بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

ـ الطريق الثاني الذي يريد من خلاله أن يثبت المحقق الأصفهاني كلا الملاكين في المجمع هو أن يقال : إنّنا نتمسك بإطلاق المادة في «صلّ» ، وبذلك يثبت وجدان الصلاة لملاكها ، والمفروض أنّ ملاك «لا تغصب» أيضا موجود ، وحينئذ يثبت وجدان المجمع لكلا الملاكين.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ هناك موانع عقلية تمنع عن فعليّة الوجوب ، كالعجز ، والنسيان ، ووجود حكم مضاد ، بناء على امتناع الاجتماع. وعليه ، فلا بدّ من تقييد الوجوب ، وهو مفاد الهيئة ، بغير هذه الحالات.

وأمّا إطلاق المادة أعني نفس الواجب ، فلا موجب لتقييده ، وبذلك يثبت أنّ الوجوب المقيّد بغير حالة العجز والنسيان ، ووجود حكم مضاد ، متعلق بذات الصلاة ، لا بالصلاة المقيدة بغير الغصب ، لأنّه لا موجب لتقييد المادة بعد تقييد الهيئة.

وبهذا يبقى إطلاق المادة على حاله ، وهو يقتضي تعلق الوجوب المقيّد ، بغير تلك الحالات ، بذات الصلاة ، وبذلك يثبت أنّ ذات الصلاة واجدة لملاكها ، لأنّ كونها موردا للوجوب ، يكشف عن ثبوت الملاك في مورد الاجتماع.

وبتعبير آخر يقال : إنّه يتمسك بإطلاق المادة ، أي : نفس الواجب ، لإثبات الملاك في المجمع ، بتقريب :

إنّ الموانع العقلية من مثل العجز ، والنسيان وغيره ، إنّما تقيّد إطلاق الهيئة ومفادها ، بما إذا لم يكن شيء من هذه المحاذير والموانع العقليّة.

وأمّا مدلول المادة الذي هو نفس الواجب ، فلا موجب لتقييده ، بل يبقى الوجوب المقيّد متعلقا بالمادة المطلقة ، أي : بذات الصلاة ، لا بالصلاة المقيّدة بغير الغصب ، لأنّه لا موجب لتقييد المادة بعد تقييد الهيئة. إذن فتعلق الوجوب المقيّد بالمادة المطلقة ، يكشف عن ثبوت الملاك في مورد الاجتماع.

٤٢١

إلّا أن هذا الطريق غير تام أيضا :

أمّا أولا : فلأنّ هذا البيان إنّما يتم فيما إذا كان المحذور يقتضي تقييد الوجوب ، أي : إطلاق الهيئة كما في موارد العجز ونحوه ، وليس في المقام الذي يكون المحذور راجعا إلى مدلول المادة مع بقاء الهيئة على إطلاقها ، إذ إنّ المحال هنا إطلاق الواجب للفرد المحرّم بحسب الفرض. إذن ففي محل الكلام لا يتم هذا البيان ، لأنّه لو فرض وجود مندوحة عن الصلاة في الغصب ، ففي مثل ذلك لا موجب لتقييد الوجوب بناء على الامتناع ، لأنّ الوجوب ثابت على كل حال في هذه الصورة ، ولكن لا بدّ من تقييد الصلاة ، وهي الواجب بخصوص الحصة المباحة. إذن فانصبّ التقييد هنا ابتداء على المادة ، ومعه لا يمكن إثبات ملاك الصلاة.

وأمّا ثانيا : فلو فرض أنّ التقييد بالقدرة منصبّ على الهيئة ، أي : الوجوب ، وأمّا الواجب فهو مطلق الفعل حتى الصادر في حالة العجز ، وسلّمنا أيضا بأنّ قيود الهيئة لا ترجع إلى المادة ، فلو سلّم ذلك كله ، فإنّه لا ينفع في إثبات وجدانية الصلاة لملاكها ، وذلك لما ذكرناه سابقا من أن القيود الدخيلة في المصلحة على نحوين :

الأول : ما يكون دخيلا في أصل اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، كالاستطاعة بالنسبة للحج ، ومثل هذه القيود تؤخذ في جانب الوجوب.

الثاني : هو ما يكون دخيلا في ترتب المصلحة خارجا ، كالطهارة بالنسبة للصلاة ، ومثل هذه القيود تؤخذ في جانب الواجب.

وعليه : فإطلاق المادة ، غاية ما يقتضيه ، هو نفي وجود قيد دخيل في ترتب المصلحة. وأمّا القيود الدخيلة في أصل الاتصاف فلا ينفيها ، حيث أنّها تؤخذ في الوجوب وهو مفاد الهيئة ، فمثل هذه القيود لا يمكن نفيها به ، بل إنّ الوجوب مقيّد لا محالة بعدم العجز ، والنسيان ، ووجود حكم مضاد ، بناء على الامتناع ، ونحو ذلك. فإذا لم يكن إطلاق المادة نافيا لمثل هذه

٤٢٢

القيود ، فحينئذ لا يمكن الجزم بأنّ هذا القيد ، وهو عدم الغصب ، غير دخيل في اتصاف الصلاة بكونها ذا مصلحة وملاك. إذن فإطلاق المادة لا يكشف عن ثبوت الملاك حينئذ.

وإن شئت قلت : إنّ شكّنا في المقام شك في اتصاف الفعل الواقع في حال عدم الوجوب بكونه ذا مصلحة وملاك ، والمفروض إنّ الإطلاق الذي يكشف عن الاتصاف بالملاك دائما ، إنّما هو إطلاق الوجوب وفعليته في ذلك المورد ، لا إطلاق المادة ، فإنّها تنفي التقيّد بقيود الوجود ، لا قيود الاتصاف ، والمفروض سقوط إطلاق الهيئة ، وعدم إمكان التمسك به.

