تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى

____________________________________

ويوم ذلك كلهم مطيعون ـ (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي عسير صعب.

[١٠] وهؤلاء الكفار بالإضافة إلى أنه ينتظرهم عذاب الآخرة ، كذلك مثلهم مثل الأقوام السابقة الذين كفروا بالأنبياء وبما جاءوا به فأخذهم عذاب الدنيا فقد (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) قبل قومك يا رسول الله (قَوْمُ نُوحٍ) فقد بغوا وطغوا وكذبوا (عَبْدَنا) نوحا عليه‌السلام (وَقالُوا) إنه (مَجْنُونٌ) كما يقول الكفار بالنسبة لك يا رسول الله (وَازْدُجِرَ) زجر نوح عليه‌السلام عن التبليغ بأنواع الأذية ، لكن نوحا عليه‌السلام استقام ولم ينصرف عن تبليغ الرسالة.

[١١] (فَدَعا) نوح عليه‌السلام (رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) قد غلب علي الكفار بقوتهم المادية (فَانْتَصِرْ) فانصرني يا رب عليهم.

[١٢] وقد استجبنا دعاءه (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) مواضع نزول المطر (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) انهمر وتساقط بكثرة ، كأنه أفواه القرب.

[١٣] (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) حتى كأنها لها عيون (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ) هو إغراق قوم نوح عليه‌السلام (قَدْ قُدِرَ) قدّره الله سبحانه وحكم به.

[١٤] (وَحَمَلْناهُ) أركبنا نوحا عليه‌السلام ومن معه من المؤمنين (عَلى) سفينة

٢٨١

ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨)

____________________________________

(ذاتِ أَلْواحٍ) أخشاب عريضة ، جمع «لوح» (وَدُسُرٍ) المسامير ، فإنه جمع «دسار» بمعنى المسمار.

[١٥] (تَجْرِي) السفينة بالمياه المحيطة بالأرض (بِأَعْيُنِنا) تحت نظرنا ورعايتنا ، والجمع باعتبار أن كل حركة تحتاج إلى عين ترعاها من الغرق والهلاك ، وقد فعلنا ذلك بنوح عليه‌السلام (جَزاءً) حسنا منا (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) لنوح الذي كفر به قومه.

[١٦] (وَلَقَدْ تَرَكْناها) أبقينا خبر نوح وقومه (آيَةً) علامة يعتبر بها العقلاء (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) هل هناك من يعتبر بالقصة؟ المبلغ يعتبر به فلا يهمه تكذيب الناس ، والناس يعتبرون فلا يكذبون المبلغين لأن عاقبتهم تكون سيئة.

[١٧] (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) للمكذبين (وَنُذُرِ) إنذاراتي لهم ، ألم تكن عاقبة المكذبين العذاب كما وعدتهم؟

[١٨] وهل يريدون أوضح بيانا من هذا الذي ذكرناه وخوفناهم به؟ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا) سهّلنا (الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) ليتذكر به الناس (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) من يتذكر ويتعظ؟ استفهام تحريضي ، و «مدّكر» من «ادّكر» أصله «تذكّر».

[١٩] وبعد قوم نوح عليه‌السلام (كَذَّبَتْ عادٌ) قبيلة عاد وهم قوم هود عليه‌السلام ، فعذبناهم بتكذيبهم (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟ أليس في تكرار

٢٨٢

إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)

____________________________________

العذاب لكل قوم كذبوا ، وعظا لكفار قريش؟ فليس لهم أن يقولوا أن عذاب قوم نوح كان من القضايا الاتفاقية.

[٢٠] (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) على عاد (رِيحاً صَرْصَراً) باردة شديدة البرد (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم عليهم (مُسْتَمِرٍّ) استمر العذاب عليهم في ذلك اليوم حتى أهلكهم.

