بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

«افعل» عن أنه إنّما أتى بها بداعي البعث والتحريك ، وتكشف في «لا تفعل» عن أنّه إنّما أتى بها بداعي الزجر والردع. كل هذا صحيح في الكلمة الأولى ، فإنّ كلتا الصيغتين ، «افعل». و «لا تفعل» لهما دلالة تصوريّة ودلالة تصديقية وهما تختلفان في كلتا الدلالتين كما عرفت.

والحجة على هذا الاختلاف ، هو الوجدان الذي يقضي بأنّ ما يفهم من صيغة «افعل» يختلف عمّا يفهم من صيغة «لا تفعل» اختلافا ذاتيا ، فهما مفهومان متغايران.

وليس كما قيل ، من أنّ التغاير والاختلاف بينهما ، إنّما هو بحسب متعلقهما ، كما يدّعي قدماء الأصوليين ذلك. وهذا الوجدان له منبّهات تعزّزه نذكر أهمّها :

وهو : إنّ صيغة «افعل» وصيغة لا «تفعل» ، إذا فسّرناهما على أساس أنّ مفادهما متغاير متباين حيث كان مفاد هيئة «افعل» ، هو النسبة التحريكيّة والإرساليّة بنحو المعنى الحرفي ، وكان مفاد هيئة «لا تفعل» كذلك هو النسبة الزجرية والرّدعيّة ، إذن ، حينئذ لا نحتاج إلى افتراض شيء وراء المعنى الحرفي للهيئة ، والمعنى الاسمي للمادة ، لاقتناص مفاد الأمر والنّهي ، إذ حينئذ يكون مدلول هيئة «اشرب» هو النسبة التحريكية نحو الشرب ، ومادته الشرب. وكذلك «لا تشرب» ، يكون مفاد هيئته النسبة الزجرية عن مفاد المادة ، أي : عن الشرب. وعلى هذا ، لا نحتاج إلى ضمّ مفهوم آخر زيادة على المعنى الحرفي للهيئة ، والاسمي للمادة ، فيصير مفاد «افعل» بلحاظ هيئته ومادته هو النسبة الإرساليّة نحو الشرب ، وكذلك «لا تفعل» ، يكون مفادها بلحاظ هيئتها ومادتها النسبة الزجريّة عن الكذب مثلا.

إذن ، فالهيئة في كليهما تدل على النسبة.

والمادة فيهما أيضا تدل على طرف هذه النسبة وبذلك يتم ما أردنا.

لكن إذا أخذنا بما يقال عند القدماء من أن مفاد كلتا الصيغتين هو

٣٠١

الطلب ، حينئذ نحتاج إلى توسيط عنصر ثالث ومعنى آخر ، غير مفاد الهيئة والمادة في مدلول النهي.

فمثلا لو قلنا : بأن مفهوم «لا تفعل» يحمل مفهوم «افعل» ، وهو الطلب ، إذن فيكون مفهوم «لا تفعل» هو التحريك نحو الفعل كما يكون مفهوم «افعل» هو التحريك نحو مدلول المادة. وهذا خلف ، إذ إننا نريد في «لا تفعل» ، الزجر والردع وعدم الفعل. إذن فنحتاج إلى ضم مفهوم الترك إلى جانب مفهوم «لا تفعل» ، حينئذ وهذا هو العنصر الثالث الذي يضطر أصحاب هذه النظرية إلى إدخاله ، وهو الترك. وهذا العنصر لا يمكن إدخاله إلى مدلول المادة ، لأن مدلول المادة هو الطبيعة ، وهي لم يؤخذ فيها لا الوجود ولا العدم ، وإنما تصلح أن تكون مرآة لأفرادها الموجودة دون المعدومة.

إذن كيف يؤخذ الترك في مدلول المادة؟

وبعبارة أخرى ، كيف يؤخذ المفهوم العدمي في المدلول الوجودي للمادة؟.

وهذه مشكلة تنشأ من فرضيّة إرجاع مدلول صيغة النهي إلى مدلول صيغة الأمر. وحينئذ يكون أصحاب هذه النظرية بين أمرين :

فهم إمّا أن يفرضوا دالا مستقلا ثالثا غريبا عن الهيئة والمادة يدل على هذا العنصر الجديد ، يكون وراء الهيئة والمادة ، والمفروض عدمه.

