تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢)

____________________________________

والبناء فوقها ، وتقضوا سائر مآربكم عليها.

[٢١] ثم أشار السياق إلى واحدة من النعم التي هيأها الله للإنسان على الأرض المنبسطة (لِتَسْلُكُوا) يقال سلك في الطريق إذا مشى فيه وسرى (مِنْها) أي من الأرض والمراد في بعض الأرض (سُبُلاً) أي طرقا ، جمع «سبيل» (فِجاجاً) «الفجاج» هي الطرق المتسعة المتفرقة ، واحدها «فج» يعني حتى تتمكنوا من السير في طرق الأرض المختلفة إلى حاجاتكم هنا وهنالك.

[٢٢] وبعد كل هذه التذكيرات والإلفات إلى هذه النعم العظام ، لم يستجب القوم لدعوة نوح عليه‌السلام ، فتوجه نوح إلى ربه (قالَ نُوحٌ) : يا (رَبِّ إِنَّهُمْ) أي القوم (عَصَوْنِي) فلم يؤمنوا بك ، ولم يطيعوا أمري (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي اتبعوا كبراء قومهم الذين هم رأس الفساد ، فكلما ازدادوا مالا صرفوه في الشر وكلما ازدادوا ولدا حرفوه عن سنن الحق ، فمالهم وولدهم لا يزيدهم إلا خسارة وضررا ، مما يوجب كثرة عقوبتهم وزيادة عذابهم.

[٢٣] (وَمَكَرُوا) في قبال نوح (مَكْراً كُبَّاراً) أي كبيرا للغاية فإن إطفاء سنن الرسول يحتاج إلى التدابير الكثيرة ، وإلا فالناس بطبيعتهم الساذجة يتبعون الحق. وفاعل المكر إما الكبار المشار إليهم ب «من» أو المراد القوم ـ في الجملة ـ.

٥٢١

وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ

____________________________________

[٢٤] (وَقالُوا) أي الماكرون ، لسائر الناس (لا تَذَرُنَ) أي لا تتركن (آلِهَتَكُمْ) الأصنام التي تعبدونها إطاعة لنوح في عبادة إله واحد ، ثم خصوا جماعة من الآلهة كانت الأصنام الكبيرة لديهم (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَ) لا (يَعُوقَ وَ) لا (نَسْراً) ويغوث ويعوق غير منصرفين للعجمة والعلمية ، أو للعلمية والتأنيث كما أن عدم إتيان «لا» على البعض للتفنن في الكلام الذي هو من فنون البلاغة ، وهذه كانت أسامي أصنام لهم يعبدونها من دون الله سبحانه. وذكر بعض أن هذه أسماء كانت لرجال صالحين ، فلما ماتوا مثلوا لهم تمثالا يعظمونها باعتبار أنها رموز لأولئك الصالحين ، ثم عبدوها ـ بإغواء الشيطان ـ.

[٢٥] (وَقَدْ أَضَلُّوا) هذه الأصنام ، يا رب (كَثِيراً) من الناس ونسبة الضلال إلى الأصنام باعتبار أنها الوسيلة في الإضلال ، والإتيان بضمير العاقل تماشيا لوحدة السياق بين كلام المؤمنين والكافرين (وَلا تَزِدِ) يا رب (الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان وغيرهم بالإضلال والإفساد (إِلَّا ضَلالاً) جزاء على عنادهم ، وإزادة ضلالهم بمنع الألطاف الخفية عنهم ، أو المعنى «لا تزد هذه الأصنام إلا ضلالا لهم» فعلى الأول نهي ، وعلى الثاني نفي.

[٢٦] ثم أتى السياق إلى بيان عاقبة هؤلاء الكفار بقوله : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي من جهة خطيئة هؤلاء الكفار ، و «ما» زائدة والزيادة هنا لأجل

٥٢٢

أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ

____________________________________

تزيين الكلام (أُغْرِقُوا) بالماء في الدنيا (فَأُدْخِلُوا ناراً) في الآخرة ، فقد عوقبوا بعقوبتين متضادتين (فَلَمْ يَجِدُوا) أولئك الكفار (لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله سبحانه (أَنْصاراً) فلم يكن هناك من يمنع عنهم عذاب الله تعالى ، فقد ضل عنهم من كان يعدهم النصر.