فالصحيح في المقام : إنّه لا يمكن إثبات وجدانيّة المجمع لكلا الملاكين بهذين الدليلين. إذن فالتزاحم الملاكي ليس على القاعدة ، لا في موارد الاجتماع ، ولا في غيرها من موارد التعارض.

إذن ، فالتزاحم عند المحقق الخراساني «قده» ـ وهو التزاحم الملاكي ـ ، يختلف عن التزاحم عند المحقق النائيني «قده» ، حيث أنّ التزاحم عند المحقق النائيني «قده» إنّما هو في مقام الامتثال ، من حيث أنّه لا تنافي بين الحكمين في التزاحم الامتثالي ، لأنّ كلا منهما قد جعل مشروطا بعدم الاشتغال بالأهم أو المساوي ولا محذور في ذلك فإنه بالاشتغال به يرتفع موضوع الآخر ، فيرتفع بذلك التكاذب والتعارض بين دليليهما.

وعليه : فليس على المولى التدخل وبذل عناية مولوية في مورد التزاحم ، بل المكلّف يختار الأهم منهما على المهم.

بينما التنافي في التزاحم الملاكي عند الخراساني «قده» ، إنّما هو بين نفس الجعلين ، لاستحالة اجتماعهما في موضوع واحد ، ممّا يؤدي إلى التكاذب ، ووقوع التعارض بين دليليهما ، وكذلك يكون من وظيفة المولى هنا ، أن يبذل عنايته في ترجيح أقوى المقتضيين على أضعفهما ، لأنّ تشخيص مقتضيات الحكم ومبادئه الداعية للمولى إلى جعل الحكم ، إنّما هي وظيفة المولى ، لا وظيفة العبد.

٤٢٣

ومن هنا ندخل في المقام الثالث من التنبيه الخامس من تنبيهات اجتماع الأمر والنهي ، حيث سئل هناك ، إنّه :

هل يشترط في موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فرض ثبوت الملاكين في المجمع ، أو إنّه لا يشترط ذلك.

وقد تقدم الكلام في مقامين في ذلك ، وهذا هو المقام الثالث :

٣ ـ المقام الثالث ، من التنبيه الخامس : يقال فيه انه بعد وضوح الفرق بين التزاحمين ، وبعد فرض إمكان التزاحم الملاكي ، وأنّ المجمع واجد للملاكين بتقريب من التقريبات المتقدمة ، يقع الكلام في أنّه هل يطبّق على هذا التزاحم الملاكي ، أحكام التزاحم الحقيقي المتقدمة في بحث الضد ، أو إنّه يطبّق عليه أحكام باب التعارض؟

وقد كانت مرجحات باب التزاحم الحقيقي ، عبارة عن تقديم الأهم على المهم ، وتقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية ، وتقديم ما ليس له بدل ، على ما له بدل.

وهذا التساؤل وعدم الجزم بتطبيق أحكام باب التزاحم الحقيقي عليه إنما هو للفوارق المهمة بين هذا التزاحم ، وذاك التزاحم الحقيقي. وبعد استعراض هذه الفوارق ننظر ، في أنه هل يجري ويطبق شيء منها على التزاحم الملاكي ، إذا أحرز شيء منها في أحد الملاكين دون الآخر ، أم لا؟ وهذه الفوارق ثلاثة :

١ ـ الفارق الأول : هو إنّه في التزاحم الحقيقي ، لم يكن تناف بين نفس الجعلين ، وإنما التنافي بين فعليّة الجعلين معا كما عرفت ، وذلك لأنّ كلا من الجعلين جعل على نحو القضية الحقيقية ، «كصلّ ولا تغصب» ، ولا تنافي بين نفس هذين الجعلين كما هو واضح ، نعم هناك تناف بين فعليتهما.

وأمّا التزاحم الملاكي : فإنّ التنافي فيه بين نفس الجعلين ، لأنّهما

٤٢٤

واردان على موضوع واحد ، ويمتنع اجتماع حكمين على موضوع واحد كما هو المفروض في المقام.

٢ ـ الفارق الثاني : وهو متفرع على الأول ، وحاصله :

إنّه في موارد التزاحم الحقيقي لا تعارض بين الدليلين لأنّ مفاد الدليل هو الجعل ، وقد فرضنا عدم التعارض بين الجعلين.

وأمّا في موارد التزاحم الملاكي فيوجد تعارض بين الدليلين بعد فرض التنافي بين الجعلين.

٣ ـ الفارق الثالث : وهو متفرع على سابقيه ، وحاصله : هو إنّه في موارد التزاحم الحقيقي ، يكون العقل هو المرجع في تشخيص الوظيفة دون المولى لأنّ المفروض أنّه لا تناف بين الجعلين اللذين جعلهما المولى ، ففي مقام الامتثال يرجع إلى العقل ، ونطبق أحد قوانين الترجيح المتقدمة.

أمّا في موارد التزاحم الملاكي ، فالمرجع في تشخيص الوظيفة ، هو الشارع ، إذ بعد فرض التنافي بين الجعلين ، لا بدّ في تشخيص المجعول من الرجوع إلى الشارع ، لأنّ الجعل من وظيفته وعمله.

وعلى ضوء هذه الفوارق ، لا بدّ من البحث ، لنرى أنّه أيّ مقدار من أحكام التزاحم وأحكام التعارض ، يمكن تطبيقها في المقام.

وقد ذهب المحقق النائيني تفريعا على الفارق الثاني ، إلى أنّ التزاحم الملاكي ملحق محضا بباب التعارض محضا ، فنطبق عليه أحكامه.

وتحقيق المسألة يحتاج إلى بسط الكلام في عدة نقاط :

ـ النقطة الأولى ، هي : إنّك قد عرفت أنّ الترجيح بأهميّة الملاك ، إنّما هو من مرجحات باب التزاحم ، دون التعارض ، لأنّ هذا المرجح فرع وجود الملاكين ، وهذا غير متحقق في باب التعارض ، لأنّ موضوع التعارض هو عدم إحراز كلا الملاكين.

