ما أوحى سبحانه إليه عند مرجعه من «مدين» شعيب إلى أرض مصر (طُوىً) اسم للوادي الذي كلّم الله فيه موسى ، وأوحى إليه بالنبوة.

[١٨] قائلا له (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) الملك الطاغي (إِنَّهُ طَغى) أي تجاوز الحد في الكفر والعصيان.

[١٩] (فَقُلْ) يا موسى له (هَلْ لَكَ) طلب بصورة الاستفهام تأدبا (إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي هل لك رغبة في أن تسلم ، وتطهر نفسك عن الكفر والعصيان؟

[٢٠] (وَ) هل لك أن (أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي أدلك عليه ، فإن الإنسان لا يعرف مزاياه سبحانه إلا بعد الإرشاد والهداية (فَتَخْشى) أي تخشاه باجتناب الكفر والعصيان ، إذ الخشية إنما تكون بعد المعرفة.

[٢١] (فَأَراهُ) أي أرى موسى عليه‌السلام فرعون (الْآيَةَ) أي المعجزة (الْكُبْرى) وهي العصا ، أو المراد جنس الآية من جميع آياته التسع.

[٢٢] (فَكَذَّبَ) فرعون بالآيات (وَعَصى) موسى فلم يتمثل أمره في الإذعان لله سبحانه.

[٢٣] (ثُمَّ أَدْبَرَ) فرعون ، أي ولّى الدبر (يَسْعى) ويجتهد ليطلب ما يكسر

٦٠٨

فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧)

____________________________________

به حجة موسى ، ويبطل به نبوته.

[٢٤] (فَحَشَرَ) فرعون ، أي جمع حاشيته وجنوده (فَنادى) وخطب فيهم.

[٢٥] (فَقالَ) لهم : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) فإن الأصنام تحت ألوهيتي ، وإنما الرب الأعلى ـ الذي لا رب فوقه ـ هو أنا ، لا كما يزعم موسى بأن لي إلها فوقي.

[٢٦] (فَأَخَذَهُ اللهُ) بالعذاب ، وهو إغراقه وجنوده في البحر وإدخاله النار (نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) «النكال» هو العقوبة ، وهو مصدر تأكيدي ، لأن معنى «أخذ» نكل به ، أي عاقبه سبحانه عقوبة الآخرة في النار ، وعقوبة الأولى بالغرق ، أي عذبه بالصنفين من العذاب.

[٢٧] (إِنَّ فِي ذلِكَ) النكال الذي حلّ بفرعون (لَعِبْرَةً) أي لعظة واعتبارا (لِمَنْ يَخْشى) النكال والعقاب ، كي يعتبر به ويعلم أن الكفر عاقبته العقاب والنكال.

[٢٨] وبعد ما أتم قصة فرعون ـ في سرعة موقظة ـ يأتي السياق ليحدد من اعتزاز الكفار بقوتهم أمام أمر الله سبحانه ، مبينا أنهم لا شيء قبال خلق الله سبحانه ، فكيف بهم في قبال أمره سبحانه؟ (أَأَنْتُمْ) أيها البشر ، أو يا كفار مكة (أَشَدُّ خَلْقاً) وأقوى استحكاما (أَمِ السَّماءُ) ولا شك أن الجواب : كون السماء أشد. وهذا لا ينافي كون الإنسان ألطف وأدق وأجمل خلقا ، لأن الكلام في الشدة لا في الجمال والدقة (بَناها) الله

٦٠٩

رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢)

____________________________________

سبحانه ، وباني السماء لا يصعب عليه شيء ، ولا تعادل قوته قوة.

[٢٩] (رَفَعَ) الله (سَمْكَها) أي سقفها ، فإن السمك هو الارتفاع أي أنه سبحانه رفع كثيرا السماوات في جهة الطول (فَسَوَّاها) أي عدلها بلا شقوق ولا فطور ولا فساد وخلل.

[٣٠] (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي أظلمها (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أظهر ضياءها.