[٢١] (تَنْزِعُ) تقلع تلك الريح (النَّاسَ) قوم عاد ، من أماكنهم في الغرف وغيرها وكانت تفتح الأبواب وتخرج الناس إلى الساحات وترفعهم عن الأرض ثم تضربهم بها ، وكانت تقلع رؤوسهم عن أجسادهم فبقيت أجسادهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) أصول (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) منقلع عن مغارسه ، ولعلهم كانوا يلوون على أنفسهم من شدة الألم ولأن يجمعوا أنفسهم في قبال الريح ، ولذا شبهوا بأعجاز النخل.

[٢٢] (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟ لعل وجه التكرار لأجل أن مثل هذا العذاب لا يمكن أن يحمل على أنه طبيعي ، وإن أمكن ذلك في الغرق.

[٢٣] (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) فلم نجعله كالكتب الفلسفية التي لا يفهمها الإنسان إلا بصعوبة بالغة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ من يتذكر فلا يعصي حتى لا يعذب كما عذب الأمم السابقة.

٢٨٣

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ

____________________________________

[٢٤] (كَذَّبَتْ) قبيلة (ثَمُودُ) قوم صالح عليه‌السلام (بِالنُّذُرِ) جمع نذير أي الأنبياء إذ تكذيب نبي واحد هو تكذيب لكل الأنبياء.

[٢٥] (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا) من جنسنا أو من قبيلتنا ، لأن صالح كان من قبيلتهم (واحِداً) لا تبع له (نَتَّبِعُهُ) ونقبل كلامه؟ هذا لا يكون (إِنَّا إِذاً) إذا اتبعنا بشرا واحدا (لَفِي ضَلالٍ) عن طريقة آبائنا (وَسُعُرٍ) جمع سعير ، أي نحرق بناره ، كما يقال فلان أحرق نفسه أي سبّب ضياع نفسه وماله ومستقبله ، إنهم ما كانوا يقتنعون بالبرهان ، بل كانوا يريدون أن يكون الهادي لهم من جنس أعلى كالملائكة لا «منا» أو لهم جماعة وسطوة وشوكة مثل أن يكون ملكا أو رئيس عشيرة.

[٢٦] (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ) الكتاب والوحي (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا)؟ فلما ذا لم يلق الوحي إلي من هو أكثر منه مالا أو شخصية؟ (بَلْ هُوَ) صالح عليه‌السلام (كَذَّابٌ) كثير الكذب في نسبة الوحي إلى نفسه (أَشِرٌ) حمله بطره على الترفع علينا بادعائه النبوة ، فإن المترفعين لما يعتادون الإشارة إلى الناس بالاستهزاء والسوء ، اشتق من مادة الإشارة ، الأشر بهذا المعنى.

[٢٧] (سَيَعْلَمُونَ غَداً) حين ينزل عليهم العذاب (مَنِ) هو (الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) هل هم الذين أكثروا من الكذب أم صالح النبي عليه‌السلام؟.

[٢٨] (إِنَّا) أي الله سبحانه (مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) مخرجوها من الجبل وباعثوها

٢٨٤

فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١)

____________________________________

إليهم معجزة لصالح عليه‌السلام (فِتْنَةً) اختبارا وامتحانا (لَهُمْ) هل يؤمنون بالإعجاز أم لا؟ (فَارْتَقِبْهُمْ) أي انتظرهم وراقبهم هل يؤمنون أم لا؟ (وَاصْطَبِرْ) عليهم بالاستمرار في التبليغ وعدم الدعاء عليهم مع إيذائهم لك.

[٢٩] (وَنَبِّئْهُمْ) أخبرهم (أَنَّ الْماءَ) الذي كان يجري نهرا عندهم (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) مقسوم للناقة يوم ولهم يوم ، فإذا شربت الناقة في يومها كل ماء النهر أعطتهم عوضه حليبا (كُلُّ شِرْبٍ) شرب الحصة من الماء (مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه ولا حق لأحدهما في الماء في يوم الآخر.

[٣٠] (فَنادَوْا) ثمود (صاحِبَهُمْ) وهو قدار الذي كان من شرارهم (فَتَعاطى) أخذ الناقة ، ولعل باب التفاعل من جهة أن قدار وجماعة منهم أخذوا زمام الناقة حتى ألجؤوها إلى مكان يمكن عقرها (فَعَقَرَ) قدار الناقة أي جرحها وقتلها.

