بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

مقدمة وعلة لملازمه ، وهو ترك الحرام الذي هو الغصب الزائد ، لأنّنا فرضناهما معلولين لعلة واحدة.

وبهذا ثبت أنّ الخروج مقدمة لترك الحرام ، وهو المطلوب.

وقد اعترض المحقق الأصفهاني «قده» (١) على هذا البرهان ، لإثبات المقدميّة باعتراضين :

١ ـ الاعتراض الأول : وهو موجه لما ذكر في المقدمة الثانية ، وحاصله : إنّ تلازم أمرين أحدهما وجودي ، والآخر عدمي ، لا يعني كون أحدهما علة للآخر ، أو كونهما معلولين لعلة واحدة ، بل قد يكون لكل منهما علة مستقلة ، ومع ذلك يكونان متلازمين باعتبار أنهما ضدان لا ثالث لهما. فحينئذ يكون وجود أحدهما ملازما مع عدم الآخر ، من باب أنّه لا ثالث لهما.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الكون خارج الدار ، وترك الكون داخلها ، إنّما هو من باب الضدّين اللّذين لا ثالث لهما ، فتلازمهما إنّما هو لهذه النكتة ، لا لكونهما معلولين لعلة واحدة ، ليتم ما ذكر في البرهان.

وهذا الاعتراض من المحقق الأصفهاني «قده» غير تام ، إذ لا يعقل أن يكون هناك تلازم بين ضدّين ، مع أنّ لكل منهما علة مستقلة ، لأنّه لو فرضنا وجود علة الأول ، وعدم وجود علة الثاني ، ففي هذه الحالة ، لا بدّ وأن يوجد الأول ، وأمّا الثاني ، فإن وجد ، فهو بلا علة ، وهذا مستحيل ، وإن لم يوجد فهو خلف التلازم.

ففي مقامنا ، المفروض تلازم الكون خارج الأرض مع ترك الكون داخل الأرض ، فلو كان لكل منهما علة مستقلة ، أو لم تكن علة أحدهما بتمام أجزائها علة للآخر ، فحينئذ ، إذا فرض وجود علة ترك الكون داخل الأرض ، وفرض عدم تماميّة علة الكون خارج الأرض ، ففي هذه الحالة ، إن

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني : ج ٢ ص ١١٦ ـ ١١٧.

٥٠١

وجد الكون خارج الأرض ، فهو وجود بلا علة ، وهو مستحيل ، وإن لم يوجد ، لزم ارتفاع الضدّين ، وهو الكون داخل الأرض ، والكون خارجها ، وهذا مستحيل ، لأنّ المفروض أنّ لا ثالث لهما ، فإذا انتفى أحدهما ، لا بدّ وأن يوجد الآخر ، كما أنّ المفروض أنّ ترك الكون داخل الأرض ، ملازم مع الكون خارجها ، ووجود ترك الكون داخلها بدون الكون خارجها ، خلف التلازم المفروض.

إلّا أن يقال : بأنّ علة وجود الكون خارج الدار مع علة الكون داخل الدار ، من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما ، فإذا انتفت إحداهما تتعين الأخرى. وعليه : فلا يرد ما ذكرنا من إمكان عدم وجود علة الكون خارج الدار مع وجود علة ترك الكون داخل الدار ، ليرد الإشكال المذكور على هذا الاعتراض ، لأنّ المفروض أنّه متى ما وجدت علة الكون داخل الدار ، انتفت علة الكون خارجها ، وكذا العكس.

إلّا أنّ هذا الكلام غير تام أيضا ، لأنّنا ننقل الإشكال إلى هاتين العلتين ، فنقول : بأنّ عدم وجود علّة الكون خارج الدار ، مع وجود علة الكون داخلها متلازمان ، وهنا أيضا نورد نفس الإشكال السابق وهكذا.

وعليه : فالصحيح أنّ تلازم الضدّين ، لا بدّ وأن ينشأ كما ذكر في ذلك البرهان ، إمّا من كون أحدهما علة للآخر ، أو من كونهما معلولين لعلة واحدة ، إذن فاعتراض المحقق الأصفهاني : «قده» غير تام.

٢ ـ الاعتراض الثاني ، وهو : للأصفهاني «قده» (١) أيضا ، وحاصله : إنّه لو سلّم أنّ كل متلازمين لا بدّ وأن يكون أحدهما علة للآخر ، أو إنّهما معلولين لعلة واحدة ، ففي مقامنا نسلّم بأنّ الكون خارج الأرض ، مع ترك الكون داخلها الذي عرفت ، أنّهما متلازمان ، فإنّنا نسلم كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، لكن لا بمعنى أنّ علة أحدهما هي بنفسها تمام علة الآخر ، أو

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

٥٠٢

جزء منها بشكل مباشر ، ليتم برهان إثبات المقدميّة بالنحو الذي عرفت ، بل معنى ذلك أنّ هناك نقطة التقاء في العليّة ، لكن على نحو غير مباشر ، بين هذين المتلازمين ، بحيث يثبت بذلك التلازم بينهما ، ولا يتم برهان الخصم.

وتوضيح ذلك ، هو : أن يقال : بأنّ علة الكون خارج الدار مركبة من أمرين :

١ ـ الأمر الأول ، هو : المقتضي ، وهو إرادة الكون خارج الدار.

٢ ـ الأمر الثاني ، هو : شرط ، وهو الخروج ، لأنّ مجرد هذه الإرادة بلا أن يستبقها خروج ، لا تؤثر الكون خارجها.

وأمّا ترك الكون داخل الدار ، فيكفي في تحققه عدم إرادة الكون داخلها ، فعدم إرادة الكون داخلها هي علة ترك الكون داخلها ، وحينئذ نقول :

إنّ المقتضي للكون خارج الدار ، الذي هو الجزء الأول من علته مع عدم إرادة الكون داخل الدار الذي هو العلة التامة لترك الكون داخلها ، فهذا الجزء الأول من علة الأول ، مع تمام علة الثاني ، معلولان لعلة واحدة ، وهي الدافع والمرغّب للكون خارج الدار ، وهذه العلة هي نقطة اللقاء بين المتلازمين ، لأنّه يتولد منها مقتضي الكون خارج الدار ، كما يتولد منها العلة التامة لترك الكون داخل الدار.

