٢ ـ الاعتراض الثاني ، هو : إنّ النّهي له دلالتان :
دلالة مطابقية على الحرمة ، ودلالة التزامية على المانعيّة ، فإذ سقطت الأولى ، سقطت الثانية تبعا لها ، لأنّها تابعة لها في الحجية ، كما هي تابعة لها في الوجود.
وقد تقدم الكلام في ذلك.
وهذا إشكال مبنائي من السيد الخوئي «قده» ولنا على ما ذكره الخوئي «قده» تعليقان :
١ ـ التعليق الأول ، هو : إنّه لو كان مقصود الميرزا «قده» من كون ثبوت الحرمة وعدم الوجوب ، أي : المانعية ، في عرض واحد ـ هو العرضيّة ـ بحسب مقام الإثبات والكشف ، لكان الاعتراض الأول واردا عليه ، كما ذكره السيد الخوئي «قده».
إلّا أنّه أكبر الظن ، أنّ مقصوده من العرضية ، هو العرضية في مقام الثبوت.
والذي أوهم السيد الخوئي ، ففهم أنّ مقصود العرضية في كلام الميرزا «قده» ، هو العرضيّة في مقام الإثبات ، إنما هو تعبير الميرزا «قده» بأنّ «النّهي علة للحرمة».
ومن المعلوم أنّ النّهي بحسب مقام الثبوت ، ليس علة للحرمة ، بل العكس هو الصحيح.
فمن هنا حمل السيد الخوئي «قده» مقصود الميرزا «قده» على العليّة بمعنى الكشف ، واعترض على ذلك.
إلّا أنّ أكبر الظن كما عرفت ، أنّ مقصود الميرزا «قده» هو العرضيّة في مقام الإثبات.
والتعبير بعليّة النّهي للحرمة فيه مسامحة ، بدليل ما جاء في (فوائد
الأصول) تقريرا لبحث الميرزا «قده» (١) ، حيث عبّر بأنّ الملاك علة للحرمة والمانعيّة في عرض واحد.
وهذا صحيح لا إشكال فيه ، فإنّ الملاك ثبوتا علة لهذين الأمرين في رتبة واحدة بالبرهان المتقدم في بحث الضد ، على أنّ وجود أحد الضدّين وعدم ضده الآخر ، معلولان في رتبة واحدة.
إذن فالاعتراض الأول لا يكون واردا على الميرزا «قده».
نعم يبقى الاعتراض الثاني واردا ، لأنّ الملاك ، وإن كان علة للحرمة والمانعيّة في عرض واحد ، إلّا أنّ الدليل على ثبوت ملاك الحرمة هو النّهي ، فإنّ خطاب «لا تغصب» يدل بالمطابقة على الحرمة ، وبالالتزام على ثبوت ملاكها ، وإذا سقط المدلول المطابقيّ بالاضطرار ، يسقط حينئذ المدلول الالتزاميّ حجة ، كما يسقط وجودا ، وإذا سقط المدلول الالتزاميّ ، لم يبق دليل على ثبوت الملاك ، ومع عدم الملاك ينتفي موضوع كلام الميرزا «قده» كما هو واضح ، حيث أنّ الملاك الذي هو علة للأمرين لم يثبت ليقال : إنّ هذه العلة إذا لم تؤثر في معلولها الأول ، فلا مانع من تأثيرها في معلولها الثاني.
٢ ـ التعليق الثاني ، وهو : تعليق على منهجة اعتراض السيد الخوئي «قده» وحاصله : إنّه كيف أمكن للسيد الخوئي تصوير اعتراضين؟ فإنّ الميرزا «قده» ، إن قصد من العرضيّة ، العرضيّة بحسب مقام الكشف ، فيتم ما اعترض به السيد الخوئي «قده» أولا دون الثاني :
لأنّه إن صحّ كون كشف النّهي عن الحرمة والمانعية في عرض واحد ، فلا يكون أحدهما تابعا للآخر وجودا ، أو حجة ، ليتوجه الاعتراض الثاني.
وأمّا إذا كان مقصود الميرزا «قده» من العرضية هو ما ذكرناه ، أعني
__________________
(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٧٤.
العرضية ثبوتا ، فالاعتراض الأول لا يتوجه ، وإنّما الذي يتوجه هو الاعتراض الثاني.
والحاصل : إنّه لا يمكن تسجيل هذين الاعتراضين معا على كلام الميرزا «قده».
لأنّه لو كان نظر الميرزا «قده» في العرضيّة إلى عالم الإثبات كما افترض في الاعتراض الأول ، إذن فكيف يربط البحث بباب الدلالة الالتزاميّة وطوليتها للدلالة المطابقية.
وإن فرض أنّ النظر إلى عالم الثبوت ، فكيف يورد على الميرزا «قده» بالاعتراض الأول؟ بل حتى الإيراد الثاني لا يصح إلّا مبنائيا ، إذ إنّ الميرزا «قده» من القائلين بعدم الطوليّة بين الدلالتين في الحجية.
والتحقيق : إنّ كلام الميرزا «قده» في هذا التقريب مبنيّ على مقدمتين :
١ ـ المقدمة الأولى ، هي : إنّ ملاك الحرمة ثابت بالدلالة الالتزامية بناء على مبناه من عدم تبعية الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الحجية ، فسقوط الدلالة المطابقيّة لخطاب «لا تغصب» على الحرمة عن الحجيّة ، لا يوجب سقوط دلالته الالتزاميّة على الملاك ، وبهذا يثبت أنّ ملاك الحرمة موجود.
