بحوث في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٢٨

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الإهداء

إذا كان حقّا على المؤلفين ، جعل مؤلفاتهم هدية إلى عظيم من عظماء البشر ، فأيّ عظيم ، أجدر بها من أشرف ولد آدم وسيد الأنبياء ، محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الهداة المعصومين ، فأرجو يا سيدي أن تتقبل مني جهدي هذا ، هدية لروحانيتك المقدسة وعظمتك الشامخة ثم التفضّل ، بجعل ثوابها إلى روح حفيدك شهيد رسالتك ، شهيد الإسلام في هذا القرن السيد محمد باقر الصدر ، قدس‌سره ، الذي سأبقى مدينا له في كل ما أعرف وأكتب ..

فبلّغها اللهمّ روحه الطاهرة بلاغا حسنا ، وانفعني بها يوم الوفود عليك.

عبدك

حسن

٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد خلقه محمد وعلى آله الطاهرين ، وبعد فقد لاحظت ما كتبه العلّامة الجليل ثقة الإسلام الشيخ حسن عبد الساتر دامت بركاته تقريرا لبحوثنا الأصولية فوجدتها تمثّل دروسنا وآراءنا في تلك المسائل والبحوث الأصولية التي كتبها بدقة وعمق واستيعاب وحسن بيان وبالتالي فهي تعبير عن جهد فكري وعلمي جليل بذله الكاتب الفاضل من أجل توضيح معالم هذه المدرسة الأصولية وطبيعة بحوثها مضمونا ومنهجا وهو جدير ببذل هذا الجهد الموفق لأنه من نوابغ أبنائها نباهة وفضلا وتدقيقا واجتهادا. فنسأل المولى تعالى أن يتقبل منه جهده ويحفظ به وبالنابغين من جيله تراث أهل البيت عليهم‌السلام إنه ولي التوفيق.

١٤ محرم الحرام ١٣٩٧ ه‍

محمد باقر الصدر

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

نفثة مصدور

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وشفيعنا محمد وآله الهداة الطاهرين.

أما بعد : فإن ثلّة من الرجال لا يعيشون بين أممهم كأفراد ، وإنما يعيشون ويموتون وهم يشكلون قضية ، تلوّن مسيرة أممهم ، بل تطبع سلوك هذه الأمم في الفكر ، والعمل ، والتوجهات.

إن اختراق هذا النموذج من الرجال ، لحواجز وقوانين (الفردية) ، لا يتأتى إلّا بعد توفر مواصفات وشروط صعبة ، يندر أن تتوفر إلّا للأبدال من الناس ، بل حتى هذه الشروط التي تسبب اختراق قوانين الفردية ، تختلف وتتفاوت فيما بين مفردات هذه الثلة من الأبدال ولذا :

فمنهم : من يبرز في أمته كبطل وطني يفجر قضية الصراع بين أمته وأعدائها من غزاة خارجيين ، أو طغاة محليين ، وبهذا يرسم لشعبه طريق الخلاص.

ومنهم : من يبرز في أمته كمفكر وطني ، عند ما برسم لأمته أطروحة خلاصها من أعدائها ، عبر صيغ فكرية تحدد مواقف الأمة ، وتثرى مسيرتها ، وتشحذ عزيمتها ، وتوفر لها بالتالي أسباب التحرر والانعتاق.

شهد التاريخ مثل هذين النموذجين في أكثر أطواره ومراحله ، ولكن قلّ وندر أن شهد التاريخ نموذجا من الرجال ، يقدم لأمته أطروحة تحررها ، ووثيقة

٥

شخصيتها وهويتها ، ثم هو يتحرك على مستوى الترجمة لمضمون هذه الأطروحة ، وقيادة أمته بهذا الاتجاه للوصول بها إلى أهدافها ، وبهذا النموذج تبرز ظاهرة المفكر البطل القائد ، بوضوح وقوة.

لقد كان السيد الشهيد ، محمد باقر الصدر ، رضوان الله عليه ، مصداقا وترجمة حيّة لظاهرة ، المفكر القائد البطل ، وما انفكّ يتحرك على مستوى هذه الظاهرة ، حتى توّج حياته بالشهادة في سبيل الله تعالى ، كما كان الشهيد السيد الصدر علما في الفكر الإسلامي والإنساني ، قلّما يجود الزمان بمثله.

