تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ

____________________________________

نفرين عادلين من المسلمين حتى يشهدان على الطلاق ، والعدالة عبارة عن ملكة في النفس تبعث على الإتيان بالواجبات والترك للمحرمات خوفا من الله سبحانه ، والمعنى أنه يلزم حضور شاهدين عادلين عند إجراء صيغة الطلاق «وذوي» جمع أريد به الاثنان فما فوق ، كما فسر في الأحاديث ، (وَأَقِيمُوا) أيها الشهود (الشَّهادَةَ) إذا احتاج أحد الطرفين إلى الإشهاد (لِلَّهِ) فلا تحرفوا فيها ، فإن الأمر إذا جاء به الإنسان لله ، راقبه سبحانه ، كي لا يزيد ولا ينقص (ذلِكُمْ) «ذا» إشارة و «كم» خطاب ، أي ذلك الذي تقدم من إقامة الشهادة لله ، (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإنه هو الذي يخاف الله ويقيم الشهادة لله ، أما غيره فلا يهتم بالحقيقة وهذا كناية عن أن الانحراف في الشهادة كاشف عن عدم الإتيان (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي يخافه سبحانه ، فيعمل حسب أوامره (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من مشاكله.

[٤] فلا يظن الإنسان أنه إذا شهد بالحق وقع في المشكلة حيث يغضب عليه المبطل الذي يريد منه الشهادة بالباطل كما لا يزعم أنه يوجب قطع رزقه حيث أن المبطل ربما كان هو السبب في رزقه أو أن له القدرة في أن يسبب إلى ولي رزقه أن يمنعه عنه (وَيَرْزُقْهُ) الله (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي من مكان لا يظن أن يأتي من ذلك المكان الرزق ، ولصدق هذا الكلام شواهد كثيرة عند المجربين ، ومن الأمثلة البارزة الآن أمامي رجل قتل فاحشة طمعا في مالها وألقاها في النهر ، ثم

٤٤١

وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ

____________________________________

أعطى مرتزقته الشركاء معه في الإثم أموالا لئلا يشهدوا عند القاضي وهددهم إن شهدوا ، وانتشر الخبر وجاء القاضي يحلف الشهود بالقرآن الكريم ، فحلف الكل بالإنكار إلّا واحد منهم كان صاحبا لهذا المجرم ، فإنه قال لا أحلف بالقرآن كاذبا ، وشهد بالحق وفر من المجرم بعد «ومن الغريب» أن القاضي حكم على المجرم بهذا الشاهد الواحد ، وابتلى الكل ، إلا هذا الصادق فإنه تاب من أعماله السابقة وهو إلى اليوم في الحياة يمدحه من يعرفه ، بينما أن أولئك سجنوا وغرموا ، ومات بعضهم في شبابه.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي من يكل أموره إلى الله يكفيه كل مخوف ومشكلة وينجيه من كل هلكة (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ). أي يبلغ ما يريده ولا يفوته شيء من إرادته ، فلا يزعم الزاعم أن وعده سبحانه يمكن فيه الخلف (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي مقدارا وتقديرا وتسير أموره حسب ذلك فإذا جعل تقدير المتقي الكفاية والرزق لا بد وأن يكون كما أراد بلا خلف.

[٥] ثم بين سبحانه مقدار العدة التي إذا انقضت حل للزوجة أن تنكح زوجا جديدا (وَاللَّائِي) جمع التي أي النساء المطلقات اللائي (يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) أي يئسن من الحيض فلا يحضن (مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي شككتم في أمرهن فلا تدرون أن انقطاع الحيض لكبرهن ويأسهن أي بلوغهن سن اليأس ، وهو خمسون في غير القرشية والنبطية ،

٤٤٢

فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥)

____________________________________

وستون فيهما أم لعارض (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) فإذا أكملن الثلاثة خرجن من العدة ، أما اليائسة فلا عدة لها إذ يجوز لها الزواج بزوج جديد بمجرد الطلاق (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) بعد لصغر السن ، أو لمرض وغيره ، كذلك عدتهن ثلاثة أشهر (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) أي النساء الحاملات إذا طلقن (أَجَلُهُنَ) أي مدة انتظار عدتهن (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فإذا وضعن حملهن فقد انقضت العدة سواء طال الزمان بين الطلاق والولادة أم قصر (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فلا يخالف أوامره (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي يسهل أموره حتى لا يقع في المشاكل ، وحيث إن هذه الأحكام توجب كبت الغرائز بالنسبة إلى الرجل الذي يريد نكاحهن ، وبالنسبة إليهن لفّها السياق بلفائف من التقوى تذكيرا وعظة ، لئلا يزلق قدم المرأة أو الرجل المريد للنكاح في مهاوي المخالفة.

