بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وتوضيحه هو : إنّ الوجوب التخييريّ ، تارة يتحصّل للفقيه من دليل واحد ، كما لو ورد في دليل واحد ، «إذا أفطرت ، فصم» ، أو «أعتق» ، أو «أطعم» ، وحينئذ قد يدّعى : إنّ هذا اللسان ظاهر في وحدة الوجوب.

وتارة أخرى ، يحصل الفقيه على الوجوب التخييريّ ، من ضمّ دليلين أحدهما إلى الآخر ، كما لو دلّ دليل على وجوب «خصلة» ، ودلّ دليل آخر على وجوب «خصلة» أخرى ، وحينئذ ، فإمّا أن نفرض أنّ كلا من الدليلين ليس له إطلاق لفرض فعل الآخر ، وذلك إمّا لكون الدليل لبّيا ليس له إطلاق ، وإمّا لكون الدليل لفظيا ، لكن المولى لم يكن في مقام البيان من سائر الجهات ، فلم تتم فيه مقدمات الحكمة لكي يثبت له وجوب على الإطلاق.

وفي مثل ذلك يقال : بأنّ القدر المتيقّن من دليل ، «إذا أفطرت فأعتق» ، هو وجوب العتق في فرض عدم الصيام ، وهكذا الحال بالنسبة لدليل «إذا أفطرت فصم» فإنّ وجوب الصيام يكون في فرض عدم العتق ، إذن فبضم أحد الدليلين إلى الآخر ، نحصل على الوجوب التخييريّ.

وإمّا أن نفرض أنّ لكل من الدليلين إطلاقا في نفسه ، فيجب عليه العتق على كل حال سواء ، «صام ، أم لم يصم» ، لكن علم من الخارج أنّه لا يجب عليه الجمع العرفي بينهما ، المقتضي لتقييد وجوب كل واحد منهما بترك الآخر ، كما هو مختار السيد الخوئي «قده» في مثل ذلك ، حيث يقال : بأنّ أصل الوجوب في كل منهما لا ينافي الوجوب في الآخر.

وبتعبير آخر ، إنّ هذين الوجوبين يتعارض إطلاق أحدهما مع ما إذا صام ، ويتعارض إطلاق ما إذا ضام لما إذا تصدّق وإذا تعارضا وتساقطا يبقى القدر المتيقن ، وهو ما إذا صام ولم يعتق ، أو أعتق ولم يصم.

أو فقل : إنّه يتعارض إطلاق كل منهما في حال الإتيان بالآخر ، فيبقى إطلاق كل منهما على حاله في حال ترك الآخر.

وفي مثل هذا الفرض ، فرض العلم بالتخيير ، من ضم دليل إلى دليل ،

٢٢١

يصح تصور المحقق الخراساني «قده» ، ويكون منسجما مع ظاهر دليل التخيير ، وموافقا له في مقام الإثبات ، وليس مخالفا له ، إذ الفرضيّة التي طرحها المحقق الخراساني «قده» هي من الناحية الإثباتيّة غير متوقفة على الذي ذكر في الاعتراض ، فالاعتراض غير تام.

٢ ـ الاعتراض الثاني : هو أنّ الغرضين والملاكين المفروض التنافي بينهما :

تارة يفرض عدم حصولهما معا في عمود الزمان لا مقترنين ، ولا مترتّبين ، بل كلما وجد أحدهما امتنع الآخر.

وأخرى يفرض عدم إمكان اجتماعهما مترتبين فقط ، وأمّا وجودهما مقترنين فمعقول ، يعني من «صام وأعتق». في وقت واحد ، فسوف يحصل كلا الملاكين ، ومن صام ثم أعقبه بالعتق ، لم يحصّل إلّا ملاكا واحدا.

وحينئذ ، فإن فرض الأول ، وهو التنافي بينهم اقترانا وترتّبا ، لزم منه ، أنّه لو أتى بكلا عدليّ الواجب التخييريّ في وقت واحد ، لزم عدم تحصيله شيئا من أغراض المولى ، لأنّهما متنافيان ، ولا يمكن الجمع بينهما بحال ، إذ إنّ أحدهما يمنع عن تأثير الآخر في ملاكه ، فلا ملاك «العتق» يحصل ، لأنّ الآخر موجود ، وهكذا الآخر.

وهذا خلاف الضرورة والوجدان في باب الواجبات التخييريّة.

وإن فرض الثاني ، كان لازمه أنّ المولى يجب عليه أن يأمر بإيجادهما معا مقترنين دائما ، لأنّ المفروض وجود ملاك ملزم في كل منهما ، فيمكن تحصيلهما لو أمر بهما مقترنين ، وهذا أيضا خلف الوجوب التخييريّ.

وهذا الاعتراض غير صحيح ، ويمكن ردّه بصياغة فرضيّة المحقق الخراساني «قده» بأحد تقريبين :

١ ـ التقريب الأول ، هو : أن يقال : بأنّ أحد هذين الغرضين المتنافيين

٢٢٢

بنحو أنّ أحدهما ترتّبه على فعله وسببه ، موقوف على عدم وجود الآخر ، لا قبله ولا معه ، بمعنى أنّ مطلق وجود العدل الآخر في عمود الزمان مانع عنه ، وأمّا الغرض الثاني فترتّبه على فعله ، وسببه هو فرع عدم وجود الأول قبله ، لا حينه ، مثلا نفرض أنّ الإطعام لا قبل العتق ولا بعده. وأمّا الإطعام فترتب الغرض عليه موقوف على أن لا يكون قبله عتق.

وهذا بحسب الحقيقة ، تعبير آخر عن افتراض الجمع الملفّق من الفرضين اللّذين أبداهما صاحب الاعتراض ، وهما : إنّ العتق يترتّب غرضه على عدم كون الصوم قبله ، أو مقارنا معه ، وأمّا الصوم فترتّب غرضه موقوف على أن لا يكون قبله عتق.

