تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

(٦١)

سورة الصف

مدنية / آياتها (١٥)

سميت بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الصف» وهي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام كاشتمالها على العقيدة.

ولما ختمت سورة الممتحنة بقطع موالاة الكفار ابتدأت هذه السورة بلزوم قتالهم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله الذي له ما في السموات والأرض ، وهل هناك أحق بالاستعانة منه؟ إنه «الله» الذي بيده كل شيء ، الذي يعين من استعان به ، الرحمن الرحيم ، الذي يتفضل بالرحمة وتكميل الناقص ، فهو خير من يستعان به.

٤٠١

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ

____________________________________

[٢] (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) والمراد الأعم من الظرف والمظروف ، وإنما كرر هذه الآية في أول السورة السابقة وهذه السورة تأكيدا وتركيزا في الذهن ، فإن تسبيح الكون ـ سواء كان بالمعنى التكويني أو الإدراكي ـ شيء غريب عن الأذهان يحتاج إلى التركيز والترسيخ (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه (الْحَكِيمُ) الذي يفعل الأشياء حسب الصلاح والحكمة ، وهي وضع كل شيء موضعه.

[٣] وقد كان قسم من المؤمنين يقولون إذا لقينا العدو لا نفر ونرجع عنهم ، حتى إذا كان يوم أحد فروا فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ)؟ استفهام إنكاري فإن القول بدون الفعل أقبح من السكوت مع عدم الفعل ، كما أن الفعل بدون القول أحسن من الفعل بعد القول ـ إذا لم يكن لتشجيع أو نحو ذلك من العناوين ـ قالوا : الناس في الخير على أربعة أقسام : قائل فاعل ، وقائل غير فاعل ، وغير قائل غير فاعل ، وغير قائل فاعل ، والأحسن الأخير ، والأقبح الثاني والأول خير من الثالث.

[٤] (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) أي كبر من حيث المقت والغضب عنده سبحانه (أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ).

[٥] (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) لإعلاء كلمته وسبيل رضوانه

٤٠٢

صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ

____________________________________

في حال كونهم مصطفين (صَفًّا) بلا تبعثر أو تفرق (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) كأنهم في شدة ثباتهم بناء قد رصّ ، أي أحكم بناؤه يقال رصصت البناء أي أحكمته. روي إن المسلمين قالوا : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فأنزل الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ) الآية فلما كان يوم أحد وتولوا أنزل الله سبحانه «لم تقولون»؟

[٦] ثم جاء السياق ليحذر المسلمين أن يكونوا كأصحاب موسى عليه‌السلام يؤذونه بعد أن علموا أنه نبي من عند الله تعالى ، فإن ترك القتال إيذاء للرسول ومخالفة لأمره (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) بني إسرائيل الذين آمنوا به (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) بأفعالكم كعبادة العجل ، وأقوالكم كقولهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) (١) (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ) «قد» للتحقيق ، وإن كان الأكثر في فعل المضارع أن يكون للتقريب ، ولعل النكتة فيه أن احتمال كونه رسولا كاف في كفهم عن أذاه (إِلَيْكُمْ) بعثني إليكم لهدايتكم.

لكن القوم تمادوا في إيذائه عليه‌السلام (فَلَمَّا زاغُوا) أي مالوا عن الحق بالاستمرار في أذاه كما هو طبيعة اليهود (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي تركهم وشأنهم ومنع عنهم الألطاف الخفية حتى مالت قلوبهم ، ونسبة

__________________

(١) المائدة : ٢٥.

٤٠٣

وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ

____________________________________

الزيغ إليه سبحانه ، لأنه إذا ترك الإنسان جذبته الأهواء الموجبة للزيغ (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) فمن خرج عن طاعة الله بعد الدليل والبرهان تركه سبحانه وشأنه ولم يلطف به الألطاف الخفية.

[٧] وهكذا فعل اليهود بعيسى بن مريم عليه‌السلام آذوه بعد ما جاءهم بالبينات (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) والإصرار في القرآن على إضافة عيسى بمريم عليه‌السلام لنفي كونه ابن الله (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) والمراد بهم اليهود (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) بعثني لهدايتكم وإرشادكم في حال كوني (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) أي ما تقدمني ، فإن الشيء الذي أمام الإنسان هو بين يديه ـ مجازا ـ (مِنَ التَّوْراةِ) التي جاء بها موسى عليه‌السلام.

(وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ) أي أبشركم برسول من عند الله تعالى (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد ذكر الشيخ محمد صادق فخر الإسلام ، في كتابه أنيس الأعلام ـ وهو ممن كان مسيحيا فأسلم ـ قصة طويلة حول هذا الأمر وأن اسم الرسول «فارقليطا» المفسر بأحمد وهي في كتابهم ـ وهذه هي عادة الأنبياء عليهم‌السلام يصدقون السابقين ويبشرون باللاحقين لأنهم أخوة من عند الله لبيان منهج واحد ، وإنما الفروق في المزايا والخصوصيات التابعة للظروف (فَلَمَّا جاءَهُمْ) عيسى ، أو لما جاءهم الرسول ـ أحمد ـ (بِالْبَيِّناتِ) أي

٤٠٤

قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ

____________________________________

الأدلة الواضحات (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي سحر ظاهر ولم يؤمنوا ، فإن كان الضمير راجعا إلى عيسى ، كان ردفا لتكذيب اليهود لموسى ، وإن كان راجعا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت الآيات في صدد بيان الرسالات الثلاث ، وإن أهل الملتين السابقتين كيف استقبلوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبشر به لديهم.

[٨] (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي أيّ شخص أكثر ظلما (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي اختلق الكذب على الله ، وقال لكلامه إنه سحر ولرسوله إنه ساحر كاذب ، (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) الذي فيه سعادته في الدنيا والآخرة (وَاللهُ لا يَهْدِي) بالألطاف الخفية (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعناد بعد ما رأوا النور والهدى ، ودلهم على الطريق فلم يسلكوه.

[٩] (يُرِيدُونَ) هؤلاء الكفار المعاصرون لك يا رسول الله (لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) وهو رسوله ومنهاجه (بِأَفْواهِهِمْ) وإنما سمي نورا لأنه ينير دروب الحياة المظلمة بمناهج تسبب السعادة والوصول إلى الهدف ، كمن معه المصباح في الليلة المظلمة حيث لا يصطدم بشيء بل يسلك السبيل حتى يصل إلى المطلوب ، وإنما قال «بأفواههم» لأنهم ظنوا أنهم يتمكنون من إطفاء نور الإسلام ، بالتكذيب والتهريج.

(وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) أي مظهر دينه ، فإن النور إذا أطفئ لم يتم

٤٠٥

وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠)

____________________________________

امتداده في الزمان ، أمّا إذا لم يطفأ استمر وامتد وتم (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) من بقاء نور الله وإضاءته للعالم.

[١٠] (هُوَ) الله سبحانه (الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِالْهُدى) أي مع الهداية للبشرية إلى السعادة الأبدية (وَ) ب (دِينِ الْحَقِ) وهو دين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) أي أن الإرسال كان لأجل إظهار هذا الدين (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي على كل الأديان ، فإن «الدين» جنس ولذا جيء له ب «كله» فإن الإسلام يغلب الأديان كلها على نحوين : الأول بالحجة والدليل ، وهذا موجود منذ زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والثاني بالغلبة والسيطرة وهذه تكون في زمن الإمام الحجة عليه‌السلام.

فقد سئل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عن هذه الآية وأنه هل ظهر الإسلام؟ قال عليه‌السلام : كلا فو الذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلا وينادى فيها بشهادة أن لا إله إلا الله بكرة وعشيا (١) (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الذين أشركوا بالله ، فإنه يعلو على رغم أنوفهم.

[١١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إنما خص المؤمنين بالخطاب ، مع أنه أعم ، لأنهم المنتفعون بالخطاب العاملون به دون سواهم (هَلْ أَدُلُّكُمْ) أي هل تريدون أن أهديكم وأرشدكم (عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) على نحو الاستفهام الطلبي.

__________________

(١) تأويل الآيات : ص ٦٦٣.