٤٢٥

فالعلم بأهميّة الملاك الذي هو أحد مرجحات باب التزاحم الحقيقي ، مرجعه إلى قضيّة شرطية وهو إنّه لو كان الملاكان موجودان لكان هذا الملاك أهم من الآخر ، وشرط هذه القضية غير متحقق في باب التعارض كما هو واضح ، فلا يكون هذا المرجح مفيدا بالنسبة إليه.

إذا عرفت ذلك نقول : هل يمكن إعمال هذا المرجح في باب التزاحم الملاكي ، أو لا يمكن؟.

وتحقيق الكلام في ذلك هو التفصيل بين صورتين في المقام :

١ ـ الصورة الأولى : هي أن يفرض قيام دليل خارجي ، من إجماع ونحوه ، على ثبوت أحد الملاكين في مورد الاجتماع ، وأنّ أحدهما أهم أو غير مشروط بالقدرة الشرعية ، أو ليس له بدل بخلاف الآخر ، أي : إنّنا نعلم بالقضية الشرطية ، وبنفس الشرط ، من الخارج.

٢ ـ الصورة الثانية : هي أن يفرض إنّ أصل ثبوت الملاكين معلوم من نفس دليلي ، «صلّ ، ولا تغصب» ، لكن العلم بأهميّة أحدهما ، كان ثابتا من الخارج ، ولا أقل بأحد التقريبين اللذين تقدما عن المحقق الأصفهاني «قده».

أمّا الصورة الأولى : كما لو علم بوجدان كل من «الصلاة والغصب» لملاكه في موارد اجتماعهما ، وعلم أنّ ملاك الصلاة أهم ، فإنّه حينئذ لا بدّ من إعمال المرجح المذكور ، وهو ترجيح الأهم فيحكم حينئذ بصحة الصلاة ، لأنّ هذا العلم المفترض يدلنا على أنّ المولى جعل حكما على طبق الأهم ، وهو الصلاة ، لأنّ المقتضي لوجوب الصلاة موجود لإحراز ملاكها من الخارج ، والمانع مفقود ، لأنّه لا يتصور مانعا إلّا دليل. «لا تغصب» ، وهو لا يصلح مانعا ، لأنّ ما هو أضعف ملاكا لا يمنع عن تأثير ما هو أقوى ملاكا.

وأمّا الصورة الثانية ، وهي : أن يفرض ثبوت ملاكي ، «صلّ ، ولا

٤٢٦

تغصب» ، بنفس إطلاق الدليلين بواسطة الدلالة الالتزامية كما ذكره المحقق الأصفهاني كما عرفت ، ويفرض أنّه علمنا من الخارج أنّه إذا ثبت ملاك الصلاة فهو أقوى من ملاك الغصب ، ففي هذه الصورة ، يخرج المقام عن باب التزاحم الملاكي حينئذ ، ويدخل في باب التعارض ، وتطبّق عليه أحكامه.

وتوضيح ذلك : إنّ دليل «صلّ» يدل بالمطابقة على وجوب الصلاة ، وبالالتزام على ثبوت ملاك الصلاة ، وبالتزام آخر طولي على أهمية ملاك الصلاة ، لأنّنا فرضنا أنّ ثبوت ملاك الصلاة ملازم لأهميته.

وأمّا دليل «لا تغصب» فيدل بالمطابقة على حرمة الغصب ، ومن الواضح ، أنّ حرمة الغصب لا تجامع أهمية ملاك الصلاة ، لأنّه لا يمكن جعل الحكم على طبق الملاك المغلوب. وعليه : فدليل «لا تغصب» يكون دالا بالالتزام على عدم أهميّة ملاك الصلاة ، وعدم أهمية ملاك الصلاة يلزم منه عدم أصل ملاك الصلاة ، للملازمة بين ثبوته وأهميته كما عرفت.

وعليه : فيكون دليل «لا تغصب» بمدلوله الالتزامي ، وهو عدم أهمية ملاك الصلاة ، مكذبا للمدلول الالتزامي لدليل «صلّ» ، الدال على ثبوت ملاك الصلاة ، فيقع التعارض بين المدلولين الالتزامين كما هو واقع بين المطابقيين كما عرفت. وعليه : فلا يتم في المقام كلام المحقق الأصفهاني «قده» ، وهو الأخذ بالمدلولين الالتزاميّين على تقدير تسليمه ، ويدخل المقام في باب التعارض لوقوع التكاذب بين الدليلين بمدلوليهما المطابقي والالتزامي فيطبق عليهما أحكام باب التعارض.

ـ النقطة الثانية ، هي : إنّه هل يمكن إعمال الترجيح بمحتمل الأهميّة في باب التزاحم الملاكي ، أو لا يمكن؟.

والكلام في ذلك يقع في صورتين.

١ ـ الصورة الأولى ، هي : أن يفرض أنّ ثبوت أصل الملاك فيهما ، أي : في «الصلاة والغصب» ، كان بنفس إطلاق دليلهما بالنحو المتقدم ،

٤٢٧

ويفرض أنّنا علمنا من الخارج ، أنّ ملاك الصلاة إذا ثبت فهو إمّا مساو ، أو أهم من ملاك الغصب ، ففي مثل ذلك لا يمكن ترجيح محتمل الأهمية ، وذلك لوقوع التعارض بين الدليلين ، فاللازم حينئذ هو تطبيق قواعد التعارض ، وتوضيح ذلك يعلم من النقطة الأولى.