وبناء عليه ، فلو أنّ المكلّف جمع بينهما ، فقد استوفى ملاك الصوم ، لكون وجود الآخر مقارنا معه غير مانع من ترتب غرضه عليه وبذلك يكون الامتثال قد حصل به.

نعم ملاك العتق لم يوجد ، لأنّنا فرضنا أنّ ملاكه موقوف على أن لا يكون قبله ، ولا حينه ، إطعام.

ومن هنا فليس من اللازم أن يأمر المولى بالجمع بينهما ، لأنّ ذلك لا يؤدي إلى تحصيل كلا الملاكين ، حتى لو جمع ، كما عرفت ، وإنما يأمر بهما لو كان يحصّل كلا الملاكين.

٢ ـ التقريب الثاني ، هو : أن نفرض التنافي في كل منهما بنحو يماثل التنافي في الآخر.

وحاصله ، هو : إنّه كلما وجد أحدهما ، فسوف يكون سببا في إسقاط المتأخر عن التأثير رأسا ، فلو عتق ، فلن يترتب على الإطعام ملاكه ، ولو أطعم لم يترتب على العتق ملاكه رأسا ، وأمّا لو اقترنا ، فهنا أيضا يكون كل منهما مانعا ، ولكن مانعيته في حالة الاقتران ، أضعف من مانعيته في حال التقدم ، فهو يمنع ، بمعنى أنّه يضعّف الآخر وينصّفه.

٢٢٣

ومعنى هذا إنّه في حال الاقتران نحصل على نصف ملاك العتق ، ونصف ملاك الإطعام وهذان النصفان يساويان ملاكا كاملا من الملاكين.

وبناء على هذه الفرضيّة ، فإنّ المكلف سوف لن يؤمر بالجمع ، وإنما يكون الجميع امتثالا ، لأنّ المولى في مثل هذه الحالة يكون له ثلاثة أبدال : العتق وحده ، والإطعام وحده ، والمجموع المقترن في زمن واحد ، والمحقق لملاك كامل من المقترنين ، وحينئذ يحكم المولى بوجوب كل من هذه الثلاثة مشروط بترك الآخرين ، وحينئذ لا يلزم كلا المحذورين ، لا محذور عدم الاستيفاء ، لأنّ الوجود الجمعي صار أحد الأعدال الثلاثة ، فيحصل الاستيفاء ، كما لو كان قد أتى بكل واحد على حدة ، وحينئذ لا يرد إشكال إلزام المولى بالجمع ، لأنّه حين الجمع والاقتران سوف يتنصّف أثر كل واحد منهما ، وينتجا معا امتثالا واحدا.

والخلاصة ، هي : إنّ هذا الاعتراض يفترض أنّ الوجود السابق لكل من العدلين على الآخر يؤثر في المنع المطلق لاستيفاء ملاك الآخر ، وأمّا الوجود الجمعي المقارن لهما ، فهو يمنع عن استيفاء نصف الملاك الآخر في كل منهما ، لكن استيفاء نصف ملاك كل واحد منهما ، يشكّل ملاكا كاملا ، كما لو كان استوفى ملاك أحدهما كاملا.

وعلى هذا يكون هناك ثلاثة بدائل ، كل منهما منفردا ، ومجموع العدلين مقترنين ، وحينئذ لا يرد اعتراض أنّه يؤمر بالجمع بينهما ، لأنّه بالجمع بينهما ، وإن كان يستوفي نصف ملاك كل منهما ، لكن باستيفاء النصفين فيهما ، كأنه استوفى ملاكا كاملا ، وهو كاف في مقام استيفاء المولى لملاكات أحكامه.

٣ ـ الاعتراض الثالث للسيد الخوئي «قده» (١) على صيغة التفسير المطروحة للوجوب التخييريّ ، وحاصله هو : إنّ المكلّف ـ بناء على الصيغة

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٢٤

المقترحة لتفسير الوجوب التخييريّ ـ ينبغي أن يعاقب بعقابين لو لم يأت بكلا العدلين ، كما «لو لم يصم ، ولم يعتق» ، لأنّ كلا الفعلين المشروطين أصبح فعليا بترك الآخر.

ولا يقال : بأنّه كيف يعاقب بعقابين في حين أنّه لا يقدر على تحصيل كلا الملاكين ، إذ إنّه على خلاف المفروض في الواجبات التخييريّة ، إذ فيها ، لا يحصل أكثر من معصية واحدة واستحقاق عقاب واحد ، إذا ترك كلا العدلين.

فإنه يقال : بأنّه من قبيل التزامنا بتعدد العقاب في باب الترتّب ـ بالرغم من عدم إمكان الجمع بين الفعلين هناك ـ وفي المقام كذلك ، وذلك لتكرر المخالفة وتعدّد العصيان ، بينما هذا لا يمكن الالتزام به في المقام ، فإنّ من يترك الوجوب التخييريّ ، يعاقب بعقاب واحد.

وتحقيق الكلام في مقام ، بيان عدم ورود هذا الاعتراض على تفسير المحقق الخراساني «قده» للوجوب التخييريّ يقال : إنّ الفعلين إذا تعلق بهما وجوبان مشروطان ، بحيث كان كل واحد منهما مشروطا بترك الآخر ، فهذا يكون على نحوين :

١ ـ النحو الأول ، هو : أن يكون ترك العدل الآخر ، قيدا شرعيا في ملاك وجوب الأول ، بحيث لو لا ترك الثاني لم يتصف الأول بكونه ذا ملاك أصلا ، ولو لا ترك الأول لم يتصف الثاني بكونه ذا ملاك أصلا ، فترك كل منهما يأخذ في موضوع الآخر في اتصافه وكونه ذا ملاك.

فمثلا إذا فرضنا أنّ وجوب الأكل ، ملاكه الجوع ، إلّا أنّ «الجوع» مشروط بعدم شرب «الماء» ، فيكون وجوب الأكل مشروطا بترك شرب الماء.