[٢٧] (وَقالَ نُوحٌ) قبل أن يغرقوا ـ في دعائه عليهم ـ وإنما أخر ذلك عن الغرق ، في الكلام ، لتعجيل توصيل العقاب بالانحراف ، حتى كأنه انحراف وعقاب بلا فاصلة ، يا (رَبِّ لا تَذَرْ) أي لا تدع ولا تبق سالما (عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي أحدا يعمر الديار ، أو ينزل الدار ، بل عمم عقابك على جميعهم.

[٢٨] ثم بين عليه‌السلام علة هذا الدعاء بقوله : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) من نسل المؤمنين (وَلا يَلِدُوا) هم بأنفسهم (إِلَّا فاجِراً) يفجر ويعصي (كَفَّاراً) كثير الكفر ، يعني أن أولادهم فاسد والعقيدة والعمل ، فلا خير فيهم ، وقد علم نوح عليه‌السلام ذلك من طريق الوحي.

[٢٩] يا (رَبِّ اغْفِرْ لِي) وقد سبق أن استغفار الأنبياء والأئمة لما يصدر منهم من المباحات الضرورية ، فإنهم يرون ذلك خلافا للأدب أمام الله الملك العظيم ، كما أن من مدّ رجله ـ لمرض أو نحوه ـ أمام الملك رآه سوء أدب وإن كان مضطرا إليه ، واعتذر من فعله ذلك (وَلِوالِدَيَ)

٥٢٣

وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)

____________________________________

بغفران ذنوبهما (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) وكأن الدخول في البيت كناية عن الدخول في حوزته وأنصاره ، فقد آمن به عليه‌السلام عدة قليلة بين سبعين وثمانين ـ على ما ذكروا ـ (وَ) اغفر (لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) من سائر الأمم السابقين واللاحقين (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي هلاكا وخسارة ، وذلك بمنع الألطاف عنهم ، حتى يكون بقاؤهم موجبا لزيادة عذابهم وخسارتهم جزاء لعنادهم.

٥٢٤

(٧٢)

سورة الجن

مكية / آياتها (٢٩)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الجن» وقصة منهم ، كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أسلوب قصصي طريف جديد ، ولما ختمت سورة نوح بالدعاء للمؤمنين والهلاك للكافرين ، ابتدأت هذه السورة بما يماثل ذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الخالق المالك لكل شيء ، والابتداء باسمه أولى من الابتداء بأي شيء آخر ، فإن الكفار كانوا يبتدئون باسم الأصنام ، والمسيحيين باسم «الأب والابن وروح القدس» ، والديمقراطيون في زماننا يبتدئون باسم الشعب والملكيون باسم جلالة الملك ، والله أحق من الكل بالابتداء باسمه ، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد في الدنيا والآخرة.

٥٢٥

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣)

____________________________________

[٢] (قُلْ) يا رسول الله للناس (أُوحِيَ إِلَيَ) والوحي هو الإلهام إلى الرسول من قبله سبحانه بواسطة ملك أو إلقاء في القلب بلا واسطة ، ويستعمل أيضا بمعنى مطلق الإلهام ، كقوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (١) وقوله (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) (٢) (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) أي استمع إلى القرآن طائفة من الجن ـ فإن نفر بمعنى الطائفة ـ والجن مخلوقة من النار رقاق الأجسام كالهواء ، ولها أن تتشكل في أبدان غليظة كأبدان الإنسان (فَقالُوا) بعضهم لبعض (إِنَّا سَمِعْنا) من الرسول (قُرْآناً عَجَباً) أي ما يدعو إلى التعجب ، لأنه بأسلوب غريب في لفظه ومعناه ، وقد سبقت قصتهم في سورة الأحقاف.

[٣] (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي يدل على الهدى الذي من سلكه رشد (فَآمَنَّا) نحن الجن (بِهِ) أي بذلك القرآن (وَلَنْ نُشْرِكَ) بعد سماع القرآن (بِرَبِّنا أَحَداً) أي لم نجعل له شريكا.

[٤] (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) «الجد» هو الحظ ، والمراد به هنا العظمة ، أي تعالت وارتفعت عظمته ، من أن يكون له شريك أو زوجة أو أولاد (مَا اتَّخَذَ) أي لم يتخذ الله سبحانه (صاحِبَةً) أي زوجة (وَلا وَلَداً) فقد كان بعض الكفار يقولون أنه سبحانه اتخذ زوجة من الجن ، كما قال

__________________

(١) النحل : ٦٩.