وبهذا يثبت التلازم بين هذين الأمرين ، من دون أن يتم برهان إثبات مقدميّة الخروج لترك الكون داخل الدار.

وحيث عرفت من هذا البيان أنّه لا ارتباط مباشر بين الخروج ، وبين ترك الكون داخلها ، بل الخروج من تبعات المقتضي للكون خارجها الذي هو عبارة عن إرادة الخروج ، وهذا المقتضي توأم مع عدم إرادة الكون داخل الدار باعتبار أنّهما معلولان لعلة واحدة.

فالارتباط بين الخروج ، وترك الكون داخل الدار ، إنّما هو من هذه الجهة

٥٠٣

فقط ، وإلّا فلا ارتباط مباشر ، بمعنى كون الخروج مقدمة ، كما يروم الخصم إثباته.

ولكن الصحيح عدم تماميّة هذا الاعتراض أيضا ، ولنا عليه ثلاث ملاحظات :

١ ـ الملاحظة الأولى ، هي : إنّ نتيجة ما ذكره المحقق الأصفهاني «قده» ، هو إنّ الخروج ليس ملازما مباشرا مع ترك الكون داخل الأرض المغصوبة ، وإنّما هو ملازم لملازمه ، فعلاقته معه من قبيل علاقة ملازم العلة مع معلوم تلك العلة.

وهذا غير تام في محل كلامنا.

وتوضيحه ، هو : إنّ إلقاء الورقة في النار علة لاحتراقها ، وهناك أمر ملازم مع الإلقاء ، وهو تموج الهواء الحاصل من الإلقاء ، فهذا التموج ملازم للعلة ، وهي الإلقاء الملازم للإحراق ، وليس التموج ملازما مباشرا مع الإحراق ، فلو فرضنا ـ من باب الفرض فقط ـ أنّا ألقينا الورقة في النار ، ولم يحصل تموج ، ففي هذه الحالة يحصل الاحتراق لا محالة ، وذلك لأنّه ليس للتموج أيّ علاقة مباشرة بالاحتراق.

إذا عرفت ذلك ، حينئذ نأتي إلى مثالنا فنقول : إنّ عدم الكون داخل الأرض المغصوبة ، معلول لعدم إرادة هذا الكون ، والخروج ليس له أيّ علاقة مباشرة ، وإنّما هو ملازم مع علة عدم هذه الإرادة ، فحال الخروج حال تموج الهواء في المثال السابق.

وحينئذ نسأل : أنّه لو فرض أنّ إنسانا كان داخل الأرض المغصوبة ، وتحققت عنده علة ترك الكون داخلها ، ولم يتحقق الخروج ، ففي هذه الحالة ، هل يعقل تحقق ترك الكون داخل الدار؟.

والجواب ، طبعا : إنّه لا يعقل ، وهذا يدل على وجود علاقة مباشرة بين ترك الكون داخل الدار ، وبين الخروج ، واللف والدوران لا يخفي هذه العلاقة المباشرة.

٥٠٤

٢ ـ الملاحظة الثانية ، هي : أنّه يفهم ممّا ذكره «قده» ، أنّ إرادة الكون داخل الأرض المغصوبة ، وإرادة الكون خارجها ، من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما ، بمعنى أنّه إذا انتفى أحدهما ، لا بدّ وأنّ يثبت الآخر.

وهذا غير تام ، فقد ذكرنا في بحث اتحاد الطلب والإرادة ، إنّ موجب الفعل لا ينحصر بالإرادة ، بل قد يحصل بسلطنة المكلّف كما في المتساويين ، فهنا يمكن أن يفرض عدم إرادة الكون داخلها ، وعدم إرادة الكون خارجها ، كما لو تساوى عنده الأمران ، ففي هذه الحالة تكون عدم إرادة داخلها ثابتة ، ومع ذلك ، فلا يتعين ثبوت إرادة الكون خارجها كما ادّعي ، لأنّ المفروض أنّه لا يريد الكون خارجها.

فبهذا يثبت أنهما ليسا من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما ، هذا أولا.

وثانيا : إنّه في هذه الحالة التي يتساوى فيها الضدان ، يمكن أن يفرض عدم إرادة الكون داخل الأرض المغصوبة ، ومع ذلك لا يوجد الخروج ، ويكون هذا فرضا واقعا ، لا مجرد فرض ، كما أشرنا إليه في الملاحظة الأولى ، وذلك لأنّه في صورة التساوي ، يكون عدم إرادة الكون داخلها ثابتا ، ولا تكون إرادة الكون خارجها ثابتة ، وإذا لم تكن إرادة الكون خارجها ثابتة ، فلا يوجد الخروج ، لأنّه معلول لها كما عرفت سابقا.

وبهذا يثبت وجود عدم إرادة الكون داخلها ، مع عدم تحقق الخروج.

وفي هذه الحالة ، قد عرفت أنّ عدم الكون داخلها ، متوقف على الخروج لا محالة ، ولا يتحقق بمجرد عدم إرادة الكون في الداخل ، فيثبت أنّ هناك علاقة مباشرة بين عدم الكون داخلها ، وبين الخروج في هذه الحالة ، وهي حالة تساوي الضدّين.

وبهذا يثبت المطلوب ، وهو مقدميّة الخروج لترك الكون داخلها.

٣ ـ الملاحظة الثالثة : هي : إنّه لو فرض وجود حجر في مكان ، فحينئذ ليس المقتضي لبقائه في ذلك المكان هو الإرادة ، وإنّما هناك مقتض

٥٠٥

طبيعي لبقائه ، فإذا وجد ما يزاحمه يرتفع تأثيره ، كما لو أخذ هذا الحجر من مكانه.