٤٠٦

تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ

____________________________________

[١٢] ثم بين تلك التجارة ، التي لها أربح الأثمان ، وهل شيء أنفع من نجاة الإنسان من عذاب مؤلم موجع؟ (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) بأن تعتقدوا به إلها واحدا (وَرَسُولِهِ) بأن تصدقوه فيما جاء به ، والمراد إيمانا باقيا راسخا ـ فلا ينافي ذلك كونهم مؤمنين ، كقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (١) ـ (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي تتبعون أنفسكم بالمشاق التي منها الحرب لأجل إعلاء كلمة الله (بِأَمْوالِكُمْ) بأن تبذلوها لأجله تعالى (وَأَنْفُسِكُمْ) بأن ترخصوها في أوامره ، حتى إذا استلزمت إزهاق أنفسكم وقتلكم في سبيله (ذلِكُمْ) «ذا» إشارة و «كم» خطاب ، أي ما ذكر من الإيمان والجهاد ـ باعتبار كل واحد ـ (خَيْرٌ لَكُمْ) من الشرك الذي مصيره النار والعقاب (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) والمعنى إن كنتم عالمين لعلمتم أن الإيمان والجهاد خير وأنفع من الكفر والكسالة.

[١٣] وإذا فعلتم ذلك (يَغْفِرْ) الله (لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) السالفة (وَيُدْخِلْكُمْ) الله تعالى (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ) من عسل وماء ولبن وخمر (وَ) يدخلكم في تلك الجنات (مَساكِنَ طَيِّبَةً) جمع مسكن وهو المنزل ، سمي بذلك لأنه محل سكون الإنسان (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه ، أي

__________________

(١) النساء : ١٣٧.

٤٠٧

ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ

____________________________________

في جنات أنتم دائمون فيها خالدين لا خروج لكم عنها (ذلِكَ) الغفران للذنب والدخول في الجنات (الْفَوْزُ) والظفر بالمطلوب والسعادة (الْعَظِيمُ) الذي ليس فوقه سعادة وفلاح.

[١٤] (وَ) لكم مضافا إلى نعمة الفوز بالجنان ، نعمة (أُخْرى) إذا آمنتم وجاهدتم (تُحِبُّونَها) وهي نعمة دنيوية (نَصْرٌ) لكم على الكفار (مِنَ) طرف (اللهِ) سبحانه ، لأنه ينصركم على الأعداء ، وإن كانت قواكم المادية أقل منهم (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) لبلادهم ، وقد كان كما أقام سبحانه فقد فتحوا مكة وفارس والروم وكثير من أماكن المشركين والكفار في مدة ووجيزة (وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الْمُؤْمِنِينَ) بهذين الثوابين ، إن صدقوا في الإيمان وقاموا بواجب الجهاد.

[١٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) أي أعوانه الملازمين لخدمته بإقامة دينه ، في مقابل المؤمن الذي لا يهيئ نفسه للنصرة ، وإنما يعمل ببعض الأمور الدينية (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي أنصروه نصرة مثل ما طلب المسيح من تلامذته (لِلْحَوارِيِّينَ) وهم أصفياؤه وتلاميذه (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي في السير إلى رضوان الله وثوابه ، سيرا مستقيما ، يكون معي في تعاليمي؟ (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والخطاب إما كان خاصا لهم وأجاب الجميع بالموافقة ، أو كان عاما ،

٤٠٨

فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)

____________________________________

وإنما قال «للحواريين» باعتبار أنهم الفئة الموجهة في خطابه عليه‌السلام للجماهير (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) إيمانا صحيحا وهم الحواريون ومن إليهم (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) بأن لم تؤمن بعيسى أو آمنت ثم انحرفت كالمثلثة ونحوهم (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي قويناهم (عَلى عَدُوِّهِمْ) الكافرين (فَأَصْبَحُوا) أي المؤمنون به (ظاهِرِينَ) غالبين بالحجة على الكافرين ، أو غالبين بالعدد والقوة على أولئك ، وكما أيدنا النصارى الحقيقيين على اليهود والمزيفين من النصارى كذلك نؤيد الإسلام الصحيح على الأديان الأخرى ، والإسلام المنحرف ، وإنما يسمى الغالب ظاهرا لأنه يظهر وغيره يخفى.