(٢) القصص : ٨.

٥٢٦

وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦)

____________________________________

سبحانه (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (١) ، فنفت الجن هذا الكلام.

[٥] (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) أي جاهلنا ، والمراد به جنس الجهال منهم (عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي كذبا وبعدا عن الحق ، وكأن المراد بذلك ما شاع بينهم من أنه تزوج بالجنية ، أو المراد «بسفيه منا» إبليس ـ لأنه من الجن ـ والمراد أقواله حول الله سبحانه ، من نسبة الشريك إليه وما أشبه.

[٦] (وَأَنَّا) ظهر لنا الآن كذب ذلك السفيه بعد ما كنا (ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) الإتيان بالفعل مؤنثا باعتبار «الجماعة» (عَلَى اللهِ كَذِباً) فقد كنا نحسب أن ما يقولون من أن له سبحانه صاحبة وشريكا وولدا صدق ، والآن تبين لنا كذبه.

[٧] (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) أي يعتصمون ويستجيرون ، وكان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال «أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه» وقد روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : في هذه الآية «كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول قل لشيطانك فلان قد عاذ بك» (٢) (فَزادُوهُمْ) أي زاد الجن الإنس العائذين بهم (رَهَقاً) أي طغيانا

__________________

(١) الصافات : ١٥٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٦٠ ص ٩٨.

٥٢٧

وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)

____________________________________

حيث إنهم رأوا الجن ظهيرا لهم ، أو زاد الإنس الجن طغيانا حيث إنهم ظنوا أن لهم مدخلا في الأمور الكونية حتى استعاذ بهم الإنس ، وأصل الرهق اللحوق ، ومنه غلام مراهق ، فكأن الإثم والطغيان يلحق الإنسان ، ولذا قيل له رهق.

[٨] (وَأَنَّهُمْ) أي الإنس (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أنتم معاشر الجن (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) رسولا ، وهذا من تتمة كلام الجن الذين آمنوا بالرسول.

[٩] (وَأَنَّا) معاشر الجن (لَمَسْنَا السَّماءَ) أي مسسناها بإرادة الصعود في طبقات الجو (فَوَجَدْناها) أي ألفينا السماء (مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) أي حفظة من الملائكة شدادا ، «وحرس» جمع حارس وهو الحافظ ، وشديد باعتبار كل واحد من الحفظة (وَشُهُباً) جمع «شهاب» وهو نور يمتد في السماء حتى يطفأ ، أنها هيأت لرجم من يريد استراق السمع من الشياطين.

[١٠] (وَأَنَّا) معاشر الجن (كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها) أي من السماء (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي محلات قريبة من مراكز الملائكة لنستمع ما يدار بينهم من أخبار الأرض لنعلم الأخبار ونأتي بها إلى الكهنة ، وهذا إلى قبل ميلاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعثته (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) منا إلى كلام الملائكة (يَجِدْ لَهُ) أي لنفسه (شِهاباً رَصَداً) يرمى به ويرصد له ، ففي النجوم

٥٢٨

وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠)

____________________________________

عيّن مواضع لحراسة السماء من الجن والشياطين ، فمن يتقدم منهم ليسترق الكلام قذف بالشهاب حتى يحترق أو يطرد.

وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال ـ في حديث يذكر فيه سبب إخبار الكاهن ـ : وأما أخبار السماء فإن الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك ، وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم وإنما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله لإثبات الحجة ونفي الشبهة ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها ثم يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن ، فإذا قد زاد كلمات من عنده يختلط الحق بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به فهو ما أداه إليه شيطانه مما سمعه ، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمذ منعت الشياطين من استراق السمع انقطعت الكهانة (١).

[١١] (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) حيث يرجم الشياطين ، حتى تقطع الأخبار عن أهل الأرض بعذابهم ، فيفاجئون بالعذاب (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) بأن يبعث فيهم نبيا؟ والحاصل أن رجم الشياطين لأحد أمرين إما لشر أو لخير؟ وهذا يؤيد كون المراد من الرجم وقت ولادة الرسول ، وأن هذا الكلام من الجن حكاية حال ماضية ، وإلا فقد عرفوا النبأ بعد فترة وخصوصا عند وصولهم إلى خدمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٠ ص ٧٦.