[٦] (ذلِكَ) الذي ذكر من أحكام الطلاق (أَمْرُ اللهِ) وحكمه (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) لمصالحكم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي يخافه فلا يخالفه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي يغفر له ذنوبه ، فإن التكفير هو التغطية والستر (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي يعطيه الأجر العظيم والثواب الجسيم في الآخرة.

[٧] ثم بيّن سبحانه حال المطلقة في النفقة والسكنى ، مدة العدة فقال

٤٤٣

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦)

____________________________________

(أَسْكِنُوهُنَ) أي النساء المطلقات في بيوتكم (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) أي مكانا من سكناكم ومحلكم (مِنْ وُجْدِكُمْ) أي من ما تقدرون عليه ، من وجد بمعنى قدر وتمكن ، أي من سعتكم (وَلا تُضآرُّوهُنَ) أي لا تسببوا ضررا عليهن في السكنى (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) أي طالبين بالإصرار التضييق عليهن لإزعاجهن حتى يضطرون إلى الزوج.

(وَإِنْ كُنَ) تلك المطلقات (أُولاتِ حَمْلٍ) أي حاملات (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) بالكسوة والأكل والشرب وما أشبه (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فإن انقضاء عدتهن بالوضع (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم بعد الوضع (فَآتُوهُنَ) أي أعطوهن (أُجُورَهُنَ) أي أجرة الإرضاع إذ الواجب على الوالد نفقة ولده (وَأْتَمِرُوا) أيها الأبوان والمتعلقون بهما (بَيْنَكُمْ) بعضكم مع بعض في أمر إرضاع الولد بما هو الأصلح بحال الجميع لئلا يتضرر أحد من الأطراف الثلاثة الأب والأم والولد ، والائتمار قبول الأمر وملاقاته بالتقبل (بِمَعْرُوفٍ) مقابل المنكر ، فلا يكون التشاور بقصد الإضرار وإثارة الأحقاد والكوامن ، بل بقصد الإحسان والعدالة (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) أيها المتشاورون في أمر إرضاع الولد ، بأن اختلفتم في أمر الأم المرضعة ومقدار الأجرة وما أشبه ذلك (فَسَتُرْضِعُ لَهُ) أي للولد امرأة (أُخْرى) غير الأم ، والمعنى

٤٤٤

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)

____________________________________

فلتسترضع الولد امرأة غير الأم ، ولعل فيه إشارة إلى معاتبة الأم بأنها لا ينبغي لها المعاسرة.

[٨] ثم بين سبحانه أن المندوب على الوالد أن يوسع على المطلقة المرضعة ، إن كان له سعة (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ) ، في المال (مِنْ سَعَتِهِ) بأن يوسع على المرضعة في الأجرة ، ألم تكن زوجته ، وأم ولده ، ومرضعته؟ (وَمَنْ قُدِرَ) أي ضيق (عَلَيْهِ رِزْقُهُ) بأن لم يكن للأب سعة (فَلْيُنْفِقْ) على المرضعة (مِمَّا آتاهُ اللهُ) بقدر التمكن الذي أعطاه الله سبحانه ذلك فلا يطلب من مثل هذا الشخص الزيادة على أجرة المثل (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) أي أحدا (إِلَّا ما آتاها) أي بقدر ما أعطاه من الطاقة المالية ، كما لا يكلف إلا بقدر الطاقة الجسدية وسائر الطاقات ، ولا يغتم المملق بأنه ليس له ، كما يكون الأب المملق كثيرا ما يتحسر على أنه لا يجد الزائد حتى يبذل لمربية ولده ومرضعته ، فإنه (سَيَجْعَلُ اللهُ) في مستقبل الإملاق (بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) بعد فقر غنى ـ وبعد ذلة عزة ـ وبعد انحطاط ورفعة وهكذا في سائر الأمور.