[٣١] (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟ هل تركت عذابهم لما خالفوا وكذبوا أم أخذتهم بالعذاب؟.

[٣٢] (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بهم جبرائيل عليه‌السلام فانخلعت بذلك قلوبهم (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الماشية في الشتاء في حظيرته ، ولعل وجه التشبيه ، أنه

٢٨٥

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥)

____________________________________

تقطعت أيديهم وأرجلهم وتكوّمت الأبدان والأيدي والأرجل في مكان ، كما يتكوّم الهشيم المتكسر المجتمع.

[٣٣] (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) لا يقال في القرآن متشابهات ، لأنه يقال عامة القرآن ميسرة وبعض الآيات المتشابهات لا يضر بالعموم من حيث العموم.

[٣٤] (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) فلم يقبلوا إنذار لوط عليه‌السلام وتكذيب لوط تكذيب لسائر الأنبياء.

[٣٥] (إِنَّا) جزاء لتكذيبهم (أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) ريحا ترميهم بالحجارة يقال حصبه أي رماه بالحجارة (إِلَّا آلَ لُوطٍ) لوط وأهل بيته المؤمنين «باستثناء زوجته فإنها أصابها ما أصاب القوم لأنها كانت كافرة مثلهم» (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) في آخر الليل.

[٣٦] وإنما نجيناهم (نِعْمَةً) لهم (مِنْ عِنْدِنا) إذ كان من الممكن إماتتهم في ذلك الحال ، بدون عذاب ، كما يموت كل خير في زمان ما (كَذلِكَ) هكذا ، كما جزينا آل لوط عليه‌السلام (نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمتنا عليه ، بالإيمان والطاعة ، والمراد الشكر القلبي والشكر العملي.

[٣٧] وقد قدم سبحانه عذابهم على ذكر بلاغ لوط لهم ، لبيان أن العذاب

٢٨٦

وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩)

____________________________________

يأخذ المعتدين بسرعة حتى كأن بقاءهم في الحياة لمحة عين (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط عليه‌السلام (بَطْشَتَنا) أخذنا الشديد بالعذاب لمن خالف أوامرنا (فَتَمارَوْا) فتشككوا من المماراة أي المجادلة (بِالنُّذُرِ) وأخذوا يجادلون بالباطل حول صدق لوط.

[٣٨] (وَ) لم يقتنعوا بتكذيبه والاستمرار في فحشائهم ، بل أضافوا على ذلك أنهم (لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) المراودة ، الرواح والمجيء ، فقد جاء آل لوط ضيوف ، فأراد قومه أن يلوطوا بهم ، وكان أولئك الضيوف هم الملائكة (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فمسحناها وسويناها بسائر الوجه حتى عميت عيونهم وشوهت خلقتهم فقلنا لهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي ذوقوا عاقبة إنذاري لكم ، أو المراد كأن لسان الحال يقول لهم «ذوقوا ...».

[٣٩] (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ) دخل العذاب عليهم في الصباح الباكر ، والبكرة أول الصبح ، ودخول العذاب في ذلك الوقت أنكر ، لأنهم يرجون خير النهار فإذا بهم يجدون انهدام الآمال بالعذاب (مُسْتَقِرٌّ) فلم يكن عذابا عابرا ، بل عذاب استقر بهم حتى أهلكهم.

[٤٠] (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) وفائدة التكرار تكرار التذكير ومن الواضح أنه قد يؤثر التكرار ما لا يؤثر غيره ، وذلك لاستيعاب الذهن له ، ولذا إذا أراد الإنسان أن يحفظ شيئا كرره مرات.

٢٨٧

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣)

____________________________________

[٤١] (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) لا يقال غير العرب لا يستفيدون من القرآن ، لأنه يقال ، قصد الإسلام توحيد لغة الناس ، لأجل تفاهم عام ولأجل إرساء دعائم حكومة واحدة ـ بما فيها من الفوائد الجمة ـ ومثل ذلك يوجب يسر القرآن للكل.