كما أنّ وجوب شرب الماء ، ملاكه «العطش» ، لكن العطش مشروط بترك أكل «الفاكهة» ، ومع أكل الفاكهة لا يحدث عطش ، إذن فكل من الوجوبين مشروط بترك الآخر.

٢٢٥

٢ ـ النحو الثاني ، هو : أن يكون ترك الآخر مأخوذا في موضوع الأول ، لكن لا باعتباره قيدا شرعيا ، إذ كل منهما ذا ملاك في نفسه سواء ترك الآخر ، أو لا ، لكن لضيق الخناق ، ولعجز المكلف عن الجمع بين الملاكين ، يقيّد المولى بترك الآخر ، لئلا يلزم طلب غير الممكن.

والآن في النحو الأوّل ، لو فرض أنّ المكلف خارجا ، كان عنده «ماء» يمكن أن يشرب منه ، «وطعام» يمكن أن يأكل منه ، لكن لا يمكنه أن يجمع بينهما ، ففي مثل ذلك ، لو أنّ المكلف لم يأكل ولم يشرب ، مع تمكّنه من أحد الأمرين ، حينئذ سوف يحصل لدى المولى ألمان وخسارتان : «ألم الجوع ، وألم العطش» ، وكلاهما بسبب المكلف ، لأنّه كان قادرا على أن لا يؤلم المولى ، لا جوعا ولا عطشا ، وذلك بتقديم أحد الأمرين ، إذ لو قدّم الأكل لشبع ولما عطش ، كذلك أصلا ، ولو قدّم الماء لارتوى ولما جاع أبدا ، إذن فكلتا الخسارتين مستندتان إلى العبد.

وفي مثله يستحق عقابين.

ولا ينبغي أن يقال : بأنّه لا يمكن معاقبته بعقابين ، لعدم تمكّنه من الجمع بينهما.

فإنّه يقال : نعم ، هو صحيح أنّه لا يتمكّن من الجمع بينهما ، لكن كان يمكنه أن يتفادى كلتا الخسارتين ، تارة بالإشباع ، وأخرى بالارتواء.

وأمّا في النحو الثاني : فإنّنا ندرس الحالة في عالم الملاكات ، بقطع النظر عن حالة التكليف ، فنرى أنّ المكلف لو اطّلع على هذه الملاكات ، ولم يأت ، لا بالماء ، ولا بالطعام ، إلى مولاه ، إذن فسوف يلاقي هذا المولى ألمين وخسارتين ، لكن إحدى الخسارتين واقعة على كل حال دون أن يقدر المكلف على دفعها ، وإنّما يقدر على أن لا توجد إحدى الخسارتين لا بعينها ، بل بدلا.

٢٢٦

إذن ليس عليه إلّا عقاب واحد ، وليس للمولى أن يعاقبه على ألمين ، لأنّ هذا المكلّف إنّما يقدر على دفع إحدى الخسارتين ، غايته أنّه يقدر على دفعهما بدلا ، فكذلك يكون عقابه بدلا ، فيعاقب على واحدة.

هذا لو لوحظ عالم الأغراض والملاكات بقطع النظر عن عالم الجعل والإنشاء.

ومن الواضح أنّ الجعل والإنشاء لا يكثّر العهدة ، ولا يكثّر العقاب ، لأنّه لا يكثّر الملاكات وإنما هو ينجز التكاليف باعتباره معبرا عن الأغراض والملاكات ، ولهذا لم يكن هناك فرق في التعبير عن الأغراض ، سواء عبّر عنها بالجمل الخبريّة ، أو الإنشائيّة ، بل تكاد تكون وظيفته كما قال الآخر :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

هذا مع حفظ النسبة بين الموردين.

إذن لا معنى لأن يفرض زيادة في حجم العقاب من حيث أنّ المولى استعمل الإنشاء في مقام التعبير عن تلك الأغراض تارة ، أو إنّه استعمل الإخبار للتعبير عنها تارة أخرى.

وعليه ، فالصحيح أنّ هذا التفصيل ينتج ، أنّه متى ما وجد فعلان متضادان ذاتا ، كما في التزاحم ، أو متضادّان عرضا ، كما في فرضيّة المحقق الخراساني «قده» ، فإن كان ترك الآخر قيدا في اتصاف الآخر بكونه ذا ملاك ـ كما سمّيناه في باب الترتّب ، بقيد القدرة الشرعية ـ فإنّه حينئذ لو تركهما معا يعاقب بعقابين ، وقد ارتكب معصيتين.

وأمّا إذا كان ترك الآخر أخذ قيدا للمزاحمة والمضادة ، أي شرطا في وجود الملاك الآخر ، فإنّه حينئذ يعاقب بعقاب واحد ، لأنّ المكلف لم يفوّت على مولاه إلّا خسارة واحدة ، رغم أنّهما من حيث الإنشاء على حدّ سواء.

٢٢٧

وقد عرفت أنّ الإنشاء لا يزيد في إحداث عهدة جديدة ، وحينئذ يقال : بأنّه لا تعدد في العقاب ، لأنّ صاحب (الكفاية) «قده» ، فرض أنّ الغرضين والملاكين متنافيان ومتضادان في الوجود لا في أصل اتصاف الواجبين بالملاك فلو ترك المكلف الجميع حينئذ ، فأحدهما فائت على المولى على كل حال.

وبهذا تتّضح معقوليّة نظريّة المحقق الخراساني «قده» في تصوير الواجب التخييريّ.

نعم هي صحيحة في نفسها ، ومطّردة فيما إذا كان الواجبان متضادّين في الملاك وجودا لا ذاتا ، ولكنها ليست مطردة بالنحو المذكور ، فهي قاصرة عن تصوير الوجوب التخييريّ ، خصوصا في الوجوب التخييري في الضمنيّات ، كالوجوب التخييريّ بين الفاتحة والتسبيحات في الرّكعة الثالثة ، إذ إنّه فيها لا يعقل إرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوبين مشروطين ، لأنهما مجعولين بجعل واحد استقلاليّ ، مضافا إلى كون الجعل الضمني تابعا للجعل الاستقلالي.