ولكن مجمل القول فيه ، هو : إنّ دليل «لا تغصب» يدل بالالتزام على عدم أهمية ، ملاك الصلاة كما يدل على عدم مساواته له أيضا ، لأنّ حرمة الغصب لا تتناسب إلّا مع أهميّة ملاكه. وعليه : فيكون دليل «لا تغصب» نافيا لأصل ثبوت ملاك الصلاة باعتبار الملازمة بين أصل ثبوت ملاك الصلاة ، وبين كونه أهم أو مساويا. فإذا انتفى الثاني ، انتفى الأول ، وبذلك يكون كل من الدليلين مكذبا بمدلوله الالتزامي للآخر ، وهذا معناه ، التعارض.

٢ ـ الصورة الثانية ، هي : أن يفرض أنّ ثبوت أصل ملاك الصلاة كان بدليل خارجي ، وكذلك ملاك الغصب ، ففي مثل ذلك يقع التعارض أيضا. ولا يمكن تقديم محتمل الأهمية ، وذلك لأنّ احتمال الأهمية هنا ، مرجعه إلى شك في أصل التكليف ، لأنّنا نقول : إنّ هذه الحركة في الأرض المغصوبة فيها مصالح ومفاسد ، ولا ندري أنّ المصالح أكبر من المفاسد ليحكم بوجوبها ، أو مساوية لها ليتساقطا ، فيرجع الأمر إلى الشك في أصل جعل الوجوب وعدمه ، وفي مثله تجري أصالة البراءة.

وهذا الكلام لا يمكن تطبيقه في باب التزاحم الحقيقي ، لأنّ أصل وجوب الصلاة ، وكذا الإزالة ، معلوم.

ومن جملة المرجحات المذكورة في باب التزاحم الحقيقي ، هو ترجيح ما كان احتمال الأهمية فيه أكبر من الآخر ، وبعد أن عرفت عدم إجراء المرجّح السابق في باب التزاحم الملاكي ، يظهر أنّ عدم إجراء هذا المرجع إنّما هو بطريق أولى كما هو واضح.

٤٢٨

نعم بالنسبة إلى هذا المرجّح لا يكون دليل «لا تغصب» نافيا لأصل ثبوت ملاك الصلاة ، باعتبار أنّه ينفي فرض أهميّة ملاك الصلاة ، أو مساواته. وعليه : فلعلّ ملاك الصلاة موجود بنحو مغلوب ، والمفروض أنّه لا تلازم بين نفي أهمية أو مساواة ملاك الصلاة ، وبين نفي أصل وجوده ، كما في الصورة الأولى.

ـ النقطة الثالثة ، هي : إنّه من جملة المرجّحات المذكورة في باب التزاحم الحقيقي ، هو تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل ، فهل يمكن إعمال هذا المرجح في باب التزاحم الملاكي ، أو لا يمكن؟.

والكلام في هذه النقطة كالكلام في النقطة الأولى ، فإن كان أصل ثبوت الملاك معلوما من الخارج ، فنقدم ما ليس له بدل على ما له بدل في باب التزاحم الملاكي ، فيقدم في المقام دليل «لا تغصب» على دليل «صلّ» إذا فرض وجود مندوحة عن الصلاة في الغصب ، وذلك باعتبار القطع الوجداني ، بأنّ المولى جعل الحكم على طبق «لا تغصب» ، لأنّ المقتضي لحرمته حينئذ موجود ، وهو ملاكه ، والمانع مفقود ، لأنّ ما يحتمل مانعيّته ، هو المصلحة القائمة في الصلاة ، ولكن هذه المصلحة بدليّة ، لإمكان الصلاة خارج الأرض المغصوبة ، وعليه : فلا تكون هذه المصلحة مانعة عن حرمة الغصب.

وأمّا إذا كان أصل الملاك فيهما ثابتا ، بإطلاق دليلهما بواسطة الدلالة الالتزامية ، كما عرفت ، فحينئذ ، سوف يقع التعارض بين الدليلين ، لأنّ دليل «صلّ» له إطلاق بدلي ، وفي نفسه يقتضي الشمول بدلا لهذه الحصة من الصلاة ، وهي الصلاة في المغصوب ، وهذا الإطلاق لا يتلاءم مع أصل وجود ملاك التحريم في الغصب الثابت بإطلاق دليل «لا تغصب» ، باعتبار أنّ المصلحة البدلية يستحيل أن تغلب المفسدة التعيينية ، وبذلك يكون دليل «صلّ» نافيا لثبوت أصل ملاك الغصب ، فيقع التكاذب حينئذ ، ومعه لا بدّ من تطبيق أحكام التعارض.

٤٢٩

ـ النقطة الرابعة ، وهي : فيما إذا فرض وقوع التعارض بين دليلين : فلا بدّ أولا : من ملاحظة إمكان الجمع العرفي بينهما ، فإذا لم يمكن ، فيرجع إلى المرجحات العلاجية ، كأقوائية السند ونحوه ، فإذا لم يمكن هذا أيضا ، حينئذ تصل النوبة إلى التساقط ، هذا إذا كان التعارض بين الدليلين بنحو التباين.

وأمّا إذا كان التعارض بنحو العموم من وجه : فلا مورد للمرجحات العلاجية حينئذ كما هو مفصّل في محله.

والآن نريد أن نرى أنّ إحراز الملاكين في المجمع ، هل يؤثر على قواعد الجمع العرفي ، وقواعد المرجحات العلاجية ، والتساقط ، أو لا يؤثر؟.

إذن فيقع الكلام في ثلاث مقامات :

ـ المقام الأول ، وهو : تأثير إحراز الملاكين على قواعد الجمع العرفي وعدم تأثيره :

وهنا ، يظهر من صاحب الكفاية (١) ، عدم تأثيره في ذلك ، حيث أنّ إحراز الملاكين في المجمع ، هو بنفسه يمهد للجمع العرفي بين الدليلين ، فإنّه لو أحرز اشتمال كلا الحكمين على الملاك ، وإنّ أحدهما أقوى من الآخر ، حينئذ نفس هذا الإحراز ، يوجد جمعا عرفيا ، وذلك بأن يحمل صاحب الملاك الأقوى على الفعلية ، وصاحب الملاك الضعيف على الاقتضاء.