وإمّا أن يأخذوا هذا الدال الثالث ، وهو «الترك» ، في مدلول أحد الدالين : إمّا الدال على المادة ، وإمّا الدال على الهيئة.

فإن أخذ الترك في مدلول الدال على المادة ، فهذا معناه استعمال لفظ الصلاة ، أي : صلّ ، في الترك ، وهو واضح البطلان حتى مجازا لعدم العلقة بينهما.

وإن أخذ الترك ـ الذي هو العنصر الثالث ـ في مدلول الدال على

٣٠٢

المادة ، بدعوى أنها فانية في الترك الخارجي ، فقد عرفت استحالته لما مرّ من أنّ الطبيعة فانية في وجوداتها المتمثلة في أفرادها الموجودة في الخارج ، وليست الطبيعة فانية في أفرادها المعدومة.

وأمّا أخذ هذا العنصر الثالث. «الترك» ، في مدلول الدال على الهيئة ، فكذلك هو واضح البطلان ، لكونه خلاف الوضع اللغوي للهيئة ، إذ مدلول الهيئة معنى حرفي نسبي. بينما مفهوم الترك معنى اسمي وهو طرف للنسبة. وأخذ معنى اسمي في معنى حرفي ممنوع ، إذ لم نعهد أن تكون الهيئة ـ ذات المعنى الحرفي ـ دالة على النسبة وطرفها الذي هو مدلول اسمي.

ثم إنّه حتى لو تنزلنا وقلنا : بأنّ الهيئة تدل على النسبة وطرفها الذي هو مدلول اسمي ، معا ، رغم ذلك تبقى مشكلة أخرى ، وهي : إنّ العنصر الثالث ، الترك هذا ، لو دلّ على ما تدل عليه الهيئة ، فإنّه حينئذ لا بدّ له من نسبة إلى الطبيعة.

أو فقل : إنّه حتى لو تنزّلنا وقلنا : بأن الهيئة تدل على النسبة وطرفها الذي هو مدلول اسمي ، فإنّه رغم ذلك يحتاج الى نسبة أخرى بين الترك ـ المعنى الاسمي المدلول عليها بالهيئة ـ وبين المادة وهي الطبيعة ، وهذه النسبة هي نسبة الإضافة لأنّ المطلوب هو ترك المادة ، لا مطلق الترك ، والمفروض أنّه لا دال على هذه النسبة الثانية فتحتاج إلى دال آخر ، فإن كان هو الهيئة ، إذن فخرج «الترك» عن كونه دالا على النسبة ، وإن كان مفهوم اسمي آخر هو الدال على النسبة ، فكذلك ننقل الكلام إليه وندخله في مدلول الهيئة من جديد ، وهكذا نعيد ما قلناه حتى يتسلسل.

إذن فهذه النظرية لمفاد صيغة النهي باطلة ، وبهذا تمّ الكلام في صيغة «لا تفعل».

الجهة الثانية :

هي أنه هل يستفاد من صيغة النهي الانحلال وتعدّد الحكم ، بحيث

٣٠٣

توجد تحريمات متعددة بعدد أفراد الطبيعة ، أم إنّه لا توجد إلّا حرمة واحدة كما هو الوجوب المستفاد من الأمر؟.

المعروف إنّ المستفاد من النّهي هو الحرمة بنحو العموم الاستغراقي لكل أفراد الطبيعة ، لا حرمة واحدة ، فيكون هناك تحريمات عديدة بعدد الأفراد ، لا حرمة واحدة. فإذا قيل : لا تكذب ، فهذه الحرمة تنحل إلى تحريمات بعدد أفراد الكذب لا حرمة واحدة. والأثر العملي المميّز لأحد القولين عن الآخر هو أنه بناء على كون المستفاد تحريما واحدا ، لو صدر منه الكذب مرة لا يكون الكذب الثاني منه محرما ، لأنّ الحرمة ارتفعت بالكذب الأول.

وأمّا بناء على كون المستفاد من النهي الانحلال والتعدّد ، فإنّ الكذب الثاني يكون فردا محرما بحرمة أخرى لا تسقط بالعصيان كالكذب الأول ، بناء على دعوى المشهور للاستغراق والتعدّد.

