بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

٢ ـ الاعتراض الثاني ، هو : إنّ النّهي له دلالتان :

دلالة مطابقية على الحرمة ، ودلالة التزامية على المانعيّة ، فإذ سقطت الأولى ، سقطت الثانية تبعا لها ، لأنّها تابعة لها في الحجية ، كما هي تابعة لها في الوجود.

وقد تقدم الكلام في ذلك.

وهذا إشكال مبنائي من السيد الخوئي «قده» ولنا على ما ذكره الخوئي «قده» تعليقان :

١ ـ التعليق الأول ، هو : إنّه لو كان مقصود الميرزا «قده» من كون ثبوت الحرمة وعدم الوجوب ، أي : المانعية ، في عرض واحد ـ هو العرضيّة ـ بحسب مقام الإثبات والكشف ، لكان الاعتراض الأول واردا عليه ، كما ذكره السيد الخوئي «قده».

إلّا أنّه أكبر الظن ، أنّ مقصوده من العرضية ، هو العرضية في مقام الثبوت.

والذي أوهم السيد الخوئي ، ففهم أنّ مقصود العرضية في كلام الميرزا «قده» ، هو العرضيّة في مقام الإثبات ، إنما هو تعبير الميرزا «قده» بأنّ «النّهي علة للحرمة».

ومن المعلوم أنّ النّهي بحسب مقام الثبوت ، ليس علة للحرمة ، بل العكس هو الصحيح.

فمن هنا حمل السيد الخوئي «قده» مقصود الميرزا «قده» على العليّة بمعنى الكشف ، واعترض على ذلك.

إلّا أنّ أكبر الظن كما عرفت ، أنّ مقصود الميرزا «قده» هو العرضيّة في مقام الإثبات.

والتعبير بعليّة النّهي للحرمة فيه مسامحة ، بدليل ما جاء في (فوائد

٤٨١

الأصول) تقريرا لبحث الميرزا «قده» (١) ، حيث عبّر بأنّ الملاك علة للحرمة والمانعيّة في عرض واحد.

وهذا صحيح لا إشكال فيه ، فإنّ الملاك ثبوتا علة لهذين الأمرين في رتبة واحدة بالبرهان المتقدم في بحث الضد ، على أنّ وجود أحد الضدّين وعدم ضده الآخر ، معلولان في رتبة واحدة.

إذن فالاعتراض الأول لا يكون واردا على الميرزا «قده».

نعم يبقى الاعتراض الثاني واردا ، لأنّ الملاك ، وإن كان علة للحرمة والمانعيّة في عرض واحد ، إلّا أنّ الدليل على ثبوت ملاك الحرمة هو النّهي ، فإنّ خطاب «لا تغصب» يدل بالمطابقة على الحرمة ، وبالالتزام على ثبوت ملاكها ، وإذا سقط المدلول المطابقيّ بالاضطرار ، يسقط حينئذ المدلول الالتزاميّ حجة ، كما يسقط وجودا ، وإذا سقط المدلول الالتزاميّ ، لم يبق دليل على ثبوت الملاك ، ومع عدم الملاك ينتفي موضوع كلام الميرزا «قده» كما هو واضح ، حيث أنّ الملاك الذي هو علة للأمرين لم يثبت ليقال : إنّ هذه العلة إذا لم تؤثر في معلولها الأول ، فلا مانع من تأثيرها في معلولها الثاني.

٢ ـ التعليق الثاني ، وهو : تعليق على منهجة اعتراض السيد الخوئي «قده» وحاصله : إنّه كيف أمكن للسيد الخوئي تصوير اعتراضين؟ فإنّ الميرزا «قده» ، إن قصد من العرضيّة ، العرضيّة بحسب مقام الكشف ، فيتم ما اعترض به السيد الخوئي «قده» أولا دون الثاني :

لأنّه إن صحّ كون كشف النّهي عن الحرمة والمانعية في عرض واحد ، فلا يكون أحدهما تابعا للآخر وجودا ، أو حجة ، ليتوجه الاعتراض الثاني.

وأمّا إذا كان مقصود الميرزا «قده» من العرضية هو ما ذكرناه ، أعني

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٧٤.

٤٨٢

العرضية ثبوتا ، فالاعتراض الأول لا يتوجه ، وإنّما الذي يتوجه هو الاعتراض الثاني.

والحاصل : إنّه لا يمكن تسجيل هذين الاعتراضين معا على كلام الميرزا «قده».

لأنّه لو كان نظر الميرزا «قده» في العرضيّة إلى عالم الإثبات كما افترض في الاعتراض الأول ، إذن فكيف يربط البحث بباب الدلالة الالتزاميّة وطوليتها للدلالة المطابقية.

وإن فرض أنّ النظر إلى عالم الثبوت ، فكيف يورد على الميرزا «قده» بالاعتراض الأول؟ بل حتى الإيراد الثاني لا يصح إلّا مبنائيا ، إذ إنّ الميرزا «قده» من القائلين بعدم الطوليّة بين الدلالتين في الحجية.

والتحقيق : إنّ كلام الميرزا «قده» في هذا التقريب مبنيّ على مقدمتين :

١ ـ المقدمة الأولى ، هي : إنّ ملاك الحرمة ثابت بالدلالة الالتزامية بناء على مبناه من عدم تبعية الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الحجية ، فسقوط الدلالة المطابقيّة لخطاب «لا تغصب» على الحرمة عن الحجيّة ، لا يوجب سقوط دلالته الالتزاميّة على الملاك ، وبهذا يثبت أنّ ملاك الحرمة موجود.