ومعه لا تصل النوبة إلى المرجحات العلاجيّة ، أو التساقط.

وإن شئت قلت : إنّه يظهر من صاحب الكفاية «قده» ، عدم تأثير إحراز

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المشكيني : ج ١ ـ ص ٢٤٢.

٤٣٠

الملاكين على قواعد الجمع العرفي ، حيث أنّ إحراز الملاكين في المجمع ، وإحراز أقوائيّة أحدهما على الآخر ، هو بنفسه يمهّد لجمع عرفي بين الدليلين ، وهو حمل دليل الحكم ذي الملاك الأقوى ، على إفادة الحكم الفعلي ، ودليل الحكم الآخر ، على إفادة الحكم الاقتضائي الشأني.

وهذا الكلام فيه نظر ، لأنّ إحراز الملاك ، إمّا أن يكون مستفادا من خارج الدليلين ، أو من إطلاق نفس الدليل.

فإن كان الملاك محرزا من خارج الدليلين ، فلا يكون أيّ معنى للجمع العرفي ، لأنّه فرع التعارض ، وهنا لا تعارض ، لأنّنا نعلم تفصيلا بكذب غير معلوم الأهميّة وعليه : فلا وجه للجمع العرفي.

وإن كان الملاك محرزا من إطلاق نفس الدليل بواسطة الدلالة الالتزاميّة مثلا ، فهذا له صورتان :

الصورة الأولى ، هي : أن يفرض كون التعارض بين الدليلين بنحو العموم من وجه كما في «أكرم الهاشمي» و «لا تكرم الفاسق» ويفرض تعارضهما في هاشمي فاسق ، ويفرض أيضا أن علمنا من الخارج بأنّه متى ما ثبت ملاك الوجوب فهو أقوى.

وفي مثله كما يمكن الجمع بما ذكره صاحب «الكفاية» (١) من حمل «أكرم الهاشمي» على الفعلية ، وحمل «لا تكرم الفاسق» على الشأنيّة ، كذلك يمكن الجمع بتقييد الهاشمي بغير الفاسق ، أو تقييد الفاسق بغير الهاشمي. وليس أحد هذه التصرفات أقرب إلى الفهم العرفي من الآخر ومعه فلا يتم ما ذكره الآخوند «قده».

وإن شئت قلت : إنّه اتضح ممّا تقدم ، أنّه إذا كان الملاك الأرجح مستفادا من خارج الدليلين ، سقط دليل الحكم المرجوح عن الحجية في

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٣١

نفسه ، للقطع ببطلان مؤدّاه حينئذ ، وإن كان لهذا الكلام وجه فيما إذا كان ثبوت الملاك الأرجح بنفس الدليل.

٢ ـ الصورة الثانية ، هي : أن يفرض كون التعارض بين الدليلين بنحو التباين ، كما في ، «صلّ» ، و «لا تصل» :

وفي مثله لا يمكن حل التعارض بالتقييد ، لأنّهما واردان على موضوع واحد ، وإنّما يحل ، بحمل أحدهما على الاقتضاء ، وحمل الآخر على الفعلية. والمتعين هو حمل معلوم الأهميّة على الفعلية.

إلّا أنّ هذا ليس جمعا عرفيا بين الدليلين ـ باعتبار أنّ الحكم الإنشائي أو الاقتضائي ليس حكما ، إذا لنظر العرفي لا يفهم من الحكم إلّا البعث والتحريك الفعلي ـ ، وإنما هو إلغاء لدليل غير معلوم الأهميّة ، لأنّ مرجع حمله على الاقتضاء أنّه حكم لولائي ، بمعنى أنّه لو لا المصلحة الغالبة في الصلاة ، لنهى المولى عن الصلاة ، وهذا في نظر العرف إلغاء للدليل لا عمل به بوجه.

والخلاصة ، هي : إنّ إحراز الملاكين في المجمع ، لا يحقق جمعا عرفيا بين الدليلين ، بل حال المتعارضين مع إحراز الملاك ، كحالهما مع عدم إحرازه بالنسبة للجمع العرفي.

ـ المقام الثاني : هو في تأثير إحراز الملاكين في المجمع على المرجحات السندية ، وعدم تأثيره.

والكلام في ذلك يقع في صورتين :

١ ـ الصورة الأولى ، هي : ان يكون التعارض بين الدليلين بنحو العموم من وجه ، وفي مثله لا تجري المرجحات السندية ، سواء أحرز الملاكان ، أو لم يحرزا ، وذلك لما هو مفصل في محله في باب التعادل والتراجيح.

٢ ـ الصورة الثانية ، هي : أن يكون التعارض بين الدليلين بنحو التباين ، وفي مثله ، يرجع إلى المرجحات السندية ، سواء أحرز الملاكان ، أو لم يحرزا ، وذلك لأنّ التعارض مستحكم بين الدلالة الفعلية لكل منهما ،

٤٣٢

وإن لم يكن بينهما تعارض بمدلوليهما الالتزاميّين. وحينئذ ، فتسري هذه المعارض إلى السند ، فيعمل بالمرجحات السندية ، فإذا قدم أحدهما على الآخر سندا ، فيكون ذلك مساويا لسقوط الآخر ، وحينئذ فإن كان ملاكه محرزا بالدلالة الالتزامية ، فيسقط هذا الملاك بسقوط أصل الدليل ، وإن فرض أنّ ملاكه كان محرزا من الخارج ، فسوف يبقى الملاك ، إلّا أنّه يسقط عن الحجيّة.