٢ ـ المقدمة الثانية : هي : إنّه إذا ثبت وجود ملاك الحرمة ، فهذا الملاك يكون علة لأمرين في عرض واحد ، وهما : الحرمة ، وعدم الوجوب ، أعني المانعيّة ، فإذا وجد ما يمنع هذه العلة عن تأثيرها في معلولها الأول ، فلا مانع عن تأثيرها في معلولها الثاني.
وعلى حاصل هاتين المقدمتين بنى الميرزا «قده» كلامه.
ويرد على ما ذكره الميرزا «قده» اعتراضات ثلاثة :
١ ـ الاعتراض الأول : وهو مختص بالمقدمة الأولى ، وهو مبنائي ،
وهو عبارة عن الاعتراض الثاني للسيد الخوئي «قده» ، وهو : إنّه لا يمكن إثبات الملاك بالدلالة الالتزاميّة بعد سقوط الدلالة المطابقيّة عن الحجيّة ، لأنّ الدلالة الالتزامية تابعة لها.
وقد عرفت الإشكال على منهجيّة اعتراض السيد الخوئي «قده».
بينما هذا الإشكال لا يرد على نهجنا.
وإن شئت قلت : إنّ منهجة التقريب غير تامة ، فإنّه إذا سلّمنا حجية المدلول الالتزاميّ للخطاب بعد سقوط مدلوله المطابقي ، كفى ذلك في إثبات المانعيّة بلا حاجة إلى مسألة تأثير الملاك بصورة عرضيّة في الحرمة والمانعيّة ، لأنّ دليل النّهي يدل على المانعيّة وعدم الوجوب التزاما ، وإلّا فالدعوى الأولى غير كافية ، إذ من أين نحرز الملاك بعد سقوط الخطاب ، إذا لم نقل بالتبعية حتى نحرز ثبوت معلوله الثاني ، وهو المانعيّة.
٢ ـ الاعتراض الثاني : وهو مختص بالمقدمة الثانية ، وهو : إنّ الملاك إذا وجد ، فإنّه يكون علة لأمرين في عرض واحد ، وهما : الحرمة ، وعدم الوجوب أي : المانعيّة.
وتوضيحه ، هو : إنّه قد تقدم في بحث الضد ، ووافق الميرزا «قده» على ما تقدم ، من أنّ مقتضى الضد الغالب أن يكون علة لأمرين في عرض واحد : أحدهما : وجود مقتضي الضد الغالب ، والآخرة : عدم ضده ، كالسواد ، والبياض ، فلو فرض أنّ مقتضى السواد هو الغالب ، فيكون علة لأمرين : أحدهما : إيجاد السواد ، والثاني : عدم البياض ، وهذا أمر قد برهن عليه سابقا.
إلّا أنّ عليّة مقتضي السواد الغالب لهذين الأمرين ، تتصوّر على أحد نحوين :
أ ـ النحو الأول ، هو : أن يقال : إنّ هذه العليّة ترجع بحسب الحقيقة إلى علتين وتأثيرين : فإحدى العلتين : تؤثّر في الأمر الوجودي ، وهو إيجاد السواد ، والثانية : تؤثر في الأمر العدميّ ، وهو عدم البياض. وبناء على
هذا ، يتم ما ذكره الميرزا «قده» في المقدمة الثانية ، لأنّه إذا وجد مانع من تأثير العلة الأولى في معلولها الوجودي ، فلا يعني ذلك ، عدم تأثير العلة الثانية في معلولها العدميّ :
إلّا أنّ هذا النحو من تصوير العليّة ، باطل ، كما عرفت تحقيقه في بحث الضد ، حيث ذكرنا هناك إنّ عليّة الأمر الوجوديّ للعدمي ، كعليّة الأمر العدمي للأمر الوجوديّ ، مستحيلة.
وعليه فلا يصح القول : بأنّ مقتضى الضد الغالب يكون علة بصورة مستقلة لأمرين : أحدهما وجودي والآخر عدمي في عرض واحد.
ب ـ النحو الثاني ، هو : أن يقال : إنّ هذه العليّة ، ترجع إلى علة واحدة لها معلول واحد بحسب الحقيقة ، بمعنى أنّ مقتضي السواد الغالب يكون علة لوجود السواد ، بمعنى أنّه يوجده ، كما أنّه يكون مانعا عن تأثير البياض في إيجاد البياض.
فإذا قيل : إنّ مقتضي السواد علة لعدم البياض ، فليس معنى ذلك ، أنّه يوجد ويخلق عدمه ، بل بمعنى أنّه يمنع عن تأثير مقتضاه في إيجاده ، فمقتضى الضد الغالب ليس له تأثيران ، بل تأثير واحد وهو إيجاد الضد الغالب وهو السواد ، وبما أنّ السواد والبياض لا يجتمعان في محل واحد ، فيكون المقتضي للسواد بقدر ما يقرّب يكون مبعّدا للبياض بالمعنى الذي تقدم.
إذن ، فعليّة مقتضي السواد لعدم البياض ، ليست عليّة مستقلة عن عليّة مقتضي السواد لإيجاد السواد ، بل هي الجانب السلبي لهذه العليّة.
وبناء على ذلك يقال : إنّه إذا وجد ما يمنع عن تأثير مقتضي السواد في إيجاد السواد ، فلا يبقى موجب لحفظ تأثير مقتضي السواد في عدم البياض ، بمعنى أنّه لا موجب لكي يبعّد مقتضي السواد عن وجود البياض.