٢ ـ المقدمة الثانية : هي : إنّه إذا ثبت وجود ملاك الحرمة ، فهذا الملاك يكون علة لأمرين في عرض واحد ، وهما : الحرمة ، وعدم الوجوب ، أعني المانعيّة ، فإذا وجد ما يمنع هذه العلة عن تأثيرها في معلولها الأول ، فلا مانع عن تأثيرها في معلولها الثاني.

وعلى حاصل هاتين المقدمتين بنى الميرزا «قده» كلامه.

ويرد على ما ذكره الميرزا «قده» اعتراضات ثلاثة :

١ ـ الاعتراض الأول : وهو مختص بالمقدمة الأولى ، وهو مبنائي ،

٤٨٣

وهو عبارة عن الاعتراض الثاني للسيد الخوئي «قده» ، وهو : إنّه لا يمكن إثبات الملاك بالدلالة الالتزاميّة بعد سقوط الدلالة المطابقيّة عن الحجيّة ، لأنّ الدلالة الالتزامية تابعة لها.

وقد عرفت الإشكال على منهجيّة اعتراض السيد الخوئي «قده».

بينما هذا الإشكال لا يرد على نهجنا.

وإن شئت قلت : إنّ منهجة التقريب غير تامة ، فإنّه إذا سلّمنا حجية المدلول الالتزاميّ للخطاب بعد سقوط مدلوله المطابقي ، كفى ذلك في إثبات المانعيّة بلا حاجة إلى مسألة تأثير الملاك بصورة عرضيّة في الحرمة والمانعيّة ، لأنّ دليل النّهي يدل على المانعيّة وعدم الوجوب التزاما ، وإلّا فالدعوى الأولى غير كافية ، إذ من أين نحرز الملاك بعد سقوط الخطاب ، إذا لم نقل بالتبعية حتى نحرز ثبوت معلوله الثاني ، وهو المانعيّة.

٢ ـ الاعتراض الثاني : وهو مختص بالمقدمة الثانية ، وهو : إنّ الملاك إذا وجد ، فإنّه يكون علة لأمرين في عرض واحد ، وهما : الحرمة ، وعدم الوجوب أي : المانعيّة.

وتوضيحه ، هو : إنّه قد تقدم في بحث الضد ، ووافق الميرزا «قده» على ما تقدم ، من أنّ مقتضى الضد الغالب أن يكون علة لأمرين في عرض واحد : أحدهما : وجود مقتضي الضد الغالب ، والآخرة : عدم ضده ، كالسواد ، والبياض ، فلو فرض أنّ مقتضى السواد هو الغالب ، فيكون علة لأمرين : أحدهما : إيجاد السواد ، والثاني : عدم البياض ، وهذا أمر قد برهن عليه سابقا.

إلّا أنّ عليّة مقتضي السواد الغالب لهذين الأمرين ، تتصوّر على أحد نحوين :

أ ـ النحو الأول ، هو : أن يقال : إنّ هذه العليّة ترجع بحسب الحقيقة إلى علتين وتأثيرين : فإحدى العلتين : تؤثّر في الأمر الوجودي ، وهو إيجاد السواد ، والثانية : تؤثر في الأمر العدميّ ، وهو عدم البياض. وبناء على

٤٨٤

هذا ، يتم ما ذكره الميرزا «قده» في المقدمة الثانية ، لأنّه إذا وجد مانع من تأثير العلة الأولى في معلولها الوجودي ، فلا يعني ذلك ، عدم تأثير العلة الثانية في معلولها العدميّ :

إلّا أنّ هذا النحو من تصوير العليّة ، باطل ، كما عرفت تحقيقه في بحث الضد ، حيث ذكرنا هناك إنّ عليّة الأمر الوجوديّ للعدمي ، كعليّة الأمر العدمي للأمر الوجوديّ ، مستحيلة.

وعليه فلا يصح القول : بأنّ مقتضى الضد الغالب يكون علة بصورة مستقلة لأمرين : أحدهما وجودي والآخر عدمي في عرض واحد.

ب ـ النحو الثاني ، هو : أن يقال : إنّ هذه العليّة ، ترجع إلى علة واحدة لها معلول واحد بحسب الحقيقة ، بمعنى أنّ مقتضي السواد الغالب يكون علة لوجود السواد ، بمعنى أنّه يوجده ، كما أنّه يكون مانعا عن تأثير البياض في إيجاد البياض.

فإذا قيل : إنّ مقتضي السواد علة لعدم البياض ، فليس معنى ذلك ، أنّه يوجد ويخلق عدمه ، بل بمعنى أنّه يمنع عن تأثير مقتضاه في إيجاده ، فمقتضى الضد الغالب ليس له تأثيران ، بل تأثير واحد وهو إيجاد الضد الغالب وهو السواد ، وبما أنّ السواد والبياض لا يجتمعان في محل واحد ، فيكون المقتضي للسواد بقدر ما يقرّب يكون مبعّدا للبياض بالمعنى الذي تقدم.

إذن ، فعليّة مقتضي السواد لعدم البياض ، ليست عليّة مستقلة عن عليّة مقتضي السواد لإيجاد السواد ، بل هي الجانب السلبي لهذه العليّة.

وبناء على ذلك يقال : إنّه إذا وجد ما يمنع عن تأثير مقتضي السواد في إيجاد السواد ، فلا يبقى موجب لحفظ تأثير مقتضي السواد في عدم البياض ، بمعنى أنّه لا موجب لكي يبعّد مقتضي السواد عن وجود البياض.