إذن ففرضية المحقق الخراساني «قده» ، معقولة ولكنها ليست مطّردة ، والمحقق الخراساني لم يدّع اطّرادها فيما إذا لم يكن بين الواجبين تضاد في الملاك وجودا لا ذاتا.

وبتعبير آخر يقال : إنّ هذا الاعتراض على نظرية المحقق الخراساني «قده» ، غير وارد أيضا ، لأنّ شرائط الوجوب على نحوين ، أحدهما : شرائط اتصاف الآخر بكونه ذا ملاك ، والثاني : شرائط وجود الملاك الفعلي على كل حال ، وحينئذ يقال : إنّه في موارد التنافي والتضاد الذاتي بين الواجبين ، كما في باب التزاحم ، أو التنافي والتضاد ملاكا ، كما في المقام.

في مثله ، بناء على فرضيّة المحقق الخراساني «قده» ، إذا كان ترك كل منهما قد أخذ شرطا في اتصاف الآخر بالملاك ، فإنّ تركهما معا ، معناه ،

٢٢٨

حصول خسارتين وألمين للمولى وذلك لأن المولى لم يحصل على شيء منهما ، رغم كون كلا الملاكين فعليا ، وعليه ، فيعاقب بعقابين ، إذ كان هذا المكلف قادرا على عدم إيلام مولاه ، لا جوعا ، ولا عطشا ، وذلك بتقديم أحد الأمرين ، فلو قدّم الأكل لشبع ، ولما عطش ، ولو قدّم الماء ، لارتوى ولما جاع ، والمفروض أنّه هنا لم يأكل ولم يشرب ، إذن فكلتا الخسارتين مستندتان إلى المكلف وفي مثله يستحق عقابين.

وأمّا إذا كان ترك كل منهما قد أخذ شرطا في وجود الملاك الآخر ، حينئذ يكون ترك أحد الملاكين ووقوع إحدى الخسارتين ممّا لا مفرّ منه ، بل هي واقعة على كل حال ، ولا يقدر المكلف على دفعها ، وإنّما يقدر على أن لا توجد الخسارة الثانية ، إذا كان وقوع الأخرى ضروريا.

وحينئذ يقال : إنّه إن كان مناط الثواب والعقاب ، هو دفع ألم المولى وخسارته ، بحسب عالم الأغراض والملاكات ، إذن فلا موجب إلّا لاستحقاق عقاب واحد ، لأنّ المكلف إنما كان قادرا على دفع خسارة واحدة لا بعينها من خسارتين.

وإن كان المناط هو مخالفة الإنشاء والجعل بما هو إنشاء ، بقطع النظر عن مبادئه من الأغراض والملاكات ، حينئذ ، هنا مخالفتان لإنشاءين كان يمكن المكلّف منع تحققهما ، بأن يأكل أو يشرب ، ولكنه لم يأكل ولم يشرب ، فحصلت الخسارتان بسببه ، وفي مثله ، يستحق عقابين.

هذا ، ومن الواضح ، إنّ الصحيح في مناط الثواب والعقاب إنّما هو مبادئ الحكم وملاكه ، لا جعله وإنشاؤه.

ومن هنا ، لا يفرق الحال في حجم العقاب وترتّبه في المقام ، سواء أبرز المولى ملاك حكمه بصيغة الإنشاء أو الإخبار.

وعلى ضوء ما تقدم ، فالصحيح في موارد التضاد والتنافي الذاتي ، أو التضاد الملاكي بين الواجبين ، هو التفصيل ، بين نحوين : أحدهما : فيما إذا

٢٢٩

كان عدم كل منهما أخذ شرطا في اتصاف الآخر بالملاك ، وبين الثاني : وهو ما إذا كان ترك الآخر شرطا في وجود الملاك الآخر.

فإنّه في الأول : يقال بتعدد العقاب لتعدّد المعصية ، كما لو تركهما معا ، وفي الثاني : يقال بوحدة العقاب ، لكون إحدى الخسارتين واقعة على كل حال ، ولا يقدر المكلف على دفعها ، وإن كان قادرا على دفع خسارة واحدة لا بعينها ، رغم كونهما من حيث الإنشاء على حد سواء.

وبذلك يتضح بطلان هذا الاعتراض من السيد الخوئي «قده» على المحقق الخراساني «قده» ، إذ إنّ المحقق العظيم هذا ، قد افترض كون التضاد بين الملاكين في الوجود ، لا في أصل اتصاف الواجبين بالملاك.

وعليه ، فإنّ نظرية تصوير المحقق الآخوند «قده» لتفسير الوجوب التخييريّ ، صحيحة في نفسها ، لو لا أنها ليست مطّردة ، بل هي واقفة في إطار ما لو كان الواجبان متضادّين في الملاك وجودا ، لا ذاتا ، وأمّا إذا لم يكن هذا التضاد بينهما بالنحو المذكور ، كما لو كان التضاد ذاتيا بينهما ، حينئذ تكون نظرية المحقق الآخوند «قده» قاصرة عن تصوير الوجوب التخييريّ ، بينما المحقق المذكور ، لم يدّع أكثر من ذلك.

ـ النظرية الثالثة في تفسير الوجوب التخييري ، هي للمحقق الأصفهاني «قده» (١) وحاصلها هو :

إنّ الوجوب التخييري مرجعه إلى وجوبين متعلقين بكلا الفعلين ، ولكن مع إذن المولى وترخيصه في ترك أحدهما على سبيل البدل.

وتوضيحه ، هو : إنّه في نظرية المحقق الآخوند «قده» فرض الملاكان إلزاميّين في كلا الطرفين ، ولكنهما متنافيان ذاتا.

