بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وأمّا الثالث : فهو غير صحيح أيضا ، لأنّنا نرى أنّ الوجوب مدلول للّفظ لا للعقل.

وعليه ، فالصحيح إنّه لا يمكن إثبات الجواز ، لا بالمعنى الأعم ولا بالمعنى الأخص ، فيما إذا نسخ الوجوب ، لا بدليل الناسخ ، ولا بدليل المنسوخ ، إلّا إذا فرضت عناية زائدة في دليل الناسخ.

والخلاصة هي : إنّ هذه التقريبات الثلاثة المتقدمة لإثبات الجواز ، بعد نسخ الوجوب ، تمسكا تارة بالدلالة الالتزاميّة ، وأخرى بالدلالة التضمنيّة ، وثالثة بالدلالة المطابقيّة ، بدعوى أنّ الدلالة المطابقية لم تنثلم أصلا بناء على مسلك الميرزا «قده» في تفسير الوجوب والاستحباب ، تبيّن أنّه لم يتم شيء منها.

وعلى ضوء ما تقدم نعرف حال الكلام الذي ذكره المشهور في المسألة ، من كونها مبنيّة على الخلاف في مسألة فلسفيّة معروفة ، وهي إنّ الجنس هل يبقى بعد زوال الفصل ، أو إنّه يزول بزوال الفصل؟.

بمعنى أنّه إذا قيل : بأنّ الجنس يزول بزوال الفصل ، فهنا الوجوب له جنس ، وهو الجواز ، وله فصل ، وهو حيثيّة الإلزام ، أي : المنع من الترك ، فالجواز بالمعنى الأعم ، أي : «الجنس» ، يزول بزوال حيثيّة الإلزام ، التي هي المنع من الترك الذي هو «الفصل» ، إذ معه لا يثبت الجواز بدليل المنسوخ.

وأمّا إذا قلنا ببقاء الجنس ، حتى بعد زوال الفصل ، حينئذ يثبت الجنس أي : الجواز بالمعنى الأعم حتى بعد نسخ الوجوب.

ويمكن أن يستفاد من هذا الكلام في مساعدة التقريب الثاني من التقريبات الثلاثة المتقدمة ، وهو في التمسك بالمدلول التضمّني لدليل الوجوب المنسوخ ، إلّا أنّ هذه الاستفادة مبنيّة على إمكان بقاء الجنس ، ولو في ضمن فصل آخر.

٢٠١

وأمّا إذا لم نقل ببقاء الجنس بعد زوال الفصل ، حينئذ يكون المدلول التضمّني لدليل الوجوب المنسوخ مرتفعا ، وحينئذ لا يبقى كلام السيد الخوئي «قده» واردا كما ستعرف ، حيث أن السيد الخوئي «قده» (١) اعترض بثلاثة اعتراضات على مسألة ابتناء بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب على المسألة الفلسفيّة المختلف فيها ، من بقاء الجنس بعد زوال الفصل وعدمه.

الاعتراض الأول : هو إنّ الوجوب والاستحباب أساسا ليس من المجعولات الشرعيّة ، بل هما حكمان اعتباريان من قبل العقل ، وإنما ينتزع العقل حيثيّة الوجوب والاستحباب من طلب المولى ، واعتباره ، حيث لا يقترن طلبه بالإذن بالترك ، وينتزع الاستحباب من اقتران طلبه بالترك ، فليس الوجوب والاستحباب مدلولين لكلام المولى ، بل يرجعان إلى حكم العقل وانتزاعه ، وأمّا المجعول من قبل المولى ، فإنّما هو نفس ذلك الاعتبار للفعل في ذمة المكلف.

وإن شئت قلت : إنّ الأحكام من الأمور الاعتبارية المحضة وهي بسائط لا جنس لها ، ولا فصل كي ترتفع بارتفاع فصلها أولا ترتفع ، إذ لا معنى لافتراض الجنس والفصل للوجوب كي يقال : بأنّ الجنس هل يزول أو لا يزول بزوال الفصل؟.

وهذا الاعتراض غير تام وذلك لوضوح أنّ الوجوب بناء على المسلك المشهور المعروف هو ، أنه بنفسه مفاد صيغة «افعل» ، وعليه فهو مجعول شرعي ، لا منتزع عقلي ، وإنّما العقل يحكم بلزوم الإطاعة بعد ثبوت الوجوب شرعا.

إذن فالوجوب والاستحباب قسمة للحكم الشرعي في المرتبة السابقة على حكم العقل ، وعليه ، فلا معنى لاعتراض السيد الخوئي «قده».

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ـ ص ٢٣ ـ ٢٤.

٢٠٢

وأمّا إذا بنينا على مسلك الميرزا «قده» في تفسير الوجوب والاستحباب ، وقلنا بأنّهما من تبعات حكم العقل ، حينئذ يكون من الواضح ، أنّ الوجوب بعنوانه ، وإن لم يكن مجعولا استقلاليا للشارع ، لكنه مجعول بالتّبع ، لأنّ الوجوب مركّب من جزءين : وجودي وعدمي : والجزء الوجودي هو الطلب ، والجزء العدمي : هو عدم الإذن بالمخالفة ، وكلاهما شأن المولى ، ومن مجموعهما ينتزع العقل عنوان الوجوب ، إذن حيث أنّ منشأ الانتزاع هذا مربوط بالمولى بكلا جزءيه ، إذن فيكون الوجوب مجعولا بالتّبع ، ولذلك لا إشكال ولا استهجان فيما لو ورد نص شرعي في رفع وجوب صلاة الليل ، باعتبار أنّ الالتزام والوجوب بيد الشارع. إذن فالوجوب قابل للنسخ بلحاظ كل واحد من جزءيه ، فقد ينسخ بلحاظ الجزء الوجودي ، وقد ينسخ بلحاظ الجزء العدمي ، وذلك بأن يتبدل عدم الترخيص بالترخيص ، وكلاهما نسخ للوجوب.