فإن الدهر مختلفا يدور

فلا حزن يدوم ولا سرور

وقد بنت الملوك به قصورا

فما بقي الملوك ولا القصور

٤٤٥

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ

____________________________________

[٩] وإذ بين الأحكام ، جاء السياق ليبين ، أن العاتي العاصي لهذه الأحكام وغيرها ، مصيره مصير الأقوام السابقين ، الذين أهلكوا بسبب طغيانهم وعتوهم (وَكَأَيِّنْ) بمعنى ـ كم ـ الخبرية المفيدة للتكثير (مِنْ قَرْيَةٍ) من للتبيين والمراد البلدة (عَتَتْ) أي طغت (عَنْ أَمْرِ رَبِّها) فلم تطع أوامر الله سبحانه ، والمراد أهل القرية ، بعلاقة الحال والمحل (وَرُسُلِهِ) أي عن أمر رسله ، بأن لم يطيعوا رسل الله سبحانه (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) مقابل السماح في الحساب ، فإن الإنسان المؤمن العامل بالصالحات يعفى عن جرائمه ويحاسب حسابا يسيرا ، جزاء على إيمانه وعمله ، أما العاتي الطاغي ، فإنه يحاسب على كل عمل عمله (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي عذابا منكرا أليما ، والمراد بالمحاسبة في الملأ الأعلى حولهم لا محاسبتهم بالذات إذ الحساب إنما هو بعد الموت ، والسياق يفيد كون حساب أولئك قبل عذابهم في الدنيا.

[١٠] (فَذاقَتْ) تلك القرية (وَبالَ أَمْرِها) أي عاقبة صنيعها الشر (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي خسرت الدنيا وخسرت الآخرة.

[١١] ذلك في الدنيا وقد (أَعَدَّ اللهُ) أي بقي (لَهُمْ) أي لأهل القرية ، (عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة (فَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول ، فإن ألباب جمع لب ، وهو العقل اتقوه

٤٤٦

الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ

____________________________________

سبحانه حتى لا ينزل بكم مثل ما نزل بأولئك الأمم (الَّذِينَ آمَنُوا) وصف لأولي الألباب ، وإنما وصفهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بالتحذير (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي مذكرا يذكركم بأس الله وعذابه ، والانحراف بعد التذكير أقبح.

[١٢] ثم بين سبحانه الذكر المنزل بقوله (رَسُولاً) أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونه منزلا ، باعتبار أنه مبعوث من طرف الله سبحانه تشبيها للنزول المعنوي الحسي (يَتْلُوا) أي يقرأ هذا الرسول (عَلَيْكُمْ) أيها الناس (آياتِ اللهِ) أدلته وحججه التكوينية ، في حال كونها (مُبَيِّناتٍ) أي في حال الآيات تبين وتوضح الأمر وإنما يتلو (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وما جاء به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ) أي ظلمات الكفر والعصيان (إِلَى النُّورِ) أي نور الإيمان والعمل الصالح ، وإنما شبه الإيمان بالنور ، لأنه ينير الإنسان ليدرك الحقيقة ـ في العقيدة والعمل ـ فمن زعم أنه لا إله أو للإله شريك فهو في ظلمة عن الحقيقة كالإنسان الذي في ظلمة الليل لا يدرك ما أمامه من الأشياء ، وكذلك بالنسبة إلى من يشرب الخمر ، يزعم أنها لا تضر ، فإنه في ظلمة من الحقيقة ، وقس على ذلك سائر الاعتقادات والأعمال.

وقوله «الذين آمنوا» يراد بهم ذواتهم قبل الإيمان ، وإنما جيء الوصف للإشارة بهم لا أن المراد إخراجهم بعد الإيمان والعمل

٤٤٧

وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ

____________________________________

الصالح ، لأنهم مخرجون بعد ذلك حين الاتصاف ـ كما لا يخفى ـ (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) إيمانا صحيحا (وَيَعْمَلْ) عملا (صالِحاً) الملازم لعدم العمل الفاسد (يُدْخِلْهُ) الله في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ) من خمر وعسل ولبن وماء في حال كونهم (خالِدِينَ) أي دائمين (فِيها) في تلك الجنات (أَبَداً) بلا نهاية و (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ) أي لهذا الإنسان المؤمن العامل بالصالحات (رِزْقاً) إذ يعطى من ثمار الجنة ومياهها وأزواجها وسائر لوازم العيش الراقية.