وإنما نسب الأمران إلى السماء لأنها مصدرهما ، بطلوع الشمس وغروبها.

[٣١] (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد خلق السماوات وتنظيم أمورها (دَحاها) أي بسطها ، فإنه سبحانه أولا خلق الأرض غير مدحوة ، ثم خلق السماوات ، ثم دحى الأرض ، و «الدحو» هو البسط ، وقد استدلّ علماء الفلك بهذه الآية على حركة الأرض ، لأن الدحو هو الرمي المستلزم للحركة ، ولذا يقال للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام «داحي الباب» كذا استدلوا بقوله (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) (١) من كفت الطير : إذ طار والله العالم.

[٣٢] (أَخْرَجَ مِنْها) أي من الأرض (ماءَها) بأن فجّر العيون وفلق البحار (وَمَرْعاها) أي مروجها التي هي محل رعي الحيوانات والبهائم وذلك بمعنى أنه سبحانه خلق فيها الأعشاب والنبات.

[٣٣] (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي أثبتها في أطراف الأرض لئلا تتزلزل

__________________

(١) المرسلات : ٢٦.

٦١٠

مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨)

____________________________________

الأرض وتضطرب.

[٣٤] وإنما فعل كل ذلك (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي لأجل تمتعكم ومنفعتكم أنتم البشر ، وتمتع أنعامكم بالسكون في الأرض ، وتحصيلكم المعايش ورعي البهائم ، «وأنعام» جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم.

[٣٥] (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ) هي القيامة ، سميت بذلك لأنها تطم أي تعلو وتغلب على كل شيء ، يقال «طم الطائر الشجرة» أي علاها وتسمى الداهية «طامة» لأنها تعلو الشيء وتغلبه (الْكُبْرى) لأنها أكبر من كل داهية هائلة.

[٣٦] وذلك (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي ما عمله من خير وشر ، فإن الإنسان في ذلك اليوم يتذكر كل عمل عمله إما ذكرا في الخاطر ، وإما ذكرا من مطالعة كتابه الذي كتبه الملكان الموكلان به.

[٣٧] (وَ) يوم (بُرِّزَتِ) أي أظهرت ، والمظهر لها هو الله سبحانه (الْجَحِيمُ) هي جهنم (لِمَنْ يَرى) أي لكل من تأتي منه الرؤية ، فإنهم يرونها ظاهرة مكشوفة ، وجواب «إذا» محذوف ، أي كان الناس قسمين ، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه.

[٣٨] (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي تكبر وتجاوز الحد في كفره وعصيانه.

[٣٩] (وَآثَرَ) أي اختار (الْحَياةَ الدُّنْيا) على الحياة الآخرة ، بأن كانت

٦١١

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣)

____________________________________

أعماله للدنيا ولم يعمل شيئا للآخرة.

[٤٠] (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) له ، «والمأوى» من آوى ، بمعنى اتخذ المنزل ، أي أن مصيره إلى النار الكثيرة ـ فإن الجحيم بمعنى ذلك.

[٤١] (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي المقام المربوط بالرب تعالى وهو يوم القيامة ، والإضافة تشريفية ، من قبيل «بيت الله» بمعنى خاف عذاب الآخرة (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي نهى نفسه وحفظها من أن يتبع هواها ومشتهياتها في ارتكاب المحرمات وترك الواجبات.

[٤٢] (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) له ، فإنه يصير إليها.

[٤٣] وحيث كان الكلام في القيامة أتى السياق لجواب سؤال الناس عن وقت القيامة (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ السَّاعَةِ) أي القيامة (أَيَّانَ مُرْساها) أي متى يكون قيامها ، من «الإرساء» وهو الثبوت والاستقرار.

[٤٤] (فِيمَ أَنْتَ) أي فيما ذا أنت يا رسول الله (مِنْ ذِكْراها) أي من تذكر الساعة فإنك لا تعلم وقت قيامها ، كأن الإنسان إذا كان داخلا في شيء علم مزاياه ، أما إذا كان خارجا لا يعلم خصوصياته ، و «فيم أنت» للإنكار ، أي لست من ذكراها في شيء حتى تعلمها فإنما علمها خاص بالله سبحانه.