فنسخ الوجوب أمر عرفي ، وحينئذ بناء عليه يقال : بأنّ دليل الناسخ قد فرضنا أنّه لا يستفاد منه أكثر من نسخ الوجوب ، وهذا معناه : إنّ غاية ما يكشف عنه هذا الكلام هو رفع الجزء الثاني أي : الجزء العدمي من منشأ انتزاع الوجوب ، وهو عدم الترخيص بالترك ، أمّا الجزء الوجودي من منشأ الانتزاع ، فلا يعلم برفع اليد عنه ، وعليه ، فنتمسك بدليل المنسوخ لإثبات الجزء الأول الوجودي لمنشا انتزاع الوجوب.

نعم بناء على هذا يكون إثبات الجواز بالمدلول المطابقي للدليل المنسوخ ، كما مر عليك في التقريب الثالث ، ولا يكون إثباته بالمدلول التضمّني ، ذلك لأنّ عدم الترخيص في الترك ، ليس مدلولا للأمر ، وعليه ، فلا تكون المسألة متفرّعة على المسألة الفلسفية بلحاظ مدلول الدليل ، إذ مدلول الدليل ليس أكثر من الاعتبار عند السيد الخوئي «قده» كما عرفت.

وإن كان بلحاظ مبادئ الحكم ـ حتى لو كان محض الاعتبار ـ من الحب والإرادة والشوق ، تكون المسألة صغرى لكبرى المسألة الفلسفية ،

٢٠٣

ولكن ليس الحكم هو مدلول الدليل ، إذ حتى لو فرض عدم بقاء الجنس وتبدّله إلى وجود آخر ، في ضمن فصل آخر ، كشفنا عنه بمقتضى مدلول الدليل ، إلّا أنّ هذا قريب الشبه بمدّعى المشهور ، وإنّما احتاج المشهور لتفريع المسألة على المسألة الفلسفية ، لكونهم قد فرغوا عن كون الوجوب مدلولا للّفظ ، وعليه ، لا محالة أنّه ينحلّ إلى جنس وفصل.

الاعتراض الثاني ، هو : إنّه لو سلمنا بأنّ الوجوب مجعول شرعي ، فمع ذلك لا دليل لنا على بقاء الجواز لأنّ الوجوب من الاعتبارات ، والاعتبارات من أبسط البسائط ليس لها جنس ، ولا فصل ، فضلا عن المادة والصورة ، إذ ليست ذات ماهيّة حقيقية ، إذ الاعتبار من الكيف النفساني ، فلا معنى لافتراض بقاء جزء وارتفاع جزء بل حتى لو سلّمنا بكون الوجوب مركبا ، فليست المسألة مبتنية على تلك المسألة لأنّ النزاع هناك في الإمكان العقلي بينما نزاعنا في بقاء الجنس بعد انعدام الفصل إنما هو في الوقوع الخارجي.

وهذا الاعتراض أيضا غير صحيح ، وذلك لأنّ من يقول : بأنّ جزءا من الوجوب يبقى ، وآخر يرتفع ، لا يقول : بأنّ الوجوب اعتبار واحد ، كي يقال له : إنّ الاعتبار من البسائط ، أو من أبسطها ، فلا جنس له ، ولا فصل ، وإنما المدّعى بأنّ الوجوب متركب من مجموع اعتبارين : اعتبار عام ، واعتبار خاص ، اعتبار طلب الفعل ، أو كون الفعل في ذمة المكلّف ، واعتبار المنع من التّرك ، وهما مندكّان في اعتبار واحد ، فهما بمثابة الجنس والفصل ، وليس المدّعى كون الاعتبار الواحد مركّبا من جزءين.

وعليه يقال : بأنّ الدليل الناسخ ، إنّما يدل على ارتفاع المجموع ، وليس الجميع.

وعليه ، يمكن إثبات أصل الجواز بالدليل المنسوخ.

ولعلّه كان أقرب إلى الصواب لو عبّر بالمدلول التضمّني والمطابقي ، بدلا من التعبير بالجنس والفصل لأنّ الجنس والفصل من الأجزاء التحليلية

٢٠٤

العقليّة ، فإرادة معناهما الحقيقي هنا في المقام ، أقرب إلى التشبيه والمجاز والمسامحة ، منه إلى الحقيقة.

الاعتراض الثالث ، هو : إنّ المسألة ناظرة إلى مقام الثبوت ، بينما بحثنا في مقام الإثبات ، فلا ربط له بها.

وتوضيحه : إنّ المسألة مطروحة في الفلسفة لتحقيق أنّ الجنس هل يبقى بعد ارتفاع الفصل ، أو إنّه يستحيل بقاؤه؟.

فلو قلنا : بأن الجنس يبقى ، فليس معنى ذلك أنّه باق فعلا وحتما ، ونحن نبحث عن أنّه هل هو باق ، أولا؟ إذن فيحتاج إلى تخريج آخر.