[١٣] ثم بين سبحانه وصفه ـ ليخاف العاصي ـ ويطمئن المؤمن لوعده بقوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) لعل المراد بها مدارات الكواكب السيارة ، أو ما أشبه (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) سبعا ، وقد قال الإمام الرضا عليه‌السلام أرض تحيط بها سماؤها ، ثم أرض تحيط بها سماؤها ، إلى أن عدّ سبعة ، وتفصيل الكلام في كتاب ـ الهيئة والإسلام ـ (١).

وضمير «هن» تأتي للعاقل وغير العاقل كما سبق (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي أن أمر الله سبحانه يتنزل من كل سماء إلى أرضها ، وهكذا حتى يصل الأرض الأخيرة ، وإنما خلق سبحانه ما خلق ، مما يشاهده

__________________

(١) للعلامة الشهرستاني.

٤٤٨

لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)

____________________________________

الإنسان (لِتَعْلَمُوا) أيها البشر (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر على العقاب والثواب ، كما قدر على خلق الأفلاك والأرضين (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) فإن الخلق يدل على العلم ، إذ لو لا العلم لم يمكن الخلق ، كما أن سير الكون المشار إليه بقوله (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) دالّ على العلم ، إذ التسيير محتاج إلى العلم الدقيق.

٤٤٩

(٦٦)

سورة التحريم

مدنية / آياتها (١٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه المادة وهي قوله «لم تحرم» وهذه السورة كسائر السور المدنية ، مشتملة على النظام إلى جنب العقيدة وحيث ذكرت في سورة الطلاق أحكام النساء ، جاءت هذه السورة لبيان بعض الأمور التي ترتبط بهن.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله الذي هو خير معين لمن استعان به ، وهل أحق بالاستعانة منه ، إنه المالك لكل شيء الرحمن الرحيم الذي يتفضل باللطف والإحسان ، القادر لكل ما أراد.

٤٥٠

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ

____________________________________

[٢] (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) أي لماذا تحلف لتحرم على نفسك بعض ما أحل الله لك ، وقد كان التحريم للحلال بالحلف جائزا ، لكن الله سبحانه بين للرسول أن حلفه حول هذا الموضوع محلولة ـ بهذا التعبير ـ تأنيبا لعائشة وحفصة اللتين آذتا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى حلف ما حلف.

فقد روى البخاري ـ صاحب الصحيح عند العامة ـ عن عائشة قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها ، فتوطأت أنا وحفصة على زينب إذ دخل عليها فلنقل له أكلت مغافير وهو صمغ حلو الطعم كريه الرائحة ، إني أجد منك ريح مغافير ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ولكن كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له ، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا (١) (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) أي تطلب بالتحريم رضى زوجاتك ، وقد سبق في بعض الآيات أن الأغراض قد تأتي لا للمخاطب بل تقريع الغير (وَاللهُ غَفُورٌ) يستر على عباده ، فإن تحلة اليمين ، تحتاج إلى التحلة حتى لا يقال كيف خالف الرسول حلفه ، وحنث (رَحِيمٌ) يتفضل بالرحم ، علاوة على الغفران.

[٣] (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ) الظاهر كون الخطاب للرسول ، وإنما أتى بصيغة الجمع احتراما ، وقد تقدم سابقا ، أن الجمع والمفرد يتناوبان في حمل

__________________

(١) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف : ج ١ ص ٢٩٤.

٤٥١

تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ

____________________________________

أحدهما على الآخر ، لنكتة بلاغية ، أي أوجب عليكم (تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) بأن تحلوها فلا تتبعون مفادها ، والمراد أن يشرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العسل فهو له حلال ، وإن الله قد أحل حلفه التي حلفها أنه لا يشرب العسل طلبا لرضى بعض نسائه (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) فإذا حل اليمين فقد انحلت كما أن للمولى الحق في أن يحل يمين العبد (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بمصالحكم (الْحَكِيمُ) فيما يأمر وينهي ، فإذا عرف الصلاح في شيء كان كما أمر فشرب العسل حلالا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه الحكمة والصلاح.