٦١٢

إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)

____________________________________

[٤٥] (إِلى رَبِّكَ) يا رسول الله (مُنْتَهاها) أي انتهاء علم الساعة إلى الله سبحانه ، فإذا سئل شخص عن الساعة حوّله المسئول عنه إلى غيره وغيره إلى آخر ، وهكذا حتى ينتهي إلى الله الذي هو عالم بوقتها ، والمنتهى أضيف إلى الساعة ، والمراد بها وقتها ـ بعلاقة الملابسة ـ.

[٤٦] وليس علم وقت الساعة مربوطا بك ، ف (إِنَّما أَنْتَ) يا رسول الله (مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي شأنك الإنذار لمن يخشى من الساعة ، وإنما خص الإنذار بهم لأنهم المنتفعون بالإنذار دون سواهم.

[٤٧] ثم جاء السياق لينذر الناس ويذكرهم بأن لبثهم في الدنيا قليل حتى (كَأَنَّهُمْ) أي الناس (يَوْمَ يَرَوْنَها) أي يرون الساعة ، فيما إذا قامت عليهم (لَمْ يَلْبَثُوا) أي لم يمكثوا ولم يبقوا في الدنيا (إِلَّا عَشِيَّةً) أي مقدار عصر يوم (أَوْ ضُحاها) أو صبح تلك العشية ، والمعنى يظنون أنهم لم يكونوا في الدنيا إلا نصف يوم صباحا أو مساء.

٦١٣

(٨٠)

سورة عبس

مكيّة / آياتها (٤٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «عبس» ، وهي كسائر السور المكية مشتملة على معالجة قضايا العقيدة ، وحيث ختمت سورة «النازعات» بإنذار من يخشى ، افتتحت هذه السورة بإنذار شخص خاص.

«عبس وتولى» وقد نزلت هذه السورة في «عثمان بن عفان» ، حيث كان عند الرسول مع جملة من أصحابه ، فجاء أعمى وجلس قرب عثمان ، فعبس عثمان وجهه وتولى عنه وجمع ثيابه ، وأقبل على بعض الجالسين الآخرين الذين كان لهم ثراء ، فنزلت الآيات (١).

ومن غريب الأمر أن بعض بني أمية المبغضين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسب هذا الأمر إلى الرسول لتبرئة ساحة قريبهم «عثمان» وقال : إن الرسول هو الذي عبس وتولى ، مخالفا بذلك نص القرآن العظيم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٢) و (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٣) وغيرها.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٨٥.

(٢) القلم : ٥.

(٣) التوبة : ١٨.

٦١٤

ثم جاء جماعة من الوهابيين فأخذوا يلحسون قصاع الأمويين في نسبة هذه السبة إلى الرسول ، بتزويقات وزخارف من القول ، وقد صار ذلك حرابا في أيدي الصليبيين في الهجوم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أن بعض كراريسهم كتبت : أيهما خير المسيح أو محمد ، فإن الأول كان يبرئ الأعمى ـ بنص كتابكم (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) (١) والثاني كان يعبس ويتولى إذا جاءه الأعمى بنص كتابكم؟

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي له ما في السماوات والأرض ، فهو أحق بالابتداء باسمه من غيره ، إذ هو المبدأ الذي بيده كل شيء ، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد ، ويتفضل عليهم بما يكمل نقصهم.

__________________

(١) آل عمران : ٥٠.

٦١٥

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)

____________________________________

[٢] (عَبَسَ) عثمان بن عفان ، أي قطّب وجهه (وَتَوَلَّى) أي أعرض.

[٣] (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) أي بسبب أن جاءه شخص أعمى. قالوا وكان الأعمى ابن أم مكتوم.