وإذا كان لم يتيسر للأمة الإسلامية بعد أن تفهم قيمة هذا الرجل العملاق في فكره وعطائه وخصبه ، لظروف ذاتية وموضوعية ، فإنّ السيد الشهيد الصدر ، قدس سرّه ، سيتحول في المستقبل من أيام أمتنا الإسلامية ، وعلى امتداد الوطن الإسلامي الكبير ، إلى (قضية) من قضاياها الكبرى ، ومصدر كما كان ، تنهل منه الأجيال ، ويستلهم منه مفكرو الأمة وأبطالها ، الأصالة والوضوح ، والثبات والشموخ.

وإذا كانت شهادة محمد باقر الصدر (قده) ومظلوميته ، وما لاقى من العنت في سبيل الله تعالى ، ستعجل في تحويله إلى قضية إسلامية ، فإنّ محمد باقر الصدر (قده) سيتحول إلى ثأر تاريخي ، تماما كما تحول جده الحسين سبط رسول الله (ص) في بداية تاريخ التجربة الإسلامية.

ويبدو أنّ توابي هذا العصر سيحملون راية المختار الثقفي ، كي لا تتكرر سلبيات (عين الوردة) من جديد ، ولكي لا يكون الزحف من أجل التكفير عن ذنب يؤنب ضمائرهم فقط ، وإنما سيكون الزحف هذه المرة من أجل تحقيق أهداف السيد الشهيد الصدر (قده) في إعادة الأمة إلى أصالتها ، وتحقيق هويتها الربانية والإنسانية ، وإرساء بنائها الشامخ ، لتكون بالتالي كما أرادها الله تعالى ، أمة وسطا ، وشهيدة على الإنسانية ، (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.)

هذا مع يقين توّابي هذا العصر ، بأن قضية الشهيد الصدر قد أضافت إلى قضيتهم الكبرى قضية ، وأضافت إلى إصرارهم إصرارا وقوة ، وهم واثقون بأن

٦

الله تعالى سينصر رسله والذين آمنوا ، لا سيما المجاهدين الصادقين ، في معركة الإسلام الكبرى التي يخوضونها ضد أعداء الإنسان والإسلام والحرية.

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.)

وبعد : فقد قدّر لي أن أتشرف بحضور وكتابة البحوث العالية في الأصول في الدورة الأخيرة التي ختم بها السيد الشهيد الصدر حياته عام (١٩٧٩) ومن ثم توجّها بالشهادة.

وقد كان لتقريظ السيد الشهيد ، وتشجيعه لي على المثابرة في كتابة هذه البحوث ، وتوفيق الله بحضورها على امتداد اثنتي عشرة سنة ، ـ لا سيّما بعد أن رأى سماحته نموذجا منها ـ الفضل الأول والأخير في نشرها ، وإن حالت ظروف قاسية جدا دون إخراجها قبل هذا الوقت. وقد كان لاستشهاد سماحته الذي توّج به قمة عطاءاته المناقبية ، ذروة القساوة ، وقوة الصاعقة في نفسي ، لما كان يمثل على الصعيدين الفكري والعملي في العالم الإسلامي أجمع.

وقد أجاد أستاذنا ورفيقنا السيد محمود الهاشمي في تقييمه المختصر لأبعاد شخصية سماحة السيد الشهيد الصدر (قده) حيث قال :

إن استيعاب أبعاد عظمة هذا العالم الرباني العامل ، لا يتيسّر لأحد في مثل هذه الدراسة العاجلة لشخصيته ، ولكن ذلك لا يعفينا من التعرض لأبرز معالم مدرسته العلمية والفكرية التي أنشأها ، وخرّج على أساسها جيلا من العلماء الرساليين والمثقفين الواعين والعاملين في سبيل الله ، رغم قصر حياته الشريفة ، والتي ابتلاه الله فيها بما ابتلى به العظماء من الصديقين والشهداء والصالحين. ونحن نستعرض أهم مميزات هذه المدرسة التي ستبقى رائدة وخالدة في تاريخ العلم والإيمان معا :

١ ـ الشمول والموسوعية :

لقد اشتملت مدرسة السيد الشهيد (قده) على معالجة كافة شعب المعرفة الإسلامية والإنسانية ، ولم تقتصر على الاختصاص بعلوم الشريعة الإسلامية من الفقه والأصول فحسب. ورغم أن هذا المجال كان هو المجال الرئيس والأوسع

٧

من إنجازاته وابتكاراته العلمية ، فقد اشتملت مدرسته على دراسات في الفقه ، وأصول الفقه ، والمنطق ، والفلسفة ، والعقائد ، والعلوم القرآنية ، والاقتصاد ، والتاريخ ، والقانون ، والسياسة المالية والمصرفية ، ومناهج التعليم والتربية الحوزوية ، وغيرها ومناهج العمل السياسي ، وأنظمة الحكم والإدارة ، وغيرها كثير من مفردات المعرفة الإنسانية والإسلامية المختلفة.

