تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)

____________________________________

ناصر ينصر من أراد الله عذابه.

[٤٨] (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) من هؤلاء الكفار ، جيء بهذا اللفظ ، للدلالة على اقتران الكفر بالظلم غالبا ، بل الكفر من أعظم الظلم بنفس الكافر (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) قبل عذاب الآخرة ، وهو ما يشاهدونه في الدنيا من ثمرات أعمالهم ، فإن الظلم لا يثمر إلا العذاب (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، والحاصل أن كفرهم يعود عليهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

[٤٩] (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) الحكم الذي أعطاك ، فإن الرسول كان حاكما من قبل الله (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي تحت حفظنا ورعايتنا ، والإتيان بجمع العين ، لبيان أنهم إن كانوا جماعة ضدك ، فإن أعينا أيضا تراقبك لحفظك ولئلا يمسوك بسوء (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) نزهه مع إثبات صفات الكمال له ـ كما تقدم مثله ـ (حِينَ تَقُومُ) في أول النهار واشكره على أن مضى ليلك بسلام.

[٥٠] (وَ) سبحه (مِنَ اللَّيْلِ) بعض الليل حين يدخل الليل على أن مضى نهارك بسلام (وَ) سبحه (إِدْبارَ النُّجُومِ) إذا أدبرت النجوم ، بعد منتصف الليل حين تأخذ النجوم في النزول من نصف السماء ، فإن الإنسان يستيقظ عند ذاك ، غالبا ويفكر في عظمة الله ، ويلقي سكون الليل في نفسه رهبة وخشوعا أمام خالق الكون وجاعل الظلمات والنور.

٢٦١

(٥٣)

سورة النجم

مكية ـ مدنية / آياتها (٦٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «النجم» وهي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة ، كما أن بعض آياتها التي نزلت بالمدينة تعالج قضايا العمل ـ على ما يظهر من نفس السورة من أنها مكية مدنية ، وعلى ما قاله جمع من المفسرين ـ ولما اختتمت سورة الطور بما يفيد تكذيب الكفار لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ابتدأت هذه السورة بتفنيد مزاعمهم في كذبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق وليس بكاذب ولا ضال.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نشرع باسم الله ، فإن الذات الشريفة تؤثر في شرافة إمداداتها ، كما أن الذات غير الشريفة تؤثر في عدم شرافة إمداداتها ، لذا يحب الإنسان حتى أسم محبوبه ويكره حتى أسم مكروهه ، الله المستجمع لجميع صفات الكمال ، الرحمن بعباده بدءا ، والرحيم بهم استمرارا.

٢٦٢

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥)

____________________________________

[٢] (وَالنَّجْمِ) قسما بالنجم ، والمنصرف جنس النجم (إِذا هَوى) نحو المغيب ، من وسط السماء ، أو من الأفق.

[٣] (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) ما عدل هو عن الطريق المستقيم ، ولعل وجه القسم بالنجم ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجم معنوي في كل أحواله ، كما أن النجم نجم حتى في حال هويه ، (وَما غَوى) الناس في دعوته إلى الله ، بل هو مهتد في نفسه ودعوته للناس دعوة إلى الرشد.

[٤] (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) عن هوى النفس وميوله الشخصية كما كان الكافرون يقولون «تقوّله».

[٥] (إِنْ) ما (هُوَ) الذي نطق به من القرآن وسائر إخباره عن الله تعالى (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) إليه من جانب الله وهل الوحي وقتي ، أو مستمر وإنما جهاز الاستقبال وقتي مثله مثل نور الشمس المستمرة منذ أن خلقت ، وإنما إذا وجدت زجاجة مقعرة أخذته وأحرقت به ما ينعكس إليه النور منها ، فحالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخاصة تأخذ الوحي المناسب في الوقت المناسب ، احتمالان : وإن كان ظاهر الأدلة الأول.

[٦] (عَلَّمَهُ) أي علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوحي (شَدِيدُ الْقُوى) جبرئيل ، فإن للملك قوى كما للإنسان قوى ، وقوى الملك شديدة ، مثلا علمه كثير ، ولا ينسى ، وقدرته كثيرة ولا تضعف إلى غير ذلك ، وظاهر الآية بسياق الآيات الآتية أن المراد به جبرئيل عليه‌السلام.