[٤٢] (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ) آل فلان يستعمل له ولآله ، أي فرعون وآله (النُّذُرُ) المنذرون مثل موسى وهارون ومؤمن آل فرعون ، ولعل أنبياء آخرين أيضا كانوا ، لما ورد في الأحاديث أن موسى عليه‌السلام حج مع سبعين نبيا.

[٤٣] (كَذَّبُوا بِآياتِنا) الكثيرة (كُلِّها) كاليد والعصا والقمل والضفادع والدم وغيرها ، ولعل المجيء بدون «الواو» لإفادة فورية التكذيب بلا تروّ (فَأَخَذْناهُمْ) بالغرق (أَخْذَ عَزِيزٍ) له العزة والغلبة (مُقْتَدِرٍ) له القدرة ، لأن القدرة قد تكون مع الذلة عند الناس ، وقد تكون مع العزة.

[٤٤] (أَكُفَّارُكُمْ) يا معشر قريش (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) من أولئك الكفار للأمم السابقة حتى نترككم مع تكذيبكم ، وقد سمعتم كيف أخذنا أولئك الكفار؟ (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) في الكتب ، بأن كنا أعطيناكم عهدا في كتب الأنبياء أن لا نهلككم؟ وإذ لا ذاك ، ولا هذا ، فاللازم أن

٢٨٨

أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ

____________________________________

تخافوا من بطشنا وأن نفعل بكم ما فعلنا بتلك الأمم الكافرة.

[٤٥] (أَمْ يَقُولُونَ) هؤلاء الكفار (نَحْنُ جَمِيعٌ) مجتمع (مُنْتَصِرٌ) ننتصر ونتغلب على من أراد بنا هلاكا؟ وهل يمكن التغلب على إرادة الله؟.

[٤٦] (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) سيهزمون إذا جاءهم عذاب الله ولا يفيدهم جمعهم (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فلا يقفون وجها لوجه أمام العذاب ، بل يعطون العذاب قفاهم ويفرون ، فلا يفيدهم جمعهم.

[٤٧] هذا إذا أرسلنا عليهم العذاب في الدنيا (بَلِ السَّاعَةُ) القيامة (مَوْعِدُهُمْ) موعد عقوبتهم الحقيقية وعذابهم الأصلي (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) أشد عذابا لهم من عذاب الدنيا (وَأَمَرُّ) أكثر مرارة في مذاقهم ، والداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدي الإنسان لدوائه.

[٤٨] (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) بالإضافة إلى عذابهم في الدنيا والآخرة ، هم (فِي ضَلالٍ) عن الحق ، وهذا ما يولد لهم نوعا من المشاكل المادية ، لأن غير طريق الحق فيه مشاكل وأتعاب (وَسُعُرٍ) جمع سعير ، لأنهم يستعرون نفسيا بما يرتطمون فيه من المشاكل فهم في قلق نفسي واضطراب وعدم سكينة ، فإن الاطمئنان النفسي للمؤمنين فقط ، أو المراد ضلال الدنيا وسعير الآخرة.

[٤٩] (يَوْمَ) بيان لموعدهم في الساعة ، أو ما بينه بقوله «سعر»

٢٨٩

يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ

____________________________________

(يُسْحَبُونَ) يجرون (فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) فإنهم لما لم تخضع وجوههم للحق ، جوزوا بإذلال وجوههم في النار ، ويقال لهم زيادة في إهانتهم من جهة الشماتة (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) مسّه ، أي أصابه ، وسقر علم على جهنم.

[٥٠] وحيث إن الكفار كانوا يقولون : ائتنا بعذاب الله إن كنت صادقا ، أجابهم القرآن (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ) أي جعلناه (بِقَدَرٍ) بتقدير خاص ، فيوم القيامة ، وعذاب هؤلاء ، يأتي في الوقت المقدر لهما ، ولا نقدم العذاب حسب طلبهم فكما أن كل بذرة تعطي ثمرا ، فللثمرة بين زرعها وبين إثمارها زمان مقدر ، كذلك كل عمل إلى أن يعطي ثمره وجزاءه له وقت مقدر خاص.