[٤] ثم يأتي السياق ليشير إلى طرف من القصة بقوله سبحانه : (وَ) اذكر يا رسول الله ، ولعل ذلك لإفادة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف كان يؤذى من قبل أزواجه كما كان يؤذى من قبل أناس آخرين تفضيحا لهن في إيذائهن للرسول ، (إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) أي حدثها سرا لتحريم العسل على نفسه ـ والمراد ببعض الأزواج ـ عائشة ـ أو حفصة ـ ولعل إسرار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لأجل أن لا يقول الناس إنه يحرم شيئا على نفسه لمجرد رضى زوجته (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي أخبرت تلك الزوجة امرأة أخرى بذلك الحديث السري ، فقد ورد عن طريق العامة إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عائشة بحلفه وأمرها بالإسرار لكنها خالفت وأخبرت حفصة (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي أطلع الله نبيه على ما جرى منها في إفشاء سره (عَرَّفَ) الرسول «عائشة» (بَعْضَهُ) أي بعض ما

٤٥٢

وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ

____________________________________

ذكرت «لحفصة» أراد بذلك بيان أنها خالفته في إفشاء سره (وَأَعْرَضَ) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَنْ بَعْضٍ) فإن من محامد الأخلاق أن لا يذكر الإنسان جميع جريمة المجرم وإنما يلمح إليها تلميحا تأديبا فإن التغافل من خلق الكرام.

(فَلَمَّا نَبَّأَها) أي أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة (بِهِ) أي بما أعلمه الله سبحانه له من إفشائها سره عند «حفصة» (قالَتْ) «عائشة» متعجبة من علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإفشائها سره (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي من أخبرك بأني أفشيت سرك يا رسول الله (قالَ) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوابها (نَبَّأَنِيَ) أي أخبرني (الْعَلِيمُ) بجميع الأمور (الْخَبِيرُ) بدقائقها ، فإن الخبير غالبا ما يطلق على العالم النحرير المطلع على دقائق الأمور.

[٥] ثم توجه الخطاب إلى «عائشة» و «حفصة» اللتين دبرتا هذه المؤامرة مهددا لهما بقوله (إِنْ تَتُوبا) أيتها المرأتان (إِلَى اللهِ) بأن تستغفرا مما سلف منكما من إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتظاهر ضده والافتراء عليه (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي مالت إلى الإثم والباطل ، من «صغى» بمعنى مال وقد جرت القاعدة على أن التثنية إذا أضيفت إلى التثنية جاز في المضاف الجمع ـ نحو قلوبكما ـ وهو الأفضل والإفراد ، وهو الأوسط ، والتثنية وهو الأدون.

(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي تتظاهرا ، حذفت إحدى تائيه للقاعدة في

٤٥٣

فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ

____________________________________

باب المضارع إذا اجتمع في أوله تاءان ، والتظاهر هو أن يقوّي بعض ظهر بعض بالتوحيد بينهم لمطالبة أمر ، أو لمضادة أمر (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي ناصر الرسول يتولى حفظه وحياطته حتى لا يؤثر فيه المكر والمكيدة (وَجِبْرِيلُ) معين للرسول ، بإخباره عن قبل الله بما يراد ضده (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أي خيار المؤمنين ، والمراد ب «صالح» الجنس ، يعني أنهم ينصرون الرسول ضد المؤامرات والمظاهرات (وَ) سائر (الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد ما تقدم من نصرة الله وجبرئيل والمؤمنين (ظَهِيرٌ) للرسول يقوون ظهره ، والإتيان بالمفرد ، وصفا للجمع باعتبار كل واحد واحد ، نحو (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) (١) و (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٢) وقد تقدم أن كلّا من المفرد والجمع يقوم مقام الآخر ، باعتبار بلاغي. وقد حذف جواب الشرطين ، والتقدير «أن تتوبا إلى الله كانت التوبة في موقعها إذ قد صغت» «وإن تظاهرا عليه ، لا يضره التظاهر ، إذ الله مولاه».

[٦] ثم جاء السياق ليقلل من أهميتهما ، فإن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطلقهما ، حتى تبوءا بعار المؤامرة والطلاق ولا يبقى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا زوجة فإن الله يزوجه بمن هي خير منهما (عَسى رَبُّهُ) أي لعل الله سبحانه ولعل ليس للرجاء ، بل بمعنى الاحتمال الراجح (إِنْ طَلَّقَكُنَ) المراد إما

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) النساء : ٧٠.