وإن شئت قلت : إنّ المسألة مطروحة في الفلسفة ، لتحقيق مقام الثبوت ، أي : إنّها تبحث عن إمكان بقاء الجنس بعد زوال فصله ، أو استحالته على مستوى الإمكان العقلي ، بينما بحثنا في المقام إثباتي ، بمعنى أنّ الدليل المنسوخ هل يمكن أن يستفاد منه بقاء الجواز إثباتا أم لا ، وعليه ، فلا ربط بين البحثين.

وهذا الاعتراض أيضا غير صحيح : لأنّ مقصود من يفرّع هذه المسألة على تلك المسألة ، أن يقول : إنّه بعد الفراغ عن عدم تبعيّة الدلالة التضمّنية للدلالة المطابقيّة في الحجيّة ، إذن نطبّق هذه الكبرى في المقام ، فنتمسك بالدلالة التضمّنيّة لدليل الوجوب للإثبات على الجواز ، والتمسك بذلك فرع إثبات إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل.

وتوضيحه ، هو : إنّ الوجوب يدل تضمنا على الجنس والفصل ، فدليل الوجوب يدل تضمنا على الجنس ، وفي المقام ، الدلالة المطابقيّة لدليل الوجوب سقطت ، فهل تتبعها الدلالة التضمّنية في السقوط ، أو إنّها لم تسقط بعد؟.

فإذا قلنا : بأنّ الجنس يبقى بعد ارتفاع الفصل ، إذن لا يعلم ببطلان المدلول التضمّني ، وما لم يعلم ببطلانه وسقوطه فهو باق على حجيّته.

٢٠٥

وأمّا إذا برهنّا في بحث فلسفي ، أو منطقي ، على استحالة بقاء الجنس بعد ارتفاع فصله ، إذن يصبح الجنس معلوم الارتفاع.

نعم يمكن أن نحتمل جعل وجود آخر له ولو في ضمن فرد آخر فيبقى على الحجيّة إلا أنّه لا يكون مدلولا تصديقيا للدليل المنسوخ وإنما مدلول تصوري ولكن قد علمنا بارتفاع المدلول التّصديقي الموجود لدليل الوجوب ، إذن فالتفريع معقول.

وكلّ هذه الاعتراضات لا موجب لها ، وإنّما الصحيح هو كلام المشهور ، الذي مرجعه التقريب الوسط من هذه التّقريبات السابقة ، وهو التمسّك بالدلالة التضمّنية بعد سقوط الدلالة المطابقيّة ، ولا داعي للتمسّك بألفاظ الجنس والفصل ، وإن وردت في بعض الكلمات ، وحينئذ لا بدّ من إكماله بالتقريب الأول والثالث ليتضح الحق في المسألة.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل ، وهو في بيان الدليل الاجتهادي.

المقام الثاني :

في تنقيح الأصل العملي في المسألة ، بمعنى أنّه هل يمكن بالأصل العملي ، إثبات الجواز بالمعنى الأعم بعد نسخ الوجوب ، أو إنّه لا يمكن ذلك؟.

قد يقرّب ذلك بالتمسّك بالاستصحاب ، حيث يقال : بأنّه كانت عندنا قضيّتان متيقّنتان هما : الجواز بالمعنى الأعم ، والوجوب ، وأنّ الثانية علم ارتفاعها بدليل النسخ ، والأولى لم يعلم ارتفاعها ، فيجري استصحاب بقائها.

وقد أورد السيد الخوئي «قده» (١) على هذا بإيرادين :

١ ـ الإيراد الأول ، هو : إنّ هذا الاستصحاب لا يجري لأنّه من استصحاب

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ص ٢٥.

٢٠٦

القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، لأنّ الجواز بالمعنى الأعم ، جامع محفوظ في ضمن الوجوب تارة ، وفي ضمن الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الإباحة بالمعنى الأخص ، تارة أخرى ، وقد وجد في ضمن حصة وهي الوجوب ، وهذه الحصة يعلم بارتفاعها ، ونشك في بقائه في ضمن حصة أخرى ، وهذا هو استصحاب الكلي من القسم الثالث ، وهو لا يجري.

وهذا الاعتراض غير وارد ، وذلك ، لأنّ الجواز بالمعنى الأعم ليس عبارة عن أمر وجودي محفوظ في ضمن الوجوب تارة وفي ضمن الاستحباب أخرى ، كعنوان الإنسان الذي يحفظ في عدة حصص ، وإنّما الجواز الذي نريد أن نثبته ، هو عبارة عن عدم الحرمة ، إذ المفروض هو التأمين من جهة الحكم التّحريمي ، وعدم الحرمة كان معلوما سابقا ، ولا ينبغي أن يقال : إنّه من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، لأنّه لا تحصّص له في ضمن الوجوب تارة ، وفي ضمن الاستحباب أو الكراهة تارة أخرى ، وإنّما هو حصة واحدة تقترن بالوجوب تارة ، وبالاستحباب تارة أخرى ، وهذا لا يجعله متغيرا ولا متعددا بحسب تعدد واختلاف ما قارنه إذ العدم المشكوك هو عين ذلك العدم المتيقّن ، والأثر الذي هو التأمين ، إنّما يترتب على الجواز بمعنى عدم الحرمة ، بينما الجواز بالمعنى الأعم بمعنى آخر ، جامع بين الأحكام الأربعة ، كما أورد السيد الخوئي «قده» ، فإنّه جواز بمعنى أعم ليس موضوعا لأثر عملي.