[٥١] لكن إذا حان الوقت المقدر ، فلا تراجع فيه ولا بطء فيه (وَما أَمْرُنا) بعذابهم أو بغير ذلك (إِلَّا واحِدَةٌ) فلا حاجة للتكرار في الأمر ، كما لا تراجع منه إذا أمرنا وهو (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) حركة البصر ، في السرعة فلا يحتاج إلى مقدمات فيجب أن يعرف هؤلاء الكفار أنه إذا حان عذابهم لا تراجع فيه ، كما أنه لا يأخذهم تدريجيا ليفكروا في الخلاص بل يأخذهم بغتة.

[٥٢] (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أشباهكم من الأمم ، وقد عرفتم كيف لم نتراجع حين أردنا عذابهم وكيف لم نتدرج في عذابهم بل أخذناهم

٢٩٠

فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)

____________________________________

دفعة واحدة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) مدّكر يتذكر ، حتى يرجع عن غيه؟.

[٥٣] ولم ننس حتى أصغر شيء فعلوه فعاقبناهم بكل ما ارتكبوا من جرائم (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) مكتوب (فِي الزُّبُرِ) كتبه الحفظة.

[٥٤] (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من أعمالهم ، كما هو كذلك في كل أعمال البشر (مُسْتَطَرٌ) مسطور مكتوب.

[٥٥] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) جمع نهر بسكون الهاء ، ولعل المراد انهم يسبحون في أنهار الجنة ، والظرف مجاز.

[٥٦] (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في مكان لا كذب فيه ، بخلاف الدنيا ، فإن مكان الدنيا باعتبار أن ظاهره الراحة وواقعه التعب ، كذب (عِنْدَ مَلِيكٍ) ملك ، ومليك أكثر دلالة على استقرار ملكه ، لأنه صفة مشبهة كشريف (مُقْتَدِرٍ) له القدرة على تنفيذ ما وعد من عذاب العاصين ونعيم المطيعين.

٢٩١

(٥٥)

سورة الرحمن

مكية أو مدنية / آياتها (٧٩)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الرحمن» وقد اختلفوا في كونها مكية أو مدنية لكنها أشبه بالسور المدنية لمعالجتها قضايا العقيدة ، لا الشريعة. ولما ختمت سورة القمر بذكر الله سبحانه نعمه للإنسان في الآخرة ، ابتدأت هذه السورة بذكره سبحانه ، ونعمه للإنسان في الدنيا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نقرن أعمالنا بذكر أسمه تعالى ، شعارا لنا بأنا من أتباع الله والمطيعين لأوامره ، كما نرجو أن يرحمنا في مستقبل دنيانا وآخرتنا ، كما في ماضي أمرنا بالخلق أولا ، وإعطائنا سائر النعم ثانيا.

٢٩٢

الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها

____________________________________

[٢] (الرَّحْمنُ) لأنه رحمن «فإن تعليق الأمر على الصفة يفيد العلية».

[٣] (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) إذ لو لا رحمه لم يعلم القرآن وترك البشر في دياجير الظلام.

[٤] (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أخّر الخلق ، عن التعليم مع أنه مقدم على التعليم زمانا ، للدلالة على جلالة العلم حتى أنه لو لا العلم لكان خلق الإنسان قليل الفائدة.

[٥] (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) بأن يتكلم ويظهر ما في ضميره.

[٦] وإذ ذكر القرآن الإنسان بالنعم التي تدل على علم الله وقدرته ودقة حكمه ، جاء الدور للتنبيه على أنه لا مكان للعبثية والاعتباط في الخلق (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) قد خلقا ويجريان بحساب معلوم مقدر بلا زيادة ولا نقيصة.