والخلاصة ، هي : إنّه في هذه الصورة التي يثبت الملاك فيها بنفس دليل الحكم ، يقع التعارض بينهما لا محالة ، لأنّ دليل الحكم الآخر سوف يدل بالالتزام على نفي أصل ملاك الحكم الأول ، ولو فرض العلم من الخارج بأنّه لو كان ثابتا لكان أرجح.

وهذا يعني وقوع التعارض بين الدليلين في إثبات الملاك أيضا.

ولصاحب الكفاية «قده» عبارة في المقام ، حاصلها : إنّه في مثل ذلك يرجع إلى المرجحات الدلاليّة ، أي : الجمع العرفي ، والمرجحات السندية ، فإذا قدّم أحدهما على الآخر بمرجح دلالي أو سندي ، فيكشف ذلك بطريق الإنّ الأرسطيّ عن أقوائيّة الحكم الآخر مناطا.

وقد فسّرت هذه العبارة بتفاسير عديدة ، أصحّها أن يقال : بأنّ مقصوده ، أنّه بعد ترجيح أحد الدليلين ، فيكون الدليل المرجّح دالا بالمطابقة على فعلية الحكم الدال عليه ، وبالالتزام على أقوائية هذا الحكم ، لأنّه لو لم يكن أقوى لما كان فعليا في صورة المعارضة ، فإذا ثبتت فعليته تثبت أهميّته.

وإن شئت قلت : إنّ ظاهر مقصوده هو ، استكشاف ذلك ، بعد فرض إحراز فعليّة الملاكين في مورد الاجتماع ، فإنّه حينئذ ، لو ثبت ترجيح أحد الحكمين ، ثبت بالدلالة الالتزاميّة أقوائيّة ملاكه.

وليس المقصود ، دلالة قوة الكشف والدلالة في أحد الدليلين على قوة

٤٣٣

الملاك ، ونحو ذلك ، ممّا جعل تفسيرا لكلامه ، حيث اعترض عليه ، بعدم التلازم بين مقام الإثبات والكشف ، وبين مقام الثبوت والملاك.

٣ ـ والخلاصة ، هي : إنّه لا جمع عرفي بهذا الشكل في المقام ، بل يرجع إلى المرجحات الدلالية الأخرى ، أو المرجحات السندية إن كانت وكان التعارض بنحو التباين ، وإن لم يكن شيء من هذه المرجحات فلا مناص من استحكام التعارض ثم التساقط.

ولكن لا يجوز الرجوع حينئذ إلى أصل عملي يكون على خلاف كلا الملاكين المتزاحمين بحيث يلزم منه تفويتهما معا.

ـ المقام الثالث ، هو : تأثير إحراز الملاكين على الحكم بالتساقط بعد عدم إمكان المرجحات السندية والدلالية ، وعدم تأثيره.

ومقتضى القاعدة مع فقد تلك المرجحات ، هو الحكم بالتساقط فيما إذا لم يحرز الملاكان. وأمّا مع إحرازهما ، فالمدلولان المطابقيان للدليلين ، وإن سقطا بالتعارض ، وكان لا يمكن الرجوع إلى أصل عملي يكون على خلاف كلا الملاكين المتزاحمين ، لأنّ مثل هذا الأصل يلزم من العمل به تفويتهما معا ، وهذا مخالفة للواقع جزما ، لا سيما إذا كان تفويتهما على المولى بلا موجب.

ولكن هذا الرجوع إلى الأصل العملي المتضمن لحكم ثالث ، ممكن في صورة عدم إحراز الملاكين.

هذا بالنسبة لما لو التزمنا بالتساقط الكلي ، بحيث يرجع بعد ذلك للأصول ، ولو كان الأصل على خلاف كلا الدليلين.

وأمّا إذا التزمنا بالتساقط الجزئي ، وهو عدم ثبوت كل من الحكمين بخصوصه ، لكن الحكم الثالث المخالف لهما ، أيضا لا يصح الرجوع إليه.

ففي مثل ذلك لا يبقى فرق بين إحراز الملاكين وعدمه في عدم جواز الرجوع للأصول المخالفة للحكمين.

٤٣٤

استدراك على المقام الثاني

كنّا قد ذكرنا في الصورة الثانية أنّه يمكن إجراء المرجحات السندية فيما إذا كان التعارض بين الدليلين بنحو التباين ، سواء أحرز الملاكان ، أو لم يحرزا ، وقد عرفت هناك السرّ في ذلك ، ولكن قد يفصّل في المقام فيقال :

إنّه يمكن الرجوع إلى المرجحات السندية ، فيما إذا أحرز الملاكان على تقدير ، وعدم الرجوع إليها على تقدير آخر.

وحاصل الكلام في توضيح ذلك هو : إنّ إحراز الملاكين ، إمّا أن يكون بنفس إطلاق الدليل ، وإمّا أن يكون من الخارج.

فإن كان من الخارج ، فيرجع إلى المرجحات السندية ، للسبب الذي ذكرناه في الصورة الثانية.

وأمّا إذا أحرز الملاكان بنفس إطلاق الخطاب ، بدعوى التمسك بالدلالة الالتزامية ، باعتبار عدم تبعيّتها للدلالة المطابقيّة في الحجية ، ففي مثل ذلك لا يرجع إلى المرجحات السندية ، وذلك لأنّ الدلالة المطابقية ، وإن سقطت عن الحجية ، الّا أنّ الدلالة الالتزامية باقية ، وبقاؤها لا يمكن أن يكون بلا سند. وعليه : فبقاء السند لا بدّ منه ، ولا بأس بالتعبّد به ، اذن ، فالتعارض لا يسري إلى السّند ليرجع إلى المرجحات السندية.