فالاعتراض إن أريد به أنّ الجواز هو أمر وجودي له حصص ، فإنّنا مضافا إلى أنّنا لا نتصور مثل ذلك الجامع الوجودي ، كما عرفت ، فإنّنا لا نحتاج إلى استصحابه أيضا.

وإن أريد بالجواز بمعنى عدم الحرمة ، فمن الواضح أنّه لا ينطبق عليه القسم الثالث من استصحاب الكلّي. لأن العدم لا يتعدد ، ولا يتحصّص ، ولا يختلف بتعدد واختلاف وتحصص ما يقارنه. وإن قارن الوجوب تارة ، والكراهة تارة أخرى ، وعليه ، فهو من الاستصحاب الشخصي ، وليس الكلي.

٢٠٧

نعم قد يتوهم أنّ استصحاب عدم الحرمة ، لا يجري لأنّه معارض باستصحاب آخر ، وذلك لأنّ الواجب بعد نسخ وجوبه علمنا بحدوث أحد الأحكام الأربعة الأخرى فيه ، وتبدّل عدمها بالوجود بعد نسخ الوجوب ، وحينئذ يتعارض عدم الحرمة هذا مع عدم أحد هذه الأحكام الأربعة ، كعدم الاستحباب ، أو مع عدم الكراهة ، وهكذا ، قد يتوهم.

ولكن هذا التوهم غير صحيح ، إذ أقل ما يقال فيها : إنّه حتى لو سلّمنا أنّ الإباحة حكم وجودي في مقابل الأحكام الأخرى ، فإنّ الاستصحاب لا يجري فيها في نفسه ، فضلا عن أن يكون معارضا باستصحاب عدم الحرمة ، وذلك لأنّ الاستصحاب إنّما يجري إذا كان منجزا ، أو معذرا ، لأنّه أصل عملي ، وقد جعل لذلك ، فاستصحاب عدم الحرمة مثلا معذّر ، بينما استصحاب عدم الإباحة بالمعنى الأخص ، ليس بمعذر ، ولا بمنجز ، لأنّه لا يلائم مع الحرمة ، ولا يثبت به الإلزام كي يكون منجّزا.

أمّا كونه غير معذّر فلأنّ نفي الإباحة بالمعنى الأخص ، يلتئم مع الحرمة.

وأمّا كونه ليس بمنجّز ، فلأنّ التنجّز به فرع إثبات الإلزام ، واستصحاب عدم الإباحة لا يثبت الإلزام به إلّا بالأصل المثبت ، وهو كما تعلم حكايته ، ناهيك عن أنّ التنجيز ليس مترتبا على استصحاب عدم الإباحة لو فرض أنّها حكم وجودي ، فكيف بك إذا لم تجعل أصلا ، فإنّه لا يترتّب عليها تنجيز بطريق أولى.

إذن ففي المقام ، حتى لو قلنا بأنّ الإباحة بالمعنى الأخصّ ، حكم وجودي ، وأنّه يوجد في المقام أحكام وجودية أربعة ، وقد علم بحدوث واحد منها ووجوده ، فإنّه رغم هذا كله ، لا يجري استصحاب عدم الإباحة بالمعنى الأخصّ ، لأنّ استصحاب عدم الإباحة بالمعنى الأخصّ ، ليس بمعذّر ، ولا بمنجّز كي يشمله دليل الاستصحاب ، بينما دليل الاستصحاب

٢٠٨

يشمل استصحاب عدم الحرمة ، لأنّه معذّر ومنجّز ، وهو يشمله بلا معارض.

إذن ، فالصحيح إمكان إجراء الاستصحاب لإثبات الجواز بالمعنى الأعمّ.

٢ ـ الإيراد الثاني ، هو : إنّ هذا الاستصحاب ، (١) من الاستصحاب في الأحكام الإلهيّة الكليّة ، والسيد الخوئي «قده» ممّن لا يقول بجريانه في الأحكام الكلية الإلهية في الشبهات الحكمية ، بل هو لا يرى الاستصحاب إلّا في الشبهات الموضوعيّة.

وهذا غير صحيح ، مبنى وبناء :

أمّا مبنى : فلما سوف يأتي في مباحث الاستصحاب ، من كون المختار أنّه يجري في الشبهات الحكمية ، كما يجري في الشبهات الموضوعيّة.

وأمّا بناء : فلأنّه حتى لو اخترنا مبنى السيد الخوئي «قده» ، فإنّ مبناه لا ينطبق في المقام لأنّه على خلاف ما يقول به من التفصيل بين استصحاب الحكم الإلزامي ، واستصحاب الحكم الترخيصي ، فهو عند ما يمنع من جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة ، إنما يمنع من جريانها في الأحكام الإلزاميّة ، فهو مثلا لا يستصحب حرمة وطي الحائض ، أو بقاء النجاسة في الماء بعد زوال تغيّره.

إذن فالاستصحاب الذي يراه السيد الخوئي «قده» غير جار للمعارضة مع استصحاب عدم الجعل ، إنّما هو استصحاب بقاء الحكم الإلزامي في الشبهات الحكميّة ، وليس استصحاب عدم الحكم والترخيص ، كما في مقامنا.