٤٥٤

أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥)

____________________________________

الاثنتان ، أو الكل ، أو من اشتركت في المؤامرة فإن الحديث تفشى في غيرهما أيضا (أَنْ يُبْدِلَهُ) أي يعوض للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) في الإيمان ، وفي مراعاة حقوق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم وصف تلك أزواجا بما فيه تعريض بهن (مُسْلِماتٍ) كاملات الإسلام (مُؤْمِناتٍ) مصدقات بالله والرسول ، والإسلام هو الاستسلام ، فالإيمان أخص منه ، كما قال (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١). (قانِتاتٍ) مطيعات لله ، خاضعات للرسول (تائِباتٍ) عن المعاصي التي تصدر منهن أحيانا ، فلا إصرار لهن على الذنب (عابِداتٍ) يعبدن الله سبحانه فوق القدر اللازم المفروض من العبادة (سائِحاتٍ) أي صائمات ـ كما ورد : سياحة أمتي الصوم (٢) ـ أو ماضيات في أمر الله والرسول كالسائح الذي يضرب في الأرض (ثَيِّباتٍ) قد رأين الزوج قبل الرسول (وَأَبْكاراً) أي عذارى لم يكن لهن أزواج ـ كما أنتن حين دخلتن بيت الرسول كنتن على قسمين ـ.

[٧] ثم توجه السياق إلى الناس موجبا لهم تأديب نسائهم ، قالوا وقد تدرجت الفريضة في البلاغ من النفس إلى العموم حسب الإمكان في خمس آيات وهي النفس أولا بقوله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٣) والأهل ثانيا بقوله : (آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) (٤)

__________________

(١) الحجرات : ١٥.

(٢) مستدرك الوسائل : ج ١٦ ص ٥٤.

(٣) المائدة : ١٠٦.

(٤) التحريم : ٧.

٤٥٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦)

____________________________________

والعشيرة ثالثا بقوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) وأهل البلدة رابعا بقوله (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ) (٢) وأهل العالم أجمع خامسا بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (٣) والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة ، وبقوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) (٤).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا) أمر للجمع المذكر ، من «وقى» بمعنى حفظ ، أي احفظوا (أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) وهو عائلة الإنسان من أولاده وزوجته وأخوته ومن شابههم (ناراً) عن نار جهنم التي هي بهذه الصفة (وَقُودُهَا) أي حطبها الموجب لإيقادها وإشعالها (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وهما يزيدان في قوة النار لدسومة الأول وصلابة الثاني (عَلَيْها) أي المأمورون على تلك النار (مَلائِكَةٌ) جمع ملك وأصله من الألوكة ، بمعنى الرسالة لأن الملائكة رسل من قبله سبحانه إلى الأنبياء (غِلاظٌ) جمع غليظ وكأن المراد غليظ القلب فلا يرحم أحدا (شِدادٌ) جمع شديد ، وكأن المراد شديد البنية والقوة ، فما أراد تمكن منه (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) من عذاب أهل النار ، فلا يرتشون ولا يميلون نحو الكفار مخالفة لله سبحانه (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) من قبل الله سبحانه ، وهذا تأكيد لما سبق بأنهم لا يعصون.

__________________

(١) الشعراء : ٢١٥.

(٢) التوبة : ١٢٢.

(٣) سبأ : ٢٩.

(٤) آل عمران : ١٠٥.

٤٥٦

يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

____________________________________

[٨] وإذ دخل الكفار النار ، أخذوا يعتذرون على سالف أعمالهم فيقال لهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا) في الدنيا (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) وأنتم في النار (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهذه النار جزاء أعمالكم السالفة ، ولا يفيد الاعتذار.

[٩] وإذ قد سمعتم أيها المؤمنون بكيفية النار ، فاللازم أن تتوبوا ـ وأنتم في الدنيا ـ عن معاصيكم لئلا تدخلوها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ) من معاصيه وارجعوا إلى طاعته ، وتخصيص الخطاب بهم لأنهم المنتفعون به.

(تَوْبَةً نَصُوحاً) أي خالصة لوجه الله سبحانه ، بمعنى بالغة في النصح وهو صفة التائب لأنه ينصح نفسه بالتوبة وإسناده إلى التوبة مجاز ، فإن الإنسان نصوح في التوبة ، والتوبة النصوح هي عبارة عن أن يندم الإنسان أشد الندم على المعصية ويعزم أقوى العزم على ترك مثلها في المستقبل ، ويأتي بلوازم التوبة من القضاء والكفارة ورد الحقوق وما أشبه (عَسى رَبُّكُمْ) أي لعل الله سبحانه إذا تبتم (أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ) أي يستر ويمحي (سَيِّئاتِكُمْ) أي معاصيكم ، وسمى العصيان سيئة لأنها تسيء إلى الإنسان (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ) من عسل وخمر ولبن وماء ،

٤٥٧

يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ

____________________________________

ويكون إدخال التائب الجنة في (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي لا يذلهم بدخول النار ، وكان الإتيان بهذه الجملة للترغيب في إدخال الإنسان نفسه في هذه الزمرة المفضلة.

