تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ

____________________________________

[٢] (حم) «حاء» و «ميم» وأشباههما من سائر حروف الهجاء هو مادة القرآن التي يتركب منها ، وهي مادة لإلفاتكم معاشر العرب ، فعدم إمكانكم الإتيان بمثله دليل قاطع على أنه تنزيل الله سبحانه ، أو رمز بين الله والرسول ، أو غيرهما من الأقوال.

[٣] (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) أي أن إنزال هذا الكتاب وهو القرآن إنما هو من الله لا من غيره ، كما كان المشركون يفترون بنسبة القرآن إلى الرسول أو بعض الأعجميين ، أو الشيطان ـ حيث يقولون أنه كهانة ـ (الْعَزِيزِ) في سلطانه فهو قادر على ما يشاء (الْحَكِيمِ) يفعل الأشياء على وفق الصلاح فأنزل القرآن على طبق الصلاح والحكمة.

[٤] (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ) دالة على وجود الله وسائر صفاته (لِلْمُؤْمِنِينَ) الذين يؤمنون بالله وإنما خصهم مع أن الآيات أعم ، لأنهم هم المنتفعون بها ، وأما غيرهم فهم معرضون ، كما قال سبحانه (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١).

[٥] (وَفِي خَلْقِكُمْ) أيها البشر (وَما يَبُثُ) الله أي ينشر (مِنْ دابَّةٍ) بيان «ما» وهي كل حيوان ، وإن كان الأصل فيها خاصا ، بما يدبّ على وجه الأرض (آياتٌ) أي دلالات دالة على وجود الله وعلمه وقدرته

__________________

(١) يوسف : ١٠٦.

١٠١

لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥)

____________________________________

(لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يريدون العلم واليقين ، فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة ، كما أن الإرادة تستعمل بمعنى الفعل ، وخصت الآيات بهم ، لأنهم هم المنتفعون بها ، وإنما قال في الموضعين «آيات» مما ظاهره وجود بعض الآيات ، مع أن كل شيء آية ، لأن المراد آيات عظام ، ومن المعلوم أن العظام من الآيات بعضها.

[٦] (وَ) في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بمجيء أحدهما مكان الآخر على نظام واحد بدون خلل واختلاف (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) إما المراد مطلق الأرزاق وكونها من السماء ، لأن تقديرها يكون هناك ، أو المراد المطر الذي هو سبب الإنبات ، ومنه يأتي الرزق ، وهذا هو الأقرب بالنسبة إلى ما يأتي ـ وإن أمكن الاستخدام ـ وتسمية الماء رزقا بعلاقة السبب والمسبب ، مثل قوله :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

(فَأَحْيا بِهِ) أي سبب ذلك الرزق الذي هو الماء (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) جمودها واغبرارها ، لا حراك فيها ولا نشاط (وَ) في (تَصْرِيفِ الرِّياحِ) بصرفها من هنا إلى هناك ، شمالا وجنوبا ، شرقا وغربا (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي دلالات لأهل العقل ، أما غيرهم فإنهم يعملون عقولهم حتى يدركوا هذه الآيات الدالة على وجود الله وقدرته وسائر صفاته.

١٠٢

تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨)

____________________________________

[٧] (تِلْكَ) التي تقدمت (آياتُ اللهِ) أي دلالاته التي نصبها برهانا على وجوده وسائر صفاته (نَتْلُوها) أي نقرأها ، والمراد الإيحاء بها ، وتلاوة الملك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَلَيْكَ) يا رسول الله (بِالْحَقِ) فليس ذلك بالباطل (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ) حديث (اللهِ) الذي هو القرآن (وَآياتِهِ) الدالة على وجوده وسائر صفاته (يُؤْمِنُونَ)؟ أي أنهم إن لم يؤمنوا بآيات الله الكونية والشرعية ، فبماذا يؤمنون؟ والمعنى أنه ليس شيء بهذا الوضوح والجلاء ، فإن كان الإنسان يؤمن بشيء ، كان اللازم أن يؤمن بالله وآياته.