بينما هنا في نظرية الشيخ الأصفهاني «قده» تفرض عدم التنافي بينهما ،

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني : ج ٢ من المجلد الأول صفحة وهامش ٦٨ ـ ٦٩.

٢٣٠

لذلك كان مقتضى الطبع أن لا يرخص المولى ، لا في ترك هذا ، ولا في ترك الآخر ، إلّا أنّه هنا يدخل ملاكا آخر ، وهو مصلحة التّسهيل والإرفاق ، ومصلحة التّسهيل هذه والإرفاق ، اقتضت رفع الوجوب عن أحدهما ، لكن ليس رأسا ، لأنّ ثقلهما لا يحتمل ، وإن احتمل حمل أحدهما ، فالمولى سوف يصدر إذنا في ترك أحدهما على نحو البدل.

وهنا إذا فرض أنّ المكلف أتى بهما معا ، فقد أتى بواجبين ، وإن فرض ان المكلف تركهما معا ، فسوف يعاقب بمقدار ما لا رخصة له في تركه.

وإن فرض أنّه ترك أحدهما ، فلا عقاب عليه من أجله ، لأنّه يجوز له ترك أحدهما لا معيّنا ، وقد تركه.

وبعبارة أخرى : إنّ مصلحة التّسهيل والإرفاق ، أحيانا تقتضي رفع الوجوب رأسا ، وأحيانا لا تقتضي ، بل تقتضي الإذن في ترك أحدهما وعدم الجمع ، فمن هنا إذا أتى المكلف بهما فقد أتى بواجبين ويثاب بثوابين ، وإذا أتى بأحدهما ، أثيب بثواب واحد ولم يعاقب على ترك الآخر ، لأنّه مرخّص له بترك واحد منهما على نحو البدل ، وإن لم يأت بأيّ واحد منهما أصلا ، عوقب بعقاب واحد ، وهو عقاب على أحدهما ، دون أن يعاقب على أحدهما الآخر ، لأنّه مرخص في تركه بمقتضى مصلحة التّسهيل والإرفاق.

والفرق بين النظريتين ، هو : إنّ الأولى كان يفرض فيها التضاد الذاتي بين الملاكين في العدلين.

بينما هنا في نظرية المحقق الأصفهاني «قده» يستغنى عن افتراض التضاد الذاتي بين الملاكين في العدلين.

وإن شئت قلت : أنّ نظرية الشيخ الأصفهاني «قده» في تفسير الوجوب التخييريّ ، هي : إنّ الوجوب التخييريّ : عبارة عن وجوب كل من العدلين ، لأنّ الملاك موجود فيهما ، ولكن لمّا كان تحصيل ملاكهما معا يعارض

٢٣١

مصلحة التّسهيل والإرفاق بالمكلف ، فإنّ المولى حينئذ يرخّص بترك أحدهما بدلا ، وعلى هذا ، فلو أنّ المكلّف تركهما معا ، عوقب بعقاب واحد ، لأنّه ليس مرخصا إلّا بترك أحدهما ، وإن أتى بأحدهما ، أو بهما معا ، كان ممتثلا للواجب.

وفرق هذه النظرية عن نظريّة المحقق الآخوند «قده» ، هو : إنّ هذه النظرية ليس فيها تضاد بين ملاكي عدليّ الواجب.

وهذه النظرية ، وإن أصبحت أكثر وضوحا ، على ضوء اعتراضات السيد الخوئي «قده» على نظرية الآخوند «قده» في تفسير الوجوب التخييريّ وأجوبتنا عليها ، إلّا أنّنا هنا إنّما نستعرض اعتراضات السيد الخوئي «قده» (١) على نظرية الشيخ الأصفهاني «قده» في تفسير هذا الوجوب لتزداد هذه النظرية وضوحا أكثر :

الاعتراض الأول ، هو : إنّ هذه النظرية خلاف ظاهر دليل الوجوب التخييريّ ، إذ إنّ ظاهره ، وحدة الجعل ، بينما نظرية المحقق الأصفهاني «قده» تفترض جعلين ووجوبين مستقلّين.

وهذا الاعتراض ، قد تقدّم نفسه ، على نظريّة المحقق الآخوند «قده» من قبل السيد الخوئي «قده».

وقد علّقنا عليه سابقا وقلنا : إنّ الوجوب التخييريّ ، تارة يستخرج من دليل واحد ، وأخرى من الجمع بين دليلين.

أمّا إذا استخرج من دليل واحد ، كما إذا ورد في دليل واحد ، «إذا أفطرت فصم ، أو أعتق ، أو أطعم» ، فإنّ مثل هذا اللسان ظاهر في وحدة الوجوب ، ولا اعتراض عليه حينئذ.

وأمّا إذا استخرج من الجمع بين دليلين ، فلا محل لهذا الاعتراض ،

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ص ٢٨ ـ ٢٩ ـ ٣٠.

٢٣٢

كما تقدم بيانه ، مضافا إلى أنّ مجرد كون طرفيّ الوجوب التخييريّ. على خلاف ظاهر الدليل إثباتا ، لا يجعل النظرية مرفوضة ثبوتا ، سيّما إذا انحصر تفسير الوجوب التخييريّ فيها.

ومن هنا يقال : إنّ المقصود من هذا البحث ، هو إيجاد صيغة لتفسير الوجوب التخييريّ ، بحيث لو انحصر تفسيره فيها ، تعيّن الأخذ بها ، وحمل خطاب المولى إثباتا عليها. فلو فرض أنها أيضا صادفت خلاف ظاهر دليل الوجوب التخييريّ ، فلا بأس بإبداء نظرية أخرى معقولة ثبوتا وإثباتا.

٢ ـ الاعتراض الثاني ، هو : إنّه لا طريق لنا لإثبات الملاك إلّا الخطاب ، والمفروض أنّ الخطاب ظاهر في وحدة الحكم ، ولا ينهض لإثبات وجود ملاكين تعيينيّين في كل من الواجبين.