والحاصل ، هو : إنّ ما ذكره الميرزا «قده» في المقدمة الثانية ، من أنّ
الملاك إذا وجد يكون علة لأمرين : أحدهما الحرمة ، والآخر ، عدم الوجوب ، بمعنى المانعيّة في عرض واحد ، فهذا الذي ذكره ، إنّما يتم بناء على النحو الأول لتصوير العليّة ، وقد عرفت استحالته ، ولا يتم على النحو الثاني ، لأنّه إذا كانت عليّة الملاك لعدم الوجوب ، بمعنى التبعيد عن الوجوب بقدر التقريب نحو الحرمة ، فحينئذ إذا وجد ما يمنع من تأثير هذه العلة في الحرمة ، فلا يبقى موجب لكي يؤثّر البعد بالنسبة للوجوب.
٢ ـ الاعتراض الثاني ، وهو : اعتراض منهجي على كلام الميرزا «قده».
وحاصله هو : إنّه إذا تمّت المقدمة الأولى ، وهي عدم تبعيّة الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية ، فيثبت مراد الميرزا «قده» بلا حاجة إلى إثبات المقدمة الثانية التي أتعب نفسه في إثباتها ، وهي عرضيّة المعلولين لعليّة الملاك ، فإنّه حتى لو لم يثبت ذلك ، يتم المطلوب بعد تماميّة المقدمة الأولى ، فإنّه يقال : بأنّ دليل «لا تغصب» يدل بالمطابقة على الحرمة ، وبالالتزام على المانعيّة ، فإذا سقطت الدلالة المطابقية تبقى الدلالة الالتزاميّة دالة على المانعية ، وبذلك يثبت المطلوب بلا حاجة لتوسيط المقدمة الأولى.
وأمّا إذا فرض عدم تماميّة المقدمة الأولى ، فلا تنفع المقدمة الثانية في إثبات المطلوب ، لأنّه إذا لم يثبت عدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقية ، فمعنى ذلك ، أنّه إذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية ، تسقط الدلالة الالتزاميّة تبعا لها.
ومعنى ذلك أنّه لا يبقى دليل على وجود الملاك الذي هو أصل موضوعي للمقدمة الثانية ، كما عرفت.
هذا حاصل التقريب الأول لعدم سقوط المانعيّة بسقوط الحرمة ، وقد عرفت عدم تماميته.
٢ ـ التقريب الثاني : لبيان بقاء المانعيّة الناشئة من الحرمة التكليفيّة حتى بعد سقوط الحرمة بالاضطرار :
وحاصل هذا التقريب مركّب من أمرين :
١ ـ الأمر الأول ، هو : إنّه يمكن إثبات ملاك الحرمة ، بالرغم من سقوط الحرمة بالاضطرار ، وذلك بواسطة حديث الرفع الذي رفع الحكم الذي يكون موردا للاضطرار.
وتوضيح ذلك : إنّ حديث الرفع وارد مورد الامتنان ، فرفع الحرمة حال الاضطرار إنّما هو من باب المنّة ، وهذا يكشف عن وجود مقتضي الحرمة وملاكها ، وإلّا لو لم يكن مقتضاها ، موجودا ، لكان ارتفاع الحرمة باعتبار عدم وجود مقتضاها ولا يكون أيّ امتنان في رفعها حينئذ.
فظهور حديث الرفع في كونه مسوقا مساق الامتنان ، يكشف عن وجود ملاك الحكم المرفوع.
وإن شئت قلت : إنّ الأمر الأول هو عبارة عن إثبات ملاك الحرمة ، لا بالدلالة الالتزامية لدليل الحرمة ، «لا تغصب» ، بل بحديث الرفع المخصّص لأدلة التكاليف الاضطرارية ، بدعوى أنّ المرفوع بقوله «رفع ما اضطروا إليه» ، إنّما هو الحرمة فقط ، لا الملاك ، لأنّ ما هو مقتضى الرفع الامتناني ، إنّما هو رفع الحرمة والتكليف مع ثبوت مقتضيها ، لا ارتفاعها من باب عدم المقتضي لها.
٢ ـ الأمر الثاني : ويقرب بتقريبين :
أ ـ التقريب الأول ، هو : إنّه بعد أن ثبت وجود ملاك الحرمة في مادة الاجتماع ، فلا يمكن حينئذ التقرب بهذا الفعل ، لأنّ ملاك الحرمة يمنع عن ذلك ، فالمانعيّة ثابتة مع أنّ الحرمة سقطت بالاضطرار.
ولكن هذا التقريب يختص بخصوص العبادات ، باعتبار أنّ غيرها من الواجبات لا يحتاج إلى قصد القربة ليمنع ملاك الحرمة منه.
٢ ـ التقريب الثاني ، هو : إنّه بعد أن ثبت وجود ملاك الحرمة في مادة
الاجتماع ، فمعنى ذلك ، هو وجود مبادئ الحرمة ، ومعه لا يكون دليل الأمر شاملا لمورد الاجتماع ، بناء على امتناع اجتماع الأمر والنّهي ، كما هو المفروض.
وهذا إنّما يتم ، بناء على أنّ نكتة امتناع الاجتماع هي التنافي بين الأمر والنّهي بلحاظ مبادئهما ، كما تقدم تفصيله في محله.
وإذا لم يكن دليل الأمر شاملا لمورد الاجتماع ، فلا يقع الفعل صحيحا ، وإن سقطت الحرمة ، فيثبت بذلك وجود المانعيّة حتى مع سقوط الحرمة.
وهذا التقريب لا يختص بخصوص العبادات ، كما هو واضح.