٥٢٩

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣)

____________________________________

[١٢] (وَأَنَّا) معاشر الجن (مِنَّا) أي بعضنا (الصَّالِحُونَ) بالإيمان والعمل الصالح (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) الصلاح ، وإنما عبر بهذا التعبير ليشمل الفرق المختلفة (كُنَّا) في السابق (طَرائِقَ قِدَداً) أي على طرائق مختلفة «وقدد» جمع قدة وهي القطعة ، كأن لكل مذهب لونا مختلفا ، فهم قطعة مخالفة لقطعة أخرى ، وكأن هذه التفصيلات المنقولة من كلام الجن لبيان حقيقتهم ، وتوضيح ما يرتبط بهم من المزايا والأحوال.

[١٣] (وَأَنَّا) معاشر الجن (ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) بأن نجمع جموعا ونهيئ قوى حتى يعجز سبحانه من التصرف فينا كيف يشاء ، وإنما جاء بلفظ الظن ، إما لأنهم ظنوا ذلك ولم يتيقنوا ، أو لبيان أن الظن كاف في عدم إرادة المخالفة معه سبحانه (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي لا نتمكن من تعجيزه بهربنا من قدرته ، فإن قدرته شاملة منبسطة لا يمكن الفرار منها.

[١٤] (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) حيث سمعنا قرآن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آمَنَّا بِهِ) أي بالهدى وهو الإسلام (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) إيمانا صحيحا فإنه لا (يَخافُ بَخْساً) أي تنقيصا لحقه في الدنيا وفي الآخرة (وَلا رَهَقاً) أي ظلما وطغيانا بالنسبة إليه ، فإنه سبحانه عادل لا يظلم أحدا ، أما غير

٥٣٠

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ

____________________________________

المؤمن فإنه يخاف البخس ، إذ حسناته تمحى بسبب سيئاته ، ويخاف الرهق بمعنى تبعة الإثم ـ كما سبق في معنى الرهق.

[١٥] (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) الذين دخلوا في دين الله الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) من «قسط» بمعنى جار ، أي الجائرون الحائدون عن طريق الحق (فَمَنْ أَسْلَمَ) أي دخل في الإسلام (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا) أي طلبوا والتمسوا (رَشَداً) أي هداية وحقا فيه الرشد والعقل ، والتحري هو التطلب والتماس الشيء.

[١٦] (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) العادلون عن طريق الحق (فَكانُوا) أي يكونون ـ أو كان : لمجرد الربط ـ (لِجَهَنَّمَ حَطَباً) يلقون فيها فيوقدونها كما يوقد الحطب النار ، كما قال سبحانه (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (١).

[١٧] (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) هؤلاء القاسطون (عَلَى الطَّرِيقَةِ) الحقة بأن لم يحيدوا عنها (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) يقال ماء غدق : أي كثير وهذا كناية عن الإفضال عليهم ، وهذا ابتداء من كلام الله سبحانه.

[١٨] (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي كنا نسقيهم الماء الكثير لامتحانهم في ذلك السقي ، فإن النعم للامتحان ، كما أن النقم للاختبار ، وليس المقصود من

__________________

(١) البقرة : ٢٥.

٥٣١

وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ

____________________________________

الامتحان إلا ظهور السرائر ، لتبيين مقادير الاستحقاق في الآخرة ، أو أنه تعليل لمجيء الهدى ، أي أنا إنما أرسلنا الرسول وأنزلنا الهدى للامتحان (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) بأن اتخذ طريقة الكفر والعصيان (يَسْلُكْهُ) أي يدخله الله سبحانه (عَذاباً صَعَداً) أي عذابا يصعد عليه ويعلوه ، بحيث يشمل جميع جسمه من قرنه إلى قدمه ، أو عذابا غليظا صعبا.

[١٩] وإذ بين كون الهدى إنما هو للامتحان ، جاء السياق ليبين أنه لا يحق لأحد أن يخضع لغير الله سبحانه (وَأَنَّ الْمَساجِدَ) جمع «مسجد» وهو مواضع السجود من الوجه والكفين وغيرهما (لِلَّهِ) فإنها مخلوقة له مملوكة لذاته المقدسة (فَلا تَدْعُوا) أيها الإنسان (مَعَ اللهِ أَحَداً) وكيف تدعو غيره بعضو هو له؟ ويحتمل أن يكون المساجد أعم مما تقدم ومن المساجد المبنية ، وفيه نهي عن الدعاء لغيره سبحانه فيها ، كما كان المشركون يدعون الأصنام في بيت الله تعالى.