وبناء على هذا نقول : بأنّ الاستصحاب الذي نتمسّك به ، هو

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ص ٢٥.

٢٠٩

استصحاب في الحكم الترخيصيّ ، لا الإلزامي لأنّه استصحاب للجواز بالمعنى الأعم ، أي : بقاء الإباحة ، فيجري الاستصحاب ، لأنّه لا تعارض بين استصحاب بقاء المجعول والحكم الترخيصيّ ، هذا كله في استصحاب الجواز بالمعنى الأعم.

نعم يمكن أن يشكل فيما لو كان المراد استصحاب ما هو أخصّ من الجواز بالمعنى الأعم ، كإثبات خصوص الطلب بالاستصحاب حيث يقال : إنّه بناء على مسلك المشهور من كون الطلب الوجوبي والطلب الاستحبابي متغايرين جعلا من قبل الشارع ، حينئذ لا يجري استصحاب بقاء أصل الطلب الموجود وجودا تضمنيا تحليليا في ضمن الطلب الوجوبي الذي هو مفاد الأمر المنسوخ ، وذلك لشبهة استصحاب القسم الثالث من الكلّي ، حيث يقال هنا : بأنّ الطلب جامع بين نوعين منه أحدهما الطلب الوجوبيّ الذي هو مفاد الأمر المنسوخ ، وأصل الطلب الموجود ضمن الوجوب وجودا تضمنيا تحليليّا هو مشكوك بقاؤه ، فلا يجري استصحاب وجوده ، إلّا إذ أجري الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي.

وأمّا بناء على مسلك الميرزا «قده» (١) من أنّ الطلب شيء واحد ، والمجعول سنخ واحد ، غايته أنّه يقترن بالإذن بالتّرك ، فينتزع العقل عنوان الاستحباب تارة ، وإن اقترن بعدم الترخيص بالتّرك ، انتزع العقل عنوان الوجوب تارة أخرى.

بناء على هذا المسلك ، حينئذ لا بأس بإجراء استصحاب الطلب ويكون هذا استصحابا شخصيا ، إذ لا مانع من أن يستقر طلب على فعل يبدأ واجبا وينتهي مستحبا فيجري استصحاب جامع الطلب.

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٧٠ ـ ٧١.

٢١٠

وبتعبير آخر : إنّ شخص ذلك الطلب المجعول ممّا يمكن بقاؤه بعد طروّ الناسخ للوجوب.

ومن هنا يتضح الأمر فيما ألمح إليه في (الكفاية) (١) ، من أنّ العرف يرى تغاير الوجوب والاستحباب وتباينهما في الوجود ، وإن كان بحسب الدقّة العقليّة لا فرق بينهما إلّا في الوجود الواحد ، وحينئذ لا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدّل أحدهما بالآخر ، فإنّ حكم العرف ونظره يكون متّبعا في هذا الباب.

أقول : بناء على مسلك الميرزا «قده» من كون الوجوب والاستحباب حكما عقليا ، فإنّه كما يمكن إجراء استصحاب الطلب استصحابا شخصيا ، لكون شخص ذلك الطلب المجعول يمكن بقاؤه بعد طروّ الناسخ للوجوب ، كذلك يمكن إجراء استصحاب روح الطلب ـ التي هي الإرادة التشريعيّة وحبّ المولى ـ في أصل الإرادة والحب استصحابا شخصيا ، ولو بالمرتبة الضعيفة للإرادة التي لا يعلم بارتفاعها.

ومن هنا يتّضح عدم تماميّة ما ألمح إليه في (الكفاية) من عدم جريان الاستصحاب في روح الطلب.

ذلك لأنّ العرف ، وإن كان يرى التباين بين الوجوب والاستحباب ، ولكنه لا يرى تباينا بين الإرادة التشريعيّة اللزوميّة ، والإرادة التشريعيّة غير اللزوميّة التي هي من مبادئ الحكم.

هذا تمام الكلام فيما إذا نسخ الوجوب.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٢٥.

٢١١
٢١٢

الواجب التخييري

ينقسم الواجب إلى : تعييني وتخييري.

وقد عرّف «التعييني» : بأنّه ما ليس له بدل ، وعرّف «التخييري» بأنّه ما يجوز تركه إلى بدل.

وقد أثيرت مشكلة في تفسير الواجب التخييري ، باعتبار ما قيل في تعريفه : من أنّه الواجب الذي يجوز تركه إلى بدل ، إذ إنّ التعريف اشتمل على أمرين وعنصرين متنافيين وهما : الإلزام المتمثل في كلمة الواجب ، والعنصر الثاني المنافي للإلزام هو كلمة «يجوز تركه إلى بدل» ، وحينئذ استشكل في وجوب استبطن اللّاوجوب.

وقد قيل في تخريج الوجوب التخييري وتصويره ، لدفع مشكلة تعريفه عدة نظريات :

النظرية الأولى :

وذلك أنّ الوجوب في موارد التخييري ، يتعلّق دائما بفعل معيّن ، وهو الذي سوف يختاره المكلّف في مقام التطبيق والامتثال واقعا ، فمن اختار صيام شهرين متتابعين ، يكون الوجوب في حقه متعلقا بالشهرين المتتابعين تعيينا ، وهكذا من اختار إطعام ستين مسكينا ، فالوجوب دائما يتعلق بما يختاره المكلف

٢١٣

من البدائل ، وحينئذ يكون ما اختاره المكلّف من البدائل خارجا ، هو الواجب عليه تعيينا.