والصحيح هو ما عليه المشهور ، فإنّ النهي بخلاف الأمر ، إذ صيغة الأمر لا يستفاد منها تعدّد الوجوب ، بل وجوب واحد متعلق بصرف وجوده ، على نحو الإطلاق البدلي ، بينما متعلق النّهي يكون شموليا استغراقيا.

إذن فمقدمات الحكمة جارية فيهما معا ، ولكن تختلف باختلافهما ، فهي جارية في متعلق الأمر وبمقتضاها يكون بدليا ، وهي جارية في متعلق النّهي ، وبمقتضاها يكون شموليا.

ومن هنا يسأل ، أنّه : كيف أنتجت مقدمات الحكمة هذا الحكم المختلف ، رغم كون الإطلاق في المدلولين من نتاجها ، وهي واحدة فيهما؟.

وقد عالج السيد الخوئي «قده» (١) هذا الإشكال ، ببيان أنّ هناك مقدارا

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ـ ص ١٠٦ ـ ١١٤.

٣٠٤

مشتركا من مقدمات الحكمة ، يجري في مورد الإطلاق البدلي ، والإطلاق الشّمولي على حد سواء.

وهذا المقدار ليس هو المعيّن للبدليّة أو الشمولية ، ولكن بضم مقدمة عقلية إليه في بعض الموارد ينتج البدلية ، وبضم مقدمة عقلية أخرى إليه ينتج الإطلاق الشمولي ، وهذه الضميمة تدخل في مقدمات الحكمة ، وتساهم في إنتاج البدلية تارة والشمولية أخرى.

ونذكر هذه الضميمة في ثلاثة أمثلة :

المثال الأول : هو في متعلقات الأوامر ، فإذا قال المولى : «صلّ» ، فلا يخلو متعلّق الأمر هذا من أحد شقوق ثلاثة :

أ ـ أن يكون متعلق الأمر جميع الصلوات ، وهو معنى الإطلاق الشمولي أو الاستغراقي.

ب ـ ان يكون متعلق الأمر هو إحدى الصلوات لا بعينها ، وهو معنى الإطلاق البدلي.

ج ـ أن يكون متعلق الأمر مجموعة من الصلوات ، لا الكل ، ولا الواحد. أي : إنّه عبارة عن إيقاع عشرين صلاة في عشرين مسجد.

والشق الثالث من هذه الشقوق يبطل بمقدمات الحكمة بصيغتها المشتركة العامة حيث نقول :

إنه لا خصوصية لتلك المجموعة من الصلوات ، كي نحمل اللفظ عليها. إذ لو كان مراد المولى مجموعة معينة من الصلوات ، إذن لكان عليه أن ينصب قرينة على ذلك ، لعدم دلالة اللفظ عليها ، والمفروض في مقدمات الحكمة كون المولى في مقام البيان. وما دام هكذا ، ولم ينصب قرينة على واحدة من هذه المجاميع ، إذن لم يرد واحدة بعينها.

وأمّا الشقّان الباقيان :

٣٠٥

فالشق الأول منهما باطل أيضا بمقدمة عقليّة ، مفادها : إنّ جميع الصلوات غير مقدور امتثال جميعها عقلا ، إذن لا يمكن إيجاب جميعها ، وحينئذ يتعيّن الشق الثاني ، وهو أن يكون المراد إيجاب الصلاة بنحو الإطلاق البدلي.

المثال الثاني : وهو في متعلقات النواهي ، وذلك كما لو قال : «لا تشرب الخمر» ، أو «لا تكذب» ، فأيضا هنا احتمالات ثلاثة :

أ ـ أن يكون الحرام ، كل كذب كذب بنحو الشمول الاستغراقي ، أي : جميع أفراد الكذب.

ب ـ أن يكون الحرام أحد أفراد الكذب ، لا بعينه ، بحيث يكتفى من المكلف أن يترك كذبا واحدا ، وهو الإطلاق البدلي.

ج ـ أن يكون الحرام مجموعة معينة من الأكاذيب ، من قبيل الكذب على الله ورسوله ، أو الكذب في حالة الصوم.

والشق الثالث من هذه الشقوق ، منتف وباطل بمقدمات الحكمة بصيغتها المشتركة المتقدمة حيث يقال ، إنّه : لو كان مراد المولى تحريم هذه المجموعة ، أو الفئة المعينة من الكذب ـ رغم كونه في مقام البيان ـ لكان عليه أن ينصب قرينة على ذلك ، وحيث أنّه لم ينصب ، واللفظ لا يدل عليه ، إذن فهو لم يرد هذه الفئة المعينة من الكذب ، إذن فهذا الاحتمال باطل.