٢٦٣

ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠)

____________________________________

[٧] (ذُو مِرَّةٍ) ذو قوة ، وأصل المرة خلط في العروق ، كالصفراء والسوداء ، وسمي مرة لقوة البدن به ، ثم استعملت في أصل القوة ، فكأنه قال مرة «قواه شديدة» ومرة «قوى بمجموعة» أو المراد بذي مرة حصانة في عقله ورأيه فالأول : لقواه المادية. والثاني : لقوته العقلية ، فلما أراد أن ينزل الوحي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَاسْتَوى) استولى على الأرض لإتيان الوحي.

[٨] (وَهُوَ) جبرئيل عليه‌السلام (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) مكانه في أعالي السماوات.

[٩] (ثُمَّ دَنا) جبرئيل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَتَدَلَّى) في الهواء ، تدلي الدلو في البئر ، وأصل التدلي استرسال مع تعلق ، ولعل هذا التعبير باعتبار تعلق جبرئيل عليه‌السلام بالأعلى تعلقا.

[١٠] (فَكانَ) جبرئيل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قابَ قَوْسَيْنِ) فإن قوسين إذا التصقت إحداهما بالأخرى يكون عرضهما مقدار ذراعين لأن «قاب» كل قوس مقدار ذراع تقريبا ، و «القاب» عبارة عن الفاصل بين رأسي القوس الواحد ، والمراد من هذه الآية ـ حسب الظاهر ـ إن قرب جبرئيل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بقدر ذراعين (أَوْ أَدْنى) ولعله كان يقترب ويبتعد ، كما هي عادة كل متكلّمين.

[١١] (فَأَوْحى) الله في هذه الحالة (إِلى عَبْدِهِ) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما أَوْحى) ما أراد وحيه ، أو المراد ، ب «أوحى» جبرئيل ، مثل (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ

٢٦٤

ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥)

____________________________________

الْمَوْتِ) (١) أما الضمير في عبده راجع إلى الله سبحانه ، وفي تفسير الآية ذكر مصاديق وتأويلات لا تنافي ظاهرها الذي ذكرناه.

[١٢] (ما كَذَبَ الْفُؤادُ) فؤاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما رَأى) من جبرئيل وسمع من الوحي ، إذ قد يكذب الفؤاد الحواس ، كأن يرى الإنسان الشمس والقمر صغيرين ، أو ماء البحر أسود ، لكن القلب يقول ليس كما رأيت ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى جبرئيل بعينه وعرف صدق رؤيته بقلبه.

[١٣] (أَفَتُمارُونَهُ) أي أيها الكفار هل تجادلون محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَلى ما يَرى) ما رآه فتقولون له : قد اشتبهت ولم يكن جبرئيل؟ ولعل الإتيان ب «يرى» بصيغة المستقبل ، لاستمرار علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وقت الكلام ، بأن ما رآه كان صدقا ، لا خيالا.

[١٤] وهل يمكن أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اشتبه (وَ) الحال أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَقَدْ رَآهُ) رأى جبرئيل (نَزْلَةً أُخْرى) حين نزل بالوحي إليه مرة ثانية ، والاشتباه لا يمكن مرتين.

[١٥] وكانت رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الثانية لجبرئيل عليه‌السلام (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) «المنتهى» مضاف إليه ، لعل المراد انتهاء عالم الدنيا إلى هناك بقرينة.

[١٦] (عِنْدَها) أي عند تلك السدرة (جَنَّةُ الْمَأْوى) التي يأوي إليها

__________________

(١) السجدة : ١٢.

٢٦٥

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩)

____________________________________

المؤمنون الصالحون.

[١٧] (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ) غشيه بمعنى أحاط به واستولى عليه (ما يَغْشى) مما لا يعلمه إلا الله تعالى ولعلها باعتبار كونها الحدّ الفاصل بين عالم الدنيا وعالم الآخرة ، يكون مهبط الأملاك من الجنة إلى السماوات والأرض ، ومصعد أرواح المؤمنين والملائكة الصاعدة من الأرضين والسماوات إلى طرف الجنة.

[١٨] ولا يقول الكفار لعلّه اشتبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه المرة أيضا ، لأنه (ما زاغَ) لم يمل (الْبَصَرُ) بصر رسول الله ، بأن رأى غير جبرئيل فزعم (وَما طَغى) بأن لم يكن شيء فيزعمه شيئا كما في من يرى السراب فيزعمه شيئا وهو ليس بشيء ، ثم لا يخفى أن رؤية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبرئيل مرتين ، إنما يراد به أنه رآه بصورته الواقعية ، كما ورد بذلك النص والتفاسير (١) ، وإما بغير صورته الواقعية ، كصورة «دحية» فقد رآه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرات عديدة.