[٢٠] (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَدْعُوهُ) يدعو الله سبحانه وحده (كادُوا) أي الكفار (يَكُونُونَ عَلَيْهِ) على الرسول (لِبَداً) أي متكاثرين عليه ليمنعوه عن الدعوة ، والظاهر أن هذه الجمل كلها من كلام الجن ، وأن قوله «لنفتنهم» معترضة.

[٢١] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين كادوا يكونون لبدا عليك :

٥٣٢

إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ

____________________________________

(إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) وحده لا شريك له (وَلا أُشْرِكُ بِهِ) أي بربي (أَحَداً) فليس ذلك بدعا جديدا يوجب تكاثركم علي وإرادتكم منعي منه.

[٢٢] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) بأن أضركم (وَلا) أملك لكم (رَشَداً) بأن أرشدكم ، وإنما الضرر والإرشاد بيد الله ، وأنه هو الذي أمرني بإرشادكم ، فإن لم تقبلوا فهو الذي ينزل الضر بكم ، وهذا لبيان أني رسول الله فقط لا شيء بيدي سوى الهداية والإرشاد.

[٢٣] حتى أنا فليس ضري وخيري بيدي (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) أي لن يحفظني (مِنَ) تقدير (اللهِ أَحَدٌ) إذا أراد سبحانه بي ضررا (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ) سبحانه (مُلْتَحَداً) أي ملجأ ألجأ إليه ، من التحد بمعنى مال ، والإنسان الخائف دائما يطلب الملجأ في منعطفات الطريق.

[٢٤] إني لا أملك شيئا (إِلَّا بَلاغاً) أي تبليغا (مِنَ) قبل (اللهِ) سبحانه بأن أبلغكم آياته (وَرِسالاتِهِ) وهذا استثناء منقطع من «لا أملك» وما بعده ، وقد سبق أن الاستثناء المنقطع ينحل إلى ثلاث جمل ، ففي المقام هكذا «لا أملك شيئا» «إلا بلاغا» «ولا أملك لكم أو لي ضرا أو خيرا» وكأنه قال «لا أملك كذا» و «أملك كذا» ، وحق البلاغ منه

٥٣٣

وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما

____________________________________

سبحانه حق لا يكون لكل أحد ، كما أن رسالاته سبحانه شيء والرسول يملك ذلك الحق كما يعرف الرسالات ، فهما شيئان لا شيء واحد حتى يقال : إن العطف للبيان.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) بعدم إطاعة أوامره (وَرَسُولَهُ) بعدم امتثاله فيما يأمر وينهي (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) جزاء لعصيانه (خالِدِينَ فِيها) أي في حال كونهم دائمين في النار (أَبَداً) وتوحيد الضمير في «له» باعتبار لفظ «من» وتجميعه في «خالدين» باعتبار معناه ، وقد قالوا يجوز في ضمير «من وما» مراعاة اللفظ والمعنى.

[٢٥] لكن الكفار لا يبالون اليوم بالنار (حَتَّى إِذا رَأَوْا) هؤلاء الكفار (ما يُوعَدُونَ) أي العذاب الذي وعدوا به في الدنيا (فَسَيَعْلَمُونَ) إذا رأوا (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً) هل ناصر الرسول أضعف أم ناصرهم (وَأَقَلُّ عَدَداً) فهل جيش الرسول وأعوانه أقل أم جيشهم وأعوانهم ، فقد كان الكفار يفتخرون على الرسول بكثرة جموعهم وضعف أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتى السياق ليبين أن في الآخرة تنقلب الكفة ، وأنه يتبدد عددهم ويضعف ناصرهم ، فلا يقوى من إنجائهم من عذاب الله سبحانه.

[٢٦] وقد كان الكفار يستعجلون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إنزال العذاب بهم ـ استهزاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فجاء السياق لردهم بقوله : (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار المستعجلين : (إِنْ أَدْرِي) أي ما أدري (أَقَرِيبٌ ما

٥٣٤

تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ

____________________________________

تُوعَدُونَ) أي هل قريب العذاب الذي وعدتم به لكفركم وعصيانكم (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ) أي ل «ما توعدون» (رَبِّي أَمَداً) أي مدة ، فهو بعيد عنكم؟ فإن عذاب القيامة مجهول الوقت إلا عنده سبحانه ، فعنده علم الساعة.