وفي مقامنا أغفل هذا المقتضي الطبيعي ، فإنّ الإنسان الموجود داخل الدار ، إذا لم يكن عنده إرادة للبقاء أو الخروج ، فهنا يوجد مقتض طبيعي يؤثّر في بقائه ، فإنّه في هذه الحالة يكون حاله كالحجر ، فلا محالة يبقى ، وحينئذ ، هذا المقتضي الطبيعي لا بدّ من مزاحم له ليرفع تأثيره في البقاء ، وليس ذلك المزاحم إلّا الخروج ، فيثبت أنّ الخروج مقدمة لترك البقاء ، والكون في الدار.

وعليه فالإنصاف إنّ مقدميّة الخروج لترك الكون داخل الدار ، ولترك الغصب الزائد ، ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، هذا تمام الكلام في الصغرى.

وأمّا الكلام في الكبرى ، أي : بعد ثبوت مقدميّة الخروج لترك الغصب الزائد فهل يتصف هذا الخروج بالوجوب الغيريّ ، أو إنّه لا يتصف ، حتى بناء على الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته؟.

وتحقيق الكلام في المقام ، إنّما هو بذكر ما أفاده صاحب (الكفاية) «قده» (١) في هذه المسألة.

وحاصل ما ذكره هو : إنّه حتى بناء على القول بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فمثل هذا الخروج لا يتصف بالوجوب الغيري.

والوجه في ذلك ، هو : إنّ المقدمة التي قد تقع على وجه حرام ، تكون على ثلاثة أقسام :

١ ـ القسم الأول ، هو : أن يكون للمقدمة فردين : أحدهما مباح ، والآخر محرّم ، وفي مثل ذلك ، حتى القائل بالملازمة ، يقول : بأنّ الوجوب الغيريّ يختص بالمقدمة المباحة ، ولا يشمل المقدمة المحرمة.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني : ج ١ ص ٢٦٤.

٥٠٦

٢ ـ القسم الثاني ، هو : كذلك ، بأنّ يكون للمقدمة فردين : أحدهما مباح ، والآخر محرّم ، إلّا أنّ المقدمة انحصرت بالفرد المحرّم ، لا بسوء اختيار المكلّف ، كما لو انحصر إنقاذ الغريق بالمشي في الأرض المغصوبة ، لا بسوء اختيار المكلف.

وفي مثل ذلك ، يقع التزاحم بين دليل حرمة هذه المقدمة ، وبين دليل وجوب إنقاذ الغريق ، حيث لا يمكن بقاء المقدمة على حرمتها ، والإنقاذ على وجوبه ، وبعد تطبيق قواعد التزاحم ، يقدم وجوب الإنقاذ ، لأنّه أهم بنظر المولى ، وحينئذ يسقط خطاب حرمة المقدمة ، وهو خطاب حرمة الغصب ، وبذلك تزول حرمة المقدمة ، وحينئذ يسري الوجوب الغيري إليها ، بناء على الملازمة.

٣ ـ القسم الثالث : هو : ما إذا كان للمقدمة فردين : أحدهما محرم ، والآخر مباح ، وانحصرت المقدمة بالفرد المحرم بسوء اختيار المكلّف ، كما هو محل كلامنا.

ففي مثله ، لا تتصف هذه المقدمة بالوجوب الغيريّ ، حتى بناء على الملازمة ، لأنّ هذه المقدمة محرمة حرمة نفسيّة ، وهذه الحرمة لم تسقط كما كانت تسقط في القسم الثاني ، فإنّ سقوطها في القسم الثاني ، إنّما هو باعتبار التزاحم كما عرفت.

وأمّا هنا فلا تزاحم بين النّهي عن المقدمة ، وبين وجوب ذي المقدمة ، لأنّ هذا النّهي ، وإن سقط بعد انحصار المقدميّة بهذه المقدمة المحرمة ، فالنّهي هنا استنفذ غرضه ، كما عرفت سابقا ، فيسقط ، إلّا أنّ سقوطه سقوط عصياني.

وعليه : فلا يكون هذا النّهي مزاحما لوجوب ذي المقدمة ، لأنّه قبل سقوط هذا النّهي ، لم يكن هذا الفرد مقدمة بنظر الشارع ، كي يزاحمه وجوب ذي المقدمة ، وبعد أن أصبح هذا الفرد مقدمة ، سقط النّهي عنه ، وبعد سقوطه ، لا يتصور مزاحمته ، لوجوب ذي المقدمة.

٥٠٧

وعليه : فهذه المقدمة باقية على حرمتها النفسية ، ومعه ، لا تكون متصفة بالوجوب الغيريّ ، حتى بناء على الملازمة.

والحاصل : إنّ ميزان اتصاف المقدمة بالوجوب الغيريّ ـ بناء على الملازمة ـ إنّما هو ، إذا لم تكن المقدمة محرّمة بالحرمة النفسية.

فإن قيل : إنّه بعد قيام البرهان العقلي على الملازمة ، كيف يحكم بعدم وجوب المقدمة في بعض الصور ، فإنّ مرجع هذا إلى تخصيص في حكم العقل ، وهو مستحيل.

قلنا : لو كانت الملازمة ثابتة بالبرهان والدليل العقلي ، لتمّ هذا الكلام ، إلّا أنّ الملازمة في المقام ، ثابتة بالتجربة والوجدان ، لأنّها من الأمور التجريبية ، فإنّ مرجع الملازمة في المقام ، إلى أنّ من أحبّ شيئا ، أحبّ مقدمته ، وهذا لا يثبت بالبرهان ، وإنّما بالتجربة النفسية ، والتجربة قائمة على أنّ من أحب شيئا فقد أحب مقدمته ، إذا لم تكن هذه المقدمة مبغوضة بغضا نفسيا ، أو كانت مبغوضة كذلك ، إلّا أنّ هذه المبغوضية زالت بالتزاحم ، كما عرفت في القسم الثاني.