[١٩] و (لَقَدْ رَأى) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند سدرة المنتهى (مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي الآيات العظام التي كانت حول شجرة السدرة.

[٢٠] هل الله وما شاهده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آيات الله ، يقاس بما أنتم عاكفون عليها من الأصنام؟ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) وهما صنمان كان

__________________

(١) الاحتجاج : ج ١ ص ٢٤٣.

٢٦٦

وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ

____________________________________

يعبدهما قريش.

[٢١] (وَمَناةَ) الصنم (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ولعلها أخرى في المرتبة عندهم؟

أقول : وحذف الجواب لزيادة الاستهجان ، فهو كما يقال «لزيد مليون دينار» ثم يقال أرأيتم كم لعمرو من الدنانير؟ «فيما كان له ثلاثة دنانير مثلا» فإن قوله : أرأيت ، يراد به الاستهجان ، وبيان عدم المقايسة بين الأمرين.

[٢٢] ثم استهجن القرآن كلاما أخرا للمشركين ، وهو قولهم أن الملائكة بنات الله فقال (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ) سبحانه (الْأُنْثى) فقد كانوا يزعمون بأنهم مخصصون بالأولاد الذكور ، ولا ولد ذكر الله تعالى ، ويحتمل أن يراد أنكم تكرهون الإناث ، فكيف جعلتم الأصنام الثلاثة «وكانوا يزعمون أنهم إناث» شركاء الله تعالى.

[٢٣] (تِلْكَ) القسمة بينكم ف «لكم الذكر» وبين الله «وله الأنثى» (إِذاً) إذا كان كما زعمتم (قِسْمَةٌ ضِيزى) جائرة ، من ضاز يضيز ، إذا جار.

[٢٤] (إِنْ هِيَ) ما تلك الأصنام الثلاثة (إِلَّا أَسْماءٌ) أي تسميتها بالألوهية اسم مجرد لا حقيقة تحت هذا الاسم ف «هي» محل ، أطلق ، وأريد به «الحال» لأن «الاسم» حال ، و «الصنم» محل (سَمَّيْتُمُوها) مجرد تسمية (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) من قبل ، وإلا فهل الأصنام آلهة؟ (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) من حجة وبرهان ، وإنما هوى أنفسهم مع تلك

٢٦٧

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً

____________________________________

الأصنام ثم ظنوا أنها آلهة ، فلا دليل من العقل ولا من الشرع عليها (إِنْ) ما (يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) بأنها آلهة (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) ما تشتهيه أنفسهم (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) الرسول والكتاب المطابقان للعقل والفطرة فتركوهما واتبعوا أهواءهم الباطلة في القول بأن الأصنام آلهة.

[٢٥] (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) استفهام إنكاري أي ليس للإنسان ما يتمناه ، فهؤلاء يتمنون صحة عقيدتهم ويتمنون أن تشفع الأصنام لهم ، لكن هذا التمني لا يتحقق.

[٢٦] (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) بيده كل شيء فهو الإله وهو الشفيع (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (١).

[٢٧] إنهم يرجون الشفاعة من الأصنام بينما الملائكة لا تقدر على الشفاعة إلا بعد إذن الله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) فهو مع كونه ملكا ، ومع كونه في السماوات قريبا من رحمة الله (لا تُغْنِي) لا تفيد (شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) أي أنهم على تقدير أن يشفعوا لا تفيد شفاعتهم و «كم» لا مفهوم له ، حتى يكون هناك «ملك» تغني شفاعته ، ولعل الإتيان به لإفادة أنه إذا كان كثير من الملائكة كذلك ، فكيف بالأصنام؟ ولا حاجة في إسقاط الأصنام

__________________

(١) الزمر : ٤٥.

٢٦٨

إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩)

____________________________________

عن الشفاعة القول بأن «كل الملائكة كذلك» (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) في الشفاعة (لِمَنْ يَشاءُ) من الملائكة أن يشفع ومن الناس أن يشفع له (وَيَرْضى) ويراه أهلا لذلك : شافعا ومشفوعا ، والرضا وإن كان قبل الإذن إلا أن ملاحظة رؤوس الآي أورث تأخيره ،

[٢٨] (إِنَ) الكفار (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وذلك يلازم عدم إيمانهم بما جاء عن الله (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) فإنهم حيث قالوا الملائكة بنات الله سموا كل ملك بنتا.