وهذا الاعتراض كسابقه ، الاعتراض الأول ، حيث كان مفاده ، إنّ ظاهر الدليل إثباتا وحدة الحكم.

وقد قلنا جوابا عليه ، بأنّه يمكن استفادة تعدّد الحكم بالصيغة المتقدمة ، وحينئذ لا يبقى مجال للاعتراض.

نعم يتعيّن حينئذ الكشف عن تعدّد الملاك بتعدد الجعل ، وقد مرّ معنا ما يوضّح ذلك.

٣ ـ الاعتراض الثالث ، هو : إنّه يرفض أن تكون مصلحة التّسهيل والإرفاق ، مهمة في نظر المولى ، بحيث أنّه لأجلها يرخّص في ترك أحد الملاكين على سبيل البدل ، ناهيك عن أنّه لو كان لمصلحة التسهيل وجود في حق المكلّفين ، لاستفدنا ذلك من الدليل ، بينما استفادة ذلك من الدليل على خلاف ظاهره ، حيث لا مثبت له ، ولا قرينة تدل عليه.

وهذا الكلام لا محل له ، لأنّ الكلام ليس في استظهار ذلك من الدليل ، بل الكلام في تفسير الوجوب التخييريّ.

فلو فرض أن استفدنا تعدّد الوجوب ، حينئذ لا بدّ من حمل الدليل

٢٣٣

عليه ، ويكون هذا الدليل نفسه دالا على وجود ترخيص في ترك أحدهما لا بعينه إلى بدل ، إذ بعد المفروغيّة عن عدم كون الجمع مطلوبا بينهما ، لا يبقى كلام إلّا في كيفية تخريج كون أحدهما مطلوبا لا بعينه إلى بدل ، ثبوتا.

إذن فهذا الاعتراض غير صحيح ، وهو يرجع بروحه إلى الاعتراض الأول.

٤ ـ الاعتراض الرابع ، هو : إنّه إذا بني على وجود واجبين ، فكيف يسقط أحدهما إذا أتى المكلف بالواجب الآخر ،؟ إذ إنّ سقوط الوجوب لا يكون إلّا بالامتثال ، أو العجز الناشئ ولو من العصيان ، أو أن يكون الوجوب مشروطا بشرط لم يتحقّق ، فلو فرضنا أنّ المولى أوجب الصوم والعتق ، فلما ذا يسقط وجوب العتق إذا أتى المكلف بالصوم؟.

وهذا الاعتراض ، لو تمّ ، وفرض أنّ مقصود المحقق الأصفهاني «قده» هو الوجوبين المشروطين ، لكنّه كالاعتراض الأول ، يرجع النظرية إلى أنّها خلاف ظاهر دليل الوجوب التخييريّ.

وقد عرفت جوابه ممّا تقدم ، بل تكاد تكون هذه الاعتراضات ، بل هي كذلك ، تحمل روحا واحدة ، وترجع إلى اعتراض واحد ، مفاده : مخالفة هذه النظرية لظاهر دليل الوجوب التخييري ، الظاهر في وحدة الجعل لا تعدّده ، وحينئذ يكون الجواب ما تقدّم ، وقد عرفته.

٥ ـ الاعتراض الخامس ، هو : إنّ مقتضى هذه النظرية ، أنّ المكلّف لو ترك كلا العدلين ، يلزم أن يعاقب بعقابين ، بينما صاحب النظرية يفرض أنّه سوف يعاقب بعقاب واحد ، لأنّه مرخّص بترك أحد العدلين ، لا على التعين ، وإنّما نقول نحن بتعدّد العقاب ، لأنّ الترخيص الذي لا يلزم منه عقاب ، إنما هو الترخيص بترك أحدهما على نحو البدل ، وهو لم يتحقّق ، كي يعاقب بعقاب واحد ، وإنّما الذي تحقّق في فرض تركهما معا ، هو الترك الجمعيّ ، وهذا لم يكن هو المرخص بتركه ، وفيه يعاقب على تركهما

٢٣٤

بعقابين ، وهذا على خلاف المفروض في موارد الوجوب التخييريّ.

وجوهر البحث في هذا الاعتراض ، هو «الترخيص» الذي يتصوّره المحقق الأصفهاني «قده» ناشئا من مصلحة التّسهيل والإرفاق ، إذن لا بدّ من البحث حول هذا الترخيص ، فنقول : إنّ الترخيص في المقام يتصوّر على أنحاء :

١ ـ النحو الأول : هو أن يرجع إلى ترخيص فعلي مطلق متعلّق بحصة خاصة من التّرك ، وهو التّرك المقرون بفعل الآخر.

وحينئذ ، يتّجه الاعتراض الخامس ، لأنّ نفس الترخيص ليس مشروطا ، وإنّما المشروط هو متعلّق الترخيص ، فالمرخّص به هو ترك الصوم المقرون بالعتق.

وحينئذ يقال : بأنّ كل واحد من العدلين لم يكن منطبقا على الترخيص المرخّص به ، لأنّ ترك الصوم غير مقترن بالعتق ، وكذلك ترك العتق غير مقترن بالصوم ، وحينئذ يتجه الاعتراض الخامس ، في أنّه في المقام ، صدر منه عصيانان ، لأنّه تركهما معا ، هذا إذا بنينا على كون الميزان في تسجيل المعصية ، إنّما هو مخالفة الإنشاء لا الملاك ، وإلّا فالفائت واحد من الملاكين ، حيث أنّه صدر من المكلف ترك واحد غير مرخص فيه.