[٨] (وَيْلٌ) كلمة تقال عند إرادة بيان سوء الحال (لِكُلِّ أَفَّاكٍ) صيغة مبالغة ، بمعنى كثير الإفك أي الكذب (أَثِيمٍ) أي كثير العصيان ، وهو الذي يكذب بكل شيء مما جاء به الرسول والقرآن.

[٩] ثم يبين المراد من الأفاك الأثيم بقوله تعالى (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) أي آيات القرآن (تُتْلى عَلَيْهِ) وتقرأ عنده بقصد هدايته وإرشاده (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) أي يقيم على كفره وتكبره عن الحق ، والإتيان ب «ثم» لبيان استبعاد الإصرار بعد سماع الآيات فقد كان الكبر بعيدا بعد تلاوة الآيات (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي لم يسمع الآيات إذ لم يقبلها وبقي على ما كان سابقا (فَبَشِّرْهُ) يا رسول الله (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم موجع ، والإتيان بلفظ البشرى للاستهزاء.

١٠٣

وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ

____________________________________

[١٠] (وَإِذا عَلِمَ) ذلك الأفّاك (مِنْ آياتِنا) أي أدلتنا وحججنا الدالة على وجودنا وسائر صفاتنا (شَيْئاً) أي بعضا (اتَّخَذَها هُزُواً) أي يستهزئ بها ، كأن الآية آلة سخرية له (أُولئِكَ) الذين تلك صفاتهم (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم ويذلهم بالإضافة إلى الألم الذي فيه.

[١١] (مِنْ وَرائِهِمْ) أي عقب هؤلاء ، في الآخرة (جَهَنَّمُ) التي هي مقرهم (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) أي لا يدفع عنهم من عذاب الله ، ككسبهم للأموال والأولاد والجاه ، شيئا ، بأن يخفف عنهم بعض العذاب (وَلا) يغني عنهم (مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي لا يدفع عنهم بعض العذاب آلهتهم (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في النار.

[١٢] (هذا) القرآن الذي أنزلناه ، والآيات التي أوضحناها (هُدىً) يهدي إلى الحق وصراط مستقيم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي أدلته التي أقامها على توحيده وسائر صفاته ، بعد مجيء الهداية (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) وهو أشد العذاب أي من هذا القسم منه (أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

[١٣] ثم أخذ السياق في وصف بعض آيات الله سبحانه (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) أي ذلّله لكم ليصلح لركوبكم عليه (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) أي

١٠٤

فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ

____________________________________

السفن (فِيهِ) أي في البحر (بِأَمْرِهِ) تعالى ، فتسخير البحر شيء ، وإجراء الفلك شيء آخر ، ولذا قال «بأمره» (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي إن جريان الفلك لأسفاركم ولطلبكم التجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولكي تشكروا نعمه سبحانه ، فالتسخير لغايات ثلاث.

[١٤] (وَسَخَّرَ لَكُمْ) أيها البشر (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنهما تسيران وتعملان ليل نهار لنفع البشر ، ومن جعلهما كذلك غير الله سبحانه؟ (جَمِيعاً) صفة «ما» أي سخر كل شيء جميعا (مِنْهُ) أي من الله سبحانه فلا شريك له ولا صانع غيره (إِنَّ فِي ذلِكَ) التسخير لما فيها لأجل نفع البشر (لَآياتٍ) لأن في كل شيء آية ودلالة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في أوضاع الكون ، وتخصيصهم بالذكر ، لأنهم المنتفعون بهذه الآيات دون غيرهم فكأنها خلقت لهم فقط.