[٢٩] (وَ) الحال (ما لَهُمْ بِهِ) بما يقولون (مِنْ عِلْمٍ) أي لا علم لهم بأن الملائكة أنثى (إِنْ) ما (يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) فإنهم يظنون أن الملائكة بنات (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي) لا يفيد (مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) إذ لا برهان للظن ، وما لا برهان له ليس مطابقا للواقع ، فإن كل مطابق للواقع له برهان.

[٣٠] (فَأَعْرِضْ) يا رسول الله (عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) إذ لا يفيد معه التذكير! لأنه معاند (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) فكل سعيه وعمله للدنيا ،

٢٦٩

ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ

____________________________________

ولا يعتقد بالآخرة حتى يعمل لها ، فهو منكر للتوحيد ، ومنكر للمعاد.

[٣١] (ذلِكَ) انحصار فكرهم في الدنيا ، من دون نفوذ علمهم إلى المبدأ ولا إلى المعاد (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) قدر بلوغ علمهم فهو علم ضيّق محدود منحرف ، فلا تتعب نفسك يا رسول الله مع هؤلاء فإن الله يعلم حالهم وسوف يجازيهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي أنفذ علما فيعلم خصوصياتهم وكل دقائقهم (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) فيجازي كلا حسب عقيدته وعمله.

[٣٢] (وَلِلَّهِ ما) أي الذي (فِي السَّماواتِ وَما) أي الذي (فِي الْأَرْضِ) أي كل شيء فيهما ملكا وخلقا (لِيَجْزِيَ) الله (الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) والعمل يشمل عمل القلب أيضا لأن الاعتقاد عقد القلب على شيء خاص ، و «اللام» للعاقبة ، لا للعلّة ، مثله ، مثل (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) (١) (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) بالمثوبة الحسنى في الدنيا والآخرة.

[٣٣] ومن هم الذين أحسنوا؟ هم (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) الآثام الكبيرة والتي منها الكفر والشرك وعدم الإيمان بالرسول وبما جاء به الرسول وعدم الإيمان بالمعاد (وَالْفَواحِشَ) التي إثمها يتعدى إلى

__________________

(١) القصص : ٩.

٢٧٠

إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)

____________________________________

الآخرين ، من فحش إذا تعدى عمله الآثم إلى الآخرين (إِلَّا اللَّمَمَ) أي الذي يلمّ بالإنسان ويرد عليه مما لا علاج من وروده غالبا ، وهي الصغائر وهي الصغائر مثل كلمة نابية ، أو ضحكة غير جائزة أو نظرة محرمة أو ما شابه ذلك ، والاستثناء منقطع لدفع توهم أن كل عصيان كبيرة ، حيث إنها معصية لإله عظيم (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فيغفر للّمم قطعا ، بعد أن كان يغفر لكثير من الكبائر لمن يشاء (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) حتى من أنفسكم فمن عمل صالحا يعرفه ومن عمل فاسدا يعرفه (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) فإن علمه شامل لزمان تكوينكم من الأرض حيث إن الإنسان تراب ثم ينقلب ، نباتا ، ثم ينقلب حيوانا ثم النبات والحيوان ينقلب إلى طعام يأكله الأبوان فيصير دما ثم منيّا (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) جمع جنين (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) وهذه أول مرحلة إنسانية ، فيعلم بكم من ذلك الحين إلى اليوم (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) لا يغرنكم أعمالكم الصالحة ، كما يقع فيه بعض المؤمنين غير المتأدبين ، فيزكي نفسه إنه صام وصلى وأنفق وفعل الخير ، فإنه غرور يوجب سقوط النفس عن الرفعة عند الله وعند الناس (هُوَ) سبحانه (أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) فعلى المؤمن ، لا يكون مفرّطا بعمل الفواحش ، ولا مفرطا يزكي نفسه ، فإن التزكية للنفس قبيح ، ولله أقبح لأنه أعلم بالإنسان من حال كونه ترابا إلى حال تقيّا ، حتى من نفسه.

[٣٤] وإذا عرفنا أحوال المتقين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا

٢٧١

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)

____________________________________

اللمم فلنعرف أحوال غيرهم (أَفَرَأَيْتَ) في قبال ذلك المتقي (الَّذِي تَوَلَّى) عن الحق وأعرض عنه وإن آمن به.