والحاصل ، هو : إنّ ما ذكره الميرزا «قده» في المقدمة الثانية ، من أنّ

٤٨٥

الملاك إذا وجد يكون علة لأمرين : أحدهما الحرمة ، والآخر ، عدم الوجوب ، بمعنى المانعيّة في عرض واحد ، فهذا الذي ذكره ، إنّما يتم بناء على النحو الأول لتصوير العليّة ، وقد عرفت استحالته ، ولا يتم على النحو الثاني ، لأنّه إذا كانت عليّة الملاك لعدم الوجوب ، بمعنى التبعيد عن الوجوب بقدر التقريب نحو الحرمة ، فحينئذ إذا وجد ما يمنع من تأثير هذه العلة في الحرمة ، فلا يبقى موجب لكي يؤثّر البعد بالنسبة للوجوب.

٢ ـ الاعتراض الثاني ، وهو : اعتراض منهجي على كلام الميرزا «قده».

وحاصله هو : إنّه إذا تمّت المقدمة الأولى ، وهي عدم تبعيّة الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية ، فيثبت مراد الميرزا «قده» بلا حاجة إلى إثبات المقدمة الثانية التي أتعب نفسه في إثباتها ، وهي عرضيّة المعلولين لعليّة الملاك ، فإنّه حتى لو لم يثبت ذلك ، يتم المطلوب بعد تماميّة المقدمة الأولى ، فإنّه يقال : بأنّ دليل «لا تغصب» يدل بالمطابقة على الحرمة ، وبالالتزام على المانعيّة ، فإذا سقطت الدلالة المطابقية تبقى الدلالة الالتزاميّة دالة على المانعية ، وبذلك يثبت المطلوب بلا حاجة لتوسيط المقدمة الأولى.

وأمّا إذا فرض عدم تماميّة المقدمة الأولى ، فلا تنفع المقدمة الثانية في إثبات المطلوب ، لأنّه إذا لم يثبت عدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقية ، فمعنى ذلك ، أنّه إذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية ، تسقط الدلالة الالتزاميّة تبعا لها.

ومعنى ذلك أنّه لا يبقى دليل على وجود الملاك الذي هو أصل موضوعي للمقدمة الثانية ، كما عرفت.

هذا حاصل التقريب الأول لعدم سقوط المانعيّة بسقوط الحرمة ، وقد عرفت عدم تماميته.

٢ ـ التقريب الثاني : لبيان بقاء المانعيّة الناشئة من الحرمة التكليفيّة حتى بعد سقوط الحرمة بالاضطرار :

٤٨٦

وحاصل هذا التقريب مركّب من أمرين :

١ ـ الأمر الأول ، هو : إنّه يمكن إثبات ملاك الحرمة ، بالرغم من سقوط الحرمة بالاضطرار ، وذلك بواسطة حديث الرفع الذي رفع الحكم الذي يكون موردا للاضطرار.

وتوضيح ذلك : إنّ حديث الرفع وارد مورد الامتنان ، فرفع الحرمة حال الاضطرار إنّما هو من باب المنّة ، وهذا يكشف عن وجود مقتضي الحرمة وملاكها ، وإلّا لو لم يكن مقتضاها ، موجودا ، لكان ارتفاع الحرمة باعتبار عدم وجود مقتضاها ولا يكون أيّ امتنان في رفعها حينئذ.

فظهور حديث الرفع في كونه مسوقا مساق الامتنان ، يكشف عن وجود ملاك الحكم المرفوع.

وإن شئت قلت : إنّ الأمر الأول هو عبارة عن إثبات ملاك الحرمة ، لا بالدلالة الالتزامية لدليل الحرمة ، «لا تغصب» ، بل بحديث الرفع المخصّص لأدلة التكاليف الاضطرارية ، بدعوى أنّ المرفوع بقوله «رفع ما اضطروا إليه» ، إنّما هو الحرمة فقط ، لا الملاك ، لأنّ ما هو مقتضى الرفع الامتناني ، إنّما هو رفع الحرمة والتكليف مع ثبوت مقتضيها ، لا ارتفاعها من باب عدم المقتضي لها.

٢ ـ الأمر الثاني : ويقرب بتقريبين :

أ ـ التقريب الأول ، هو : إنّه بعد أن ثبت وجود ملاك الحرمة في مادة الاجتماع ، فلا يمكن حينئذ التقرب بهذا الفعل ، لأنّ ملاك الحرمة يمنع عن ذلك ، فالمانعيّة ثابتة مع أنّ الحرمة سقطت بالاضطرار.

ولكن هذا التقريب يختص بخصوص العبادات ، باعتبار أنّ غيرها من الواجبات لا يحتاج إلى قصد القربة ليمنع ملاك الحرمة منه.

٢ ـ التقريب الثاني ، هو : إنّه بعد أن ثبت وجود ملاك الحرمة في مادة

٤٨٧

الاجتماع ، فمعنى ذلك ، هو وجود مبادئ الحرمة ، ومعه لا يكون دليل الأمر شاملا لمورد الاجتماع ، بناء على امتناع اجتماع الأمر والنّهي ، كما هو المفروض.

وهذا إنّما يتم ، بناء على أنّ نكتة امتناع الاجتماع هي التنافي بين الأمر والنّهي بلحاظ مبادئهما ، كما تقدم تفصيله في محله.

وإذا لم يكن دليل الأمر شاملا لمورد الاجتماع ، فلا يقع الفعل صحيحا ، وإن سقطت الحرمة ، فيثبت بذلك وجود المانعيّة حتى مع سقوط الحرمة.

وهذا التقريب لا يختص بخصوص العبادات ، كما هو واضح.