إلّا أنّ التحقيق يقتضي بطلان هذا التقريب لبيان بقاء المانعية بعد سقوط الحرمة بكلا أمريه :
أمّا بطلان الأمر الأوّل : فما ذكر فيه من أنّ حديث الرفع يدل على وجود الملاك باعتباره واردا مورد الامتنان بالنحو الذي عرفته ، فهذا إنّما يتم بالنسبة للمولى العرفي ، ولا يتم بالنسبة للمولى الحقيقي ، وهو الله سبحانه وتعالى.
وتوضيح ذلك ، هو : إنّ أوامر ونواهي المولى العرفي ، ترجع إلى مصلحته الخاصة ، فلو فرضنا أنّ هذا المولى العرفي عطشان ، وهو يعلم أنّ تحصيل الماء يصعب جدا على عبده ، فحينئذ إذا رفع عن العبد طلب الماء ، فيكون في رفعه منة عليه ، بالنحو الذي ذكر ، لأنّ ملاك الأمر بالإتيان بالماء موجود وهو العطش ، فإذا رفعه مع ذلك ، فيكون رفعه هذا منّة.
وأمّا بالنسبة إلى المولى الحقيقي ، سبحانه وتعالى ، فلا يتم هذا الكلام ، لأنّ أوامره ونواهيه لا ترجع إلى مصلحة له ، بل يلاحظ بها مصالح عباده ، فإذا كان في الفعل مصلحة للعبد فيأمر به ، وإذا كان فيه مفسدة فينهاه عنه ، فالله تعالى دائما يحسب حساب العبد ، وحينئذ فلو فرض أنّ تحصيل
الماء لأجل الوضوء كان صعبا على العبد ، فالله تعالى يلاحظ هنا مصلحة العبد ، فإنّ مصلحة الوضوء المتوقفة على تحصيل الماء ، ألزم للعبد من المفسدة والمشقة الناشئة من تحصيل الماء ، فحينئذ يأمره بتحصيل الماء ، ولا يكون أيّ امتنان في رفع وجوب الوضوء ، بل الامتنان في إلزامه به.
وإن فرض أنّ مفسدة طلب الماء أكبر من مصلحة الوضوء ، فحينئذ تندكّ هذه المصلحة في المفسدة ، وبعد الكسر والانكسار ، تنعدم تلك المصلحة ، فلا يبقى حينئذ أيّ مقتض للأمر أصلا.
وإن فرض تساوي المصلحة والمفسدة ، فلا مقتض للأمر ، ولا للنّهي حينئذ بعد الكسر والانكسار ، وعليه : فلا يكون رفع الحكم في مورد الاضطرار كاشفا عن وجود ملاكه ومقتضاه كما ذكر.
إذن ، فالامتنان لا يرجع إلى ما ذكر ، بل معناه إنّ الشريعة شريعة سمحاء ، وهي دائما تلحظ مصالح العباد ، وتقدم الأهم على المهم ، امتنانا على العباد ، وشفقة عليهم.
وأمّا بطلان الأمر الثاني بتقريبيه ، فحاصله : إنّه لو سلّم كون حديث رفع الاضطرار كاشفا عن وجود ملاك الحرمة في مادة الاجتماع ، إلّا أنّه لا دلالة في حديث الرفع على أنّ هذا الملاك يؤثر في المبغوضيّة ، ليمنع من التقرّب ، كما جاء في التقريب الأول لهذا الأمر ، ولا يكون منافيا لمبادئ الأمر كما جاء في التقريب الثاني له ، هذا أولا.
وثانيا هو : إنّه لو سلّم أنّ ملاك الحرمة الذي يكشف حديث الرفع عن وجوده ، يؤثر في المبغوضية الفعلية.
إلّا أنّ هذا لا يمنع من التقرب به ، لأنّ ميزان التقرب نحو المولى ، هو أن يكون حال المولى مع هذا الفعل المتقرّب به ، أحسن من حاله مع فعل آخر.
وعليه : فإذا كان المكلف مضطرا لإراقة الماء ، سواء على أعضاء
وضوئه ، أو مطلقا ، فهنا لا إشكال في أنّ إراقته على أعضاء وضوئه بالتوضؤ به ، أحسن عند المولى من إراقته على الأرض.
وعليه : فهذا التقريب الثاني لإثبات بقاء المانعيّة الناشئة من الحرمة التكليفية حتى بعد زوال الحرمة بالاضطرار ، غير تام.
فالصحيح إذن : ما ذهب إليه المشهور ، من أنّ مثل هذه المانعيّة تسقط بسقوط الحرمة.
هذا تمام الكلام في الكبرى أي : في حكم مادة الاجتماع إذا حصل الاضطرار ، لا بسوء الاختيار.
وأمّا الكلام في الصغرى ، أي : في الأمثلة التي تكون مصداقا للكبرى المذكورة ، كالصلاة في المكان المغصوب.
والميزان في وقوعها صحيحة في الغصب ، وكونها صغرى لتلك الكبرى ، هو أن لا تكون الصلاة موجبة لغصب زائد عن الغصب المضطر إليه ، وإلّا فتقع باطلة ، ولا تكون صغرى.
والكلام في هذا المقام يتصور له حالات ثلاث :
١ ـ الحالة الأولى : هو : أن يفرض أنّ المكلف مضطر إلى البقاء في الغصب في تمام الوقت.
وهنا ذهب كثير من المحققين إلى صحة الصلاة في الغصب ، لأنّ المفروض أنّ هذا المكلف مضطر إلى الغصب ، فإيجاده في ضمن الصلاة أحسن عنده من إيجاده في ضمن غيرها.
وعليه : فيمكن التقرب بهذه الصلاة ، والمفروض أنها لا تسبب غصبا زائدا عن الغصب المضطر إليه ، وبذلك يكون هذا من مصاديق تلك الكبرى.