ويبقى الاحتمالان الاخيران ، الأول والثاني :

ونجد في هذين الاحتمالين عكس ما وجدناه هناك في متعلقات الأوامر ، إذ نجد أنّ المقدمة العقلية تنفي الإطلاق البدلي ـ أي : الشق الثاني ـ لأنّ الإطلاق البدلي غير معقول ، لأنّ مقتضى طبع المطلب أن يترك الإنسان كذبا واحدا ـ أي : أحد أفراد الكذب ـ إذ ترك كذب واحد أمر ضروري وقهري ، وحينئذ لا معنى ، بل لا يعقل التكليف بما تركه قهري

٣٠٦

وضروري. إذن فيتعين الاحتمال الأول ، وهو الإطلاق الشمولي.

المثال الثالث : وهو فيما سمّاه بموضوعات الأحكام الوضعية ، من قبيل ، «أحلّ الله البيع». فإنّه أيضا فيه احتمالات ثلاثة :

أ ـ أن يكون قد أحلّ كل بيع.

ب ـ أن يكون قد أحلّ بيعا لا بعينه ، أي : أحد البيوع.

ج ـ أن يكون قد أحلّ فئة أو مجموعة معيّنة من البيوع ، كالبيوع العقدية مثلا.

وهنا كذلك تأتي نفس المعالجات السابقة ، فيقال : إنّ الاحتمال الثالث ينتفي بالقدر المشترك من مقدمات الحكمة بصيغتها المشتركة ، إذ لو كان مراده مجموعة معيّنة من البيوع ، وهو في مقام البيان ، لوجب عليه أن ينصب قرينة على إرادتها بالخصوص ، وحيث لم ينصب ، إذن فهو لم يردها.

وينفى الثاني ، وهو الإطلاق البدلي ، بمقدمة خاصة من مقدمات الحكمة ، وهي إنّه لا معنى ، بل من اللّغو تحليل بيع لا بعينه.

وحينئذ يتعين الاحتمال الأول ، وهو الإطلاق الشمولي وذلك بواسطة القدر المشترك من مقدمات الحكمة بعد ضم هذه المقدمة الخاصة.

هذا حاصل ما أفاده السيد الخوئي «قده» (١) في مقام الجواب عن السؤال المتقدم.

وما ذكر السيد الخوئي «قده» فيه مواضع للنظر نذكر منها نكتتين :

١ ـ النكتة الأولى ، هي : إنه ليس استفادة الشمولية تارة ، والبدلية أخرى ، مستندة إلى لغوية الآخر ، وامتناعه كما تقدم في كلام السيد الخوئي

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ص ١١٣ ـ ١١٤ ـ ١١٥.

٣٠٧

«قده» ، إذ ليس الميزان الفني في استفادة البدلية أو الشمولية ، هو عدم معقوليّة الآخر.

وذلك ببرهان ، أنه في كثير من الموارد يكون كل من الشموليّة والبدليّة معقولا ، ورغم ذلك ، لا شك أنّ الفهم العرفي يقتضي تعيين واحد منهما ، وذلك كما في موضوعات الأوامر ، دون متعلقاتها. فمثلا حينما يقول : «أكرم العالم» ، فإنّه بالنسبة إلى الموضوع ، وهو العالم ، لا إشكال في كون الإطلاق فيه شموليا ، والحكم فيه ثابت لكل فرد من أفراد طبيعة العالم ، مع أنه لا إشكال ولا لغوية في كون الإطلاق بدليا بمعنى أنّه لا يجب إكرامه بكل أشكال الإكرام ، أو إنه يجب إكرام عالم «ما» فقط ، وإن كان الإطلاق بجانب العالم شموليا. إذن فكل من الشموليّة والبدلية معقوليّته على حد واحد.

ففرق ، بين أكرم «العالم أو العلماء ، أو عالما».

أمّا حين يقول «العالم أو العلماء» ، هنا نستفيد الإطلاق الشمولي ، فينحل إلى عدد العلماء.