وقد كانت هذه الشمولية بالنسبة لسيدنا الشهيد ، نتيجة طبيعية لما كان يتمتع به (قده) من ذهنية موسوعية وعملاقة ، يمكن اعتبارها نكتة في جبين هذا القرن ، لعلّ تاريخ العلم والعلماء قد حظي بمثلها في بعض القرون مما كان يشكل منعطفا تاريخيا في توجيه حركة العلم والمعرفة وترشيدها ، إذ كان (قده) آية في النبوغ العلمي ، واتساع الأفق ، وقمة العبقرية الفذة كما شهد بذلك أساتذته وزملاؤه وتلامذته ، وكل من اتصل به بشكل مباشر ، أو التقاه من خلال مصنفاته وبحوثه.

٢ ـ الاستيعاب والإحاطة :

من الخصائص ذات الأهمية البالغة في اتفاق النظرية أية نظرية بالمتانة والصحة ، خصيصة ـ الشمول والاستيعاب ، أي مدى ما تستوعبه النظرية من احتمالات متعددة ، وما تعالجه من جهات شتّى ، مرتبطة بموضوع البحث ، فإن هذه الخصيصة هي الأساس الأول في انتظام الفكر والمعرفة في أي باب من الأبواب ، بحيث يؤدي فقدانها إلى أن تصبح النظرية مبتورة ذات ثغرات ، ينفذ من خلالها النقد والتفنيد. وهذه الخصيصة كانت السمة البارزة في فكر السيد الشهيد (قده) بدرجة عالية ، إذ إنه لم يتعرض لمسألة من المسائل العلمية ، خصوصا في الفقه والأصول والفلسفة ، إلّا وذكر فيها من الصور والاحتمالات ما يبهر العقول ، حتى كانت هذه السمة بارزة حتى في أحاديثه الاعتيادية ، فكان عند ما يتناول أي موضوع ، ومهما كان بسيطا واعتياديا ، يصوغه صياغة علمية ، ويخلع عليه نسجا فنيا ، ويطبعه بطابع منطقي ، مستوعبا لكل الاحتمالات والتفريعات حتى أنه يخيل لمن يستمع إليه أنه تحليل نظرية علمية ، تستمد القوة والأصالة والمتانة من مبرراتها ، وأدلتها المنطقية.

٨

٣ ـ الإبداع والتجديد :

إن حركة العلوم والمعارف البشرية وتطورها ، ترتكز على ظاهرة التجديد والإبداع التي تمتاز بها أفكار العلماء والمحققين في كل حقول المعرفة ، وقد كان سيدنا الشهيد (قده) يتمتع في هذا المجال بقدرة فائقة على التجديد والتطوير فيما كان يتناوله من أبحاث علمية ونظرية ، سواء على صعيد المعطيات ، أو في الطريقة والاستنتاج.

ولقد كان من ثمرات هذه الخصيصة أنه استطاع أن يفتح آفاقا للمعرفة الإسلامية لم تكن مطروقة قبله ، بل كان هو رائدها الأول ، وفاتح أبوابها ، ومؤسس مناهجها ، وواضع معالمها وخطوطها العريضة ، ومن ثمّ ستبقى المدرسة الإسلامية مدينة لهذه الشخصية العملاقة في شتّى فنون المعرفة الإسلامية والإنسانية ، لا سيّما في بحوث الفلسفة والاستقراء ، ومنطق الاستقراء واليقين الرياضي ، وبحوث الاقتصاد ، والتاريخ السياسي ، في صدر الدولة الإسلامية.

٤ ـ المنهجية والتنسيق :

ومن خصائص فكر سيدنا الشهيد (قده) منهجيته الفنية الفريدة والمتماسكة في جميع بحوثه التي تناولها بالدرس والتنقيح. ومن هنا نجد أن طرحه للبحوث الأصولية والفقهية يمتاز عن كافة ما جاء في دراسات وبحوث المحققين السابقين عليه ، من حيث المنهجة والترتيب الفني للبحث ، فتراه يفرز الجهات والجوانب المتداخلة والمتشابكة في كلمات الآخرين ، خصوصا في المسائل المعقّدة التي تعصى على الفهم ، ويكثر فيها الالتباس والخلط ، ويوضح الفكرة ، وينظمها ويحللها بشكل موضوعي وعلمي ، حتى تضحي من الواضحات ، حيث لا يجد الباحث المختص نظيره في بحوث الآخرين.