[٤] ثم أخذ السياق لتأنيب عثمان بما فعله موجها الخطاب معه ، كما هو دأب القرآن في توجيه الخطاب إلى الناس ، نحو (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) (١) (وَما يُدْرِيكَ) أيها العابس (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي لعل الأعمى يتطهر بالعمل الصالح؟ فيكون الإعراض عنه إثما ، حيث إنه إعراض عن الزاكي الطاهر.

[٥] (أَوْ يَذَّكَّرُ) أي يتذكر بسبب الوعظ والإرشاد ، أصله «تذكر» ثم أدغمت التاء في الذال لقرب مخرجهما ، فجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى)؟ والفرق بين الآيتين أن الأولى «زكاة» من نفسه ، والثانية «زكاة» بواسطة التذكير.

[٦] (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي كان غنيا بالمال ، والإتيان من باب الاستفعال ، من جهة أن الشخص يطلب الغنى.

[٧] (فَأَنْتَ) يا عابس (لَهُ تَصَدَّى) أي تتعرض ، أصله «تتصدى» حذفت إحدى تائيه على القاعدة ، أي تقبل عليه وتحاوره.

__________________

(١) النازعات : ٢٨.

٦١٦

وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)

____________________________________

[٨] (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي لا تبالي هل هو زكي أم لا؟ فإن المال هو الذي يعظم في نفسك لا الدين ، ولذا لا تبالي بالدين إذا كان الشخص ذا مال.

[٩] (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) ساعيا لأجل الخير والرشد كابن أم مكتوم.

[١٠] (وَهُوَ يَخْشى) الله عزوجل.

[١١] (فَأَنْتَ) أيها العابس (عَنْهُ) عن ذلك الساعي (تَلَهَّى) أي تتلهى ـ على غرار تصدى ـ أي تتغافل وتشتغل بغيره ، لأنه فقير معدوم.

[١٢] (كَلَّا) ليس الأمر على ما زعمت : من أن المال خير من الدين (إِنَّها) أي هذه الآيات (تَذْكِرَةٌ) مذكرة بالحسن والقبيح الكامن في النفس والفطرة.

[١٣] (فَمَنْ شاءَ) الخير والسعادة (ذَكَرَهُ) أي ذكر ما أودع في نفسه وفطرته ، بأن عمل بالوعظ والإرشاد.

[١٤] إن هذه التذكرة هي (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) عند الله سبحانه ، والمراد «بالصحف» اللوح المحفوظ وسائر الألواح الموجودة في الملأ الأعلى.

[١٥] (مَرْفُوعَةٍ) في السماء ـ حسا ـ أو معظمة مجللة ـ معنى ـ (مُطَهَّرَةٍ) أي منزهة من الخطأ والنقائص وما أشبهها.

٦١٧

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)

____________________________________

[١٦] (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي إن تلك الصحف إنما هي بأيدي الملائكة الكرام ، فإن «سفرة» جمع «سافر» وهو الكاتب ، أو السفير.

[١٧] (كِرامٍ) جمع كريم ، أي ذوي مقامات رفيعة (بَرَرَةٍ) جمع «بارّ» ، وهو المحسن.

[١٨] ثم يأتي السياق ليتعجب من الكافر كيف يكفر بهذا الكتاب العظيم ، المنزل من عند الله سبحانه الذي هو الخالق وبيده أزمّة كل شيء (قُتِلَ الْإِنْسانُ) دعاء عليه ، أي اللهم أقتله ، والمراد به الجنس المنحرف بدلالة القرائن الآتية (ما أَكْفَرَهُ)؟ تعجب من كفره وضلاله بعد وضوح الحجة وتمام المحجة.

[١٩] (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) الله تعالى؟ أي ألا ينظر إلى أصل خلقه كيف خلقه تعالى من ماء مهين ، حتى جعله إنسانا بهذه الغرابة في الدقة والأجهزة والآلات؟

[٢٠] (مِنْ نُطْفَةٍ) أي قطرة من المني (خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي قدر مزاياه وخصوصياته من حواسه ومشاعره وآلاته وأجهزته وكمه وكيفه وطوله وعرضه وغير ذلك.