[٢٧] فإنه وحده (عالِمُ الْغَيْبِ) يعلم ما غاب عن الحواس (فَلا يُظْهِرُ) أي لا يعلم (عَلى غَيْبِهِ) أي الغيب الذي يعلمه هو (أَحَداً) من عباده ، فإن علم الغيب خاص به.

[٢٨] (إِلَّا مَنِ ارْتَضى) أي اختاره للاطلاع على الغيب (مِنْ رَسُولٍ) أو المعنى إلا من ارتضاه للرسالة من أفراد الرسل ، فإنه تعالى يظهره على قدر من الغيب ـ حسب الحكمة والصلاح ـ والتي يخبر الإمام أو سائر الناس بقدر ما أذن له في الإخبار ، وإذ أعلمه الله سبحانه بالغيب أحاطه بجملة من الحفظة حتى يكونوا مراقبين عليه في البلاغ ، مع أنه مأمون في نفسه ، وأن الله عالم به ، ولكن هذا للتشريفات ، كما وكل بالعباد حفظة مع أنه عالم بما يصدر منهم.

(فَإِنَّهُ) سبحانه (يَسْلُكُ) أي يجعل في الطريق (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي من أمام الرسول (وَمِنْ خَلْفِهِ) أي ورائه (رَصَداً) من الملائكة يرصدونه في أعماله ، تشريفا للغيب والوحي الذي أعلم الرسول به.

[٢٩] وإنما يرصد (لِيَعْلَمَ) الله سبحانه ، والمراد ليقع متعلق علمه في

٥٣٥

أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)

____________________________________

الخارج ، كقوله (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ) (١) إلى غير ذلك (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أولئك الرسل الذين أطلعهم على علم الغيب (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) فكل ما أوحي إليه رسالة ، ومجموع الوحي رسالات (وَ) ذلك ليس لأنه لا يعلم ـ بل للتشريفات ، كما ذكرنا ـ إذ قد (أَحاطَ) الله سبحانه (بِما لَدَيْهِمْ) أي بما يفعله الأنبياء من تبليغ الرسالة (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) فعلم أعداد الأشياء كلها ، فإحاطته بما لدى الأنبياء من مصاديق إحصائه سبحانه عدد كل شيء من الخلائق والأعمال والأحوال.

هذا هو المعنى الذي استظهرته من الآيات المباركة حسب ما يظهر من السياق ، وهناك قول آخر في معانيها ليس بهذا القرب إلى الظاهر ، والله سبحانه أعلم بمراده.

__________________

(١) محمد : ٣٢.

٥٣٦

(٧٣)

سورة المزمّل

مكية ـ مدنية / آياتها (٢١)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المزمل» ، وهي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام والعقيدة ، وقيل هي مختلطة من المكية والمدنية. وحيث ختمت سورة الجن بذكر الرسل ، ابتدأت هذه السورة بذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نبتدئ في السورة باسم الإله ، أي ملابسا مع هذا الاسم الكريم ، الذي بيد مسماه الكون كله ، الرحمن الرحيم الذي يرحم كل شيء خلقا وتربية ، حتى يصل كل شيء إلى كماله اللائق به ، ويرحم عبيده المؤمنين في الآخرة بالثواب والفضل.

٥٣٧

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)

____________________________________

[٢] (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) المراد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أصله «المتزمل» من باب التفعيل ، ثم أدغمت التاء في الزاء ، وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ، ومعنى «تزمل» تلفف في ثوب ونحوه ، فقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتزمل بثوبه وينام ، فخوطب بهذا الخطاب لمناسبة الحالة للأمر المتوجه إليه في قيام الليل.

[٣] (قُمِ) في (اللَّيْلَ) لأداء صلاة الليل (إِلَّا قَلِيلاً) منه فلك أن تنام فيه.

[٤] ثم بين سبحانه مقدار القليل الذي سمح للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنوم فيه بقوله : (نِصْفَهُ) أي نم في مقدار نصف الليل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) أي من النصف (قَلِيلاً) بأن تضيف على سهرك ، فيكون نومك أقل من النصف.