٢ ـ النحو الثاني ، هو : أن يرخّص في ترك كل منهما ، مشروطا بفعل الآخر ، لكن هنا ، كلا الترخيصين مشروط ، فالمشروط فيهما هو نفس الترخيص ، لا الفعل ، وإنّما فعل الآخر شرط في الحكم بالترخيص ، فهو يرخص بترك «الصوم إذا أعتق» ، ويرخص بترك «العتق إذا صام» ، حيث يقال : إذا لم «يصم ولم يعتق» فلم يتحقق لا شرط هذا الترخيص ، ولا شرط ذاك الترخيص.

وحينئذ يتجه الاعتراض الخامس فيقال : بأنّه في مثله ، يتحقق منه عصيانان ، لأنّه ترك كلا الشرطين في الترخيص.

٢٣٥

ولأنّه غير مرخص بترك كلا شرطيّ الترخيص ، إذن ، فيعاقب بعقابين ، بناء على كون الميزان في العقاب ، إنّما هو مخالفة الجعل والإنشاء ، لا الملاك.

٣ ـ النحو الثالث ، هو : أن يفرض ترخيص واحد متعلّق بالجامع بين التركين ، وهو المسمّى ، «بالجامع الانتزاعي» ، كما لو قال : «أرخّصك بترك أحدهما».

وحينئذ يكون من الواضح ، أنّ أحدهما بالفعل يكون مرخّصا به.

وعلى هذا الأساس ، فلو أنّ المكلف تركهما معا ، وفي ضمن هذا الترك ، قد ترك ما هو مرخص به ، وما ليس مرخصا به ، إذن لم يصدر منه إلّا عصيان واحد بتركهما معا لأنّ أحد التركين مرخص به ، إذن فلا يعاقب إلّا عقاب واحد.

وهنا يقال : إذا كان تعلّق الحكم بالجامع الانتزاعي ـ وهو عنوان أحدهما ـ معقولا ، حينئذ يمكن اختصار الطريق ، فيقال من أول الأمر : إنّ الوجوب التخييريّ متعلّق بعنوان أحدهما ، ولا داعي للدوران ، وتطويل المسافة بينهما.

٤ ـ النحو الرابع ، هو : أن يكون الترخيص في ترك المجموع ، ترخيصا واحدا ليس متعلقا ، بالجامع بل بالمجموع ، فإنّ المجموع له وجود واحد ، وترك واحد ، نظير الأمر بالمجموع.

وحينئذ ، إذا فرض أنّ الترخيص كان بترك المجموع ، والمكلّف هنا تركهما معا ، إذن هو لا يعاقب إلّا بعقاب واحد على ترك الجميع ، وترك الجميع لا يزيد على ترك المجموع إلّا بكونه تركا واحد لا تركين.

إذن فالاعتراض الخامس مدفوع.

والتحقيق في الجواب على نظرية المحقق الأصفهاني «قده» هو أن

٢٣٦

يقال : إنّه إذا بنينا على مسلك الميرزا «قده» في أنّ الوجوب ليس مجعولا من قبل الشارع ، وإنّما هو مستفاد بحكم العقل المنتزع من طلب الفعل وعدم الترخيص بالتّرك ، فإنّه حينئذ ، يمكن أن تكون نظرية المحقق الأصفهاني «قده» في الواجب التخييريّ نظريّة معقولة ، حيث أنّه يقال : بأنّ المولى إذا طلب فعلين لأجل ملاكين :

فتارة يرخّص في ترك كل واحد منهما ، وهذا معناه استحباب كل منهما.

وأخرى لا يرخص في ترك شيء منهما ، وهذا معناه ، إنّهما واجبان تعينيّان.

وثالثة يطلبهما ويرخّص بترك أحدهما ـ ولو بملاك التسهيل والإرفاق ـ فينتزع العقل عنوان الواجب التخييري.

وأمّا إذا بنينا على أنّ الوجوب مجعول من قبل الشارع ، فهو مدلول للأمر ، أو فرض أنّ المولى قد أنشأ هذا الوجوب بنفسه ، فإنّه حينئذ ، يلزم التهافت بين الوجوبين التعينيّين المطلقين ، إذ لا يعقل جعل وجوبين تعينيّين مطلقين من قبل الشارع مع الترخيص بترك أحدهما ، لأنّه نظير إيجاب شيء والترخيص بتركه ، إذن لا بدّ أن يكون الترخيص هذا شرطا لوجوب كل منهما بما إذا ترك الآخر.

وبهذا نرجع إلى الاشتراط ، في نظريّة المحقق الخراساني «قده» ، فإنّ كون وجوب كل منهما مشروطا بترك الآخر ، هو إنّه في حالة فعل أيّ واحد منهما لا وجوب للآخر.

إذن فهذه النظرية على مسلك الميرزا «قده» صحيحة قائمة بذاتها.

وأمّا إذا كان الوجوب مجعولا من قبل الشارع ، فترجع هذه النظرية إلى نظرية المحقق الخراساني «قده».

٢٣٧

النظرية الرابعة : هي إنّ الوجوب التخييري وجوب واحد متعلق بالمردّد بين العدلين أو البدائل.

فالفرق بين الوجوب التعيينيّ والوجوب التخييريّ ، ليس في التعدّد والوحدة ، بمعنى أنّ التعيينيّ واحد ، والتخييريّ متعدد ، وكذلك ليس الفرق بينهما إنّ التعينيّ متعلق بالفرد ، والتخييريّ متعلق بالجامع ، ليس هذا هو الفارق ، بل كلاهما وجوب واحد متعلّق بالفرد ، وإنّما الفارق بينهما ، هو إنّ الوجوب التعيينيّ متعلق على نحو التعيين بالفرد ، بينما الوجوب التخييريّ متعلّق بالفرد على نحو التخيير وهذا الكلام مبني على تعقل الفرد المردّد.

وقد اعترض على هذه النظرية المحقق الأصفهاني «قده» (١) حيث يقول : بأنّ تعلق الوجوب بالفرد المردّد إن أريد به ، المردّد بالحمل الأولي ، «أي : مفهوم المردّد» ، فهذا معناه ، تعلّقه بالجامع ، لأنّ مفهوم المردّد ليس مردّدا ، بل معيّنا ، ويكون جامعا بين الفردين ، وهذا رجوع إلى النظرية الخامسة.