فمثلا ، كلمة مسجد ، في قوله «طهّر المسجد» ، إطلاقها شمولي ، بينما بحسب مقام الثبوت ، الشموليّة والبدلية فيها ، كلاهما معقول ، إذ يعقل أن يأمر بتطهير مسجد واحد لا بعينه ، كما يمكنه أن يأمر بتطهير جميع المساجد.

فاستفادة الشمول هنا ، لم تكن باعتبار أداة العموم ، بل بحسب الإطلاق ومقدمات الحكمة ، ومع هذا ثبت أنّه إطلاق شمولي ، وإن كان الإطلاق البدلي معقولا أيضا.

وهذا يبرهن على أنّه وراء استحالة البدليّة في مورد أو الشموليّة في مورد آخر ، نكتة ، هي التي تقتضي أن يكون الكلام شموليا أو يكون بدليا.

٣٠٨

٢ ـ النكتة الثانية ، هي : إنّه في موارد متعلق الأوامر ـ كما في المثال الأول ـ إذا أردنا أن نطبّق فكرة كون الاحتمالات ثلاثة : فإذا كان الأول غير معقول ، وأن الثالث تنفيه مقدمات الحكمة ، فيتعين الثاني.

أقول : ما أفيد بهذه الطريقة ليس كافيا ، كي ننتهي إلى البدلية ، لو لم يكن وراء هذه الطريقة نكتة ، هي التي أوصلتنا إلى هذه النتيجة ، وذلك لأنّنا إن بنينا على أنّ القدرة ليست شرطا شرعيا في مدلول الخطاب ، وإنّما هي شرط في مقام الامتثال كما ذهب إليه السيد الخوئي «قده» دون أن يفرّع عليه في أيّ مورد ، ولكن بنينا على أنّ القدرة شرط عقلي ، فهنا لا بأس بحمله على الإطلاق الاستغراقي بحيث يشمل كل أفراد المتعلق ، غاية الأمر أنّ العقل يحكم بتنجز المقدور منها.

وأمّا إذا بنينا على المبنى المشهور ، وهو أنّ القدرة شرط عقلي في الخطاب ، حينئذ حيث أنّ القدرة قيد عقلي لبّي متصل فلا بأس أن يقال ، بأنّ الشمولية تثبت بالمقدار المقدور لأفراد المتعلق ، وفي حدود هذا المقيّد المتصل ، المقيّد لدائرة الإطلاق الشمولي ، وحينئذ يكون كبقية المقيّدات للإطلاقات الشموليّة.

وهنا لا يقال : أيّ قرينة على تعينه؟ لأنه يقال : بأنه مقيد بمخصص متصل.

وهكذا لو قلنا : بأنّ الخطاب يقتضي تقييد المادة بالمقدور منها ، حينئذ يكون الحال فيها أوضح ، فهنا حين حمل الخطاب على الحصة المقدورة لم يكن اعتباطا بل كان بضم المخصّص المتصل ، غايته أنّه يضيّق الإطلاق الشمولي بقرينة متصلة ، إذن لا بدّ من ذكر نكتة أخرى تقتضي البدليّة في متعلقات الأوامر ، والشمولية في متعلقات النواهي وتحل الإشكال ، وتكون وراء هذا الكلام.

وقد تقدّم شرح هذه النكتة مفصلا في بحث المرة والتكرار نعيده هنا مجملا فنقول :

٣٠٩

إنّ الشمولية والبدليّة تارة تكون مفادا لأداة العموم من قبيل قولنا : «أكرم كل عالم» ، فإنّ الشمولية هنا استفيدت من أداة العموم ، وهي «كلّ» ، ومن قبيل قولنا : «أكرم أيّ عالم» ، فإنّ البدليّة هنا قد استفيدت من أداة العموم وهي «أيّ» ، وهذا النحو من الشموليّة والبدلية خارج عن محل الكلام كما هو واضح لأن استفادتها كانت من اللفظ وهو أداة العموم ، وليس بواسطة مقدمات الحكمة التي هي محل السؤال والإشكال.

وتارة أخرى تكون الشمولية والبدليّة في موارد الإطلاق ومقدمات الحكمة ، وهذا النحو هو محل الكلام ، وقد توهم في هذا النحو فقيست المطلقات على العمومات وتصوّر فيها أنّ البدليّة والشموليّة من شئون إطلاق اللفظ ومقدمات الحكمة.