[٧] (وَالنَّجْمُ) الموجود في السماء ، والذي ينجم أي يظهر في الأفق (وَالشَّجَرُ) الذي ينجم أي يظهر من الأرض (يَسْجُدانِ) خاضعان لله سبحانه ، ويسجد ليس بمعنى المستقبل ، بل بمعنى الحال أي دائما ، أو المراد سجودهما ، إذ لكل شيء معرفة بالله ونوع خضوع له ، وفي جملة من التفاسير ، إن المراد بالنجم النبات الذي لا ساق له ، في مقابل الشجر الذي له ساق.

[٨] (وَالسَّماءَ رَفَعَها) الله سبحانه ، سواء أريد به المدارات أو الجزئيات ،

٢٩٣

وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ

____________________________________

أو الأنجم (وَوَضَعَ) أي جعل وإنما أتى بهذا اللفظ ، ليجعل المقابلة بين الرفع والوضع (الْمِيزانَ) ليوفي كل ذي حق حقه ، ففي القضايا التكوينية عدل وحساب دقيق ، وكذلك جعل سبحانه للتعامل بين الناس عدلا وحسابا.

[٩] وإنما وضع الميزان ل ـ (أَلَّا تَطْغَوْا) وتجوروا (فِي الْمِيزانِ) في وزن الأشياء إذ لو لم يكن الميزان الذي به توزن الأشياء لحصل الجور في وزن الأشياء.

[١٠] لكن قسما من الناس أيضا يجورون مع وجود الميزان ، بالاحتيال والتطفيف ولذا قال الله سبحانه (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي لا تنقصوه ، والمراد ما في الميزان بعلاقة الحال والمحل.

[١١] (وَ) إذا تقدم ذكر السماء فلنذكر ما يقابل نعمة السماء من نعمة الأرض فإن (الْأَرْضَ وَضَعَها) الله (لِلْأَنامِ) لفائدتهم أحياء وأمواتا.

[١٢] (فِيها فاكِهَةٌ) إما الثمار أو كل ما يتفكه به (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) الكم وعاء التمر ، و «ذات» باعتبار جنس النخل.

[١٣] (وَالْحَبُ) كالحنطة والشعير (ذُو الْعَصْفِ) ورق الزرع ، سمي به

٢٩٤

وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧)

____________________________________

لأنه يعصف به أي يتحرك ، ومنه «العاصفة» بمعنى الريح الشديدة (وَالرَّيْحانُ) ما يستشم به من الأوراد ونحوها.

[١٤] (فَبِأَيِّ آلاءِ) جمع «إلى» بمعنى النعمة (رَبِّكُما) أيها الجن والإنس ، بقرينة «للأنام» و «أيها الثقلان» (تُكَذِّبانِ) فإن تكذيبهم برب النعمة وإنكارهم له ، كفران للنعمة ، وتكذيب لربط النعمة برب النعمة ، وتكرار التذكير بهذه الآية (فَبِأَيِّ آلاءِ ...) في مقابل كثرة تكذيبهم برب النعمة.

[١٥] (خَلَقَ) الله (الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) الطين اليابس الذي له صلصلة ، أي صوت (كَالْفَخَّارِ) الخزف فإن الله جعل التراب طينا ولما بقي مدة صار كالحمإ المسنون ، ثم يبس وصار صلصالا ، كما في آيات متعددة.

[١٦] (وَخَلَقَ الْجَانَ) أبا الجن ، أو كل جني ، فكما أن أصل كل فرد منا التراب ، كذلك أصل كل جني النار (مِنْ مارِجٍ) صاف من الدخان (مِنْ نارٍ) أي نار مارجة ، ويسمى مارجا من مرج بمعنى اضطرب.

[١٧] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ هل تكذبون بنعمة الخلق؟ ومن خلقكم إذن؟.

[١٨] الله هو (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) مشرق الصيف ومشرق الشتاء (وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)

٢٩٥

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)

____________________________________

مغربهما.