وإن شئت قلت : قد يتوهم عدم صحة الرجوع إلى المرجحات السنديّة ، فيما إذا أمكن إثبات الملاكين بنفس إطلاق الخطابين ، ولو بدعوى

٤٣٥

التمسك بالدلالة الالتزامية ، باعتبار عدم تبعيّتها للدلالة المطابقية في الحجيّة ، لأنّ إمكان الرجوع إلى المرجح السندي ، فرضه فيما إذا تكاذب الدليلان في تمام مدلولهما ، بحيث كان لا يمكن الأخذ بالسند في شيء منهما.

وفي المقام يمكن الأخذ بمدلوليهما الالتزاميّين بحسب الفرض.

إذن ، فلا يسري التعارض والتكاذب إلى السّندين ليرجع إلى المرجحات السّنديّة.

ولكنّ التحقيق هو : عدم صحة هذا التفصيل ، فإنّ المرجحات السّنديّة والعلاجيّة مطلقا ، تجري حتى لو كان إحراز الملاكين ، بالدلالة الالتزاميّة.

ويقرّب الدليل على ذلك بتقريبين :

١ ـ التقريب الأول ، هو : إنّ أهم مدرك للمرجحات العلاجيّة ، هو الروايات ، وقد أخذ في موضوع هذه الروايات ، عنوان ، «إذا جاء خبران متعارضان ، ومختلفان ، وهذا العنوان يصدق في محل الكلام ، سواء قلنا بسريان التعارض إلى السند أو لم نقل ، فلم يؤخذ في موضوع هذه الروايات خصوص ما سرى التعارض إلى سنده ، ليتم ما ذكر». وعليه : فنفس هذه الأخبار ـ الدالة على الرجوع إلى تلك المرجحات العلاجية ، والتي لم يؤخذ في موضوعها خصوص ما سرى التعارض إلى سنده ـ تكون دليلا على سريان التعارض إلى السند ، والرجوع إلى المرجحات السندية ، فضلا عن المرجحات المضمونية والجهتية.

ثم إنّه لو بني على هذا التفصيل ، واشترط في إعمال المرجحات السندية ، سريان التعارض إلى السند ، حتى بلحاظ الدلالة الالتزامية ، لندر إعمال المرجحات السندية ، بناء على عدم تبعيّة الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية ، إذ قلّما يوجد مورد ليس فيه دلالة التزامية سليمة عن المعارض.

٤٣٦

أو فقل : إنّه لو فرض كفاية ثبوت المدلول الالتزامي للخطابات المتعارضة ، في عدم سريان التعارض إلى السّندين ، فسوف لن يبقى مورد معتدّ به لأخبار العلاج ، ويكون ذلك بحكم إلغائها عرفا ، لما عرفت من أنّه بناء على عدم التبعية بين الدلالتين في الحجية ، لا يتفق مورد للتعارض لا يكون لأحد المتعارضين مدلول التزامي يسلم عن المعارضة. إذن ، فمثل هذه الموارد ، هي القدر المتيقن لمضمون أخبار العلاج.

٢ ـ التقريب الثاني ، هو : إنّ صاحب المسلك القائل بعدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة ، إمّا أن يدّعي بأنّ الدلالة الالتزامية منتزعة من إطلاق الخطاب : وإمّا أن يدعي بأنّها منتزعة من أصل الخطاب :

فإن ادّعي الأول : وهو كونها منتزعة من إطلاق الخطاب ، كما لو قال المولى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، وكان مقتضى إطلاقه هو تصحيح البيع المعاطاتي ، وبأنّ البيع من أهم المعاملات ، ومع ذلك صحّحنا المعاطاة فيه ، فيحكم حينئذ بصحة الإجارة المعاطاتية. وعليه : فيكون لقوله (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، مدلولان : أحدهما مطابقي ، وهو حليّة البيع المعاطاتي. والثاني : التزامي ، وهو حليّة الإجارة المعاطاتية. وهذا المدلول الالتزامي قد استفيد من إطلاق الخطاب. فإن ادّعى القائل بعدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقية في الحجية ، أنّ الدلالة الالتزاميّة منتزعة من إطلاق الخطاب ، ففي مثله لا يكون للمدلول الالتزامي سند مستقل في مقابل المدلول المطابقي ، لأنّ هنا كلاما واحدا له سند واحد ، فإذا أسقط المدلول المطابقي عن الحجيّة ، يبقى المدلول الالتزامي حجة مع ذلك السند ، إذ لا يعقل وجود مدلول كذلك بلا سند ، وحينئذ لا موجب لسريان التعارض إلى السند في المقام ليرجع إلى المرجحات السندية.

وأمّا إذا ادّعي الثاني ، وهو كون الدلة الالتزامية منتزعة عن أصل الخطاب لا عن إطلاقه ، كما هو محل كلامنا ، حينئذ ، إمّا أن يكون مقصود

٤٣٧

القائل بعدم تبعيّة الدلالة الالتزامية للمطابقيّة في الحجيّة ، هو أنّ الراوي كأنّه في قوله ، «صلّ» ، شهد بشهادتين : إحداهما بالمدلول المطابقي ، وهو الوجوب ، والثانية : بالمدلول الالتزامي وهو الملاك ، وكذلك بالنسبة لقوله «لا تصلّ» ، فقد شهد أولا بالحرمة ، وثانيا بالملاك ، وفي مثله ، التعارض السندي واضح ، لأنّ التعارض واقع بين المدلولين المطابقين ، وهذا التعارض يسري إلى السّند ، فيرجع للمرجحات السّنديّة ، هذا إذا كان مقصود القائل بعدم التبعيّة أنّ الراوي في قوله : «صلّ» شهد بشهادتين ، وكذا في قوله «لا تصلّ».