وعليه : فالخروج في محل كلامنا لا يتصف بالوجوب الغيريّ ، بعد أن كانت مبغوضيته النفسية ثابتة.

إذن فيبقى الخروج في المقام مبغوضا ومحرما ، رغم وقوعه مقدمة للواجب.

هذا ملخص مراد صاحب الكفاية «قده» في المقام ، وهو متين ، ويدعمه الوجدان ، وهو تمام الكلام في الكبرى ، وبه تمّ الكلام في النقطة الثانية أيضا.

ـ النقطة الثالثة ، وهي : في أنه لو فرض تماميّة مقتضي إيجاب الخروج ، وفرض أيضا تماميّة مقتضي تحريمه ، ففي هذه الحالة ، تنشأ مشكلتان :

٥٠٨

١ ـ المشكلة الأولى ، هي : في كيفية التوفيق بين وجوب الخروج وحرمته.

٢ ـ المشكلة الثانية ، هي : في مشكلة التوفيق بين حرمة الخروج ، ووجوب ترك الغصب الزائد المنحصر في الخروج ، حتى لو قطعنا النظر عن الوجوب المقدمي.

أمّا المشكلة الأولى ، وهي : التوفيق بين وجوب الخروج الناشئ عن تماميّة مقتضيه ، وحرمة الخروج الناشئة عن تماميّة مقتضيها.

وفي بادئ النظر قد يتصور أن لا أساس لهذه المشكلة أصلا ، لأنّ الوجوب في زمان ، والحرمة في زمان آخر ، ومعه ، لا تبقى مشكلة ، فإنّ حرمة الخروج ثابتة قبل الدخول ، وفي هذه الحالة لا وجوب للخروج ، لأنّ وجوبه فرع مقدميته لترك الغصب ، وقبل الدخول لا غصب أصلا.

وأمّا الوجوب : فإنّه ثابت بعد الدخول ، وفي هذه الحالة ، لا حرمة ، لسقوط النّهي سقوطا عصيانيا في هذه الحالة كما عرفت. وعليه : فقد اختلف زمن كل منهما ، ومعه لا مشكلة.

وهناك تقريبان لتصوير المشكلة لا يتأتى معهما هذا الكلام.

١ ـ التقريب الأول ، هو : إنّ التضاد بين الوجوب والحرمة ، إنّما هو بلحاظ عالم المبادئ ، وهنا مبادئ كل منهما قد اجتمع مع الآخر في زمان واحد ، لأنّه بعد الدخول ، تكون مبادئ الوجوب موجودة ، كما أنّ مبادئ الحرمة موجودة ، لأنّ الساقط هو خطاب الحرمة ، وهو لم يسقط بنسخ لترتفع مبادئه ، وإنّما سقط عصيانا ، فمبادئه موجودة ، وبذلك ثبت اجتماع مبادئ كل منهما مع الآخر في زمان واحد ، نعم لم يلزم اجتماع الوجوب والحرمة بلحاظ عالم الخطاب ، لما ذكر في بيان عدم الأساس لهذه المشكلة ، حيث عرفت سقوط خطاب الحرمة بعد الدخول ، وعدم وجود خطاب الوجوب قبل الدخول.

٥٠٩

وعليه فالمشكلة موجودة بلحاظ عالم المبادئ التي هي الأساس في تضاد الأحكام.

وهذا التقريب غير تام ، وذلك لأنّه بعد انحصار ترك الحرام بالخروج ، يكون الخروج محبوبا ، فبعد الكسر والانكسار بين محبوبيته ومبغوضيته ، تزول مبغوضيته ، لأنّ ملاك المحبوبية أقوى ، ومع زوال المبغوضية لا تكون مبادئ الحرمة موجودة ، كي يقال باجتماعها مع مبادئ الوجوب.

٢ ـ التقريب الثاني ، وهو : مبني على تسليم كون الحرمة والوجوب في زمانين ، لا زمان واحد.

إلّا أنّ اجتماع الوجوب والحرمة على فعل واحد ، ولو في زمانين مستحيل بالنسبة للمولى العالم بالخفايا ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وذلك لأنّ هذا الفعل الواحد «كالخروج» مثلا ، إذا لاحظه المولى ، فإمّا أن يكون فيه مصلحة غالبة بالفعل ، أو مفسدة كذلك ، وعلى الأول يحكم بوجوبه لا غير ، وعلى الثاني يحكم بحرمته لا غير ، ولا معنى لاستبدال حكمه بعد ذلك ، لأنّ المفروض أنّه لن يطلع على أمر لم يكن مطّلعا عليه.

وعليه ، فاجتماع حكمين على فعل واحد ، يؤدي إلى جهل الحاكم ، ولو كان زمان كل حكم غير زمن الحكم الآخر كما في محل الكلام.

نعم يتصور ذلك في المولى العرفي ، لإمكان الجهل في حقه ، وأمّا المولى الحقيقي ، فلا يتصور في حقه ذلك.

وعليه : فيستحيل اجتماع الوجوب والحرمة في فعل «الخروج» ، ولو كان ذلك في زمانين.

وهذا التقريب غير تام أيضا : بل الصحيح إمكان اجتماع حكمين على فعل واحد ، في زمانين بالنسبة إلى المولى الحقيقي ، ولا يؤدي ذلك إلى جهله ، وذلك أنّ الخروج إذا لاحظه المولى سوف يرى أنّه ذو مفسدة باعتبار أنّه غصب ، كما أنّه سيرى أنّه ذو مصلحة باعتبار انحصار ترك الغصب به ،

٥١٠

ولا بدّ للمولى أن يحسب حساب هذه المصلحة وتلك المفسدة ، ويكون ذلك بجعل حكمين ، فيحرّم الخروج قبل الدخول ، ولا داعي لإيجابه في هذه الحالة ، وأمّا بعد الدخول ، فيوجب الخروج بعد سقوط الحرمة ، ولا يؤدي ذلك إلى جهل المولى.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ عدم الخروج ، يتحقق إمّا بعدم الدخول من الأول ، وإمّا بترك الخروج ، واستبداله بالبقاء في الأرض المغصوبة ، فيما إذا فرض أنّه دخل.