[١٥] (قُلْ) يا رسول الله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) إذا نالكم من الكفار أذى اغفروا لهم ل (يَغْفِرُوا) ويصفحوا (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أيام الله هي الأيام التي يظهر فيها عقابه أو نعمائه ، فإن الكفار لا يعترفون بالله ، حتى يرجون أيامه ، والمراد بذلك أن لا يكون المؤمنون في صدد الانتقام من الكافرين الذين يؤذونهم ، وذلك خطة أخلاقية سياسية فإن المظلوم تهواه الأنفس فترجح كفته ، وبذلك يكون قد ربح المعركة ،

١٠٥

لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ

____________________________________

ولذا ينقل عن «غاندي» محرر الهند قوله «تعلمت من الحسين عليه‌السلام أن أكون مظلوما لأنتصر» ، والحاصل يتركوا مجازاتهم ليتولى الله ذلك عنهم (لِيَجْزِيَ) الله (قَوْماً) أي الكفار (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) فمعنى الغفران إيكال الجزاء إليه سبحانه كما يقول الحاكم للمظلوم اترك عقاب ظالمك لأجازيه أنا.

[١٦] ثم يبين سبحانه أن كل عامل يجزى بما عمل فالمؤمنون يجزون جزاء إيمانهم والكافرون يجزون جزاء كفرهم (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) المراد به كل عمل صالح (فَلِنَفْسِهِ) إذ فائدته ترجع نحوه (وَمَنْ أَساءَ) بأن عمل السيئ (فَعَلَيْها) أي فضرر ذلك على نفسه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) بعد الجزاء في الدنيا ، هناك جزاء آخر في الآخرة ، عند رجوع الناس إلى حساب الله وجزائه.

[١٧] ثم يأتي السياق لبيان أنه كيف يجزي من كفر بالنعمة في الدنيا ، وأنه كيف يسلب عن الظالم النعمة لتعطى غيره مع بيان أن القيادة الإلهية انتقلت من بني إسرائيل إلى المسلمين ، ليقودها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب شرعة السماء (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) وهو التوراة ، (وَالْحُكْمَ) أي الحكومة فإن منصب الحكومة والسلطة على الناس خاص بالله سبحانه ، ومن بعده لأنبيائه والأئمة حسب ما قرره تعالى ، ومن بعدهم لنوابهم ووكلائهم (وَالنُّبُوَّةَ) فكان فيهم الملوك والأنبياء (وَرَزَقْناهُمْ

١٠٦

مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧)

____________________________________

مِنَ الطَّيِّباتِ) حيث تفضلنا عليهم ببركات الأرض والسماء (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم ، فإن كل جيل عالم ، وكل قرن عالم ، وهذا هو المتبادر من هذه الجملة ـ كما ذكرنا سابقا ـ لا جميع العوالم من الأولين والآخرين ، فلو قال أحد إن الدولة الفلانية أقوى الدول ، كان المتبادر منه ، الدول المعاصرة لها لا دول الملوك ماضيا ومستقبلا إلى الأبد.

[١٨] (وَآتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم (بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي دلالات وبراهين واضحات من أمر الدين والدنيا ، فإن الدين والدنيا يحتاجان إلى مبيّن وموضّح لمسالكهما ، والأنبياء دائما يأتون بذلك ، مثلا يبينون أن الصوم جنة من النار ، أن الحجامة وقاية من الأمراض فاختلفوا ، وقابلوا الإحسان بالكفران ، وقد كانوا هم الأمة الوحيدة الموجهة للعالم التي بيدها قيام الدين والدنيا ـ حتى أن عيسى عليه‌السلام كان شارحا وموضحا ، لا ناسخا ـ وما (اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بأن علموا الحق من الباطل ومع ذلك اختلفوا فيه (بَغْياً) أي حسدا وظلما (بَيْنَهُمْ) فحسد بعضهم بعضا ، فتركوا الحق إلى الباطل انتقاما لذلك التمسك بالحق ـ كما نرى شبهه في زماننا هذا ـ (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين المختلفين من بني إسرائيل (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فمثلا آمن بعضهم بعيسى ولم يؤمن بعضهم ،

١٠٧

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ

____________________________________

وصاد بعض في السبت ، ولم يصد بعض وهكذا وإذ خرجت بنو إسرائيل عن صلاحية القيادة بسبب كفرهم واختلافهم انتهت القيادة إلى الرسول والمسلمين.