إلّا أنّ بعضهم ذهب إلى أنّ الصلاة الاختيارية لا تقع صحيحة.
والوجه في ذلك : إنّ هذه تشتمل على غصب زائد ، لتضمّنها الركوع ، والسجود ، والقيام المستلزم للحركة ، بينما يمكن لهذا المضطر أن يبقى ساكنا ، فتكون الصلاة مشتملة على غصب زائد ، وحينئذ تقع باطلة ، لأنّ هذا الزائد محرم ، فلا يكون مصداقا للواجب.
وقد علّق صاحب «الجواهر» على هذا القول : بأنّه ناشئ من قلّة التدبّر ، وإنّ الاستمرار عليه ناشئ من صعوبة التراجع عن الخطأ.
وما ذكره «قده» صحيح ، والوجه فيه هو : إنّ الغصب يتحقق ويتمثل إمّا بإشغال الحيّز ، أو بإلقاء الثقل ، وكل من هذين الأمرين متحقق من الكائن في الغصب ، سواء أكان متحركا ، أو ساكنا.
وتخيّل أنّ في الحركة غصبا زائدا مبنيا على أحد تصورين :
١ ـ التصور الأول ، هو : أن يقال : بأنّ الساكن كما لو كان جالسا مثلا ، ففي هذه الحالة يرتكب حراما واحدا ، فيما لو فرض أنّ الغصب عمديّ ، وهو الجلوس ، وأمّا المتحرك ، كالمصلي ، فهو يرتكب عدة محرّمات ، كالقيام والركوع ، والسجود ، وأمثالها.
إلّا أنّ فساد هذا التصور واضح ، لأنّ الجلوس هو إشغالات متعددة للمغصوب بعدد الآنات ، وإنّه لو كان واحدا لما اختلف إثم الجالس ساعة عن إثم الجالس سنة ، مع أنّه لا إشكال في وجود الاختلاف ، فهذا يدل على أنّ الجلوس في كل آن فرد مستقل من الحرام. وعليه : فلا فرق بين السكون والحركة.
غايته أنّه في السكون يكون قد أتى بأفراد متماثلة من الحرام ، وفي الحركة يكون قد أتى بأفراد غير متماثلة.
٢ ـ التصور الثاني ، هو : انّه إذا بقي المكلّف ساكنا ، فيكون قد مارس الغصب في الكون فقط ، بينما في الصلاة يكون ممارسا له في الكون والحركة ، وهو أشدّ من الأول. وعليه : فتبطل الصلاة. وهذا التصور أيضا فاسد.
وقد علّق صاحب «الجواهر» عليه ، حيث قال : بأنّ هذا سجن أشدّ من سجن الظالم ، لأنّه سجن ممنوع فيه من الحركة ، بخلاف سجن الظالم.
والوجه في فساد هذا التصوّر هو : إنّ الحركة مع الكون ليست مغايرة للكون ، بل هي عينه ، غايته ، أنّه حال الحركة يكون الكون متحركا ، والكون المتحرك لا يزيد على الكون الساكن ، كما عرفت في وجه فساد التصور الأول. وعليه : فيجوز له الإتيان بالصلاة الاختيارية ، وتقع صحيحة.
٢ ـ الحالة الثانية : هي أن يفرض أنّ المكلّف الذي اضطر للدخول إلى المكان المغصوب ، سوف يمكنه الخروج بعد ساعة ، وقبل خروج وقت الصلاة ، وهو يعلم بذلك ، ففي هذه الحالة هل تجوز له الصلاة داخل الغصب ، وتقع صحيحة ، ليكون ذلك صغرى لتلك الكبرى؟ أو إنّه لا تقع صحيحة؟ وممّا ذكرناه في الحالة الأولى يظهر الحال في هذه الحالة ، وأنّه يجوز له الصلاة في الغصب ، وتقع صلاته صحيحة ، لأنّ هذا الوقت الذي يمكثه في الغصب مضطرا إليه ، فهو غير محرم ، وقد عرفت أنّه ليس في الصلاة تصرف زائد على الغصب المضطر إليه ، ومعه تقع صلاته صحيحة (١).
٣ ـ الحالة الثالثة ، هي : أن يفرض أنّ المكلف الذي أضطر للدخول إلى المكان المغصوب ، تمكن فعلا من الخروج من الغصب.
ففي هذه الحالة ، يجب عليه الخروج فورا ، تخلصا من الغصب ، ولا يجوز له أن يمارس أيّ عمل يمنعه ، أو يؤخّره عن الخروج.
وحينئذ فإن فرض أنّ صلاته الاختيارية لا تعيقه عن الخروج ، ولا تؤخره ، فحينئذ يجوز له الصلاة ، وتصح صلاته ، كما لو خرج في سيارة ، وأمكنه الصلاة فيها صلاة اختيارية.
__________________
(١) كون صلاته تقع صحيحة. في النفس منها شيء لاحتمال عدم شمول رفع الاضطرار مع العلم بارتفاعه وبقاء وقت الصلاة. المقرر.
وأمّا إذا فرض أنّ صلاته تعيقه عن الخروج ، أو تؤخره ، كما لو خرج ماشيا ، فإنّ صلاته الاختيارية هنا تؤخر خروجه ، لاشتمالها على الركوع والسجود وغيرهما ، ممّا يؤخر خروجه ، ففي هذه الحالة : إمّا أن يفرض اتّساع وقت الصلاة أو ضيقه ، فإن كان موسعا ، فلا يجوز له الصلاة سواء الاختيارية ، أو الإيمائية.