إلّا أنّ التحقيق يقتضي بطلان هذا التقريب لبيان بقاء المانعية بعد سقوط الحرمة بكلا أمريه :

أمّا بطلان الأمر الأوّل : فما ذكر فيه من أنّ حديث الرفع يدل على وجود الملاك باعتباره واردا مورد الامتنان بالنحو الذي عرفته ، فهذا إنّما يتم بالنسبة للمولى العرفي ، ولا يتم بالنسبة للمولى الحقيقي ، وهو الله سبحانه وتعالى.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ أوامر ونواهي المولى العرفي ، ترجع إلى مصلحته الخاصة ، فلو فرضنا أنّ هذا المولى العرفي عطشان ، وهو يعلم أنّ تحصيل الماء يصعب جدا على عبده ، فحينئذ إذا رفع عن العبد طلب الماء ، فيكون في رفعه منة عليه ، بالنحو الذي ذكر ، لأنّ ملاك الأمر بالإتيان بالماء موجود وهو العطش ، فإذا رفعه مع ذلك ، فيكون رفعه هذا منّة.

وأمّا بالنسبة إلى المولى الحقيقي ، سبحانه وتعالى ، فلا يتم هذا الكلام ، لأنّ أوامره ونواهيه لا ترجع إلى مصلحة له ، بل يلاحظ بها مصالح عباده ، فإذا كان في الفعل مصلحة للعبد فيأمر به ، وإذا كان فيه مفسدة فينهاه عنه ، فالله تعالى دائما يحسب حساب العبد ، وحينئذ فلو فرض أنّ تحصيل

٤٨٨

الماء لأجل الوضوء كان صعبا على العبد ، فالله تعالى يلاحظ هنا مصلحة العبد ، فإنّ مصلحة الوضوء المتوقفة على تحصيل الماء ، ألزم للعبد من المفسدة والمشقة الناشئة من تحصيل الماء ، فحينئذ يأمره بتحصيل الماء ، ولا يكون أيّ امتنان في رفع وجوب الوضوء ، بل الامتنان في إلزامه به.

وإن فرض أنّ مفسدة طلب الماء أكبر من مصلحة الوضوء ، فحينئذ تندكّ هذه المصلحة في المفسدة ، وبعد الكسر والانكسار ، تنعدم تلك المصلحة ، فلا يبقى حينئذ أيّ مقتض للأمر أصلا.

وإن فرض تساوي المصلحة والمفسدة ، فلا مقتض للأمر ، ولا للنّهي حينئذ بعد الكسر والانكسار ، وعليه : فلا يكون رفع الحكم في مورد الاضطرار كاشفا عن وجود ملاكه ومقتضاه كما ذكر.

إذن ، فالامتنان لا يرجع إلى ما ذكر ، بل معناه إنّ الشريعة شريعة سمحاء ، وهي دائما تلحظ مصالح العباد ، وتقدم الأهم على المهم ، امتنانا على العباد ، وشفقة عليهم.

وأمّا بطلان الأمر الثاني بتقريبيه ، فحاصله : إنّه لو سلّم كون حديث رفع الاضطرار كاشفا عن وجود ملاك الحرمة في مادة الاجتماع ، إلّا أنّه لا دلالة في حديث الرفع على أنّ هذا الملاك يؤثر في المبغوضيّة ، ليمنع من التقرّب ، كما جاء في التقريب الأول لهذا الأمر ، ولا يكون منافيا لمبادئ الأمر كما جاء في التقريب الثاني له ، هذا أولا.

وثانيا هو : إنّه لو سلّم أنّ ملاك الحرمة الذي يكشف حديث الرفع عن وجوده ، يؤثر في المبغوضية الفعلية.

إلّا أنّ هذا لا يمنع من التقرب به ، لأنّ ميزان التقرب نحو المولى ، هو أن يكون حال المولى مع هذا الفعل المتقرّب به ، أحسن من حاله مع فعل آخر.

وعليه : فإذا كان المكلف مضطرا لإراقة الماء ، سواء على أعضاء

٤٨٩

وضوئه ، أو مطلقا ، فهنا لا إشكال في أنّ إراقته على أعضاء وضوئه بالتوضؤ به ، أحسن عند المولى من إراقته على الأرض.

وعليه : فهذا التقريب الثاني لإثبات بقاء المانعيّة الناشئة من الحرمة التكليفية حتى بعد زوال الحرمة بالاضطرار ، غير تام.

فالصحيح إذن : ما ذهب إليه المشهور ، من أنّ مثل هذه المانعيّة تسقط بسقوط الحرمة.

هذا تمام الكلام في الكبرى أي : في حكم مادة الاجتماع إذا حصل الاضطرار ، لا بسوء الاختيار.

وأمّا الكلام في الصغرى ، أي : في الأمثلة التي تكون مصداقا للكبرى المذكورة ، كالصلاة في المكان المغصوب.

والميزان في وقوعها صحيحة في الغصب ، وكونها صغرى لتلك الكبرى ، هو أن لا تكون الصلاة موجبة لغصب زائد عن الغصب المضطر إليه ، وإلّا فتقع باطلة ، ولا تكون صغرى.

والكلام في هذا المقام يتصور له حالات ثلاث :

١ ـ الحالة الأولى : هو : أن يفرض أنّ المكلف مضطر إلى البقاء في الغصب في تمام الوقت.

وهنا ذهب كثير من المحققين إلى صحة الصلاة في الغصب ، لأنّ المفروض أنّ هذا المكلف مضطر إلى الغصب ، فإيجاده في ضمن الصلاة أحسن عنده من إيجاده في ضمن غيرها.