[١٩] (ثُمَ) من بعد أولئك (جَعَلْناكَ) يا رسول الله (عَلى شَرِيعَةٍ) أي على طريقة (مِنَ الْأَمْرِ) أي أمر الدين والدنيا ، بأن بينا لك طريقة خاصة لسعادة الإنسان في دنياه وآخرته (فَاتَّبِعْها) أي اتبع يا رسول الله تلك الشريعة (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الحق ، فإن الناس يريدون من القائد ان يتّبع آراءهم ، وهنا يأتي النهي عن ذلك ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس كسائر القادة ، وإنما له منهاج خاص من قبل الله سبحانه ، يلزم عليه ان يطبقه ويعلنه للناس ، وهذا ينافي اتباع آراء الأشخاص.

[٢٠] (إِنَّهُمْ) أي الذين لا يعلمون (لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ) يا رسول الله (مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لا يفيدونك في دفع ما يريد الله بك ـ إن اتبعت أهواءهم ـ (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي أن الكفار بعضهم يوالي بعض وينصر الآخرين في معاداتك ، فلا ينبغي لك أن تعتمد عليهم وتتبع أهواءهم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) يلي أمورهم ، فحسبك الله ، عن هؤلاء.

[٢١] (هذا) القرآن الذي أنزل إليك (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) جمع بصيرة ، فكما

١٠٨

وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ

____________________________________

أن البصيرة في الإنسان كاشفه له طريق الفلاح ، كذلك القرآن كاشف طريق السعادة ، أي بينات تبصرهم أمورهم ، فلا يحتاج الإنسان بعد القرآن إلى اتباع الأهواء (وَهُدىً) أي هداية إلى الطريق (وَرَحْمَةٌ) أي فضل وترحم ، يرحمهم‌الله به إذ يريهم السعادة الأبدية (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) به ويعلمون انه الحق ، وإنما خصهم ، لأنهم المنتفعون أما غيرهم ، فهم في ضلال ونقمة.

[٢٢] هنالك ظالمون يتبعون الأهواء ، ومتقون يتبعون الشريعة ، فهل هما متساويان؟ كلا ، فإن البون بينهما شاسع (أَمْ حَسِبَ) أي هل حسب وظن (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أي اقترفوها وارتكبوها ، والاجتراح الاكتساب (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)؟ «أم» منقطعة فيها معنى الاستفهام الإنكاري ، أي ليس كذلك (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أي تستوي حياتهم وموتهم ، والمحيي والممات مصدران ميميان (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بأن الطائفتين متساويتان ، فحياة المؤمنين في سعة وراحة واطمئنان ، وحياة الكافرين ضنك وتعب وقلق ، وممات المؤمنين إلى الجنة والرضوان ، وممات الكافرين إلى السخط والنيران.

[٢٣] وكيف يتساوى حال المؤمن والكافر (وَ) الحال أنه (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ومن مقتضيات الحق أن يكون لكل عامل

١٠٩

وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً

____________________________________

أجره ، لا أن يتساوى المصلح والمفسد في الأجر؟ (وَلِتُجْزى) أي خلقهما لأن تجزى (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من خير وشر ولو تساويا لم يترتب هذا الثمر على الخلق ، بل لم يثب المحسن بالإحسان ، ولم يجاز الكافر بالعصيان (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص من أجر المحسن شيء ، ولا يزاد على عقاب المسيء شيء.