وكان مما يميزه بجلاء الدقة في طريقة الاستدلال في كل موضوع ، حيث كان يعتمد إلى جانب البرهان بالاستقراء والوجدان ، ولم يكن يكتفي ويقتصر على دعوى وجدانية المدّعى المطلوب إثباته فحسب ، وإنما كان يستعين بتحريك

٩

وإثارة هذا الوجدان في نفوس الباحثين والطلاب ، وذلك من خلال منهج إقامة المنبهات الوجدانية عليه ، كما ستواجه هذا بوضوح في تقريراتنا الأصولية.

٥ ـ النزعة المنطقية والوجدانية :

ومن مميزات فكر سيدنا الشهيد (قده) نزعته المنطقية والبرهانية في التفكير والطرح ، لا سيّما عند ما تكون تلك المعطيات البرهانية تنسجم وتتطابق مع الوجدان ، وتحتوي على درجة كبيرة من قوة الإقناع وتحصيل الاطمينان النفسي بالفكرة. ولذلك لم يكن ليكتفي بسرد النظرية بلا دليل ، أو كمصادرة ، بل كان يقيم البرهان مهما أمكن على كل فرضية يحتاج إليها البحث حيث لم يتعسّر عليه ، ولو مرة واحدة ، صياغة البرهان الموضوعي عليه ، وذلك كالبحوث اللغوية ، والعقلائية ، والمعرفية.

وهذه الميزة ، جعلت آراء ومعطيات هذه المدرسة الفكرية ذات صبغة علمية ومنطقية فائقة ، ممّا يتعذّر توجيه أي نقد إليها بسهولة ، كما جعلتها أبلغ في الإقناع والقدرة على إفهام الآخرين وتفنيد النظريات والآراء الأخرى ، مضافا إلى جعلها قادرة على تربية فكر روّادها ، وبنائه بناء منطقيا وعلميا ، بعيدا عن مشاحة النزاعات اللفظية ، أو التشويش والخبط ، واختلاط الفهم ، ذلك الخطر الذي تمنى به الدراسات والبحوث العلمية والعقلية العالية في أكثر الأحيان.

وفي الوقت نفسه لم يكن يتمادى في هذا الفكر البرهاني المنطقي ، في اعتماد الصياغات والاصطلاحات الشكلية التي قد تربك تفكير الباحث وطريقته ، فيبتعد عن الواقع ، فيضطر لتبني نظريات يرفضها الوجدان السليم ، خصوصا في البحوث ذات الملاك الوجداني والذاتي التي تحتاج إلى منهج خاص للاستدلال والإقناع.

فكنت تجده ينتهي من البراهين إلى النتائج الوجدانية ، فلا يتعارض عنده البرهان مع مدركات الوجدان الذاتي السليم وكان في طريقة بحثه يدرك المسألة بحسّه الوجداني والذاتي ، ثم يصوغ لها من البرهان والاستدلال المنطقي ما يكفي لدعمها علميا ، ومن ثمّ لا يشعر الباحث بثقل البراهين وتكلّفها ، أو عدم تطابقها مع الذوق والحسّ الوجداني للمسألة ، كما وقع في هذا الخبط الكثير من

١٠

الأصوليين والفقهاء المتأثرين بمناهج العلوم العقلية الأخرى.

وبهذا فقد استطاع بهذا الفكر العملاق ، وبما أوتي من قدرة على التوفيق بين خصيصته المنطقية والعلمية في الاستدلال ، وبين مراعاة المنهجية الصحيحة المنسجمة مع كل علم ، أن يتناول في كل حقل من حقول المعرفة المنهج العلمي المناسب مع طبيعة ذلك العلم ، من دون تأثر بالمناهج الغريبة عن ذلك العلم وطبيعته ، وهذه خصيصة أساسية سوف نواجهها بجلاء أيضا في بحوثنا الأصولية القادمة.