ولذا أورد السؤال المتقدم ، وهو : إنّ مقدمات الحكمة في كلا الموردين واحدة ، فكيف أنتجت في أحد الموردين الشمولية وفي المورد الآخر البدليّة؟.

والصحيح إنّ هذا توهم ، فإنّ الشموليّة والبدليّة في موارد الإطلاق ، ومقدمات الحكمة ، خارجتان عن مدلول اللفظ وليسا مدلولين ، لا لمقدمات الحكمة ، ولا للوضع.

بل إنّ غاية ما تقيده مقدمات الحكمة والإطلاق هو أنّ الطبيعة بذاتها وقعت موضوعا للحكم ، أو متعلقا له ، من دون قيد زائد عليها ، لأنه يقال : إنّ المولى في مقام البيان ، فلو أراد قيدا زائدا على ذات الطبيعة لبيّنه ، وحيث أنّه لم يبيّنه ، فيدل ذلك على أنّ موضوع حكمه ، أو متعلقه ، هو ذات الطبيعة :

فهذا ما تنتجه مقدمات الحكمة في جميع الموارد ، غاية الأمر أنّ هذا الحكم المنصب على ذات الطبيعة.

تارة يفرض أنّه قابل للانحلال في مقام تطبيقه على مصاديقه.

وأخرى يفرض أنّه غير قابل لذلك.

٣١٠

فإن كان الأول ، سمّي بالشموليّة ، وإن كان الثاني سمّي بالبدليّة.

فالشمولية والبدليّة في موارد الإطلاق ومقدمات الحكمة ليس مفادا للفظ ، لا بالوضع ولا بمقدمات الحكمة ، ليتوجه السؤال والإشكال ، وإنّما هما من شئون الطبيعة.

وتوضيح ذلك هو : إنّ الحكم له موضوع ، وله متعلّق ، كما في قولنا : «أكرم العالم». فإنّ موضوع الحكم هو «العالم» ومتعلقه هو «الإكرام».

ومن الواضح أنّ الموضوع دائما يفرض في مرتبة سابقة على الحكم ، لتوقف الحكم على الموضوع ، إذ لا بدّ من فرض وجود عالم كي يوجب المولى إكرامه.

وأمّا المتعلق وهو «الإكرام» ، فلا يفرض وجوده قبل الحكم ، وإلّا لكان طلبه تحصيلا للحاصل. فالمتعلق دائما يكون من تبعات الحكم.

ومبنيا على ذلك يقال : إن الأصل في طرف الموضوعات هو انحلال الحكم وتعدّده بتعدد الموضوع.

أو فقل : إنّ الطبيعة المفروض الفراغ عنها قبل الحكم ، تستتبع لا محالة انطباقها على جميع مصاديقها ، وبهذا يتعدّد الحكم بتعدّد مصاديق تلك الطبيعة من قبيل ما يقال في شأن القضايا الشرطية. فقولنا : «أكرم العالم» ، يرجع إلى قولنا : إن كان هذا عالما وجب إكرامه ، هذا في طرف الموضوعات.

وأمّا في طرف المتعلقات : فالأصل يقتضي العكس ، أي : عدم التعدد بتعدّد الحكم ، لأنّ المتعلق لم يفرض وجوده في مرتبة سابقة ، كي يتعدد الحكم طبقا لتعدد مصاديقه ، وذلك لأنّه إنّما يثبت بنفس الحكم ، فلا موجب لتعدده.

وإن شئت قلت : إنّ الموضوع لأنّه كان لا بدّ من فرض وجوده في مرتبة سابقة على الحكم ، كان لا بدّ من تعدد الحكم بتعدد الموضوع في مقام

٣١١

جعل الحكم على الموضوع ، لأنّ المولى قد فرض وجود العالم خارجا ، وهو يعلم بتعدد مصاديقه. فإذا جعل له حكما لا بدّ وأن ينحلّ هذا الحكم إلى أحكام متعددة بعدد أفراد العالم ، وهذا ما يسمّى بالشموليّة.

وأمّا في طرف المتعلق : فالمفروض أنّ المتعلق من تبعات الحكم ، ويوجد بعد وجود الحكم ، وعليه فلا يتعدد الحكم بتعدده ، وهذا ما يسمّى بالبدليّة.