[٢٤] (أَفَرَأَيْتَ) يا رسول الله (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي الشخص جعل مكان الإله الهوى ، فكما يعبد المؤمنون الإله ، يعبد ويتبع هو هواه وميول نفسه ، وقد كان في الجاهليين من يعبد حجرا فإذا رأى حجرا أجمل منه رمى بالأول واتخذ الثاني إلها (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) أي تركه سبحانه ، ليتيه في الضلالة على علم منه سبحانه باستحقاقه للترك ، فإنه لما أعرض عن الهدى تركه تعالى وشأنه ، ولم يكن ذلك عن جهل ـ تعالى عن ذلك ـ بل عن علم ، لاستحقاقه الترك والخذلان (وَخَتَمَ) الله (عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) ومعنى الختم أن يكون كالشيء المختوم الذي لا يدخل فيه شيء والختم على السمع كناية عن عدم إشفاعه بما يسمعه ، وعلى القلب كناية عن عدم وعى قلبه للحق ، ونسبة الختم إليه سبحانه ، لأنه خلق البشر بحيث إنهم لو انحرفوا عن الجادة ، واستمروا في الانحراف اعتاد قلبهم ذلك ، فلم يمل إلى الهدى ، ويكون الضلال ملكة لهم ، فلا يدخل في القلب هداية كالشيء المختوم (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي غطاء ، لا يعتبر بالنظر ، فهو

١١٠

فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)

____________________________________

والأعمى سواء (فَمَنْ يَهْدِيهِ) أي يهدي هذا الشخص المتصف بتلك الصفات (مِنْ بَعْدِ اللهِ)؟ وهل هناك هاد إلا هو؟ والمعنى أنه إذا لم يهتد بهداية الله ، فلا هداية عند غيره حتى يمكن أن يهتدي بها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ)؟ أصله «تتذكرون» على قاعدة باب «التفعل» والاستفهام إنكاري ، أي لماذا لا تتعظون بهذه المواعظ؟

[٢٥] (وَقالُوا) أي قال المنكرون للبعث (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ليست للبشر حياة إلا هذه الحياة القريبة ، فلا حياة بعد الموت (نَمُوتُ وَنَحْيا) فحياتنا فيها نخرج من بطون الأمهات ، وموتنا هو هذا الذي نشاهده ، والفعلان باعتبار الجنس ، أي نموت نحن ويحيا أولادنا ، وهكذا ، أو المراد كل فرد ، وإنما أخر «نحيا» للتناسب مع «حياتنا الدنيا» في السجع ، وقد تقرر في الأدب أن الواو لا يدل على الترتيب ، قال ابن مالك :

واعطف بواو سابقا أو لاحقا

في الحكم أو مصاحبا موافقا

(وَما يُهْلِكُنا) ويميتنا (إِلَّا الدَّهْرُ) أي مرور الزمان ، فليس هناك إله يميت (وَما لَهُمْ بِذلِكَ) الذي ذكروه من كون الحياة منحصرة في هذه ، وإن المهلك هو الدهر (مِنْ عِلْمٍ) حتى يقولوا ذلك عن يقين ودراية (إِنْ هُمْ) أي ما هؤلاء القائلين (إِلَّا يَظُنُّونَ) ظنا بذلك ، من التقليد والتخمين ، والتقدير «ما هم إلا ظانون».

١١١

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦)

____________________________________

[٢٦] (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المنكرين للنشأة الأخرى الكافرين بالله (آياتُنا) أي أدلتنا الدالة على وجودنا ووجود الدار الآخرة (بَيِّناتٍ) أي في حال كون تلك الآيات ظاهرات واضحات (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) أي دليلهم في نفي الآخرة (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا) أيها المقرون بالمعاد (بِآبائِنا) الذين ماتوا من قبل (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم إن البعث سيكون؟ وقد كان هذا الكلام تافها فأي ربط بين أن يكون شيء في المستقبل وبين أن يأتي به المدعي له حالا أترى هل يصح أن يقول المنكر للصيف ـ وهو في الشتاء ـ ائتي أيها المقر بالصيف إن كنت صادقا؟ فجوابه : أنا أقول بمجيء الصيف في وقته ولي دليل ، كما أن جواب الدهرية : نحن نقول بالبعث ولنا أدلة ، أما أن يأتي بالبعث حالا بإحياء الأموات فلا ربط له بالكلام.