وبهذا يرجع الواجب التخييري إلى الواجب التعييني ، غايته أنّ متعلق الوجوب في صيام الشهرين غير متعلق الوجوب في الإطعام.

وهذه المحاولة لإبطال جنبة التخيير ، وإرجاع التخييري إلى التعييني ، قد تصدّى السيد الخوئي «قده» (١) لها ، واعترض عليها بعدّة اعتراضات :

١ ـ الاعتراض الأول ، هو : إنّ هذا التفسير للواجب التخييري ، يخالف وينافي صريح القاعدة ودليل الاشتراك في التكاليف ، التي هي من القواعد الضرورية ، إذ إنّ دليل الاشتراك يفيد بأنّ المكلّفين ضمن ظروف واحدة يكلّفون بتكليف واحد لا فرق بينهم ، وإن كان قد يتغاير التكليف بتغاير ظروف المكلفين ، حيث لا يجب «الحج» على غير المستطيع ، بينما يجب على المستطيع.

إذن تفسير الوجوب التخييري كما طرح هو خلاف دليل الاشتراك ، حيث يختار كل مكلّف غير ما يختاره الآخر.

٢ ـ الاعتراض الثاني ، هو : إنّ هذا التفسير يرجع الوجوب التخييري إلى تحصيل الحاصل (٢) ، لأنّ الواجب التخييري سوف يكون منوطا باختيار المكلف ، فكأنّه يرجع إلى قوله : «إذا اخترت الصوم وجب عليك الصوم» ، وهذا ممّا لا معنى له ، لأنّ إناطة وجوب شيء باختيار ذلك الشيء ، يجعل الوجوب بمثابة تحصيل الحاصل ، إذ يصبح بلا موجب ، ولا ملاك في بعثه وتحريكه ، وهو محال.

وهذان الاعتراضان متهافتان لا يمكن الجمع بينهما.

__________________

(١) محاضرات فياض ـ ج ٤ ـ ص ٢٦.

(٢) محاضرات فياض ـ ج ٤ ص ٢٦ ـ ٢٧.

٢١٤

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ عنوان «ما يختاره المكلّف» كما في التفسير الأول للواجب التخييري ، تارة يؤخذ بنحو الموضوعية ، بحيث يكون هذا العنوان هو موضوع الوجوب ، ومركز التكليف.

وأخرى يؤخذ بنحو المعرّفيّة والمشيريّة ، بحيث يكون مصب الوجوب ومركز التكليف هو ذات الشهرين بلا دخل لعنوان الاختيار.

فإن فرض الأول ، وهو كون العنوان مأخوذا على نحو الموضوعية : فالاعتراض الأول لا يرد عليه ، لأنّ الاشتراك محفوظ ، حيث أنّ الكل يجب عليهم عنوان واحد ، هو «عنوان ما يختاره المكلّف» ، فهو مشترك بين الجميع.

غايته أنّ هذا العنوان يختلف مصداقه الخارجي ، ولكن يكون كل من البدائل مصداقا لما هو الواجب ، وهو «عنوان ما يختاره المكلف» ، لا إنّه الواجب.

ومثاله عنوان «وجوب امتثال ما يؤمر به الإنسان» رغم كونه مختلف المصاديق ، إذ المناط في دليل الاشتراك ، هو وجود عنوان واحد يكون مصبا للوجوب ، وهنا في المقام ، عنوان واحد هو مصب الوجوب لدى الجميع ، وعليه فالاعتراض الأول باطل.

وإن بني على الفرض الثاني ، وهو كون العنوان مأخوذا على نحو المعرفيّة والمشيريّة إلى ذات ما يختاره الشخص الذي في علم الله أنّه سوف يختار صيام شهرين ، كما لو قيل له من أول الأمر ، صم شهرين ، لكن من دون إناطة الوجوب بالاختيار وإنّما الاختيار معرّفا ومشيرا ، حينئذ لا يبقى مجال للاعتراض الثاني لأنّ الوجوب فيه ليس منوطا جعله بالاختيار وإنما الاختيار عنوان مشير للمكلف به ..

وبتعبير آخر ، يقال : إنّ الواجب هو واقع الفعل الذي اختاره المكلف ، ولكنّ المولى أشار بهذا العنوان إلى أحكام عديدة بعدد المكلفين ، لم

٢١٥

يجعلها عليهم ، وإنّما استغنى عنها بهذا العنوان المشير ، هذا بالنسبة للاعتراض الأول.

وأمّا بالنسبة للاعتراض الثاني ، وهو لزوم تحصيل الحاصل ، فإنّه إنّما يكون واردا ، فيما إذا كان متعلق ما يختاره المكلف بنحو القضية الفعليّة ، وأمّا إذا كان المتعلق هو ما يختاره المكلف بنحو القضية التعليقيّة كما لو أوجب المولى مختار المكلف من البدائل فلا يكون حينئذ من باب تحصيل الحاصل ، لأنّ عنوان «ما يختار المكلف» مأخوذ قيدا في الواجب ، لا في الوجوب.