[٢١] (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي يسر وسهل له سبيل الحياة ، بأن هيأ له الأسباب والوسائل وأرشده إلى خيره وسعادته ، والأصل يسر له السبيل ثم حذف الجر ـ على قاعدة القطع والتوصيل ـ.

٦١٨

ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)

____________________________________

[٢٢] (ثُمَ) بعد أن انتهى أمده في الحياة (أَماتَهُ) بأن قبض روحه (فَأَقْبَرَهُ) أي أدخله القبر ، وهو المحل الذي يشتمل على جسمه بعد الموت ، وإن كان البحر أو نحوه ، أو من باب الغلبة.

[٢٣] (ثُمَّ إِذا شاءَ) وأراد سبحانه قيام القيامة (أَنْشَرَهُ) أي بعثه حيا سويا.

[٢٤] فهل تراه تهيأ للنشور واستعد لذلك اليوم العظيم بالإيمان والعمل الصالح؟ (كَلَّا) إنه في غفلة وسبات و (لَمَّا يَقْضِ) أي لم يأت بعد ب (ما أَمَرَهُ) الله سبحانه من الإيمان والعمل الصالح.

[٢٥] ثم يأتي السياق لتذكير الإنسان بجملة من الآيات الكونية تدليلا على وجوده سبحانه بالآيات الآفاقية بعد أن ذكره الآيات الأنفسية (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) الذي يأكله ، ليتذكر أصل الخلقة ، ومن خلقها ، ليرعوي عن غيّه وضلاله.

[٢٦] (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) المطر من السماء (صَبًّا) أي إنزالا.

[٢٧] (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ) بإخراج النبات منها (شَقًّا) حتى أن النبات الضعيف خرج من الأرض الصلبة.

[٢٨] (فَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض (حَبًّا) أي جنس الحبوب من الحنطة والشعير وأمثالهما.

[٢٩] (وَ) أنبتنا فيها (عِنَباً) خص بالذكر لكثرته ولذته وعظم فائدته (وَقَضْباً) وهو القت الرطب الذي يقضب ويقطع مرة بعد أخرى لعلف الدواب.

٦١٩

وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤)

____________________________________

[٣٠] (وَزَيْتُوناً) وهو ما يعصر منه الزيت (وَنَخْلاً) وهو الشجرة التي تعطي التمر.

[٣١] (وَحَدائِقَ) جمع «حديقة» ، وهو البستان المحوّط بالسور أو البستان الصغير ذو الأشجار والأوراد (غُلْباً) جمع «غلباء» وهي الحديقة العظيمة الملتفة الأشجار ، كأنه مأخوذ من التغالب ، لتغالب أشجارها في الارتفاع للاستفادة من الهواء والضياء.

[٣٢] (وَفاكِهَةً) أي سائر ألوان الفواكه (وَأَبًّا) وهو المرعى من الحشيش وغيره الذي يرعاه الحيوان.

[٣٣] وإنما أنبتنا كل ذلك (مَتاعاً لَكُمْ) أي لأجل متاعكم وعيشكم (وَلِأَنْعامِكُمْ) أي بهائمكم. قالوا : الفاكهة لكم ، والأبّ لأنعامكم.

[٣٤] ثم ينتقل السياق من المبدأ إلى المعاد بقوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) وهي من أسامى القيامة ، بمعنى الصاكة ، لأنها تصك الأسماع ، أي تبالغ في إسماعها ، من أصواتها الشديدة ، كصوت النفخة ، وصوت النار ، وأصوات الملائكة ، وما أشبه. والجواب محذوف ، أي يكون الناس يومئذ قسمين ، وقد دل على الجواب ما يأتي في قوله «وجوه».

[٣٥] ثم بين وقت مجيئها بقوله : وذلك (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) أي كل أحد (مِنْ أَخِيهِ) خوفا بأن يبتلى به ، بأن يطلب منه شيئا ، أو يلقى عليه بعض تبعته.

٦٢٠