[٢٧] (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء ـ. معرضا عن جوابهم التافه ـ مبينا لهم الحقيقة (اللهُ يُحْيِيكُمْ) بعد أن كنتم ترابا ميتا ، والمراد بذلك استمرار إحياء الله للبشر من القديم إلى المستقبل ، ولذا جيء بالمستقبل (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بإزهاق أرواحكم ـ في مقابل قولهم : ما يهلكنا إلا الدهر ـ (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ) للنشور ، من القبور ، منتهين في السير (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) حين يحاسب الخلائق (لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس محلا للريب ، وإن ارتاب فيه المبطلون (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم أعرضوا عن التعلم ، فإن المعاد فيه جهتان ، الإمكان ، والوقوع ، أما

١١٢

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ

____________________________________

الإمكان فمن قدر على الابتداء يقدر على الإعادة بالضرورة ... وأما الوقوع ، فقد أخبر الصادق بوقوعه ، فلا بد أن يقع.

[٢٨] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فأنتم أيها الناس تحت قدرته ، ولا تظنوا إمكان الفرار (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة (يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) أي الفاعلون للباطل ، ومعنى خسارتهم هلاكهم.

[٢٩] (وَتَرى) يا رسول الله ، أو أيها الرائي ، في يوم القيامة (كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) من الجثو وهو التهيؤ للقيام ، وذلك لأن الإنسان الخائف لا يجلس جلسة الاطمئنان بل يرفع ألييه من الأرض حتى إذا نودي أو جاء الفزع قام فورا بلا استبطاء ، وهناك كل أمة منحازة عن أمة أخرى ، جاثية على ركبتيها ، أو المراد جثوهم بين يدي الحكام ، كما يجثو المترافعان عند القاضي ، (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) المنزل على نبيها ، ليكون الكتاب حكما بينهم ، هل عملوا على طبقه أم لا وذلك كما يقول أحد المتخاصمين للآخر : أدعوك إلى كتاب الله ، فيقال لهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي نفس الأعمال ـ بناء على تجسيمها ـ أو جزائها.

[٣٠] (هذا كِتابُنا) أي اللوح المحفوظ ، أو ديوان الحفظة الذي سجّل فيه أعمالكم (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ) أي يبين لكم أيها الناس وسمي البيان نطقا ، للمشابهة في إبداء المخفي من العمل ، كما أن النطق يبدي المخفي في

١١٣

بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ

____________________________________

القلب (بِالْحَقِ) فلا يبين الباطل (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) أي نكتب ، والاستنساخ هو الأمر بالنسخ ، أي نأمر الكتبة بنسخ أعمالكم (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في دار الدنيا.

[٣١] (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بما يجب الإيمان به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحات (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي جنته وثوابه وفضله (ذلِكَ) الإدخال في الرحمة (هُوَ الْفَوْزُ) أي الفلاح (الْمُبِينُ) الظاهر.

[٣٢] (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقال لهم (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يقرؤها عليكم الأنبياء والمرشدون (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي تعاظمتم عن قبول الحق (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) تعملون بالإجرام ، كفرا وعصيانا؟ وهذا سؤال توبيخ وتقريع.

[٣٣] (وَ) كنتم في دار الدنيا (إِذا قِيلَ) لكم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فالبعث كائن لا محالة (وَالسَّاعَةُ) أي القيامة (لا رَيْبَ فِيها) أي ليست محل الريب والشك (قُلْتُمْ) في جواب المؤمنين (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي لا نعلم ما هي ، تقولون ذلك على وجه الاستهزاء (إِنْ نَظُنُ) أي ما

١١٤

إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢)

____________________________________

نظن بها (إِلَّا ظَنًّا) فليس لنا علم بها ، و «الظن» في الأول استعمل في المعنى الأعم ، وفي الثاني بمعناه الراجح المقابل للوهم (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي لا يقين ولا علم لنا.