فسدّ باب عدم الخروج ، إمّا أن يتحقّق بترك الدخول رأسا ، أو باستبدال الخروج بالبقاء في الأرض ، إذا فرض أنّه دخل.

وسدّ باب عدم الخروج بترك الدخول رأسا ، فيه مفسدة الغصب ، لأنّ سدّ هذا الباب ، معناه ، الدخول إلى الأرض المغصوبة ، وهذا ليس فيه أيّ مصلحة ، إذ لا مقدميّة في مثله.

وأمّا سدّ باب عدم الخروج باستبداله بالبقاء ، فهذا فيه مصلحة ومفسدة ، لأنّ سدّ هذا الباب معناه ، فعل الخروج ، وهذا فيه مصلحة المقدميّة ومفسدة الغصب.

وبما أنّ المصلحة أهم ، فتقدّم على المفسدة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ سدّ الباب الأول الذي هو عبارة عن الدخول ، فيه مفسدة خالصة ، فلا بدّ من محافظة المولى على فتحه ، وذلك بالنّهي عن الدخول والخروج ، لأنّهما غصب ، وأمّا بعد الدخول ، فسدّ الباب الثاني الذي هو عبارة عن الخروج ، وإن كان فيه مصلحة ومفسدة ، إلّا أنّ المصلحة أهم ، فالمولى يحافظ على سدّه ، وذلك بالأمر بالخروج فقط.

وبهذا ، ثبت أنّه قبل الدخول ، هناك نهي عن الخروج فقط ، وأمّا بعده ، فهناك أمر به فقط ، ولا يوجد أيّ تهافت ، أو أيّ شيء آخر يوجب نسبة الجهل إلى الحاكم.

٥١١

إلّا أنّه على ضوء ما ذكرنا ، فنحن لا نلتزم بهذين الحكمين ، حيث أنّه لا مقتضي لوجوب الخروج ، لا نفسيا ، ولا غيريا ، كما عرفت.

هذا تمام الكلام في المشكلة الأولى مع حلّها.

٢ ـ المشكلة الثانية ، وهي : في كيفيّة التوفيق بين حرمة الخروج ، ووجوب ترك الغصب الزائد المنحصر تركه بالخروج.

وفي مقام بيان الإشكال في كيفية الجمع بينهما ، تذكر عدة أنحاء :

١ ـ النحو الأول ، وحاصله : إنّ حرمة الخروج تنافي وجوبه كما هو واضح ، ووجوب الخروج وجوب غيريّ معلول لوجوب ذي المقدمة ، وهو ترك الغصب.

ومن المعلوم ، أنّ التفكيك بين العلة والمعلول مستحيل ، وعليه ، فما يكون منافيا مع المعلول ، يكون منافيا مع العلة وبذلك يثبت أنّ حرمة الخروج تنافي وجوب ترك الغصب ، باعتبار أنّها منافية لمعلوله ، وهو وجوب الخروج.

وهذا الكلام غير تام ، ويجاب عليه بوجوه :

١ ـ الوجه الأول ، هو : ما ذكرناه سابقا ، من أنّ الخروج ليس فيه ملاك الوجوب أصلا ، وبهذا يرتفع أصل الإشكال.

٢ ـ الوجه الثاني ، وهو : أنّه لو فرض اتصاف الخروج بالوجوب الغيريّ ، ففي هذه الحالة ، تسقط حرمته كما عرفت سابقا ، وبهذا يندفع أصل الإشكال أيضا.

٢ ـ النحو الثاني ، وهو : إنّه لا يمكن اتصاف ترك الغصب الزائد بالوجوب ، مع كون الخروج حراما ، وذلك لأنّه يشترط في الوجوب ، أن يكون متعلقه مقدورا ، عقلا وشرعا ، وفي المقام ، ترك الغصب الزائد ليس مقدورا شرعا باعتبار حرمة مقدمته المنحصرة ، والممتنع شرعا كالممتنع عقلا ، لا يعقل التكليف به.

٥١٢

وعليه : فلا يعقل التكليف بترك الغصب مع كون مقدمته ، وهي الخروج ، محرمة ، فحرمة الخروج تنافي وجوب ترك الغصب الزائد.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه لو تمّ ، فإنّه لا يتوقف على فرض كون الخروج مقدمة لترك الغصب ، بل حتى لو فرض أنّه لم يكن مقدمة ، إلّا أنّه ملازم له.

ومن الواضح ، أنّ الأمر بأحد المتلازمين مع تحريم ملازمه ، تكليف بغير المقدور.

وهذا النحو غير تام أيضا : فإنّ القدرة على متعلق التكليف شرط بحكم العقل ، فلا بدّ من ثبوت القدرة التكوينيّة والشرعية على الفعل ، وإلّا لا يصح التكليف به.

ومرجع القدرة التكوينية إلى كون المكلف قادرا تكوينا على الفعل مع مقدماته.

ومرجع القدرة الشرعيّة ، إلى كون المكلّف ـ على تقدير انقياده للمولى ـ قادرا على الفعل مع مقدماته ، وحينئذ إذا كانت المقدمة محرمة شرعا ، وكانت منحصرة ، فلا يصح تكليفه بذي المقدمة ـ مع فرض انقياده للمولى ـ لأنّ المفروض أنّه لا يمكن لهذا المكلف إذا أراد الإتيان بذي المقدمة ، التخلص من معصية المولى ، باعتبار أنّ مقدمته التي انحصر الإتيان فيها محرمة. وعليه : فلا يكون في هذه الحالة متمكنا من الانقياد ، ومعه لا يصح تكليفه.