٣ ـ الاعتراض الثالث ، هو : إنّ الوجوب التخييري ، إذا كان متعلقا بما يختاره المكلف في الواقع ، حينئذ نسأل : إذا لم يختر المكلف شيئا ـ كما في حالة العصيان ـ فهل إنّ الوجوب يكون ثابتا في حقه ، أو لا يكون ثابتا؟ فإن قيل : بأنّ الوجوب ليس ثابتا في حقه ، فمعنى هذا ، أنّ العصيان أيضا هو غير ثابت في حقه ، وهذا غير معقول ، إذ الوجوب الذي ليس له عصيان ، لا يكون جعله معقولا.

وإن قيل بالأول ، وهو كون الوجوب ثابتا في حقه : فهذا أيضا غير معقول ، وذلك لبقاء الوجوب بلا متعلّق ، حيث أنّ المكلّف لم يختر شيئا ، وبقاء الوجوب في حقه من دون متعلّق لهذا الوجوب محال أيضا.

وهذا الاعتراض ، إنّما يرد ، فيما إذا كان المراد من الاختيار ، هو الاختيار بنحو القضية الفعليّة ، لا بنحو القضيّة الشرطيّة.

وتوضيحه ، هو : إنّه تارة يراد بهذه النظرية إناطة الوجوب بالاختيار الفعلي ، فيقال حينئذ : بأنّ العاصي لا اختيار فعلي له.

وأخرى يراد بهذه النظرية ، إناطة الوجوب بالاختيار التقديري ، أي إنّ الوجوب متعلّق بذلك الفعل الذي لو أراد المكلف الامتثال لفعله ، حينئذ يمكن أن يقال : بأنّ متعلق الوجوب محفوظ حتى في ظرف العصيان ، إذ إنّه

٢١٦

في فرضه ، سوف يختار متعلقا يناسب مزاجه وقواه.

وبهذا البيان يدفع الاعتراض الثاني أيضا ، وذلك إذا فسّرنا الاختيار على نحو القضية الشرطيّة ، حينئذ يكون مرجع الوجوب إلى أنّه ، «إن كنت سوف تختار الصوم في حالة ، لا بدّ لك فيها من الاختيار ، فيجب عليك الصوم» ، وحينئذ ، يكون وجوب الصوم منوطا بتفضيل الصوم على بديله لا باختياره فعلا. فيكون من يرجح الصوم على بديله ملزما بالصوم. وهذا ليس تحصيلا للحاصل كما فرض في الاعتراض الثاني ، وذلك لأنّه ليس كل من يؤثر الصوم على بديله يصوم.

ففرق بين أن يكون الصوم منوطا بالاختيار المطلق ، فينتج تحصيل الحاصل ، وبين أن يكون الصوم منوطا بالاختيار النسبي ، فلا يلزم تحصيل الحاصل.

نعم إذا فرضنا أنّا بنينا على أنّه يمكن فرضا ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح ، بل فرضنا وقوع ذلك خارجا ، من قبيل طريقي الهارب ، ورغيفيّ الجائع.

حينئذ قد يقال : بأنّ ما سوف يختاره بهذا المعنى الشرطيّ من الاختيار ، أمر غير متعيّن أصلا ، إذ لا توجد أيّ مرجّحات لما يختاره ، فإذا فرضنا أنّ الإنسان لا يؤثر الصوم على بديله ، لأنّ البدائل كلها بالنسبة إليه سواء ، إذن سوف يختار واحدا منها بلا مرجح ، وحينئذ ، حتى لو قلنا بهذا ، فهذا اعتراض غير مهم ، لأنّه حتى لو جوّزنا ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح ، وقلنا بإمكانه ، فهو غير عمليّ ، وهذا يكفي لدفع الإشكال.

إذن فالاعتراض الثاني والثالث كلاهما غير صحيح ، وإن كان الاعتراض الأوّل له صورة ، لأنّ المفروض أنّ الوجوب لم يكن منوطا بالاختيار في عالم جعله ، بل الاختيار عنوان مشير لمتعلق التكليف ، أو للمكلف به.

٢١٧

وإن شئت قلت : بأنّه يمكن دفع الاعتراض الثالث ، بأن يقال : بأنّ متعلق الوجوب هو ليس ما يختاره المكلّف بالفعل ، وإنما متعلق الوجوب هو ما يؤثره ويفضّله المكلّف من البدائل ، إذا شاء أن يختار أحدها في حالة لا بدّ له فيها من الاختيار ، وحينئذ يكون وجوب ما آثره المكلّف وفضّله منوطا بتفضيل ما فضّله على بديله ، وليس منوطا باختياره فعلا ، وحينئذ يكون من يرجح المفضّل على بديله ، ملزما بهذا البديل المفضّل ، وهذا محفوظ حتى في فرض العصيان كما عرفت ، وحينئذ لا يلزم من هذا تحصيل الحاصل.

نعم لو فرضنا حالة ، فقد فيها المكلّف كل ترجيح لأحد البدائل على الآخر ، بل لو فرضنا وقوع هكذا حالة خارجا ، كطريقي الهارب ، ورغيفيّ الجائع ، فإنّه حينئذ ـ حتى لو بنينا على إمكان الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختياريّة ، ـ فإنّه لا يوجد أيّ تعيّن أو تقرّر لمتعلق الوجوب.

وهذا رغم كونه معقول ثبوتا ، وإن لم يقع إثباتا ، إلّا أنّه لا يمنع عن كونه تكليفا عقلائيا.

وقد عرفت بأنّ هذا الجواب ، هو أيضا جواب على الاعتراض الثاني ، كما مرّ.