وعليه : فيمكن التقرب بهذه الصلاة ، والمفروض أنها لا تسبب غصبا زائدا عن الغصب المضطر إليه ، وبذلك يكون هذا من مصاديق تلك الكبرى.

إلّا أنّ بعضهم ذهب إلى أنّ الصلاة الاختيارية لا تقع صحيحة.

٤٩٠

والوجه في ذلك : إنّ هذه تشتمل على غصب زائد ، لتضمّنها الركوع ، والسجود ، والقيام المستلزم للحركة ، بينما يمكن لهذا المضطر أن يبقى ساكنا ، فتكون الصلاة مشتملة على غصب زائد ، وحينئذ تقع باطلة ، لأنّ هذا الزائد محرم ، فلا يكون مصداقا للواجب.

وقد علّق صاحب «الجواهر» على هذا القول : بأنّه ناشئ من قلّة التدبّر ، وإنّ الاستمرار عليه ناشئ من صعوبة التراجع عن الخطأ.

وما ذكره «قده» صحيح ، والوجه فيه هو : إنّ الغصب يتحقق ويتمثل إمّا بإشغال الحيّز ، أو بإلقاء الثقل ، وكل من هذين الأمرين متحقق من الكائن في الغصب ، سواء أكان متحركا ، أو ساكنا.

وتخيّل أنّ في الحركة غصبا زائدا مبنيا على أحد تصورين :

١ ـ التصور الأول ، هو : أن يقال : بأنّ الساكن كما لو كان جالسا مثلا ، ففي هذه الحالة يرتكب حراما واحدا ، فيما لو فرض أنّ الغصب عمديّ ، وهو الجلوس ، وأمّا المتحرك ، كالمصلي ، فهو يرتكب عدة محرّمات ، كالقيام والركوع ، والسجود ، وأمثالها.

إلّا أنّ فساد هذا التصور واضح ، لأنّ الجلوس هو إشغالات متعددة للمغصوب بعدد الآنات ، وإنّه لو كان واحدا لما اختلف إثم الجالس ساعة عن إثم الجالس سنة ، مع أنّه لا إشكال في وجود الاختلاف ، فهذا يدل على أنّ الجلوس في كل آن فرد مستقل من الحرام. وعليه : فلا فرق بين السكون والحركة.

غايته أنّه في السكون يكون قد أتى بأفراد متماثلة من الحرام ، وفي الحركة يكون قد أتى بأفراد غير متماثلة.

٢ ـ التصور الثاني ، هو : انّه إذا بقي المكلّف ساكنا ، فيكون قد مارس الغصب في الكون فقط ، بينما في الصلاة يكون ممارسا له في الكون والحركة ، وهو أشدّ من الأول. وعليه : فتبطل الصلاة. وهذا التصور أيضا فاسد.

٤٩١

وقد علّق صاحب «الجواهر» عليه ، حيث قال : بأنّ هذا سجن أشدّ من سجن الظالم ، لأنّه سجن ممنوع فيه من الحركة ، بخلاف سجن الظالم.

والوجه في فساد هذا التصوّر هو : إنّ الحركة مع الكون ليست مغايرة للكون ، بل هي عينه ، غايته ، أنّه حال الحركة يكون الكون متحركا ، والكون المتحرك لا يزيد على الكون الساكن ، كما عرفت في وجه فساد التصور الأول. وعليه : فيجوز له الإتيان بالصلاة الاختيارية ، وتقع صحيحة.

٢ ـ الحالة الثانية : هي أن يفرض أنّ المكلّف الذي اضطر للدخول إلى المكان المغصوب ، سوف يمكنه الخروج بعد ساعة ، وقبل خروج وقت الصلاة ، وهو يعلم بذلك ، ففي هذه الحالة هل تجوز له الصلاة داخل الغصب ، وتقع صحيحة ، ليكون ذلك صغرى لتلك الكبرى؟ أو إنّه لا تقع صحيحة؟ وممّا ذكرناه في الحالة الأولى يظهر الحال في هذه الحالة ، وأنّه يجوز له الصلاة في الغصب ، وتقع صلاته صحيحة ، لأنّ هذا الوقت الذي يمكثه في الغصب مضطرا إليه ، فهو غير محرم ، وقد عرفت أنّه ليس في الصلاة تصرف زائد على الغصب المضطر إليه ، ومعه تقع صلاته صحيحة (١).

٣ ـ الحالة الثالثة ، هي : أن يفرض أنّ المكلف الذي أضطر للدخول إلى المكان المغصوب ، تمكن فعلا من الخروج من الغصب.

ففي هذه الحالة ، يجب عليه الخروج فورا ، تخلصا من الغصب ، ولا يجوز له أن يمارس أيّ عمل يمنعه ، أو يؤخّره عن الخروج.

وحينئذ فإن فرض أنّ صلاته الاختيارية لا تعيقه عن الخروج ، ولا تؤخره ، فحينئذ يجوز له الصلاة ، وتصح صلاته ، كما لو خرج في سيارة ، وأمكنه الصلاة فيها صلاة اختيارية.

__________________

(١) كون صلاته تقع صحيحة. في النفس منها شيء لاحتمال عدم شمول رفع الاضطرار مع العلم بارتفاعه وبقاء وقت الصلاة. المقرر.

٤٩٢

وأمّا إذا فرض أنّ صلاته تعيقه عن الخروج ، أو تؤخره ، كما لو خرج ماشيا ، فإنّ صلاته الاختيارية هنا تؤخر خروجه ، لاشتمالها على الركوع والسجود وغيرهما ، ممّا يؤخر خروجه ، ففي هذه الحالة : إمّا أن يفرض اتّساع وقت الصلاة أو ضيقه ، فإن كان موسعا ، فلا يجوز له الصلاة سواء الاختيارية ، أو الإيمائية.