والحاصل : إنّ القدرة الشرعية شرط بحكم العقل ، ومرجعها إلى ما ذكرناه من كون المكلّف ـ على تقدير انقياده ـ قادرا على الفعل مع مقدماته ، وهذه القدرة موجودة في محل كلامنا ، وذلك لأنّ الخروج بالنسبة لمن دخل الغصب بسوء اختياره ، لو فرض أنّه سينقاد لمولاه بعده ، فهذا الخروج ليس منافيا للانقياد ، بل هو عين الانقياد ، وإن كان معصية ، إلّا أنّه أخفّ المحذورين. وعليه : فالقدرة الشرعية على ترك الغصب الزائد ، موجودة ، لأنّ مرجعها هو القدرة على الفعل ، حتى على فرض الانقياد ، وهو قادر عليه في فرض الانقياد ، كما عرفت.

٥١٣

وهذا الجواب مطابق لما ذكره في «الكفاية» (١) ، كما ذكر جوابا آخر عن هذا النحو ، وحاصله : إنّنا لو سلّمنا بعدم القدرة الشرعية على ذي المقدمة ، وهو ترك الغصب الزائد ، فغاية الأمر ، أنّنا نلتزم بسقوط وجوبه ، كما التزمنا بسقوط النّهي عن الخروج بعد الدخول ، إلّا أنّ سقوط الوجوب سقوط عصياني يعاقب عليه. وعليه : فكما يعاقب على الخروج ، فإنّه يعاقب على عدم ترك الغصب الزائد.

وبذلك يثبت المطلوب بثبوت نتيجته ، وهذا كلام تام أيضا.

٣ ـ النحو الثالث : لبيان هذه المشكلة ، هو إنّ النّهي عن الخروج وإن سقط ، إلّا أنّه سقوط عصياني كما عرفت ، وهذا معناه ، أنّ الغرض من عدم الخروج فعلي ، ولهذا كان صدور الخروج معصية ، وإذا كان غرضه فعليا ، فحينئذ ، لا يمكن للمولى أن يأمر بذي المقدمة المنحصر وجودها بالخروج ، لأنّ معنى ذلك ، أنّ المولى يحركه نحو الخروج ، وهذا التحريك نقض للغرض الفعلي لعدم الخروج.

وبهذا يثبت عدم إمكان التوفيق بين حرمة الخروج ، «بمعنى كونه معصية» وبين وجوب ذي المقدمة ، وهو ترك الغصب الزائد.

وهذا النحو غير تام أيضا : وذلك لأنّ الأمر بذي المقدمة ، لا ينقض هذا الغرض ، وإنّما هو في طول انتقاض هذا الغرض ، وذلك لأنّ المكلّف بعد دخوله إلى الغصب ، هو مضطر للمكث بمقدار ما يستغرقه الخروج. وعليه : فيتعيّن عليه المكث في هذا المقدار ، إمّا مكثا سكونيا ، أو مكثا خروجيا ، ولو لم يأمر المولى بترك الغصب الزائد.

وحينئذ فهذا المقدار من المكث ، قد انتقض فيه الغرض ، فلا يكون بالأمر بذي المقدمة هو الناقض ، بل في طول هذا الانتقاض.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ، ص ٢٦٩ ـ ٢٦٨.

٥١٤

نعم الأمر بذي المقدمة هو المعيّن لأسلوب النقض ، فيجعل مكثه مكثا خروجيا لا سكونيا ، لأنّ أمره بترك الغصب الزائد هو تحريك نحو الخروج. وعليه : فلا محذور من الأمر بذي المقدمة ، وبهذا يتضح حل المشكلة الثانية ، وبهذا أيضا يتم الكلام في المقام الأول ، وهو حكم الخروج بنفسه.

٢ ـ المقام الثاني ، وهو : لبيان حكم الصلاة حال الخروج ، ويتضح ذلك من خلال شقّين :

١ ـ الشق الأول ، هو : أن يفرض أنّ هذا المكلف بعد خروجه من الغصب ، لا يتمكن من الإتيان بالصلاة أصلا.

٢ ـ الشق الثاني ، هو : أن يفرض أنّه يتمكن من الصلاة الاختيارية ، أو الاضطرارية فقط.

أمّا الكلام في الشق الأول : فتارة نبني على جواز اجتماع الأمر والنّهي ، وأخرى نبني على عدم جوازه.

فإن بنينا على الجواز ، فإمّا أن تكون الصلاة الاختيارية موجبة لزيادة المكث في الغصب ، وإمّا أن لا تكون موجبة لذلك ، فهاتان صورتان :

أ ـ الصورة الأولى ، وهي : فيما إذا كانت الصلاة الاختيارية موجبة لزيادة المكث ، وقلنا بجواز اجتماع الأمر والنّهي ، ففي هذه الحالة لا إشكال في أنّ وظيفته هي الصلاة الاضطرارية ـ أي الإيماء ـ ولا يكلّف بالصلاة الاختيارية ، فإنّ الصلاة الاختيارية وإن لم تكن مصداقا للحرام ـ بناء على جواز الاجتماع ـ إلّا أنّها ملازمة للمكث الزائد المحرم ، فيقع التزاحم بينها وبين حرمة الغصب ، وبمقتضى تقديم جانب حرمة الغصب ، حينئذ يرفع المولى يده عن الصلاة الاختيارية ، وتكون الوظيفة هي الصلاة الإيمائية ، وهي ليست مصداقا للحرام ، لأنّ المفروض هو جواز الاجتماع ، كما أنّها غير ملازمة مع الحرام ، لأنّها لا تستوجب مكثا زائدا ، فهي غير مزاحمة بحرمة الغصب.

٥١٥

إلّا أنّه لو فرض أنّه في مثل هذه الحالة أتى المكلف بالصلاة الاختيارية ، فحينئذ ، تقع صلاته صحيحة بناء على الترتّب ، والوجه في ذلك ، أنّ هذه الصلاة الاختيارية ليست مصداقا للحرام ، بناء على جواز الاجتماع ، غايته ، أنّه ملازم مع المكث الزائد الذي هو حرام ، فإذا عصى هذا الحرام ، بأن صلّى صلاة اختيارية ، تقع حينئذ صحيحة بناء على التّرتّب.