[٣٥] (وَأَعْطى) مالا (قَلِيلاً) كما هو شأن كثير من الناس حيث يظهرون الإيمان لكنهم لا يلتزمون بموازينه ، وبالأخص لا يدفعون المال المفروض عليهم إطلاقا أو يعطون شيئا قليلا (وَأَكْدى) أي قطع العطاء وأمسك يده عن الإنفاق ، لغلبة حالة البخل عليه ، ومن طبيعة أمثال هؤلاء الناس ، أنهم يلقون تبعة ذنوبهم على غيرهم ، فإذا قلت له لماذا تعصي؟ قال ذنب المبلغين الذين لا يبلغون كاملا ، ثم أن الله يغفر لي ، وما أشبه من الكلمات المتعارفة عند البخلاء والعصاة ، وفي التفاسير أنّ الآيات نزلت في عثمان في قصة (١) ، ومن المعلوم أنه من باب المصداق.

[٣٧] (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ)؟ فيعلم أن إنفاقه قد كفاه في حصول منزلة له عند الله ، ويعلم أن غيره يتحمل إثم أعماله؟ (فَهُوَ يَرى) الغيب ويعلم به؟ [٣٧] (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) ألم يخبر (بِما فِي صُحُفِ مُوسى).

[٣٨] (وَ) بما في صحف (إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) كان وفيّا بكل ما تعهد من قبل الله سبحانه ، و «وفّى» بالتشديد مبالغة في الوفاء «وفيه تعريض أن هذا المؤمن الذي أعطى قليلا ... إلى آخره» لم يوفي بما شرط على

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٢٩٨.

٢٧٢

أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣)

____________________________________

نفسه من الإطاعة في كل الأوامر.

[٣٩] (أَلَّا تَزِرُ) لا تحمل (وازِرَةٌ) نفس حاملة (وِزْرَ) حمل نفس (أُخْرى) فكل إنسان ذنبه على نفسه ، لا كما زعم هذا البخيل من أن ذنبه على غيره.

[٤٠] (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)؟ فلم يزعم أن إعطائه القليل كاف عن الإعطاء الذي أمر به فكما لا يؤخذ أحد بذنب الغير كذلك لا يثاب أحد بأكثر مما عمل.

[٤١] (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) يراه بنفسه بدار الدنيا جزاء بالمدح أو بغير ذلك ، فإن الدنيا قبل الآخرة دار المكافآت «ولا يجتني الجاني من الشوك العنب».

[٤٢] (ثُمَّ يُجْزاهُ) أي يجزي العبد سعيه (الْجَزاءَ الْأَوْفى) الأوفر وذلك في الآخرة.

[٤٣] وليعلم الناس أن الله هو مبدأ الأشياء وكل الأشياء تنتهي إليه وكل الأمور بيده ، ولذا يجب عليهم شكره ، وطاعته ، كما يجب عليهم أن يخافوا من عقابه وعذابه (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) انتهاء كل شيء ، ومعنى «إلى» إلى جزائه وثوابه وعقابه.

[٤٤] (وَأَنَّهُ هُوَ) سبحانه (أَضْحَكَ وَأَبْكى) فقد خلق في الإنسان قوتهما

٢٧٣

وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩)

____________________________________

كما خلق وقدر ما يسبب البكاء والضحك ، والضحك والبكاء ليس خاصا بالإنسان بل كل شيء له ضحك وبكاء ، قال الشاعر :

إن فصل الربيع فصل جميل

تضحك الأرض من بكاء السماء

ذهب حيثما ذهبنا ودرّ

حيث درنا وفضة في الفضاء

[٤٥] (وَأَنَّهُ هُوَ) سبحانه (أَماتَ وَأَحْيا) حتى أنه إذا قتل الإنسان إنسانا فإن روحه بيد الله ، ولذا لا يموت الإنسان في جهنم.

[٤٦] (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) من كل شيء (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وعدم ذكر الخنثى إما لشذوذه ، أو لأنه في الحقيقة إما ذكر أو أنثى.

[٤٧] خلقهما (مِنْ نُطْفَةٍ) هي الماء القليل (إِذا تُمْنى) تدفق في الرحم.

[٤٨] (وَأَنَّ عَلَيْهِ) سبحانه (النَّشْأَةَ) الإنشاء بعد الموت (الْأُخْرى) فكما بدأ يقدر على الإعادة.