أمّا عدم صحة الأولى : فلأنّها تؤخره عن الخروج ، فيكون فيها غصب زائد ، فتقع حراما.

وأمّا عدم صحة الإيمائيّة ، فلأنّ المفروض أنّ الوقت واسع ، إذن فيمكنه الخروج والإتيان في غير الغصب ، بصلاة اختيارية ، ومعه لا تصح الصلاة الإيمائية.

وأمّا إذا فرض ضيق وقت الصلاة ، فحينئذ ، يأتي بالصلاة إيماء حال الخروج.

٢ ـ المقام الثاني : والكلام فيه يقع في جهتين :

١ ـ الجهة الأولى : وهي : فيما إذا حصل الاضطرار بسوء الاختيار ، كما لو دخل الأرض المغصوبة بسوء اختياره :

وهو في هذه الحالة ، يجب عليه الخروج في أقل زمان يمكنه الخروج فيه ، فهو مضطر لهذا المقدار من الزمان ، لأنّه لا يمكنه التخلص من الغصب إلّا به.

ولا إشكال في أن المتعيّن عليه من الناحية العمليّة ، هو الخروج ، حتى لا يتورط في حرام تلو الحرام.

والكلام في حكم هذا الخروج ، يكون في ثلاث نقاط :

ـ النقطة الأولى ، هي : إنّه هل يوجد مقتض للحكم بحرمة الخروج أو لا؟

٤٩٣

ولو كان هناك مقتض للحرمة ، فما هو مقدار تأثيره وفعليّة مقتضاه؟

فنقول : إنّ المقتضي للحرمة بحسب مقام الإثبات والدليل تام ، لأنّ هذا الخروج تصرف في مال الغير ، فيشمله إطلاق دليل حرمة التصرف في المغصوب.

ولا مانع من تأثير هذا المقتضي قبل الدخول في الغصب ، لأنّ المولى قد زجر عن جميع أنحاء التصرف في الغصب ، ومنها هذا الخروج ، وهو مقدور له بقدرته على الدخول وعدمه.

وأمّا بعد دخوله إلى الأرض المغصوبة ، فأيضا المقتضي لحرمة الخروج موجود ، لأنّ الخروج لم يخرج عن كونه غصبا ، فيكون مشمولا لإطلاق حرمة الغصب.

إلّا أنّ بقاء النّهي في هذه الحالة غير معقول.

والوجه في ذلك ، هو : إنّ الغرض من الأمر والنّهي ، هو توجيه اختيار المكلّف نحو مطلوب المولى ومقصوده.

وفي المقام ، لا يمكن توجيه اختيار المكلف بهذا النّهي ، فإنّ هذا النّهي ، قد استوفى غرضه ، ولا بدّ من سقوطه ، وذلك لأنّه إن ادّعى توجيهية اختيار المكلّف للخروج ، فهذا خلف النّهي عن الخروج ، وإن ادّعي توجيهية اختيار المكلف لترك الخروج ، فهذا مناف لغرض المولى ، لأنّ ترك الخروج يوقعه في محذور أشد.

وبهذا يثبت أنّ هذا النّهي غير قابل للمحركية ، فيحكم بسقوطه ، إلّا أنّه سقوط عصياني يستحق عليه العقاب.

وقد يقال : بأنّ ما يتوهم كونه سببا لسقوط النّهي ، هو كون الخروج غير مختار فيه ، باعتبار الاضطرار إليه.

وهذا التوهم فاسد ، لأنّ الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار وهنا المفروض انّ لابديّة الخروج نشأت من اختيار الدخول.

٤٩٤

وعليه : فلا مانع من اتصاف الخروج ، بالحرمة بعد الدخول.

إلّا أنّ هذا القول غير تام ، فإنّ قاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، قاعدة فلسفية لا ربط لها بمحل الكلام ، وذلك لأنّ نظر هذه القاعدة إلى أنّ مجرد تخلّل أمر وسط بين الاختيار والفعل ـ وهو الإيجاب أو الامتناع ـ لا يخرج الفعل عن اختياريّته.

وهذا أمر صحيح على ما هو محقق في محله ، إلّا أنّه لا ربط له بمحل الكلام ، حيث لا دليل على جواز تعلّق النّهي بكل فعل يكون مستندا للاختيار ليتم هذا الكلام ، وإنّما الدليل قام ، على أنّه لا بدّ في النّهي من كونه موجها لاختيار المكلف ، فمتى لم يمكن ذلك فيه ، يسقط.

وقد عرفت أنّه لا يمكن فيه ذلك ، فيحكم بسقوطه إلّا أنّه سقوط عصياني كما تقدم.

وبما ذكرنا ، يظهر أنّ المقتضي لثبوت حرمة الخروج ، موجود بحسب مقام الإثبات والدليل ، سواء قبل الدخول أو بعده ، وهذا المقتضي يؤثر في فعلّية مقتضاه ، وهو الحرمة قبل الدخول ، إلّا أنّ هناك مانعا من تأثيره بعد الدخول ، كما عرفت.

ـ النقطة الثانية : وهي : في أنّه هل يوجد مقتض لإيجاب الخروج ، أو لا؟

والكلام هنا يقع في جهتين :

١ ـ الجهة الأولى : في دعوى وجود مقتضي الوجوب النفسي للخروج.

٢ ـ الجهة الثانية : في دعوى وجود مقتضي الوجوب الغيري للخروج.