ب ـ الصورة الثانية : وهي : ما إذا لم تكن الصلاة الاختيارية مستلزمة لزيادة المكث ، وفي هذه الحالة يتعيّن عليه الصلاة الاختيارية ، لأنّها ليست مصداقا للحرام ـ بناء على جواز الاجتماع ـ كما أنّها غير مستلزمة للحرام ، لأنّها لا تستلزم مكثا زائدا حسب الفرض.

وأمّا بناء على امتناع اجتماع الأمر والنّهي ، ففي المقام ، إمّا أن يبنى على أنّ الغصب يتحد مع الصلاة في السجود فقط ، وإمّا أن يبنى على أنّه يتحد معها في جميع أكوانها.

أمّا إذا بني على الأول ، فالمتعيّن حينئذ هو الصلاة الإيمائية ، سواء استلزمت الصلاة الاختيارية مكثا زائدا ، أو لم تستلزم.

والوجه في ذلك : إنّ الصلاة الاختيارية تشتمل على السجود ، وهو محرّم بالنّهي السابق الساقط عصيانا ، ومع حرمته لا يكون خطاب ، «صلّ» ، شاملا له ، بناء على الامتناع ، وتقديم جانب النهي ، وإذا لم يكن خطاب ، «صلّ» ، شاملا له ، فلا يقع صحيحا ، وبذلك تبطل الصلاة المشتملة عليه. وعليه : فالمتعيّن هو الصلاة الإيمائية.

وأمّا إذا بني على الثاني ، وهو : إنّ الغصب يتحد مع الصلاة في جميع أكوانها ، فحينئذ ، مقتضى القاعدة هو عدم وجوب الصلاة ، سواء الإيمائية أو الاختيارية ، فيسقط خطاب «أقيموا الصلاة» ، إلّا أنّه سقوط عصياني كما يسقط خطاب «لا تغصب» سقوطا عصيانيا ، وذلك لأنّه يوجد عندنا خطابان ، «صلّ» ، و «لا تغصب» ، وبناء على الامتناع ، وتقديم جانب النهي ، يكون

٥١٦

خطاب «لا تغصب» مقيّدا لخطاب «صلّ» ، حال التعارض فيقيّده بالصلاة في المكان المباح ، فينتج عندنا حينئذ خطاب أحدهما ، «لا تغصب» ، والثاني ، «صلّ» في المكان المباح ، وكلا هذين الخطابين ، يمكن امتثالهما قبل الدخول في الغصب ، إلّا أنّه بعد الدخول بسوء الاختيار ، يكون المكلّف مضطرا للغصب بمقدار الخروج ، وبذلك يسقط خطاب «لا تغصب» سقوطا عصيانيا بسبب هذا الاضطرار الذي كان بسوء الاختيار ، كما أنّ خطاب «صلّ» ، في المكان المباح ، يسقط لعدم القدرة على الصلاة في المباح ، بناء على فرض الكلام. وعليه : فيسقط هذا الخطاب سقوطا عصيانيا ، هذا هو مقتضى القاعدة.

إلّا أنّه قام الدليل الخاص ، وهو الإجماع ، على أنّ الصلاة لا تترك بحال ، وعليه ، فلا بدّ من الإتيان بالصلاة حال الخروج ، وتقع صحيحة ، لأنّها مأمور بها ، ومن هنا ، التزم غير واحد بانتفاء المبغوضيّة عن هذه الصلاة ، وعلّلوا ذلك بوجهين :

الوجه الأول : وقد ذكره الخوئي «قده» (١) حيث ذهب إلى انتفاء المبغوضيّة ، باعتبار أنّه لو كانت المبغوضية ، لما أمكن التقرب بهذه الصلاة ، لأنّ المبغوض لا يعقل التقرب به ، وإذا لم يمكن التقرب بها لا تقع صحيحة ، والمفروض أنّ هذه الصلاة تقع صحيحة ، إذن فلا بدّ من الالتزام بانتفاء هذه المبغوضية.

إلّا أنّ هذا الوجه غير تام ، إذ قد عرفت إمكان التقرب بالمبغوض ، وذلك لأنّ بديل الفعل المبغوض الممكن فعلا ، إن كان أشدّ منه مبغوضيّة ، فحينئذ ، يتقرب بالمبغوض الأضعف ، وقد عرفت تحقيقه سابقا.

ومقامنا من هذا القبيل ، لأنّ الأمر يدور بين الغصب المجرد ، أو الغصب المقارن للصلاة ، والثاني أخفّ مبغوضيّة ، فيكون وقوعه أحسن لحال المولى ، وهذا هو معنى التقرّب.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٣٨١ ـ ٣٧٣.

٥١٧

نعم لو كان البديل للصلاة في الغصب ، هو ترك الغصب ، لما أمكن التقرب بهذه الصلاة.

٢ ـ الوجه الثاني الذي ذكروه وجها للالتزام بانتفاء المبغوضية ، هو : إنّ هذه الصلاة لو كانت مبغوضة ، للزم اجتماع الضدّين في شيء واحد ، لأنّ المفروض أنّها محبوبة ، باعتبار الأمر بها ، فيلزم اجتماع المحبوبية والمبغوضية في شيء واحد ، وهو مستحيل.

وهذا الوجه غير تام أيضا ، لأنّنا نقول : إنّ هذه الصلاة غير واجدة للمحبوبية ليلزم اجتماع الضدّين ، فإنّه لا موجب للالتزام بمحبوبيتها ، لا ثبوتا ، ولا إثباتا.

أمّا ثبوتا : فلأنّ الأمر كما يتعقل نشوؤه من المحبوبية ، كذلك يتعلق نشوؤه من محاولة تخفيف المبغوضيّة ، كما في فرض الكلام.