وقد يكون مقصوده بعدم التبعية أنّه يثبت بشهادة الراوي أمر واحد ، وهو شخص هذا الكلام ، أعني «صلّ» ، ولكن كلام «صلّ» له دلالتان : إحداهما مطابقية ، وأخرى التزاميّة ، وفي مثله ، لا تعارض في السند ، لأنّه ليس عندنا إلّا سند واحد ومتن واحد ، قد أثبته ذلك السند ، غاية الأمر ، أنّ هذا المتن له مدلولان : مطابقي وقد سقط بالمعارضة ، والتزامي لا يزال ثابتا.

وبذلك اتضح أنّ الصحيح هو الرجوع إلى المرجحات السّنديّة من دون تفصيل بين ما إذا أحرز الملاك من إطلاق الخطاب بالدلالة الالتزامية مثلا ، أو من الخارج.

* التنبيه السادس :

وقد عقد هذا التنبيه لبيان إمكان تصحيح الامتثال بإتيان المجمع ، بناء على الأقوال والاحتمالات في مسألة الاجتماع ، فنقول :

إمّا أن نلتزم بامتناع الاجتماع ، أو بإمكانه.

فإذا التزمنا بامتناعه ، وقدّمنا جانب الأمر ، فلا إشكال في صحة الامتثال بالمجمع وأجزائه ، باعتبار كونه مصداقا للمأمور به ، من دون أن يفرق فيه بين علم المكلّف بحيثية الحرمة المغلوبة وعدمه ، وبين كون

٤٣٨

الواجب توصليا أو عباديا ، مع عدم وجود منشأ لشبهة البطلان.

وأمّا إذا قدّمنا جانب النّهي ، فسيأتي حكمه قريبا.

وأمّا إذا التزمنا بإمكان الاجتماع ، فحينئذ يثبت أمر ونهي.

وفي مثله تارة يكون هناك مندوحة ، وأخرى لا يكون.

فإذا فرض عدم المندوحة ، فسوف يقع التزاحم بين الأمر والنّهي ، فتطبّق قواعده ، فإن قلنا بإمكان الترتب فيصح الامتثال بإتيان المجمع باعتباره.

وإن لم نقل بإمكان الترتب ، والتزامنا بإمكان استكشاف الملاك من الأمر ، فأيضا يصحّ الامتثال بإتيان المجمع بالملاك ، وإلّا فسوف يتعذّر تصحيح الامتثال بالمجمع.

وأمّا إذا فرض وجود مندوحة ، فلا تعارض ولا تزاحم ، أمّا الأول : فلأننا نقول بالجواز. وأمّا الثاني : فلوجود المندوحة.

نعم على مبنى الميرزا «قده» القائل : بأنّ الأمر بالجامع يختص بالحصة المقدورة ، ولا يمكن أن يكون له إطلاق ولو بدليا للحصة غير المقدورة ، فحينئذ سوف يقع التزاحم بين إطلاق الواجب البدلي ، وبين الحرمة ، لعدم اجتماعهما ، فإنّ الفرد من الصلاة الملازم للحرام ، هو غير مقدور شرعا ، فيستحيل شمول إطلاق الواجب له ، فيقع التزاحم بالنسبة لهذا الفرد ، بين إطلاق الواجب وبين الحرمة باعتبار أنّ إطلاق الواجب يستدعي أن يكون هذا الفرد مقدورا شرعا وعقلا ، ودليل الحرمة يجعله غير مقدور ، وحينئذ لا يمكن تصحيح هذا الفرد إلّا بالترتب ، أو بالملاك.

وأمّا إذا بنينا على امتناع الاجتماع ، وتقديم جانب النهي ، فحينئذ ، تارة يفرض أن النهي معلوم ، وأخرى ، يفرض أنه غير معلوم.

فإن فرض أنّه معلوم ، فلا إشكال في بطلان الامتثال بالمجمع إذا كان

٤٣٩

عباديا ، لأنه مبغوض ، ومعه لا يمكن التقرب به. وأمّا إذا لم يكن عباديا ، بل كان توصليا ، فإن أحرز ملاكه فيصح ، لأنّ التّوصلي لا يحتاج إلى قصد القربة ، وأمّا إذا لم يحرز الملاك ، فيبطل.

وأمّا إذا فرض عدم العلم بالنّهي ، فحينئذ : قد يقال : بأنّ الامتثال بالمجمع يقع صحيحا ولو كان عباديا ، كما ذهب إليه المشهور ، حيث حكموا بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع الجهل بالغصب ، أو بحكمه.

وهذا الحكم منهم صار سببا للإشكال الذي طرحه صاحب الكفاية «قده» (١) والذي حاصله هو :

إنّه إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنّهي ، ينبغي أن يلتزم بصحة الصلاة حتى مع العلم بالغصبية وبحكمه ، باعتبار وجود أمر بالصلاة.

وإن قلنا بامتناع الاجتماع ينبغي أن يقال ببطلان الصلاة حتى مع الجهل بالغصبيّة ، باعتبار وقوع التعارض بين الدليلين ، فإذا قدّم جانب النّهي فلا بدّ من وقوع الصلاة باطلة ، وعليه فلا حاجة لما ذكره المشهور من الحكم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع الجهل بالغصب ، أو بحكمه ، والحكم ببطلانها مع العلم بذلك.

وفي مقام توجيه حكم المشهور يذكر عدة وجوه :

ـ الوجه الأول : هو ما أشير إليه في كلمات صاحب الكفاية (٢) وهو متوقف على مقدمتين :

أ ـ المقدمة الأولى ، هي : إنّ التّضاد بين الأحكام إنّما هو في مرحلة فعليّتها ، لا بمرحلة واقعها ووجودها الإنشائي.

ب ـ المقدمة الثانية ، هي : إنّ فعليّة الحكم تتوقف على وصوله ، بمعنى العلم به ، حيث يكون باعثا ، ومحركا ، ومانعا ، وزاجرا بالفعل.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المشكيني : ج ١ ـ ص ٢٤٩.

(٢) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ـ ص ٢٤٩.

٤٤٠