[١٩] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ وهل هناك رب آخر جعل المشرق والمغرب؟ ومن هو إذن؟

[٢٠] (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) خلط بين بحر عذب وبحر مالح (يَلْتَقِيانِ) فإن تحت الأرض قطعة من الماء المالح في البحار ، والعذب في العيون والمخازن الخلقية ، وهما متجاوران ، وهذا في بطن ذاك وبالعكس.

[٢١] (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز (لا يَبْغِيانِ) فلا العذب يدخل في المالح ، ولا العكس ، وذلك لقانون خلقه الله في المائين ، مما لا يقبل أحدهما الاختلاط بالآخر ، وإنما كل ماء يجذب إلى نفسه أجزاء ما من جنسه ، وقد ذكروا تفصيل ذلك في علم الفيزياء.

[٢٢] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فهل خلق المائين غير الله؟ وهل جعل هذا القانون فيهما غير الله؟

[٢٣] (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ) الدر الذي في الصدف (وَالْمَرْجانُ) شجرة تنبت تحت الماء.

[٢٤] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فهل خلق اللؤلؤ والمرجان من غيره تعالى؟ ومن هو إذا؟

٢٩٦

وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨)

____________________________________

[٢٥] (وَلَهُ) سبحانه (الْجَوارِ) جمع جارية أي السفينة ، وكونها له لأنه خلق مواردها ، ووهب الإنسان عقلا لصنعها وجعل في الماء قانونا «كشفه أرخميدس» لأجل أن لا تغرق في الماء (الْمُنْشَآتُ) التي أنشأها وأوجدها الإنسان بفكر وهبه الله له (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) جمع علم وهو الجبل الطويل ، فكيف أنها لا تغرق في الماء؟.

[٢٦] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ هل خلق المواد ، وإعطاء الإنسان قدرة الإنشاء ، أو جعل قانون أرخميدس في الماء ، لغير الله؟ ، ومن يجرأ أن يقول ذلك؟

[٢٧] هكذا أنشأناكم ، وهيأنا مصالحكم ، ثم بعد ذلك (كُلُّ مَنْ عَلَيْها) أي على الأرض (فانٍ) يفنى ويهلك.

[٢٨] (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ذات ربك ، والإنسان يقال له وجه ، فيقال «نحتاج إلى وجوه جديدة» أو «فلان وجه كريم» وذلك ، لأنه محل التوجه ، فيطلق على الكل من باب إطلاق الجزء على الكل ، كما ذكروه في أقسام المجاز (ذُو الْجَلالِ) فهو أجل من أن يفنى (وَالْإِكْرامِ) الذي أكرم بالخلق ثم يكرم بالإعادة. والأول : صفة جلال. والثاني : صفة جمال.

[٢٩] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فهل تكذبون بأن الله يفني زيدا وعمروا وبكرا؟ وكل واحد من فناءاته نعمة ، نعمة على المؤمن لأنه ينجيه إلى

٢٩٧

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠)

____________________________________

دار كرامته ، وعلى غير المؤمن لأنه لا يزداد عصيانا ببقائه في دار الدنيا.

[٣٠] فهو الخالق ، وهو مهئ كل نعمة ، وهو المغني ، ثم هو المسؤول لكل حاجة ، في كل الكون (يَسْئَلُهُ) يطلب الحوائج منه (مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة وغيرهم (وَالْأَرْضِ) من الإنسان والجن وغيرهما ، وليس الله كالإنسان الذي يجعل القانون ثم لا يغيره ولا يبدله ، فلا شأن له في التصرف بعد وضعه القانون بل (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ) سبحانه (فِي شَأْنٍ) فإذا قدر الفقر ثم سأله إنسان أن يغنيه أغناه ، وهكذا ، فهو يتصرف في الكون في كل آن ، لا يقال ما هي الحاجة إلى ذلك وقد كان بقدرته سبحانه أن يكون كصاحب معمل يشغل معمله لحظة ، ثم يتركه طيلة حركته ، فيخلق الله الكون لحظة ، ثم لا يعمل شيئا؟ لأنه يقال المحال لا يقع تحت قدرة الله تعالى فإن الأشياء عدم بدون استمرار عناية الله بها مثل أن النور عدم بدون إفاضة الشمس دائما له ، ومثال المعمل غير صحيح ، لأن صاحب المعمل لا يأتي إلا بالمعدّ أي بحركة أعضائه وجوارحه في اللحظة الأولى أما دوران المعمل فهو حسب قانون جعله الله في الكون فالله قائم على دوران المعمل لا إنه يدوره بنفسه كما أن من يضغط على جهاز الكهرباء أتى بالمعدّ وانتهى فالإنارة المستمرة إنما هي حسب قانون الله في جريان تيار الكهرباء ، وهذا بحث طويل مربوط بالفلسفة.