٤٠٩

(٦٢)

سورة الجمعة

مدنية / آياتها (١٢)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الجمعة» وهي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام بالإضافة إلى اشتمالها على العقيدة ، ولما ختمت سورة الصف بتأييد المؤمنين بعيسى عليه‌السلام افتتحت هذه السورة بالإرسال في الأميين.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي له كل شيء ، وإنما يبدأ باسم من له كل شيء استحقاقا واستعطافا ، فمن له كل شيء هو الأحق بالتنويه ، ومن بيده كل شيء هو الأحق والأولى بالاستعطاف. الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بالفضل ، فإن الرحمة هي الفضل على من فيه نقص بتكميل ذلك النقص.

٤١٠

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ

____________________________________

[٢] (يُسَبِّحُ لِلَّهِ) أي ينزه الله من النقائص ، تنزيها إما تكوينيا ، لأن في كل شيء له آية دالة على أنه خالق عالم قدير ، وإما بلسان تفقهه (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) السماء وما فيها ، والأرض وما فيها فإن الظرف قد يطلق على الإثنين ، كما أن المظروف قد يطلق على الإثنين (الْمَلِكِ) السلطان على الكون بقول مطلق ، فإن سلطة ما عداه تعالى مجازية (الْقُدُّوسِ) المنزه عن كل نقص ، من قدس بمعنى تنزه (الْعَزِيزِ) الغالب في سلطانه (الْحَكِيمِ) الذي يفعل الأشياء بالحكمة والصلاح.

[٣] (هُوَ) الله تعالى (الَّذِي بَعَثَ) أي أرسل (فِي الْأُمِّيِّينَ) الأمي منسوب إلى الأم والمراد بهم العرب ، سموا بذلك إما لأنهم من أهل «أم القرى» أي مكة المكرمة ـ المسماة بذلك لأن القرى دحيت من تحتها ـ وإما لأن الغالب منهم لم يكونوا يعرفون القراءة والكتابة فهم ـ في جهلهم ـ كالذي خلق من الأم لا يعرف شيئا ، والبعث في الأميين لا يلازم أن يكون لهم وحدهم ، حتى تدل الآية على خصوص نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رَسُولاً) لأجل هدايتهم (مِنْهُمْ) أي من أنفسهم ومن أهل بلدهم.

(يَتْلُوا) أي يقرأ (عَلَيْهِمْ) أي على أولئك الأميين (آياتِهِ) أدلّته ، أو آيات القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم تطهيرا علميا ، فإن المعلم الرقيب يطهر تلاميذه من أدران القلوب والجوارح بحفظهم عن الرذائل

٤١١

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)

____________________________________

والأعمال المنكرة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أحكامه وشرائعه (وَالْحِكْمَةَ) بأن يعرفوا وضع الأشياء مواضعها ، فإن الحكمة هي وضع الشيء موضعه (وَإِنْ كانُوا) هؤلاء الأميون (مِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يأتيهم الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في انحراف ظاهر ، فلا عقائد صحيحة ولا أعمال صالحة ولا عادات طيبة ، ولا أخلاق فاضلة ، يعني أنه يوصلهم إلى أرقى مراقي الكمال ، وإن كانوا قبل ذلك في أبعد متاهات الضلالة.

[٤] (وَ) يعلّم (آخَرِينَ مِنْهُمْ) أي من أولئك الأميين ، ممن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة ، وكونهم منهم إما باعتبار أنهم من نسلهم أو باعتبار أنهم بالإيمان يكونون من جنس أولئك (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) «لمّا» لما لم يقع وينتظر وقوعه ، أي لم يلحقوا ـ بعد ـ بهم ، مع أنه ينتظر لحوقهم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه فيتمكن من الهداية للآخرين (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها.

[٥] (ذلِكَ) أي الإرسال ، بالنسبة إلى المرسل بأن جعله نبيا ، أو بالنسبة إلى المرسل إليهم بأن شرفهم بأن هداهم (فَضْلُ اللهِ) لطفه ورحمته (يُؤْتِيهِ) أي يعطيه (مَنْ يَشاءُ) من عباده لكن المعلوم أن الله لا يعطي شيئا إلا حسب الحكمة ، بمن كان صالحا للإعطاء ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي فضله أعظم من فضل كل ـ ذي فضل ، وإعطاء كل معطي.