٦ ـ الذوق الفني والإحساس العقلائي :

الذوق حاسة ذاتية في الإنسان ، يدرك بها جمال الأمور ، والذهنية العقلائية هي الأخرى التي يدرك بها الإنسان الطباع والأوضاع والمرتكزات التي يبني عليها العرف والعقلاء ، ويبني على أساسها الكثير من النظريات والأفكار في مجال البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية ، والقانونية ، والأدبية ، وهي غالبا ما تكون مجالا للبحث لا يمكن إخضاعها للبراهين المنطقية ، أو الرياضية ، أو التجريبية. وإنما تحتاج إلى حاسة الذوق الفني ، والذهنية العقلائية ، والحس العرفي الأدبي ، ولأن هذه الخصائص كانت مائزا ، وسمة بارزة لازمة في مدرسة السيد الشهيد (قده) بين هذه المفردات وغيرها من العلوم والمعارف ، ومن ثمّ تجده (قده) يتناول المسائل في المجال الأول معتمدا على الذوق الموضوعي ، والإدراك العقلائي المستقيم.

وبذلك استطاع أن يؤسس منهجا فريدا يتناسب مع مفردات هذا المجال وأن يؤسّس ويبدع طرائق الاستدلال الذوقي التي تعتمد الاستظهارات العرفية ، والمرتكزات العقلائية.

وبذلك أبدع نهجا فقهيا موضوعيا في مجال الاستظهار الفقهي ، خرجت على أساسه الاستظهارات من مجرد كونها مدّعيات ومصادرات ذاتية ، إلى كونها مدّعيات ونظريات يمكن الإقناع والاقتناع بها على أسس موضوعية.

أضحى من نافلة الكلام أن نقول :

١١

إنه قلّما تجتمع النزعة البرهانية المنطقية في الاستدلال ، مع الذوق الفني ، والحسّ العقلائي ، والذهنية العرفية في شخصية علمية واحدة ، في الوقت الذي نجد أن العلماء الذين مارسوا ويمارسون المناهج العقلية والبرهانية من المعرفة ، ويتفاعلون مع تلك المناهج وطرائق البحث ، نجد أنهم لا يلتفتون ، وقد لا يحسون بدقائق النكات العرفية ، والذوقية ، والعقلائية ، بينما يبنون معارفهم وآراءهم على أساس تلك المصطلحات البرهانية المكرورة التي اعتادوا عليها في تلك البحوث العقلية وغيرها ، وهكذا الباحثون في العلوم الأدبية والقانونية وما شابهها ، قلّما يمارسون أو يجيدون صناعة البرهنة والاستدلال المنطقي ، بينما كان هذا مائزا وخصيصة قد امتازت بها مدرسة السيد الشهيد (قده) فهي في الوقت الذي جمعت فيه بين هاتين الخصيصتين اللتين قلّما اجتمعتا ، فقد تمكنت من التوفيق الدقيق بينهما ، واستخدمت كلّا منهما في مجاله المناسب دون ما تخبط أو إقحام ما هو خارج موردهما في مجالهما.

٧ ـ القيمة الحضارية لمدرسة السيد الشهيد الصدر (قده):

ليس عجيبا ممّن عرف السيد الشهيد (قده) وتلمّذ عليه فترة كبيرة ، أن يدعي له أنه مجدد أو باعث هذا الدين في هذا القرن ، مصداقا لما ورد ، ومضمونه أن الله تعالى يبعث على رأس كل قرن من يجدد هذا الدين ، أو يبعثه ، أو كما قال ، لا سيّما وقد ادعي هذا المضمون لمن يصح أن يكون تلميذا للسيد الشهيد (قده) من علماء المسلمين.

ولذلك فنحن وبقية الطليعة الفكرية في المسلمين قاطبة بل وفئة يعتد بها من غير المسلمين ، نعتقد أن سيدنا الشهيد (قده) كان تحديا حضاريا معاصرا عند ما استطاع بمدرسته التصدّي لنسف أسس الحضارة المادية لإنسان العصر الحديث ، بينما قدّم الحضارة الإسلامية شامخة نقية على أسس علمية ثابتة ، ضمن بناء شامل ومتماسك ، استطاع من خلاله أن ينازل الفكر الحضاري الآخر كأقوى وأمتن من خاض غمار هذا المعترك ، كما عبّر عنه المفكر العربي أكرم زعيتر.

وقد وفق سيدنا الشهيد (قده) لتفنيد كل مزاعم وأسس الحضارة المادية

١٢

المعاصرة ، وأن يخرج من هذا ظافرا مظفرا ، وبانيا لصرح المدرسة الإسلامية العتيدة ، والمستمدة من منابع الإسلام الأصيلة والمتصلة بوحي السماء ولطف الله بهذا الإنسان.