[٥] (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي على النصف ، بأن تضيف على نومك فيكون نومك أكثر من النصف ، والحاصل أن المأمور به السهر بمقدار نصف الليل ، أو أكثر من النصف ، أو أقل من النصف ـ والمحور النصف ـ (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ) أي اقرأه قراءة متوسطة لا بسرعة ولا ببطئ زائد (تَرْتِيلاً) تأكيد ل «رتل».

وقد سئل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : بيّنه بيانا ولا تهذه هذو الشعر «أي لا تسرعون في قراءته كما تسرعون في قراءة الشعر» ولا تنثره نثر الرمل «أي لا تفرقوا بعضه عن بعض كثير الرمل» ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة (١).

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ص ٦١٤.

٥٣٨

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨)

____________________________________

[٦] (إِنَّا سَنُلْقِي) أي سنوحي (عَلَيْكَ) يا رسول الله (قَوْلاً ثَقِيلاً) أي كلاما يثقل عليك القيام به ، والمراد به القرآن ، فإنه يثقل على الإنسان العمل به ، أو الرسالة فإنه يثقل أداؤها ، أو القيام بالليل.

[٧] كما فسر قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أي ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة ، والمقصود العمل فيها أو المراد العبادة التي تنشأ في الليل. (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) أي أكثر ثقلا وكلفة ، لصعوبة القيام ليلا شتاء لبرد الهواء ، وصيفا لقصر الليالي ، ولعل المراد كونها أشد من ناشئة النهار (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي قول الليل وعبادته أكثر قواما واستمساكا لأنه يؤدى بحضور القلب وتوجه الذهن ، ولأن أفضل الأعمال أحمزها.

[٨] (إِنَّ لَكَ) يا رسول الله (فِي النَّهارِ سَبْحاً) «السبح» التقلب ومنه يسمى المتقلب في الماء سابحا : أي تقلبا في أشغالك (طَوِيلاً) من إراءة الطريق ، والإرشاد ، وسائر الأعمال فلا يتأتى منك أن تعبد كما ينبغي ، ولذا جعل الليل للعبادة.

وقد روي إن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يعمل طول النهار ، ويعبد طول الليل ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ألا تهدأ؟ قال : إذا هدأت النهار كان فيه ضياع الأمة ، وإذا هدأت الليل كان فيه ضياع نفسي.

[٩] (وَاذْكُرِ) يا رسول الله (اسْمَ رَبِّكَ) بأن تعبده وتخضع له (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) «التبتل» هو الانقطاع إلى الله عزوجل وإخلاص العبادة له ،

٥٣٩

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا

____________________________________

من «بتل» بمعنى قطع ، وإنما قال «إليه» لأن الانقطاع عن الخلق إليه ، لا كون الانقطاع عنه.

[١٠] ثم بين «ربك» بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) هو كناية عن الكون ، لأن من بيده المشرق والمغرب كان بيده العالم كله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له كما يزعم المشركون ، ولذا لا يحق العبادة لغيره (فَاتَّخِذْهُ) يا رسول الله (وَكِيلاً) أي حفيظا للقيام بأمرك وفوض إليه أمرك.

[١١] (وَاصْبِرْ) يا رسول الله في توحيدك ونبذ الأصنام (عَلى ما يَقُولُونَ) أي الكفار حولك من أنك ساحر أو كاهن أو مجنون أو ما أشبه ذلك (وَاهْجُرْهُمْ) أي ابتعد عنهم (هَجْراً جَمِيلاً) بأن تدعوهم إلى الهدى في عين حالة الهجر ، بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.

[١٢] (وَذَرْنِي) أي دعني لهم فأنا أكفيك شرهم (وَالْمُكَذِّبِينَ) برسالتك وما جئت به (أُولِي النَّعْمَةِ) أي أصحاب الثروة وغيرها من سائر النعم ، فكل جزاءهم أليّ (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي إنهم بعد قليل سيقعون في العذاب ، عذاب الدنيا في قصة بدر ، وعذاب الآخرة. وقوله «مهلهم» كناية عن الصبر معهم ، وهذا تهديد للكفار.

[١٣] (إِنَّ لَدَيْنا) في الآخرة ، والمراد ب «لدينا» لدى حسابنا وجزائنا

٥٤٠