أمّا عدم صحة الأولى : فلأنّها تؤخره عن الخروج ، فيكون فيها غصب زائد ، فتقع حراما.
وأمّا عدم صحة الإيمائيّة ، فلأنّ المفروض أنّ الوقت واسع ، إذن فيمكنه الخروج والإتيان في غير الغصب ، بصلاة اختيارية ، ومعه لا تصح الصلاة الإيمائية.
وأمّا إذا فرض ضيق وقت الصلاة ، فحينئذ ، يأتي بالصلاة إيماء حال الخروج.
٢ ـ المقام الثاني : والكلام فيه يقع في جهتين :
١ ـ الجهة الأولى : وهي : فيما إذا حصل الاضطرار بسوء الاختيار ، كما لو دخل الأرض المغصوبة بسوء اختياره :
وهو في هذه الحالة ، يجب عليه الخروج في أقل زمان يمكنه الخروج فيه ، فهو مضطر لهذا المقدار من الزمان ، لأنّه لا يمكنه التخلص من الغصب إلّا به.
ولا إشكال في أن المتعيّن عليه من الناحية العمليّة ، هو الخروج ، حتى لا يتورط في حرام تلو الحرام.
والكلام في حكم هذا الخروج ، يكون في ثلاث نقاط :
ـ النقطة الأولى ، هي : إنّه هل يوجد مقتض للحكم بحرمة الخروج أو لا؟
ولو كان هناك مقتض للحرمة ، فما هو مقدار تأثيره وفعليّة مقتضاه؟
فنقول : إنّ المقتضي للحرمة بحسب مقام الإثبات والدليل تام ، لأنّ هذا الخروج تصرف في مال الغير ، فيشمله إطلاق دليل حرمة التصرف في المغصوب.
ولا مانع من تأثير هذا المقتضي قبل الدخول في الغصب ، لأنّ المولى قد زجر عن جميع أنحاء التصرف في الغصب ، ومنها هذا الخروج ، وهو مقدور له بقدرته على الدخول وعدمه.
وأمّا بعد دخوله إلى الأرض المغصوبة ، فأيضا المقتضي لحرمة الخروج موجود ، لأنّ الخروج لم يخرج عن كونه غصبا ، فيكون مشمولا لإطلاق حرمة الغصب.
إلّا أنّ بقاء النّهي في هذه الحالة غير معقول.
والوجه في ذلك ، هو : إنّ الغرض من الأمر والنّهي ، هو توجيه اختيار المكلّف نحو مطلوب المولى ومقصوده.
وفي المقام ، لا يمكن توجيه اختيار المكلف بهذا النّهي ، فإنّ هذا النّهي ، قد استوفى غرضه ، ولا بدّ من سقوطه ، وذلك لأنّه إن ادّعى توجيهية اختيار المكلّف للخروج ، فهذا خلف النّهي عن الخروج ، وإن ادّعي توجيهية اختيار المكلف لترك الخروج ، فهذا مناف لغرض المولى ، لأنّ ترك الخروج يوقعه في محذور أشد.
وبهذا يثبت أنّ هذا النّهي غير قابل للمحركية ، فيحكم بسقوطه ، إلّا أنّه سقوط عصياني يستحق عليه العقاب.
وقد يقال : بأنّ ما يتوهم كونه سببا لسقوط النّهي ، هو كون الخروج غير مختار فيه ، باعتبار الاضطرار إليه.
وهذا التوهم فاسد ، لأنّ الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار وهنا المفروض انّ لابديّة الخروج نشأت من اختيار الدخول.
وعليه : فلا مانع من اتصاف الخروج ، بالحرمة بعد الدخول.
إلّا أنّ هذا القول غير تام ، فإنّ قاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، قاعدة فلسفية لا ربط لها بمحل الكلام ، وذلك لأنّ نظر هذه القاعدة إلى أنّ مجرد تخلّل أمر وسط بين الاختيار والفعل ـ وهو الإيجاب أو الامتناع ـ لا يخرج الفعل عن اختياريّته.
وهذا أمر صحيح على ما هو محقق في محله ، إلّا أنّه لا ربط له بمحل الكلام ، حيث لا دليل على جواز تعلّق النّهي بكل فعل يكون مستندا للاختيار ليتم هذا الكلام ، وإنّما الدليل قام ، على أنّه لا بدّ في النّهي من كونه موجها لاختيار المكلف ، فمتى لم يمكن ذلك فيه ، يسقط.
وقد عرفت أنّه لا يمكن فيه ذلك ، فيحكم بسقوطه إلّا أنّه سقوط عصياني كما تقدم.
وبما ذكرنا ، يظهر أنّ المقتضي لثبوت حرمة الخروج ، موجود بحسب مقام الإثبات والدليل ، سواء قبل الدخول أو بعده ، وهذا المقتضي يؤثر في فعلّية مقتضاه ، وهو الحرمة قبل الدخول ، إلّا أنّ هناك مانعا من تأثيره بعد الدخول ، كما عرفت.
ـ النقطة الثانية : وهي : في أنّه هل يوجد مقتض لإيجاب الخروج ، أو لا؟
والكلام هنا يقع في جهتين :
١ ـ الجهة الأولى : في دعوى وجود مقتضي الوجوب النفسي للخروج.
٢ ـ الجهة الثانية : في دعوى وجود مقتضي الوجوب الغيري للخروج.
أمّا الكلام في الجهة الأولى : فقد ادّعي وجود المقتضي لاتصاف
الخروج بالوجوب النفسي ، وذلك باعتبار أنّ الخروج مصداق لعنوان تخلية المال لصاحبه ونحوه من هذه العناوين التي هي واجبة بالوجوب النفسي.