هذه نبذة مختصرة عن معالم مدرسة هذا الفقيه المرجع ، والفيلسوف ، والعارف الرباني ، والمجاهد الشهيد ، هذه المدرسة التي أسسها وأشادها لبنة لبنة ، بفكره ، ونماها مرحلة مرحلة بجهوده العلمية المتواصلة ، وهي بمجموعها تعبر عن البعد العلمي الذي هو أحد أبعاد هذه الشخصية العظيمة الفريدة في تاريخنا المعاصر.

أمّا أنا يا سيدي ، يتيمك ، فإن وجداني يعجز عن استيعاب كل أبعاد شخصيتك ، وقد لا يجوز لأمثالي الغوص في محيطك اللجي ، وإنما مثلي يتعلم السباحة على شاطئ بحرك ، وإن قلمي لعاجز كالأطفال عن رسم مناقبك وفضائلك القدسية. وإنما مثلي معها كمن يتلمس السحاب البعيدة الثقال ، وعذري في ذلك يا سيدي قصور في ذهني أن يوفيك بعض خصائصك وخصالك ، ومحدودية في طاقتي أن أبلغ بعض شموخك ، ويقيني يا سيدي أنك :

ستبقى القمة الشامخة ، التي يتقزّم إلى جانبها أدعياء الحضارة والكلمة.

وستبقى النبع الخالد الثرّ الذي يمد الحضارة والفكر بما يلزم.

وستبقى الصدر والمصدر في توجيه طلائع الفكر والحركة الإسلامية.

هكذا وأكثر من ذلك ، سيبقى فكرك ومنهجك متجذرا في وجدان طلابك وأيتامك ، يتحدّى الفكر ، والحضارة ، والكلمة ، والزمن.

فعذرا إليك سيدي إن اقتصرت على جانب واحد من جوانب عظمتك ، ذلك لأنني عشت معه ردحا من الزمن ، وعرفته معرفة مباشرة ، وتغذيت من ينبوعه الثرّ ما وسعني التزود العلمي والفكري والروحي.

وأين مني يا سيدي بلوغ الجوانب الأخرى من حياتك المباركة ، وجهادك المقدّس ، وتقواك العلوية ، وزهدك في دنياك ، واستعدادك للتضحية في سبيل

١٣

رسالتك وأمتك ، ودورك القيادي الرائد في حمل أعباء الإسلام الذي ختمته ببذل دمك الطاهر في سبيل الله تعالى.

أين مني كل هذا يا سيدي ، ولا أبلغ عشر عشره!.

أجل يا سيدي ، كنت عظيما على العظماء وسيدا حقا في كل منقبة ، وقد حكيت أجدادك المعصومين في كل بطولة ، كما تحكي الفروع الأصول.

وهكذا عشت عظيما واستشهدت عظيما!.

فسلام الله عليك أيها الإمام الشهيد ، يوم ولدت ، ويوم نشرت الحق ، وأسّست أصول العلم والمعرفة والإيمان ، ويوم جاهدت أعداء الإنسانية للذّود عن كرامة الأمة ، ويوم استشهدت بيد أخسّ وأنجس خلق الله في هذا العصر.

وسلام عليك يا سيدي يوم تبعث حيّا مع آبائك وأجدادك رسول الله (ص) ، وعلي والحسين (ع) وسائر الشهداء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقا.

وأمّا هذه البحوث التي بين يديك ، فهي مجموعة الدراسات التي ألقاها سيدنا الشهيد الصدر (قده) في علم الأصول ، في الدورة الثانية ، حسب منهج الدراسات العليا لبحوث هذا العلم خلال ما يقارب الاثنتي عشرة سنة ، قدّر لي أن أوفق لحضورها وتلقيها وتقريرها ، من أولها إلى آخرها.

أسأل الله تعالى أن يوفقني لنشرها ، عساها تكون رائدة في حركة هذا العلم ، مساهمة في تطويره ، ينتفع بها العلماء والمحققون الذين سوف يجدون فيها الكثير من التجديد والإبداع في المنهج والمعطيات.