أمّا الكلام في الجهة الأولى : فقد ادّعي وجود المقتضي لاتصاف

٤٩٥

الخروج بالوجوب النفسي ، وذلك باعتبار أنّ الخروج مصداق لعنوان تخلية المال لصاحبه ونحوه من هذه العناوين التي هي واجبة بالوجوب النفسي.

وعليه : فيكون الخروج مصداقا لما هو واجب نفسي ، وبذلك يكون المقتضي لاتصاف الخروج بالوجوب النفسي موجودا.

ثم إنّه وقع النزاع بين السيد الخوئي «قده» (١) وبين الميرزا «قده» في تشخيص هذا العنوان الواجب بالوجوب النفسي ، والذي يكون الخروج مصداقا له ، ولكن هذا النزاع بلا موضوع ، حيث لم يقم دليل على وجوب تخلية مال الغير وأمثاله من العناوين ، وإنّما قام الدليل على حرمة الغصب والتصرف بمال الغير من غير رضاه.

وأمّا وجود حكم إلزامي آخر وراء هذا ، بحيث يكون الغاصب معاقبا بعقابين ، فيما إذا غصب ، ويكون أحدهما : على ارتكاب الغصب ، والثاني : على ترك تخلية هذا الغصب ، فمثل هذا غير ثابت.

وعليه : فالصحيح أنّه ليس هناك عنوان واجب بالوجوب النفسي ، ويكون الخروج مصداقا له ليتم وجود المقتضي لاتصاف الخروج بالوجوب النفسي كما ذكر.

وأمّا ما ذكر من العناوين ، كعنوان تخلية المال لصاحبه ، وعنوان الانسحاب من مال الغير وأمثالهما ، فإنما هي معرفات لاجتناب ذلك الحرام ، وهو التصرف بمال الغير من دون رضاه. وبهذا ثبت أنّه لا مقتض لاتصاف الخروج بالوجوب النفسي.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية ، وهي في دعوى وجود المقتضي ، لوجوب الخروج غيريّا ، فإنّ الكلام فيها ، يقع في ناحيتين :

١ ـ الناحية الأولى : في الصّغرى ، وهي : في أنّ الخروج هل هو

__________________

(١) أجود التقريرات ـ هامش ـ الخوئي : ج ١ ص ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

٤٩٦

مقدمة لترك الحرام الواجب وهو «الغصب» ، أو لا؟

٢ ـ الناحية الثانية في الكبرى ، وهي : في أنّه بعد تسليم مقدميّة الخروج ، فهل تتصف هذه المقدميّة بالوجوب الغيريّ ، أو لا تتصف ، حتى بناء على الملازمة بين وجوب الشيء ، ووجوب مقدمته؟.

أمّا الكلام في الناحية الأولى : فقد ادّعى غير واحد عدم مقدميّة الخروج لترك الحرام ، ويتمثل الاستدلال على ذلك ببيانين :

١ ـ البيان الأول ، وهو : الذي يظهر من تقريرات السيد الخوئي «قده» (١).

وحاصله : إنّ الخروج مقدمة للكون خارج الأرض المغصوبة ، والكون خارج الأرض المغصوبة ملازم لترك الحرام ، وليس عينه ، لأنّ الكون خارج الأرض المغصوبة أمر وجودي ، وترك الحرام أمر عدميّ ، فأحدهما غير الآخر جزما ، غايته أنّهما متقارنان إذن ، فما هو المطلوب ، وهو كون الخروج مقدمة لترك الحرام الواجب لم يثبت.

والذي يثبت هو مقدميّة الخروج للكون خارج الأرض المغصوبة.

وهذا لا يفيد المدّعي للمقدميّة ، لأنّ هذا الكون غير واجب لتجب مقدمته ، وهذا الكون ، وإن كان مقارنا لترك الحرام الواجب ، إلّا أنّه لا يجب أن يحكم المتقارنان بحكم واحد ، ليحكم بوجوب هذا الكون ، ويتوصل بذلك إلى الحكم بوجوب مقدمة هذا الكون ، وهو الخروج.

والحاصل : إنّ الخروج ليس مقدمة لترك الحرام الذي هو «الغصب».

إلّا أنّ هذا البيان غير تام : وذلك لأنّ الذي يدّعي مقدميّة الخروج لترك الحرام ، إن ادّعى هذه المقدمية من باب أنّ الخروج مقدمة للكون خارج

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ـ ص ٣٧٥ ـ ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

٤٩٧

الغصب ، والكون خارج الغصب هو عين ترك الحرام ، فيكون الخروج مقدمة لترك الحرام.

إن ادّعى ذلك ، فيرد عليه : ما ذكره السيد الخوئي «قده» من أنّ الكون خارج الغصب أمر ، وترك الحرام أمر آخر ، فكون شيء مقدمة لأحدهما ، لا يستلزم كونه مقدمة للآخر.

وهذا واضح كما ذكره السيد الخوئي «قده». إلّا أنّ المدعي للمقدميّة يمكنه أن يدّعيها بشكل آخر ، فيقول : إنّ

الخروج هو مقدمة لأمرين في آن واحد ، وهما : «الكون خارج الغصب» ، و «ترك الحرام».

وبناء على هذه الدعوى ، لا يرد كلام السيد الخوئي «قده». وعليه : فهذا البيان لعدم المقدميّة غير تام.

٢ ـ البيان الثاني ، وهو : لجملة من المحققين ، منهم المحقق الأصفهاني «قده» (١).

وحاصله : بأنّ الخروج والبقاء متضادان ، وقد تقدّم في بحث الضد ، أن لا مقدميّة بين الضدّين ، بمعنى أنّه ليس فعل أحد الضدّين مقدمة لترك الآخر ، كما أنّه ليس ترك أحدهما مقدمة لفعل الآخر.