وعليه : فيكون الخروج مصداقا لما هو واجب نفسي ، وبذلك يكون المقتضي لاتصاف الخروج بالوجوب النفسي موجودا.
ثم إنّه وقع النزاع بين السيد الخوئي «قده» (١) وبين الميرزا «قده» في تشخيص هذا العنوان الواجب بالوجوب النفسي ، والذي يكون الخروج مصداقا له ، ولكن هذا النزاع بلا موضوع ، حيث لم يقم دليل على وجوب تخلية مال الغير وأمثاله من العناوين ، وإنّما قام الدليل على حرمة الغصب والتصرف بمال الغير من غير رضاه.
وأمّا وجود حكم إلزامي آخر وراء هذا ، بحيث يكون الغاصب معاقبا بعقابين ، فيما إذا غصب ، ويكون أحدهما : على ارتكاب الغصب ، والثاني : على ترك تخلية هذا الغصب ، فمثل هذا غير ثابت.
وعليه : فالصحيح أنّه ليس هناك عنوان واجب بالوجوب النفسي ، ويكون الخروج مصداقا له ليتم وجود المقتضي لاتصاف الخروج بالوجوب النفسي كما ذكر.
وأمّا ما ذكر من العناوين ، كعنوان تخلية المال لصاحبه ، وعنوان الانسحاب من مال الغير وأمثالهما ، فإنما هي معرفات لاجتناب ذلك الحرام ، وهو التصرف بمال الغير من دون رضاه. وبهذا ثبت أنّه لا مقتض لاتصاف الخروج بالوجوب النفسي.
وأمّا الكلام في الجهة الثانية ، وهي في دعوى وجود المقتضي ، لوجوب الخروج غيريّا ، فإنّ الكلام فيها ، يقع في ناحيتين :
١ ـ الناحية الأولى : في الصّغرى ، وهي : في أنّ الخروج هل هو
__________________
(١) أجود التقريرات ـ هامش ـ الخوئي : ج ١ ص ٣٧٨ ـ ٣٧٩.
مقدمة لترك الحرام الواجب وهو «الغصب» ، أو لا؟
٢ ـ الناحية الثانية في الكبرى ، وهي : في أنّه بعد تسليم مقدميّة الخروج ، فهل تتصف هذه المقدميّة بالوجوب الغيريّ ، أو لا تتصف ، حتى بناء على الملازمة بين وجوب الشيء ، ووجوب مقدمته؟.
أمّا الكلام في الناحية الأولى : فقد ادّعى غير واحد عدم مقدميّة الخروج لترك الحرام ، ويتمثل الاستدلال على ذلك ببيانين :
١ ـ البيان الأول ، وهو : الذي يظهر من تقريرات السيد الخوئي «قده» (١).
وحاصله : إنّ الخروج مقدمة للكون خارج الأرض المغصوبة ، والكون خارج الأرض المغصوبة ملازم لترك الحرام ، وليس عينه ، لأنّ الكون خارج الأرض المغصوبة أمر وجودي ، وترك الحرام أمر عدميّ ، فأحدهما غير الآخر جزما ، غايته أنّهما متقارنان إذن ، فما هو المطلوب ، وهو كون الخروج مقدمة لترك الحرام الواجب لم يثبت.
والذي يثبت هو مقدميّة الخروج للكون خارج الأرض المغصوبة.
وهذا لا يفيد المدّعي للمقدميّة ، لأنّ هذا الكون غير واجب لتجب مقدمته ، وهذا الكون ، وإن كان مقارنا لترك الحرام الواجب ، إلّا أنّه لا يجب أن يحكم المتقارنان بحكم واحد ، ليحكم بوجوب هذا الكون ، ويتوصل بذلك إلى الحكم بوجوب مقدمة هذا الكون ، وهو الخروج.
والحاصل : إنّ الخروج ليس مقدمة لترك الحرام الذي هو «الغصب».
إلّا أنّ هذا البيان غير تام : وذلك لأنّ الذي يدّعي مقدميّة الخروج لترك الحرام ، إن ادّعى هذه المقدمية من باب أنّ الخروج مقدمة للكون خارج
__________________
(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ـ ص ٣٧٥ ـ ٣٧٦ ـ ٣٧٧.
الغصب ، والكون خارج الغصب هو عين ترك الحرام ، فيكون الخروج مقدمة لترك الحرام.
إن ادّعى ذلك ، فيرد عليه : ما ذكره السيد الخوئي «قده» من أنّ الكون خارج الغصب أمر ، وترك الحرام أمر آخر ، فكون شيء مقدمة لأحدهما ، لا يستلزم كونه مقدمة للآخر.
وهذا واضح كما ذكره السيد الخوئي «قده». إلّا أنّ المدعي للمقدميّة يمكنه أن يدّعيها بشكل آخر ، فيقول : إنّ
الخروج هو مقدمة لأمرين في آن واحد ، وهما : «الكون خارج الغصب» ، و «ترك الحرام».
وبناء على هذه الدعوى ، لا يرد كلام السيد الخوئي «قده». وعليه : فهذا البيان لعدم المقدميّة غير تام.
٢ ـ البيان الثاني ، وهو : لجملة من المحققين ، منهم المحقق الأصفهاني «قده» (١).
وحاصله : بأنّ الخروج والبقاء متضادان ، وقد تقدّم في بحث الضد ، أن لا مقدميّة بين الضدّين ، بمعنى أنّه ليس فعل أحد الضدّين مقدمة لترك الآخر ، كما أنّه ليس ترك أحدهما مقدمة لفعل الآخر.