وقد رأيت أن أفرد هذا التمهيد ، وتقسيم مباحث هذا العلم ، وهذا التقييم الموجز لمدرسة السيد الشهيد الصدر (قده) في جزء خاص ، ومن ثمّ أتبعه بالجزء الثاني مستوعبا فيه تمام بحوث الوضع ، ومعاني الحروف والنسب والأسماء ، ومن ثمّ تتلاحق بقية البحوث في مجموعتين لتستوعب في المجموعة الأولى مباحث الدليل اللفظي ، وفي المجموعة الثانية مباحث الأصول العملية.

١٤

وهنا أسأل الله تعالى أن يوفقني لإكمال هذه الدراسة ، كما أسأله تعالى أن يتغمّد سيدنا الشهيد العظيم بواسع رحمته ، وفسيح جنانه ، وأن يجمعني معه في مستقر رحمته ، مع جده رسول الله (ص) وآبائه الأئمة المعصومين ، والأنبياء والشهداء والصديقين ، وحسن أولئك رفيقا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

حسن عبد الساتر

بيروت

في ١ شعبان المعظم

١٤١١ هجرية

١٥
١٦

بسمه تعالى

تمهيد :

جرى ديدن علمائنا أن يبحثوا في مقدمات العلم الذي يراد بحثه ، ومن هنا فقد بحثوا في مقدمة علم الأصول عن عدة أمور تمهيدا للدخول في مسائله :

الأمر الأول :

يتكفّل جهات ثلاث يحدد في أولاها تعريف علم الأصول ، وفي الثانية موضوعه ، وفي الثالثة تقسيمات مباحثه.

الجهة الأولى :

أما البحث في الجهة الأولى فقد وقع النزاع فيها بين المحققين في إعطاء صيغة محددة ، وتعريف جامع مانع لمسائل هذا العلم ، وذلك لأنّ عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه ، تعتمد على مقدمات عديدة لا بدّ له من تحقيقها ، والفراغ من صحتها ، كيما يتوصل إلى النتيجة الفقهية ، ويحصّل الحجة على الحكم الشرعي ، وهذه المقدمات الدخيلة في عملية الاستنباط مختلفة في طبيعتها ، ومختلفة في مصادرها التي تؤخذ منها.

فهنالك مقدمات تطلب من علم الحديث كما لو كان المدرك الذي يستند إليه الفقيه في عملية الاستنباط رواية خاصة ، فإنها لا بدّ وأن تؤخذ من كتب الحديث ومصادره.

وهنالك مقدمات تطلب من علوم اللغة فيما إذا احتاج إلى تحديد المعنى اللغوي لكلمة معينة ورد ذكرها في النص الذي توقفت عليه عملية الاستنباط.

وهنالك مقدمات يستمدها الفقيه من علم الرجال ، كما في الروايات التي

١٧

ينقلها آحاد الرواة ، حيث لا بد من إثبات وثاقتهم وضبطهم في النقل ، كي تتم عملية الاستنباط.

وهنالك غير ذلك من المقدمات التي يواجهها الفقيه ، وهو يمارس عملية الاستنباط بسلام ، ولا تبقى ثغرة فيها.

وبإزاء هذه المقدمات كلها يواجه الفقيه مقدمات من نوع آخر أكثر ارتباطا بعملية الاستنباط ، ودنوّا منها ، وهي المصطلح عليها بالمسائل الأصولية ، والتي تكفّل علم الأصول بتجميعها ، وتنسيقها ، وتوفيرها في يد الفقيه.

فيا ترى هل أن هذه المقدمات الدخيلة في عملية الاستنباط اجتمعت في هذا العلم من غير معاد ، ومن غير رابط حقيقي يربط فيما بينها ، ويميزها عن غيرها من مقدمات الاستنباط.

وإنما جمعت تحت هذا العنوان نتيجة عدم تكفّل سائر العلوم والمصادر للبحث عنها ، فاضطرّ إلى لمّ شتاتها ، وجمع متفرقاتها ، في إطار موحد ، وإن لم يكن بينها وحدة في المضمون؟.

أو إنّ هنالك مائزا حقيقيا لهذه المقدمات ، يقوّمها ويميّزها عمّا عداها ممّا يحتاج إليه الفقيه في عملية الاستنباط ، وبذلك تستحق أن تكون علما برأسه ، له تعريفه الخاص ، وطبيعته المتميزة عن سائر العلوم!؟.