[٤٩] (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى) الأغنياء بخلق وسائل الغنى (وَأَقْنى) أعطى المال الذي يدّخر للقنية أي الإبقاء ، فالمال المتحرك الموجب للغنى ، والمال الثابت كلاهما من عنده تعالى.

[٥٠] (وَأَنَّهُ هُوَ) تعالى (رَبُّ الشِّعْرى) نجم في السماء يطلع آخر الليل ،

٢٧٤

وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥)

____________________________________

كان جماعة من العرب يعبدونه.

[٥١] (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً) أي قبيلة عاد (الْأُولى) قوم هود عليه‌السلام وهناك عاد ثانية عاد إرم ذات العماد.

[٥٢] (وَ) أهلك (ثَمُودَ) قوم صالح (فَما أَبْقى) أحدا من الفريقين ، حيث عصوا وعتوا وكان جزاؤهم العذاب.

[٥٣] (وَ) أهلك (قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) قبل عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ) أكثر ظلما (وَأَطْغى) أكثر طغيانا فقد ورد أنهم كانوا يضربون نوحا عليه‌السلام حتى يبقى ليس به حراك ، فهم ظالمون لأنفسهم طاغون على غيرهم وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما فلم ينفع فيهم.

[٥٤] (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) وهي قرى قوم لوط عليه‌السلام التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت (أَهْوى) بها وقلّبها بعد أن رفعها.

[٥٥] (فَغَشَّاها) أحاط بتلك القرى من العذاب (ما غَشَّى) الشيء الذي غشاها من أصناف العذاب الذي لا يوصف.

[٥٦] وبعد كل هذه العذابات التي تعلم بها ، مما أصاب العصاة (فَبِأَيِّ آلاءِ) نعم (رَبِّكَ) يا أيها الإنسان (تَتَمارى) تتشكك ، أليس وجود الأنبياء نعمة؟ أليس إنزال الكتب نعمة ، أليس إرشاد العقل إلى الصحيح والباطل نعمة؟ وهل شك في هذه النعم التي من أخذ بمقتضاها سعد ، ومن ترك مقتضاها شقي وعذب ، حتى إنك تشك

٢٧٥

هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)

____________________________________

وتعصي وتترك الأوامر.

[٥٧] (هذا) القرآن (نَذِيرٌ) ينذركم من عذاب الله لمن عصي (مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) من جنس الإنذارات السابقة التي بعثنا بها إلى الأمم السابقين ، ومن المحتمل أن يكون المراد بهذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو نذير من جنس المنذرين «الرسل» السابقين.

[٥٨] لقد (أَزِفَتِ) قربت (الْآزِفَةُ) القيامة التي هي قريبة إلى كل من جاء إلى دار الدنيا ، فإن الإنسان خلق جسمه الذي هو من التراب ، قبل مئات الألوف من السنوات ، وقد خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، فإذا جاء إلى دار الدنيا فقد قرب موته ، وإذا مات الإنسان قامت قيامته ، أو المراد القيامة الحقيقية ، لأن أكثر عمر الدنيا قد انقضى ـ كما دل على ذلك الآثار والعلم الحديث ـ.

[٥٩] (لَيْسَ لَها) للآزفة (مِنْ دُونِ اللهِ) أحد غير الله (كاشِفَةٌ) نفس قادرة على كشفها والإتيان بها ، فإن القيامة شيء مخفي ، فإذا أقامها الله سبحانه فقد كشفها ، والمراد الكناية عن أن القيامة بيد الله تعالى.

[٦٠] إذن فاللازم على هؤلاء من خوف عقاب الدنيا ـ كما في الآيات السابقة ـ ومن خوف عقاب الآخرة ـ كما في هاتين الآيتين ـ أن يؤمنوا ويخافوا ويعملوا صالحا ، ولكنهم سادرون في غيّهم (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) حديث التوحيد والنبوة والمعاد مما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تَعْجَبُونَ)؟ وقد كان اللازم أن لا تعجبوا ، لأنه قد قامت الحجة عليه.

٢٧٦

وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)

____________________________________

[٦١] (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء (وَلا تَبْكُونَ) ندما وحزنا على ما سلف منكم من الكفر والآثام ، وحزنا على ما يأتي من عقاب الدنيا والآخرة.

[٦٢] (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) لاهون وهذه الاستفهامات استنكارية.