وأمّا إثباتا ، فلأنّ الأمر بهذه الصلاة ، لو كان مستفادا من دليل لفظي ، كما عن المعصوم (١) ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه «لا تدع الصلاة على حال ، الصلاة عماد دينكم» ، فحينئذ ، نلتزم بوجود المحبوبية في متعلقه ، لأنّ الاستظهار العام في مثل هذه الخطابات ، هو فعليّة الحكم مع مبادئه من المحبوبية ، أو المبغوضيّة.

إلّا أنّ المفروض ، أنّ هذا الأمر لم نستفده من خطاب لفظي ، بل من دليل لبّي ، وهو الإجماع ، وغاية ما يقتضيه هذا الإجماع ، هو إثبات الوجوب ، وأمّا فعليّة المحبوبية ، فلا تثبت به ، كي يقال ، إنّه لا بدّ من الالتزام بزوال المبغوضية ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين في واحد.

وقد يقال : بأنّ هذا الأمر استفيد من دليل لفظي ، وهو قوله : «لا تدع

__________________

(١) وسائل الشيعة الحر العاملي : ج ٢ ص ٦٠٥ حديث ـ ٥ ـ.

٥١٨

الصلاة على حال» ، فهذا دليل لفظي ، يدل على وجوب الصلاة في كل حال.

فإنّنا نقول : إنّ هذا الدليل ، لا يمكن استفادة الأمر منه في مثل المقام ، بل يستفاد منه الأمر في موارد الاضطرار غير الاختياري ، أي : في موارد قاعدة الميسور.

وتوضيح ذلك هو : إنّ قاعدة «لا تدع الصلاة بحال» ، معناها ، إنّ كل مكلّف قد شرع في حقه الصلاة بنحو ، إمّا أن يكون ممتثلا ، أو عاصيا ، وحينئذ ، فإذا فرض أنّ إنسانا لا يتمكن من الصلاة قياما ، ففي هذه الحالة ، إن قيل تسقط في حقه مطلقا ، فهذا خلاف القاعدة المذكورة ، فإنّ مقتضاها انه مكلّف بالصلاة من جلوس ، فهذه القاعدة يثبت بها الأمر في مثل هذه الموارد ، وهكذا في كل مورد لا يعتبر المكلّف مخاطبا بالصلاة ، بحيث لو ترك ، لا يكون عاصيا.

ففي كل مورد من هذا القبيل ، نثبت وجود الأمر بالصلاة الممكنة له.

وأمّا في محل الكلام : فإنّ المكلّف ، هو الذي أخّر صلاته عمدا إلى آخر الوقت ، بحيث لا يتمكن من الإتيان بها خارج الغصب ، ففي مثل ذلك ، لا يمكن أن نثبت الأمر بالصلاة بهذه القاعدة.

والوجه فيه هو : إنّنا لو لم نلتزم بوجود أمر من ناحية هذه القاعدة ، لا يلزم منه كون المولى قد رفع يده عن هذه الصلاة حتى لا يكون عاصيا ، ليكون هذا منافيا لمقتضى القاعدة ، بل المولى لم يرفع يده ، والأمر بهذه الصلاة سقط سقوطا عصيانيا ، فيعاقب على ذلك.

وبهذا يظهر أنّ هذه القاعدة يثبت بها الأمر في موارد الاضطرار غير الاختياري ، ولا يثبت بها الأمر في مثل محل كلامنا ، ولأجل ذلك ، قلنا إنّ ثبوت الأمر بالصلاة في محل الكلام ، منحصر بالدليل اللبّي ، وهو الإجماع أو شبهه.

٥١٩

وعليه : فلا وجه للالتزام بارتفاع المبغوضية عن هذه الصلاة التي ثبت الأمر بها ، وأنّها تقع صحيحة.

إلّا أنّ الكلام ، في أنّ هذه الصلاة الواجبة ، هل يتعيّن كونها اختيارية ، أو إيمائية فنقول : إنّ الصلاة الاختيارية ، إن كانت مستلزمة لمكث زائد ، فالمتعيّن في حقه هو الصلاة الإيمائية ، حيث لا موجب لرفع اليد عن حرمة المكث الزائد.

وإن لم تكن مستلزمة لمكث زائد ، فالمتعيّن هو الصلاة الاختيارية ، ولا ينافي ذلك مع حرمة المكث الزائد ، باعتبار عدم استلزام الاختيارية للمكث الزائد ، كما لا يتنافى ذلك مع حرمة أصل الغصب المضطر إليه ، والتي سقطت سقوطا عصيانيا بالاضطرار ، وذلك لأنّ حال الاختيارية هو حال الإيمائية بالنسبة لحرمة أصل الغصب ، لأنّ المفروض اتحاد الصلاة مع الغصب في جميع أكوانها ، وعليه : فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق جزئية الركوع والسجود وغيرهما ، بل يتمسك بهذا الإطلاق ، وبذلك يثبت أنّ الواجب هو الصلاة الاختيارية.

هذا كله بناء على القول المختار ، من وقوع الخروج معصية ومحرما بالنّهي الساقط بالاضطرار الناشئ من سوء الاختيار.

وأمّا بناء على القول الآخر ، وهو إنّ الخروج يقع واجبا ، إمّا نفسيا ، أو غيريا ، ففي كل مورد أوجبنا الصلاة الإيمائيّة على القول المختار ، فتكون هذه الصلاة الإيمائية أيضا واجبة ، بناء على هذا القول ، وذلك لأنّ الصلاة الاختيارية بما هي ركوع وسجود ، ليست مصداقا للخروج لتكون واجبة ويرتفع المانع عن إيقاعها صحيحة ، بل حال الاختيارية بناء على هذا القول ، كحالها بناء على المختار.

نعم الصلاة الإيمائية بناء على المختار ، تكون واجبة بالدليل الثانوي ، وهو الإجماع ، كما عرفت.

٥٢٠