إذن فالتعريف الصحيح لهذا العلم ، لا بدّ وأن يقوم على أساس إبراز المائز والمقوّم الحقيقي لمسائل هذا العلم عن غيرها من المسائل التي ترتبط بها عملية الاستنباط ، كي يكون تعريفا جامعا مانعا ، وفي هذا المجال نستعرض أهم التعريفات التي ذكرها المحققون لتعريف هذا العلم ، وتمييز مسائله :

١٨

التعريف المشهور

ونبدأ بالتعريف الرئيس والمشهور الذي أورده المحقق الخراساني في كفايته ، حيث عرف الأصول بأنه :

العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي.

وقد اعترض على هذا التعريف باعتراضات ثلاث :

... الاعتراض الأول على التعريف المشهور :

إنّ هذا التعريف لم يأت بمائز لمسائل علم الأصول عن المقدمات الأخرى التي تشترك مع مسائل علم الأصول في عملية الاستنباط ، فإنها جميعها قواعد ممهدة لاستنباط الحكم الشرعي سواء أكانت تطلب من علم الرجال مثلا ، كالمقدمة المتكفلة لإثبات وثاقة الراوي ، أو كانت تطلب من علم الأصول كمسألة حجية خبر الواحد الثقة.

وقد حاول المحقق النائيني أن ينتصر لهذا التعريف ، فأجاب على هذه المناقشة بأنه يمكن إضافة قيد الكبروية في التعريف (١) ، فيقال :

إنّ علم الأصول هو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي ، والتي تقع كبرى في. قياس الاستنباط. وهذا القياس هو الذي يترتب عليه النتيجة المستنبطة أي الحجة على الحكم الشرعي.

فكل مقدمة من مقدمات الاستنباط ، تحتل مركز الكبرى في القياس الاستنباطي ، فهي من مسائل علم الأصول ، نظير مسألة حجية خبر الثقة التي تقع

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ٣ ، فوائد الأصول : ج ١ ص ٣ العلامة الكاظمي.

١٩

كبرى في القياس لصغرى يأخذها الفقيه من علم الحديث والرجال.

وكل مقدمة لا تحتل مركز الكبرى فهي ليست من مسائل علم الأصول من قبيل مسألة وثاقة الراوي التي لا تكون إلّا صغرى في القياس.

وهكذا حاول المحقق النائيني أن يدخل تعديلا لإصلاح التعريف المشهور ، إلّا أن هذا التعديل لا ينفع في المقام ، لأنه وإن أصلح التعريف هذا من جهة إخراج بعض المقدمات الغير أصولية ، لأنها لا تقع كبرى في قياس الاستنباط ، كمسألة وثاقة هذا الراوي أو ذاك ، إلّا أنه أخرج كثيرا من المسائل الأصولية ، والتي تتدخل في عملية الاستنباط. فقد أخرج :

أولا : المسائل المرتبطة بتشخيص ظواهر بعض الألفاظ أو الصيغ : كصيغة الأمر ، أو النهي ، أو الجملة الشرطية ، أو أدوات العموم أو الإطلاق ، ونحو ذلك ، فهي مسائل من صميم علم الأصول ، مع أنها لا تقع كبرى في قياس الاستنباط ، بل غايتها أنها تثبت صغرى الظهور التي تحتاج إلى ضم كبرى حجية الظهور إليها ، كي يتوصل إلى النتيجة الفقهية ، والحجة على الحكم الشرعي.

ثانيا : مسألة اجتماع الأمر والنهي : فإنها ممّا يبحث عنها في علم الأصول ، على الرغم من أنها لا تشكل إلّا صغرى القياس الاستنباطي ، سواء قلنا بامتناع الاجتماع أو بجوازه ، فإنّ نتيجة القول بالامتناع ، وعدم إمكان عروض الأمر والنهي على مورد واحد ، هي أن خطابي الأمر بالصلاة مثلا ، والنهي عن الغصب ، متعارضان لا يجتمعان في مورد واحد هو مورد الاجتماع ، وهذا لا يكون إلّا صغرى تحتاج إلى تطبيق كبرى التعارض بين الدليلين عليها ، لإنتاج الحكم الشرعي. كما أن نتيجة القول بالإمكان وجواز الاجتماع هو عدم التعارض بين الخطابين ، وبالتالي تمامية الإطلاق فيهما ، وهذا يكون صغرى محتاجة إلى تطبيق كبرى حجية الإطلاق في التوصل إلى الحكم الشرعي.

ثالثا : مسألة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده : فإنها من مباحث علم الأصول مع أنها لا تقع كبرى في قياس الاستنباط.

وثمرة هذه المسألة أن الضدّ فيما إذا كان عبادة مزاحمة بواجب آخر

٢٠