وبعبارة أخرى : إنّ القضية الحقيقية التي أنيط فيها الحكم بالشرط ، أو الجزاء بفرض الشرط ، يتعدد فيها الجزاء بعدد فعليّات ذلك الشرط ، وليس بلحاظ المتعلق. إذ لا يتعدد الجزاء بعد فعليات شيء آخر لم ينط الجزاء به. وفي المقام ، الذي أنيط به الحكم ، هو الموضوع دون المتعلق. فمن هنا يتعدد الحكم بتعدد الموضوع ، ولا يتعدد بتعدد المتعلق.

ومن هنا ذكرنا في المرة والتكرار إنّ الأصل في طرف الموضوعات ، هو انحلال الحكم وتعدده بتعدد الموضوع ، والأصل في طرف المتعلّق هو عدم الانحلال ، والأصل الأول عبارة عن الشمولية ، والأصل الثاني عبارة عن البدليّة.

ثم إنّه قد استثني من كل من هذين الأصلين استثناء بواسطة قرينة.

أمّا ما استثنى من الأصل الأول في طرف الموضوعات ، فهو ما لو كان الموضوع فيه منونا بتنوين التنكير ، كما لو قال : «أكرم عالما» ، فإنّه وإن كان مقتضى الأصل فيه تعدد الحكم بتعدد الموضوع ، وهو «العالم» كما عرفت إلّا أنه في المقام يوجد قرينة على عدم التعدد ، وعلى كون الموضوع مأخوذا على نحو البدليّة ، وهذه القرينة هي تنوين التنكير ، إذ إنّ تنوين التنكير ظاهرة في أخذ قيد الوحدة ، وهذا لا يجتمع مع الشموليّة ، فيكون الإطلاق في المقام هو البدليّة في طرف الموضوع ، وهذا خروج عن الأصل ، لوجود قرينة على ذلك.

وأمّا ما استثنى من الأصل الثاني في طرف المتعلقات والذي كان

٣١٢

مفاده عدم تعدد الحكم بتعدد المتعلق ، فقد استثنى منه متعلقات النواهي ، إذ مقتضى الأصل فيها وإن كان عدم انحلال متعلقاتها كما عرفت ، إلّا أنّه قد خرجنا عن هذا الأصل بقرينة ، وهي إنّ النهي إنّما ينشأ عن مفسده ، والغالب كون المفسدة انحلاليّة ومتعددة بعدد أفراد الطبيعة. فمفسدة الكذب مثلا تنحل إلى مفاسد بعدد أفراد الكذب ، فهذا هو الغالب في المفسدة ، وهذه الغلبة تكون قرينة على انحلال وتعدد الحكم بتعدد أفراد المتعلق ، وبذلك كان الحكم في متعلقات النواهي انحلاليا وشموليا على خلاف أصله ، وذلك للقرينة المذكورة. بينما في متعلقات الأوامر ، فإنّ هذه الغلبة غير متحققة فكان الحكم فيها جاريا على مقتضى الأصل المتقدم ، وهو عدم الانحلال ، فيكون الحكم بالنسبة للمتعلق فيها بدليا.

وبهذا يثبت أن الحكم في الأوامر بالنسبة لمتعلقاتها بدلي ، وفي النواهي شمولي ، وحينئذ لا يرد السؤال والإشكال المتقدم ، لأنّ هذه الشموليّة ، لم تكن مستفادة من اللفظ ، لا بالوضع ولا بمقدمات الحكمة. بينما كان السؤال والإشكال المتقدم مبنيا على كون الشموليّة والبدليّة مستفادين من اللفظ بواسطة مقدمات الحكمة ، ولكن بعد أن ثبت أنّ الشمولية والبدليّة ليست مستفادة من اللفظ ، لا بالوضع ولا بواسطة مقدمات الحكمة ، ينقطع ذلك السؤال والإشكال.

وقد اعترض السيد الخوئي «قده» (١) على كون الغالب في المفسدة الانحلال باعتراضين :

١ ـ الاعتراض الأول : هو إنّ قرينيّة غلبة المفسدة على كونها انحلاليّة ، إنّما تتم بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا بناء على مذهب «الأشاعرة» ، من إنكار التبعيّة للمصالح والمفاسد ، فلا تتم هذه القرينة ، لأنّ النهي حينئذ لا يكون ناشئا عن مفسدة

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ص ١٠٧ ـ ١٠٨ ـ ١٠٩ ـ ١١٠ ـ ١١١ ـ ١١٢ ـ ١١٣.