وبناء عليه : فلا يكون الخروج مقدمة لترك البقاء ، أعني الغصب الحرام.
ولو قطعنا النظر عمّا جاء في بحث الضد ، من عدم المقدميّة بين الضدّين ، إلّا أنّ من يدعي المقدميّة بينهما يقول : بأنّ ترك أحد الضدّين ، مقدمة لفعل الآخر ، لا إنّ فعل أحدهما مقدمة لترك الآخر.
وعليه : فلا يكون الخروج الذي هو الفعل ، مقدمة لترك الغصب ، حتى مع قطع النظر عمّا جاء في بحث الضّد.
__________________
(١) نهاية الدراية ـ الاصفهاني : ج ١ ص ٢٨٧ ـ ج ٢ ص ١٢٣.
وهذا البيان غير تام أيضا.
ولتوضيح ذلك لا بدّ من الإشارة إلى نكتة ، حاصلها : إنّه تقدّم في بحث الضد ، أنّ الضدّين المتبادلين في عرض واحد ، وزمان واحد ، على موضوع واحد ، لا تعقل المقدمية بينهما ، من قبيل السواد والبياض في جسم واحد ، في لحظة واحدة ، فهنا لا يكون سواد هذا الجسم متوقفا على عدم بياضه ، وكذلك لا يكون عدم بياضه متوقفا على سواده ، وإنّما سواده يتوقف على تماميّة مقتضي السواد ، وعدم المانع منه ، والذي هو عبارة عن عدم تماميّة البياض ، فمثل هذين الضدّين لا مقدميّة بينهما ، كما عرفت تحقيقه في محله.
وأمّا إذا لاحظنا أحد الضدّين ، لا بالإضافة إلى ضده الذي هو بديله ويحل محله موضوعا وزمانا ، إذا فرض عدم وجوده كما في المثال المتقدم ، بل لاحظنا أحد الضدّين بالإضافة إلى ضد آخر في زمان آخر ، وذلك كما لو لاحظنا سواد الجسم في اللحظة الأولى مع بياضه في اللحظة الثانية ، فهنا لا يمنع أن يكون الجسم أسود في اللحظة الأولى ، وأبيض في اللحظة الثانية ، إلّا أنّه لو فرض وجود خصوصيّة أوجبت عدم اسوداد الجسم أبدا فيما إذا اتصف بالبياض آناً ـ ما ـ وهذا فرض ممكن ، ففي هذه الحالة يكون عدم اتصاف الجسم بالبياض مقدمة لاتصافه بالسواد ، فالمقدميّة في مثل ذلك معقولة ، ولا مانع منها.
إذا عرفت ذلك نقول : إنّ المقدميّة المدّعاة في محل الكلام ، وهي مقدميّة الخروج لترك الحرام ، من قبيل الثاني ، لا الأول ، وذلك لأنّ المدعي كون الخروج في هذا الآن ، مقدمة لترك الغصب والحرام في الآن الثاني ، لا في نفس ذلك الآن الأول ، حتى لا تعقل المقدميّة كما عرفت ، إذن فليس المدّعى هو كون الخروج مقدمة لترك الغصب المزامن له ، والذي هو في عرضه ، بل المدّعى أنّ المكلف لا يكون في الآن الثاني تاركا للغصب ، إلّا إذا تحرك خروجا في الآن الأول.
وعليه ، فلا محذور في كون الخروج في الآن الأول ، مقدمة لترك الغصب الزائد المحرم في الآن الثاني.
وبهذا يثبت بطلان هذا البيان الثاني لعدم المقدميّة ، وبذلك يظهر عدم تماميّة ما ذكر برهانا على عدم مقدميّة الخروج لترك الحرام.
وأمّا ما يذكر برهانا على إثبات هذه المقدميّة ، فهو مركّب من مقدمتين :
١ ـ المقدمة الأولى ، وحاصلها : إنّه لا إشكال في كون الخروج مقدمة للكون خارج الأرض المغصوبة ، كما لا إشكال في أنّ الكون خارج الأرض المغصوبة ، ملازم مع ترك الحرام ، وهو الغصب الزائد ، أعني الكون في الأرض المغصوبة في الزمان الثاني.
٢ ـ المقدمة الثانية ، هي : إنّ التلازم بين أمرين ، إمّا أن يكون ناشئا من كون أحدهما علة للآخر ، أو ناشئا من كونهما معلولين لعلة واحدة ، وإلّا لما كان وجه للتلازم ، لأنّه إذا فرض أنّ لكل منهما علة مستقلة ، فقد تتم علة أحدهما دون الآخر ، فيوجد أحدهما حينئذ دون الآخر ، وهو خلف التلازم. وعليه : فالتلازم لا بدّ وأن ينشأ ممّا ذكرنا.
إذا عرفت هاتين المقدمتين نقول : إنّ الكون خارج الأرض المغصوبة في الزمان الثاني ، ملازم لترك الكون في الأرض المغصوبة في نفس ذلك الزمان ، كما ذكر في المقدمة الأولى.
وهذا التلازم إمّا أن ينشأ من كون أحدهما علة للآخر ، أو من كونهما معلولين لعلة واحدة ، كما ذكر في الثانية.
أمّا كون أحدهما علة للآخر : فهو مستحيل ، لأنّهما ضدان ، ولا عليّة بين الضدّين ، وحينئذ ، فيتعيّن أن يكونا معلولين لعلة واحدة ، وقد عرفت أنّ الخروج مقدمة ، وعلة للكون خارج الأرض المغصوبة ، وعليه فيتعيّن كونه