٤١٢

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ

____________________________________

[٦] ثم نبّه السياق المسلمين بوجوب التمسك بالشريعة حتى لا يكونوا كاليهود الذين تركوا العمل بالتوراة ، بعد ما تمسكوا بها في زمن موسى عليه‌السلام (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي حمّلهم الله التوراة ، وكأن الوجه في التعبير ب «حملوا» إفادة أنهم إنما تمسكوا بها بكل صعوبة وتحميل لا بالطوع والرغبة (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) بأن تركوا العمل بها باختيار ، ولذا جاء الفعل هنا من باب المجرد ، والمراد ب «لم يحملوها» رفضوها وتركوا أحكامها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) جمع سفر وهو الكتاب ، والحمار الذي يحمل الكتب على ظهره لا يستفيد منها ، واليهود مثل ذلك فإنهم مع كون التوراة بين أظهرهم لا يستفيدون منها ولا يعملون بأحكامها فمن تمسك بالقرآن ظاهرا ولم يعمل به كان مثله كذلك ، (بِئْسَ) المثل (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) والمراد بهم اليهود الذين كذبوا بالتوراة ـ تكذيبا عمليا ـ أو كذبوا بآيات الله في القرآن ، والمعنى بئس القوم قوم هذا مثلهم ، فإن المثل السيئ لا يكون إلا للشخص السيئ ، (وَاللهُ لا يَهْدِي) بالألطاف الخفية (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، بعد أن هداهم إلى الطريق فلم يسلكوه.

[٧] وقد كان اليهود يزعمون أنهم أولياء الله ـ بعد تركهم العمل بالتوراة ـ ويأتي السياق ليفند زعمهم هذا (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء اليهود (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أي سمّوا يهودا ، وتهودوا (إِنْ

٤١٣

زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ

____________________________________

زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) وأنكم شعب الله المختار (مِنْ دُونِ النَّاسِ) وأن سائر الناس لا يحبهم الله ، وليسوا بأولياء الله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم ، فإن الولي لا يخاف من الموت ، إذ يعلم بعلو حاله هناك.

[٨] (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) أي لا يتمنى اليهود الموت (أَبَداً) أي إلى الأبد بسبب ما عملوا من كفرهم وعصيانهم وأن أحوالهم في الآخرة سيئة من ما (قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ونسبة التقديم إلى اليد باعتبار أن اليد هي الأكثر عملا ، من باب علاقة الجزء والكل (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) عالم بأحوالهم وسيجازيهم على ظلمهم ، وهذا تهديد لليهود.

[٩] وهل ينفع عدم تمنيهم الموت وفرارهم منه؟ (قُلْ) يا رسول الله لهم (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) بتوفير أسباب الصحة لأنفسكم ، وعدم حضوركم في مواضع الخطر خوفا من الموت (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) يلقاكم وينزل بكم لا محالة (ثُمَ) بعد الموت (تُرَدُّونَ) أي ترجعون ، فإن الإنسان حيث صدر عن إرادة الله سبحانه ، كان ذهابه إلى حسابه وجزائه ، شبيها بالرد والرجوع إليه (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) أي ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) أي ما ظهر للحواس وشهدها ، أي حضرها الشخص ، والمراد أنه تعالى يعلم السر والعلانية

٤١٤

فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ

____________________________________

(فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم ـ إخبار الذي يريد الجزاء ـ (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الأعمال الحسنة أو القبيحة.