وإن أريد بالفرد المردّد أنّه متعلق بواقع المردّد فهو مردد بالحمل الشائع ، «أي : المردّد المصداقي» ، فهو مستحيل ، لأنّ ما هو بالحمل الشائع مردّد ، يستحيل أن يكون له ثبوت وتحقق ، لا في الخارج ، ولا في الذهن ، لأنّه يستلزم التناقض ، إذ معنى أنّه مردّد بالحمل الشائع ، يعني : إنّه «أ» ، وليس ، «أ» وإنّه «ب» وليس «ب» ، فالمردّد بالحمل الشائع إن فرض حمل كلا العنوانين عليه ولو بدلا ، فيلزم ما مرّ من التناقض ، وإن فرض حمله عليه بحيث لا يكون تناقض كما لو قلنا بأنّ المردّد هو «أ» وليس «ب» ، وهو «ب» وليس «أ» ، إذن فيكون متعيّنا.

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني : ج ٢ من المجلد الأول ص ٦٩ ـ ٧٠.

٢٣٨

وإن شئت قلت : إنّ الفرد المردّد يستحيل ثبوته وتحققه ، لا في الخارج ولا في الذهن ، لأنّه يستلزم التناقض ، إذ لو كان ثابتا بحيث يحمل عليه أحد العنوانين فقط ، فهذا معيّن لا مردّد ، وإن كان بحيث يحمل عليه كل من العنوانين ، فهذا يعني ، أنّه يصح حمل كل من العنوانين عليه ، وسلبه عنه ، وهذا تناقض.

واعتراض المحقق الأصفهاني هذا ، متين ، وفي غاية الجودة ، وبالتالي هو أحسن ممّا قيل في دفع الفرد المردّد المفترض في النظرية الرابعة ، إذ قيل بأن الفرد المردّد المصداقي مستحيل باعتبار أنّ الوجود مساوق للتشخّص والتعيّن ، فإنّ كون شيء «ما» ، موجودا لا بدّ من تعيّنه. إذ هذا الكلام تطويل للمسافة.

ونحن ننهيها منطقيا من دون بحث في الوجود وحقيقته وشئونه ، وإنّه هل يعقل فيه تصور الفرد المردّد ، أو التردّد ، أو إنّه لا يعقل ذلك؟.

بل نقول من أول الأمر ، بأنّ المردّد بين الألف والباء ، إن كان حقيقة هو المراد ، فيلزم منه التناقض ، بلا حاجة إلى ضمّ برهان ، أنّ الوجود يساوق التشخّص ، فيستحيل وجود الفرد المردّد مصداقا.

النظرية الخامسة ، هو : إنّ الوجوب التخييريّ ، يرجع إلى الوجوب التعيينيّ ، ولكن يجعل المتعلّق هو الجامع ، وذلك بإرجاع التخيير الشرعيّ إلى التخيير العقليّ.

وإرجاعه إلى الجامع يكون بأحد تقريبين :

١ ـ التقريب الأول ، هو : إنه بعد أن نتصوّر جامعا حقيقيا من المعقولات الأوليّة ، حينئذ يدّعى أنّ هذا الوجوب متعلقا بذاك الجامع الحقيقيّ. وهذا الجامع الحقيقيّ يحاول إثباته بدليل وبرهان ، أنّ الواحد حتى النوعي لا يصدر إلّا من واحد بل الواحد لا يصدر من اثنين بدعوى أنّه إذا كان يجمع بين العدلين ملاك واحد ، وكان هذا الملاك ممّا يحصل

٢٣٩

بالصلاة تارة ، وبالصوم أخرى ، إذن نستكشف أنّ المؤثر في طلب كل من العدلين ، بل المطلوب من كل منهما إنّما هو الجامع الذاتي بينهما ، ومن هنا ادّعى المحقق الخراساني «قده» (١) ضرورة وجود الجامع الحقيقي بين العدلين.

وقد تقدّم في بحث «الصحيح والأعم» هذا السّنخ من الاستدلال. وبحث هناك أنّه هل يمكن تطبيق هذا القانون في مثل هذا المقام ، حيث يكون الواحد نوعيا لا شخصيا؟.

أو فقل : هل إنّ قانون ، «أنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد» ، يشمل ما إذا كان الواحد واحدا بالنوع ، أو يختص فيما إذا كان الواحد واحدا بالشخص؟.

فإن قيل : بأنّ هذا القانون يختص فيما إذا كان الواحد واحدا بالشخص ، إذن فلا يصدق في المقام. وإن قيل : بأنه يشمل ما إذا كان واحدا بالنوع ، إذن فيصدق ويجري هذا البرهان في المقام.

والصحيح ، هو أنّه يعقل ولو بنحو الموجبة الجزئيّة افتراض الجامع الحقيقيّ ، بحيث يرجع الوجوب التخييريّ الشرعيّ إلى وجوب متعلق بالجامع ، ولكن هذا ليس ممكنا دائما ، خصوصا إذا كان مرجع العدلين إلى الوجود والعدم ، إذ إنّه لا جامع حقيقيّ بينهما ، كما هو الحال في التخيير بين القصر والتمام ، إذ إنّه تخيير بين إيجاد ركعتين بعد التشهّد الأول ، وعدم ذلك.

٢ ـ التقريب الثاني ، هو : أن يكتفى بالجامع الانتزاعيّ ، ولو كان الجامع هو عنوان أحدهما ، فيتعلّق الوجوب بعنوان أحدهما.

وهذا الجامع وإن كان انتزاعيا ، إلّا أنّه يمكن تعلّق الوجوب به ، وذلك لأنّه ينظر إليه بما هو بالحمل الشائع ، أي : بما هو مرآة وفان ، وليس بما هو

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٢٤٠