(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) فإن وجوههم وأيديهم اليمنى ـ التي تحمل الكتاب ـ تشع نورا يخرق ظلمات المحشر ، فإذا تحرك المؤمن كان النور يسبقه من أمامه ومن طرفه الأيمن (يَقُولُونَ) مخاطبين لله سبحانه (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) بأن يضاعف ويكثر ، أو يستمر حتى آخر القيامة فلا يطفأ ، أو هو دعاء منهم في الدنيا ، بأن يوفقهم لما يكثر نورهم ، ويبقيه فلا يزول عنهم بالكفر والعصيان (وَاغْفِرْ لَنا) معاصينا (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من إتمام نورنا وغفران ذنوبنا ، وسائر ما تريده وهذا مدح له سبحانه في ضمن الدعاء ، فإنّ الدعاء المتضمن على الثناء أقرب إلى القبول.

[١٠] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالقتال والمحاربة (وَالْمُنافِقِينَ) بالزجر والردع (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي اشدد عليهم في الجهاد والزجر ، فإن اللين إنما هو للمستقيم المعتدل ، أما المنحرف فاللازم معه الشدة حتى يستقيم (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي مصيرهم ، من «آوى» بمعنى اتخذ المنزل

٤٥٨

وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(١٠)

____________________________________

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المأوى جهنم لهم ، لما فيها من العذاب والنكال.

[١١] ثم جاء السياق ليضرب مثلا لأزواج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبينا أن صلاح الزوج لا ينفع الزوجة إذا كانت منحرفة ، كما أن فساد الزوج لا يضر الزوجة إذا كانت مستقيمة ، منقادة ، على طاعة الرسول وعدم الهوى في مهوى العصيان والمخالفة (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مبينا لهم أن صلاح أصحابهم وذويهم لا ينفعهم (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) فقد (كانَتا تَحْتَ) إدارة وعيلولة (عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا) هما نوح ولوط (صالِحَيْنِ) فهما رسولان من قبل الله سبحانه وأي صلاح أشد من ذلك (فَخانَتاهُما) خيانة في الدين ، إذ كانتا تنافقان وتؤذيان زوجيهما.

(فَلَمْ يُغْنِيا) أي لم ينفع نوح ولوط (عَنْهُما) أي عن الزوجتين (مِنْ) عذاب (اللهِ شَيْئاً) بأن يخفف عنهما ، ولو بعض العذاب (وَقِيلَ) للزوجتين حين ماتتا (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) فيها ، فهما معذبتان مع كونهما زوجتا نبيين ، وفي هذا تعريض بعائشة وحفصة اللتين آذتا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٥٩

وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا

____________________________________

[١٢] (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) بيانا لأن الإيمان ينفع صاحبه وإن كان امرأة تحت أكفر الناس (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) آسية بنت مزاحم التي آمنت بموسى وكان زوجها يدعي الربوبية ، ويقول أنا ربكم الأعلى (إِذْ قالَتْ) في مناجاتها لله تعالى يا (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) فإني لا أرغب في بيوت الدنيا ولا أعمل لها (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) فإنه كان يعمل بالكفر والعصيان (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أتباع فرعون وحاشيته ، فاستجاب الله دعاءها ، فقبضها وأدخلها الجنة ، ولم يكن يضرها عمل زوجها.

[١٣] كما مثل سبحانه للمؤمنين بامرأة أخرى لم يضرها قول الناس فيها ، بعد أن كانت طاهرة ونقية دلالة على أن عمل الغير وقوله السيء لا يؤثر في المؤمن شيئا بعد أن كان هو بنفسه مؤمنا صالحا (وَ) ضرب الله مثلا للذين آمنوا (مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي حفظته من البغاء ، وفيه تكذيب أعداء الله اليهود إذ قالوا فيها ما هم أحق به وأحرى.

(فَنَفَخْنا فِيهِ) أي في فرجها (مِنْ رُوحِنا) أي الروح المضاف إلينا ـ تشريفا ـ وذلك كإضافة البيت إليه سبحانه ، في قولنا «بيت الله» والمراد به المسيح عليه‌السلام وكون النفخ فيه باعتبار خروج الولد منه ، أو

٤٦٠