[١٠] وإذا تبين لزوم العمل بالشريعة حتى لا يكون المسلم ، كمثل اليهود في تركهم العمل بالتوراة ، جاء السياق ليبين شريعة عظيمة هي صلاة الجمعة ، وهذه الصلاة واجبة في زمن الحضور ، أما زمن الغيبة فلعلمائنا فيها خلاف ، والذي استظهرته أن وجوبها خاص بالإمام أو مأذونه في زمان بسط يد الإمام ، ولذا لم يرد قيام الأئمة من بعد الإمام الحسين بها ، ولم يكن ذلك لأجل التقية ، وهذا هو السر في اشتهار تركها بين فقهائنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا جلس على المنبر لخطبة الجمعة أذّن بلال على باب المسجد ، وكذا جرى أبو بكر وعمر بعده حتى جاء عثمان ، فكان يؤذن على سطح داره أولا ثم إذا جلس على المنبر أذن ثانيا ـ وهذا هو الأذان الثالث الذي قالوا عنه بأنه بدعة ، وكونه ثالثا باعتبار الأذان الإعلامي ، والأذان على المنبر ، المشروعين ـ أما الأذان على سطح الدار فهو شيء لم يكن في الإسلام (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أي بعض يوم الجمعة ، وهو لصلاة الجمعة ، وسمي جمعة لاجتماع الناس فيها للصلاة ، وقد كان هذا اليوم عيدا قبل الإسلام ثم قرره الإسلام ، كما أن النيروز كان عيدا قبل الإسلام ثم قرره الإسلام.

(فَاسْعَوْا) السعي هو المضي بسرعة وعجلة (إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي

٤١٥

وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا

____________________________________

الصلاة الجمعة (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي دعوا المعاملة ، والظاهر أن «البيع» من باب المثال الغالب ، وإلا فالمراد كل عمل ينافي الذهاب إلى الصلاة (ذلِكُمْ) أي السعي إلى الذكر ، وترك المعاملة (خَيْرٌ لَكُمْ) أيها المؤمنون في دينكم ودنياكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن علمتم الأشياء لعلمتم أن السعي خير لكم.

[١١] (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي أديت صلاة الجمعة (فَانْتَشِرُوا) أي تفرقوا أيها المؤمنون (فِي الْأَرْضِ) بأن يذهب كل إنسان إلى عمله الموجب للانتشار والتفرق (وَابْتَغُوا) أي اطلبوا بالكسب وما أشبه (مِنْ فَضْلِ اللهِ) رزقه ولطفه ، وهذا أمر للإباحة ، لأنه بعد الحظر ، نحو قوله (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (١) (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) بأن تكونوا متذكرين له لسانا وقلبا ، حال الابتغاء وغيره ، فإنه مجلى القلوب عن صدأ الغفلة والمعاصي (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفوزوا برضاه وإحسانه.

[١٢] قال جابر : أقبلت عير ونحن نصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت هذه الآية ، وفي رواية إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا (٢) (وَإِذا رَأَوْا) هؤلاء الذين حضروا

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٥٩.

٤١٦

تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)

____________________________________

لصلاة الجمعة (تِجارَةً) مقبلة ، فقد كانت تجارتهم تأتي من أطراف البلاد في مواسم معينة ، فمن لم يسرع للاشتراء فاتته السلعة ، ولزم عليه الانتظار إلى الموسم الآخر لسد حاجاته بالاشتراء (أَوْ لَهْواً) وكان من عادة العير التجارية إذا جاءت أن يدق الطبل إعلاما لأهل المدينة بمجيئها وهذا هو اللهو الذي يلهي عن ذكر الله ويشغل عن الانصراف إلى الصلاة (انْفَضُّوا) أي أسرعوا (إِلَيْها) إلى تلك التجارة واللهو ـ باعتبار كل واحد منهما ـ والانفضاض هو التفرق بسرعة (وَتَرَكُوكَ) يا رسول الله (قائِماً) تخطب خطبة الجمعة ، بأن لم يبالوا بشأنك تقديما لأمر الدنيا على أمر الآخرة (قُلْ) يا رسول الله لهم (ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ) فثوابه على البقاء مستمعا خطبة الجمعة أفضل من اللهو وخير لكم (وَمِنَ التِّجارَةِ) ولعل تقديم التجارة هناك وتأخيرها هنا ، لأن هناك شروع من الأقوى يعني أنهم يذهبون للتجارة بل لما دون التجارة وهو اللهو ... وهنا شروع من الأضعف يعني أن ما عند الله خير من اللهو وما فوق اللهو وهو التجارة (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فلا يزعم أحد أنه لو ترك الاشتراء من العير لبقي بلا رزق ، بل الله يرزقه من واسع فضله.