١١٥
١١٦

تقريب القرآن الى الأذهان

الجزء السادس والعشرون

من آية (٣٤) سورة الجاثية

إلى آية (٣١) سورة الذاريات

١١٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

١١٨

وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ

____________________________________

[٣٤] (وَ) هناك (بَدا) أي ظهر (لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي الجزاء الذي رتب على أعمالهم (وَحاقَ) أي حلّ وأحاط (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب ، فإنهم إذا هددوا بالعذاب في دار الدنيا ، استهزءوا به ، وهناك يحل ذلك بهم.

[٣٥] (وَقِيلَ) لهم (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) أي نترككم هملا كالمنسي ، تلاقون العقاب والعذاب (كَما نَسِيتُمْ) وتركتم العمل (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) فكما تركتم الاستعداد لهذا اليوم نترككم في العذاب ، والإتيان بلفظ نسي لأن المهمل إذا طال أمد إهماله صار نسيا منسيا ، فالمعنى نترككم إلى أن تكونوا منسيين (وَمَأْواكُمُ) أي محلكم ومنزلكم (النَّارُ) فكما أحرقوا أعمارهم وطاقاتهم في الدنيا سوف يحرقون بالنار في الآخرة ، فإن النيران المعنوية صارت نيران مادية (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم من النار ، فكما لم ينفعهم في الدنيا الذين كانوا يريدون خلاصهم من نيران عقائدهم وأعمالهم ، كذلك لا ينفعهم هناك أي ناصر لأن الآخرة تبع للدنيا ، وهي ثمرة للأعمال في الدنيا ، فكما أن بذرة التفاح تعطي التفاح ، وبذرة الحنظل تعطي الحنظل ، كذلك العقائد والأعمال والصفات في الدنيا تعطي ثمرها في الآخرة.

[٣٦] أما أنهم كيف سلكوا في الدنيا هذا المسلك الذي أدّى بهم في الآخرة إلى النار ف (ذلِكُمْ) ذلك المسلك الدنيوي ، إنما كان أيها الكفار المخاطبون ـ فإن «كم» خطاب ـ بسبب (أنكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ

١١٩

اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥)

____________________________________

اللهِ) الآيات البشرية ، كالأنبياء والأئمة والمرشدين ، والآيات العقائدية ، كالعقيدة بأصول الدين ، والآيات الاحكامية ، كأحكام الإسلام ، فإنها كلها آيات ، وعلامات الله ، علامات تكوينية ، وعلامات تشريعية.

(هُزُواً) آلة استهزاء ، فكنتم تضحكون على أولياء الله ، وعلى أحكامه ، كما هو شأن الإنسان الجاهل والمتجاهل ، وبذلك لم يرضخوا لأنبيائه وأوليائه سبحانه ، ولا لأحكامه تعالى (وَغَرَّتْكُمُ) خدعتكم (الْحَياةُ الدُّنْيا) القريبة فحسبتم أن لا حياة سواها ، ولذا انسقتم مع الأهواء والمشتهيات التي أضرتكم ، نتيجة عنادكم للحق (فَالْيَوْمَ) في الآخرة ، فإن اليوم يطلق على النهار وحده ، وعلى النهار والليل ، وعلى القطعة من الزمان ولو كانت طويلة جدا ، ولذا يقال : الدهر يومان يوم لك ويوم عليك (لا يُخْرَجُونَ مِنْها) لا مخرج لهم ، لبيان أنهم لا يقدرون بأنفسهم على الخروج ، فالخروج إن كان فهو بواسطة الغير ، ولا غير يخرجهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه ، بالاستغفار والعمل الصالح ، لأن الوقت قد فات ، فإن وقت إرضاء الله هو دار الدنيا ، وسبب أن الآخرة ليست محل الإرضاء : أن العقائد والأعمال في الدنيا أحالت الإنسان إلى قطعة خبث ، كما تستحال البيضة إلى فرخ ، فكما لا يمكن إرجاع الفرخ بيضة ، كذلك لا يمكن إرجاع ما استحال خبيثا إلى الحالة الدنيوية التي يمكن بها أن يعمل صالحا ويعتقد صحيحا ، فإن في الدنيا

١٢٠