وبناء عليه : فلا يكون الخروج مقدمة لترك البقاء ، أعني الغصب الحرام.

ولو قطعنا النظر عمّا جاء في بحث الضد ، من عدم المقدميّة بين الضدّين ، إلّا أنّ من يدعي المقدميّة بينهما يقول : بأنّ ترك أحد الضدّين ، مقدمة لفعل الآخر ، لا إنّ فعل أحدهما مقدمة لترك الآخر.

وعليه : فلا يكون الخروج الذي هو الفعل ، مقدمة لترك الغصب ، حتى مع قطع النظر عمّا جاء في بحث الضّد.

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الاصفهاني : ج ١ ص ٢٨٧ ـ ج ٢ ص ١٢٣.

٤٩٨

وهذا البيان غير تام أيضا.

ولتوضيح ذلك لا بدّ من الإشارة إلى نكتة ، حاصلها : إنّه تقدّم في بحث الضد ، أنّ الضدّين المتبادلين في عرض واحد ، وزمان واحد ، على موضوع واحد ، لا تعقل المقدمية بينهما ، من قبيل السواد والبياض في جسم واحد ، في لحظة واحدة ، فهنا لا يكون سواد هذا الجسم متوقفا على عدم بياضه ، وكذلك لا يكون عدم بياضه متوقفا على سواده ، وإنّما سواده يتوقف على تماميّة مقتضي السواد ، وعدم المانع منه ، والذي هو عبارة عن عدم تماميّة البياض ، فمثل هذين الضدّين لا مقدميّة بينهما ، كما عرفت تحقيقه في محله.

وأمّا إذا لاحظنا أحد الضدّين ، لا بالإضافة إلى ضده الذي هو بديله ويحل محله موضوعا وزمانا ، إذا فرض عدم وجوده كما في المثال المتقدم ، بل لاحظنا أحد الضدّين بالإضافة إلى ضد آخر في زمان آخر ، وذلك كما لو لاحظنا سواد الجسم في اللحظة الأولى مع بياضه في اللحظة الثانية ، فهنا لا يمنع أن يكون الجسم أسود في اللحظة الأولى ، وأبيض في اللحظة الثانية ، إلّا أنّه لو فرض وجود خصوصيّة أوجبت عدم اسوداد الجسم أبدا فيما إذا اتصف بالبياض آناً ـ ما ـ وهذا فرض ممكن ، ففي هذه الحالة يكون عدم اتصاف الجسم بالبياض مقدمة لاتصافه بالسواد ، فالمقدميّة في مثل ذلك معقولة ، ولا مانع منها.

إذا عرفت ذلك نقول : إنّ المقدميّة المدّعاة في محل الكلام ، وهي مقدميّة الخروج لترك الحرام ، من قبيل الثاني ، لا الأول ، وذلك لأنّ المدعي كون الخروج في هذا الآن ، مقدمة لترك الغصب والحرام في الآن الثاني ، لا في نفس ذلك الآن الأول ، حتى لا تعقل المقدميّة كما عرفت ، إذن فليس المدّعى هو كون الخروج مقدمة لترك الغصب المزامن له ، والذي هو في عرضه ، بل المدّعى أنّ المكلف لا يكون في الآن الثاني تاركا للغصب ، إلّا إذا تحرك خروجا في الآن الأول.

٤٩٩

وعليه ، فلا محذور في كون الخروج في الآن الأول ، مقدمة لترك الغصب الزائد المحرم في الآن الثاني.

وبهذا يثبت بطلان هذا البيان الثاني لعدم المقدميّة ، وبذلك يظهر عدم تماميّة ما ذكر برهانا على عدم مقدميّة الخروج لترك الحرام.

وأمّا ما يذكر برهانا على إثبات هذه المقدميّة ، فهو مركّب من مقدمتين :

١ ـ المقدمة الأولى ، وحاصلها : إنّه لا إشكال في كون الخروج مقدمة للكون خارج الأرض المغصوبة ، كما لا إشكال في أنّ الكون خارج الأرض المغصوبة ، ملازم مع ترك الحرام ، وهو الغصب الزائد ، أعني الكون في الأرض المغصوبة في الزمان الثاني.

٢ ـ المقدمة الثانية ، هي : إنّ التلازم بين أمرين ، إمّا أن يكون ناشئا من كون أحدهما علة للآخر ، أو ناشئا من كونهما معلولين لعلة واحدة ، وإلّا لما كان وجه للتلازم ، لأنّه إذا فرض أنّ لكل منهما علة مستقلة ، فقد تتم علة أحدهما دون الآخر ، فيوجد أحدهما حينئذ دون الآخر ، وهو خلف التلازم. وعليه : فالتلازم لا بدّ وأن ينشأ ممّا ذكرنا.

إذا عرفت هاتين المقدمتين نقول : إنّ الكون خارج الأرض المغصوبة في الزمان الثاني ، ملازم لترك الكون في الأرض المغصوبة في نفس ذلك الزمان ، كما ذكر في المقدمة الأولى.

وهذا التلازم إمّا أن ينشأ من كون أحدهما علة للآخر ، أو من كونهما معلولين لعلة واحدة ، كما ذكر في الثانية.

أمّا كون أحدهما علة للآخر : فهو مستحيل ، لأنّهما ضدان ، ولا عليّة بين الضدّين ، وحينئذ ، فيتعيّن أن يكونا معلولين لعلة واحدة ، وقد عرفت أنّ الخروج مقدمة ، وعلة للكون خارج الأرض المغصوبة ، وعليه فيتعيّن كونه

٥٠٠