٤١٧

(٦٣)

سورة المنافقون

مدنية / آياتها (١٢)

سميت السورة بهذا الاسم لأنها مشتملة على لفظة «المنافقون» وهي كسائر السور المدنية تشتمل على النظام ، بالإضافة إلى قضايا العقيدة ، ولما ختمت سورة الجمعة بترك الرسول قائما ، الذي هو من أشباه أعمال المنافقين ابتدأت هذه السورة بقصة من قصص المنافقين التي وقعت في إحدى غزوات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ورد أن هذه السورة نزلت في غزوة «بني المصطلق» في سنة خمس من الهجرة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إليها ، فلما رجع منها نزل على بئر ، وكان الماء قليلا فيها وكان الأنس بن سيّار حليف الأنصار وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيرا لعمر ، فاجتمعوا على البئر ، فتعلق دلو سيّار بدلو جهجاه فقال سيار دلوي وقال جهجاه دلوي؟ فضرب جهجاه وجه سيار فسال منه الدم ، فنادى سيار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش ، فأخذ الناس السلاح ، وكادت أن تقع الفتنة فسمع عبد الله ابن أبيّ النداء فقال ما هذا؟ فأخبروه بالخبر ، فغضب غضبا شديدا ، ثم قال قد كنت كارها لهذا المسير ، ما ظننت أني أبقى

٤١٨

إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تغيير ثم أقبل على أصحابه وقال هذا عملكم! أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساءكم وأيتم صبيانكم ولو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم.

ثم قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ـ وأراد بالأعز هو وأمثاله ، وبالأذل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ـ وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاما وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ظل شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن أبيّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعلك وهمت يا غلام؟ قال لا والله ما وهمت فقال : لعلك غضبت عليه؟ قال : لا والله ما غضبت عليه. قال : فلعله سفه عليك؟ قال لا والله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشقران مولاه أن يقدم راحلته وركب وتسامع الناس بذلك فقالوا ما كان رسول الله ليرحل في مثل هذا الوقت؟ فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعليك السلام. فقال : ما كنت لترحل في مثل هذا الوقت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أو ما سمعت قولا قاله صاحبكم؟ قالوا وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله قال : عبد الله بن أبيّ زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فقال : يا رسول الله فأنت وأصحابك الأعز وهو وأصحابه الأذل فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومه كله لا يكلمه أحد ، فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أبيّ تلومه فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئا من ذلك فقالوا : فقم بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى نعتذر إليه ، فلوى عنقه فلما جن الليل سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليله كله ، والنهار ، فلم ينزلوا إلا للصلاة ، فلما كان من الغد نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل أصحابه وقد انهدهم الأرض من السهر الذي أصابهم ، فجاء عبد

٤١٩

الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحلف عبد الله أنه لم يقل ذلك وأنه ليشهد أن لا إله إلا الله وأنك لرسول الله وأن زيدا قد كذب علي.

فقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه ـ أي أظهر السكوت ـ وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ويقولون كذب على عبد الله سيدنا ، فلما رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان زيد معه يقول اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد الله بن أبيّ ، فما سار إلا قليلا حتى أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يأخذه من الحالة عند نزول الوحي عليه فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي ، فسرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يسكب العرق عن جبهته ، ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه عن الرحل ثم قال : يا غلام صدقت ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآنا ، فلما نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين ففضح الله عبد الله بن أبيّ ثم جاء ولد عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله وقال : يا رسول الله إن كنت عزمت على قتله فمرني أن أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الأوس والخزرج أني أبرهم ولدا بوالدي ، فإني أخاف أن تأمر غيري فيقتله فلا تطيب نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار ، فقال رسول الله : بل نحسن لك صحابته ما دام معنا (١).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله ، ليكون عونا لنا في حوائجنا ، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ليلطف علينا بالرحمة فيحل مشاكلنا الدنيوية والأخروية.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٨٥.

٤٢٠