الاعتراض الرابع ، هو : إنّ محاولة تفسير الوجوب التخييريّ كما عرضت ، خلاف ظاهر دليل الواجب التخييريّ ، إذ ظاهر دليله إثباتا ، إنّ التكليف واقف بين البدائل كلها على مسافة واحدة ، وليس الوجوب هو خصوص ما يختاره المكلف فقط.

وهذا الاعتراض منهجيّته غير صحيحة ، لأنّ صاحب محاولة تفسير الوجوب التخييريّ ، إنّما يفسره بهذه الصورة على أساس أنّه من الحقائق التشريعيّة المعروفة في المجتمعات العقلائيّة ، والمركوزة في أذهان العقلاء ووجداناتهم.

٢١٨

وعليه يقال : إن كان هذا التفسير صادقا وموافقا مع المركوز في أذهان العقلاء ووجداناتهم ، حينئذ يجب إخضاع الدليل لهذا التفسير ، وحمل ظاهر الدليل عليه ، كما هو الحال في كل ارتكاز عقلائي ، فإنّه يكون حاكما على ظاهر الدليل ، وإن لم يكن هذا التفسير على طبق المرتكزات العقلائية ، بل كان على خلافها ، حينئذ يرد ما ورد عليه ، من أنّه على خلاف المرتكز في أذهان العقلاء وبهذا يكون الإشكال ثبوتيا.

والصحيح هو أن يقال : إنّ الوجوب التخييريّ حسب التفسير الأول ، إن أريد بالاختيار فيه ، مجرّد المعرفيّة والمشيريّة ، فهو على خلاف الارتكاز العقلائيّ والعرفيّ.

وإن أريد أخذ الاختيار فيه على نحو الموضوعية ، بحيث يكون ما يختاره مصداقا لمتعلق الوجوب فهذا معناه ، التفتيش عن جامع انتزاعيّ بين الأفراد ، وحينئذ نقول : إن كان «عنوان ما يختاره» عنوانا جامعا بين البدائل على حدّ «عنوان أحدها» ، إذن فلنقل ابتداء : إن كان الوجوب التخييريّ الشرعي عبارة عن إيجاب الجامع ، فحينئذ ، لا موجب لتطويل المسافة ، وأخذ «عنوان ما يختار» ، بل يقال من أول الأمر : فليكن متعلق الوجوب والعنوان الجامع بين البدائل هو «عنوان أحدها».

النظرية الثانية : في تفسير الوجوب التخييري ، هي للمحقق الخراساني «قده» (١)

وحاصلها ، هو : إنّه يمكن إرجاع الوجوب التخييريّ في بعض الموارد إلى فرض ملاكين ومصلحتين كاملتين موجودتين ، كل منهما قائمة في أحد العدلين ، حيث يكون مقتضى الطبع حينئذ ، أن يحكم المولى بوجوب كل واحد منهما على نحو الوجوب التعيينيّ ، إلّا أنّ الذي منع من ذلك ، هو وجود التنافي بين هذين الملاكين اللّذين يراد التوصل إليهما عن طريق هذه الأفعال.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٢١٩

وإن لم يكن هناك تناف بين الفعلين ، بل إنّه يمكن الجمع بين الصوم والعتق ، ولكن ملاك الصوم لا يترتّب على الصوم ، لو وجد العتق وملاكه.

ومن هنا فالمولى لا يأمر بهما معا بأمرين تعينيّين ، لأنّه لا يمكن التوصل إلى كلا الملاكين ، لأنّ وجود أحدهما يمنع من حصول الآخر ، وحينئذ هنا ، يحكم المولى بوجوبين مشروطين ، كل منهما متعلق بأحد الفعلين بخصوصه وعنوانه ، مشروطا بعدم الآخر.

غاية الأمر أنّ الوجوب المتعلق بكل واحد من الفعلين ، ليس وجوبا على الإطلاق ، بل مشروط بترك الفعل الآخر ، وهذا معناه ، وجود تناف وتضاد بين الملاكين.

وقد اعترض على هذه النظرية السيد الخوئي «قده» (١) وغيره من المحقّقين بعدة اعتراضات :

١ ـ الاعتراض الأول : هو إنّ هذه الفرضيّة على خلاف ظاهر دليل الوجوب التخييري ، إذ إنّ ظاهر دليله لا يناسب إنشاء وجوبات متعددة على الأفعال بعناوينها التفصيليّة ، بل ظاهره إثباتا ، في أنّه خطاب واحد ، وإنشاء لوجوب فارد ، لا خطابان مشروطان.

وهذا الإشكال كأنّه إثباتي ، لا ينطبق على هذه الفرضيّة ، ولذلك لا يكون واردا على المحقق الخراساني «قده».

والتحقيق ، هو : إنّ صاحب هذه الفرضيّة ، لم يفترض هذا التفسير للوجوب التخييري في سائر موارد الوجوب التخييريّ ، وإنّما قصد : إنّ هذه الفرضيّة تنطبق على بعض موارد الوجوب التخييريّ ، لأنّ الوجوب التخييريّ ليس دائما بلسان «صم» ، أو «أعتق» ، أو «أطعم» حتى يقال : بأنّ الوجوب التخييريّ لا يناسب جعل وجوبين.

__________________

(١) محاضرات فياض ـ ج ٤ ص ٣٣ ـ ٣٤ ـ ٣٥ ـ ٣٦ ـ ٣٧ ـ ٣٨.

٢٢٠