[٦٣] (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) اخضعوا له بالسجود والعبادة إن كنتم أردتم الخلاص والنجاة ، وهذه السجدة واجبة ، ولعله فلسفة وجوبها كوجوب السجدات الثلاث الأخر واستحباب غيرها من السجدات تلوين الطاعة ، كما لوّن سائر الطاعات من صلاة وصيام وحج واعتكاف فكل واحد بشكل ، ولكل واحد أجزاء بأشكال ، وذلك طبقا للكون الذي هو أشكال وألوان والله العالم بحقائق أوامره وأحكامه.

٢٧٧

(٥٤)

سورة القمر

مكية / آياتها (٥٦)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «القمر» وهي كسائر السور المكية تتعرض لقضايا العقيدة بأصولها الثلاثة. وحيث تقدم في آخر سورة النجم «أزفت الآزفة» ابتدأت هذه السورة بذلك أيضا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نبدأ باسم الله ليكون اسمه الكريم عونا لنا على الإتمام ، إذ التوفيق للإتمام لا يكون إلا بيده سبحانه ، وهو الرحمن الذي يرحمنا بالتوفيق الرحيم الذي يرحمنا مرة أخرى بإدامة التوفيق.

٢٧٨

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ

____________________________________

[٢] (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) القيامة ، وفيها احتمالان كما تقدم في آخر السورة السابقة في «أزفت الآزفة» أو المراد أنه ليس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا الساعة ، فقد انتهت نبوات السماء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) الذي هو من علامات اقتراب الساعة ، وقد كان ذلك معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصة طويلة ، وقد نقل كتاب «الإسلام يتحدى» ذكر بعض التواريخ الغابرة رؤية الناس لهذا الانشقاق ، كما ذكرت بعض الجرائد الكويتية ـ بعد نزول الغربيين على القمر ـ رؤيتهم مكان الانشقاق كأنه صار نصفين ثم التحم ـ مع أنهم مسيحيون لا يؤمنون بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

[٣] (وَإِنْ يَرَوْا) هؤلاء الكفار المعاندون (آيَةً) معجزة تدل على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُعْرِضُوا) عنها ولا يقبلونها (وَيَقُولُوا) إن ما يأتي به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الآيات (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) فهو يأتي بالسحر على سبيل الاستمرار.

[٤] (وَكَذَّبُوا) بالحق لما جاءهم (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ما قرر عليهم الهوى والميل النفساني ، لا ما قرره عليهم عقلهم (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) وكل أمر لا بد وأن ينتهي إلى محل استقراره ، وهذا تهديد لهم ، أي أن تكذيبهم لا بد وأن ينتهي إلى عاقبة سيئة لهم.

[٥] (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي الأخبار بالله وبالآخرة ، وبجزاء المحسن

٢٧٩

ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ

____________________________________

حسنا والمسيء سيئا (ما فِيهِ) كفاية و (مُزْدَجَرٌ) ازدجار ، مصدر ميمي ، فلو أنهم كانوا من أهل العقل والحكمة لكفاهم ما ذكرنا لهم من الوعيد ازدجارا.

[٦] ذلك الذي قلناه لهم من الأنباء (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) بلغتهم ، وقد كانت حكمة بوضع الشيء في موضعه ولكن (فَما تُغْنِ) ما تفيد (النُّذُرُ) الإنذارات ، بالنسبة إلى من يتعامى عنها.

[٧] (فَتَوَلَ) أعرض يا رسول الله (عَنْهُمْ) من بعد أن أبلغت وأنذرت ، ولم يقبلوا ، لأن الإنذار لا ينفع فيهم فما أهول ما ينتظرهم من العذاب في (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) الداعي الذي يدعوهم عند البعث ، ليقوموا للحساب (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) منكر فظيع ، وإنما كان منكرا ، لأن الإنسان لم يألفه ولم يشاهده.

[٨] (خُشَّعاً) جمع خاشع بمعنى الذليل (أَبْصارُهُمْ) فإن خشوع النفس يظهر من خشوع العين (يَخْرُجُونَ) في أثر النداء (مِنَ الْأَجْداثِ) جمع جدث ، بمعنى القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في الكثرة والتموّج وعدم النظام وانتشارهم في كل مكان.

[٩] (مُهْطِعِينَ) مسرعين (إِلَى الدَّاعِ) إلى الذي يدعوهم إلى الحساب ـ

٢٨٠