[٣١] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ أليس الله يستمر في إعطاء الكون الحياة

٢٩٨

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣)

____________________________________

والبقاء الجديد؟ وأليس كل ذلك آلاء ونعما.

[٣٢] (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) سنتجرد عن شؤون الدنيا لأجل حسابكم يوم القيامة ـ إذ لا دنيا حينئذ ـ (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) الجن والإنس ، والظاهر أنه تهديد ، وكناية على أنه لا عمل إلا حسابكم ، فيكون الحساب دقيقا جدا ، فهو مثل قول الرجل لمن يريد تهديده ، سأفرغ لك ، أي لا يكون لي شغل إلا الإيقاع بك.

[٣٣] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ لا تكذبوا بآلاء الله حتى لا تقعوا في العذاب يوم القيامة وأهوالها.

[٣٤] إن ذلك التفرغ لشأنكم إنما يكون في يوم لا مفر لأحد من سلطان الله ، فيقال للثقلين (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يا أيتها الجماعة (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) أن تهربوا من ثقب الكون (مِنْ أَقْطارِ) جمع قطر بمعنى الناحية (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأن أقطارها في ذلك اليوم مسدودة (فَانْفُذُوا) واهربوا لكن هيهات أن تتمكنوا من ذلك (لا تَنْفُذُونَ) لا تقدرون من النفوذ والهرب (إِلَّا بِسُلْطانٍ) بحجة واضحة تأتون بها على أنكم عملتم في الدنيا حسنا ، فيعطى لكم جواز التخلص من الحساب إلى سعة الجنة.

أقول : ربما فسر هذه الآية بعض العلماء بعدم إمكان الذهاب إلى أجواء السماء وأعماق الأرض إلا بسلطان العلم.

٢٩٩

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨)

____________________________________

[٣٥] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فكما أن الدنيا نعمة ، كذلك الحساب نعمة ، فإن مثله مثل الامتحان الذي يعطي كل ذي حق حقه ، فهل تكذبان بنعم الحساب التي توجب وصول كل ذي حق إلى حقه؟

[٣٦] في ذلك اليوم (يُرْسَلُ عَلَيْكُما) أيها الجن والإنس (شُواظٌ) اللهب الخالص ، أو ذرأت النار المتطايرة (مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) مذاب حتى يتأذى بهما الكفرة والعصاة (فَلا تَنْتَصِرانِ) لا أحد ينصركم من بأس الله ، فآمنوا واعملوا حتى لا يصيبكم مثل هذا العذاب.

[٣٧] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لا تكذبوا بالآلاء حتى لا يشملكم مثل هذا العذاب.

[٣٨] (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) بأن كان في نظر الناظر كأن فيها خلل وفرج ، كما أن يوم الحساب ينظر الناس إلى السماء كأن فيها فرج من أثر وجود الغيم في بعضها وعدم وجوده في بعضها (فَكانَتْ) السماء (وَرْدَةً) يظهر في فرجها أثار العذاب الأحمر ، لأن النار حمراء (كَالدِّهانِ) كالدهن أي عذاب سيال كالدهن أحمر كالنار ، وجواب «إذا» لا يسأل ، كما يأتي.

[٣٩] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ لا تكذبا حتى لا تبتليا بأهوال هذا اليوم.

٣٠٠