٣١٣

ليقال : إنّ الغالب كون المفسدة انحلاليّة ، فيصير ذلك قرينة على ما ذكر.

وهذا الاعتراض غير تام ، وذلك لأنّ كلامنا في الظهور العرفي اللغوي للكلمة ، بينما النزاع بين «الأشاعرة» «والإمامية» في التبعية نزاع ثبوتيّ في الأحكام الشرعيّة خاصّة.

ومن الواضح أنّ «الأشاعرة» وإن كانوا ينكرون ذلك في أحكام الله تعالى ، فهم لا ينكرون تبعيّة نواهي الناس للمفسدة ، وهذا كاف في تماميّة القرينة المدّعاة ، لأنّ محل كلامنا ، هو نواهي الناس ، وكون المفسدة هي ملاك هذا النهي في كل فرد من أفراد الطبيعة ، سواء أكانت هذه المفسدة ملاكا في كلام المكلّف ، أو المولى ، إذ لا ربط لهذا البحث ، ببحث التبعية بين «الأشاعرة» و «الإماميّة» لا سيّما ونحن في مقام تأسيس ظهور عرفي ، إذ المدّعى غلبة انحلاليّة «المفسدة» ، ملاك النواهي العرفية لا الشرعيّة ، وغلبة انحلال هذه المفسدة تستوجب الظهور العرفي في النهي ، وبذلك يكون هذا الظهور حجة لو صدر هذا النهي من الشارع أيضا.

وبهذا يظهر الفرق بين الأوامر والنواهي ، لأنّ الأمر يسقط بالعصيان أو الامتثال لما قلناه ، بينما النهي خلاف ذلك ، فإنّه لا يسقط بالعصيان مرة وذلك لما قلناه من جهة تعدّد الحرمة والنهي ، وظهور غلبة المفسدة وانحلال الملاك فيه.

٢ ـ الاعتراض الثاني ، هو : انّ المفروض ، أنّا لا نعلم بملاكات المولى ، إلّا عن طريق خطاباته ، حيث نستكشف انحلالية ملاكاته بانحلالية خطاباته ، ومعه لا يعرف أنّ الملاك وهو «المفسدة» ـ كما في محل الكلام ـ انحلالي ، إلّا إذا علمنا بانحلالية الخطاب.

وعليه فكيف يحكم بانحلالية الخطاب لانحلاليّة الملاك؟ إذ لازم ذلك هو الدور.

وهذا الاعتراض قد اتضح دفعه من جواب الاعتراض الأول ، إذ إنّنا لا ندّعي انحلال ملاكات الشارع ليرد هذا الاعتراض ، بل المدّعى هو انحلاليّة ملاكات النواهي العرفية ـ نواهي الناس ـ لا الشرعيّة ، لأنّ الغالب نشوء

٣١٤

نواهي الناس عن مفاسد انحلاليّة ، وهذه الغلبة في نشوء مفاسد نواهي الناس ، تكون قرينة تستوجب ظهور الكلام في الانحلالية ، فيكون حجة ، وحينئذ فإذا صدر مثل هذا الكلام ، وهو النّهي من الشارع ، نحكم بانحلاليته ، لأنّ المولى لم يخترع لنفسه طريقة غير هذه الطريقة التي سار عليها عرف الناس ، بل أمرهم على مثل ذلك.

وبذلك تثبت انحلالية النّهي إذا صدر من المولى ، وذلك بواسطة القرينة المذكورة ، فيكون مفاد النّهي هو الانحلاليّة والشموليّة ، بينما يبقى مفاد الأمر على الأصل ، وهو عدم الانحلاليّة في متعلقه ، لعدم وجود مثل هذه القرينة فيه. وبذلك يندفع السؤال المتقدم.

والخلاصة ، هي : إنّنا نعرف ممّا تقدّم ، لما ذا يبقى النهي بعد العصيان ، ولا يبقى الأمر بعد العصيان أو الامتثال بل يسقط ، وهذا بخلاف النهي ، فإنّه حتى بعد صدور امتثاله ، يبقى مفعول خطابه ، فإنه إذا عصى وشرب الخمر في المرة الأولى ، لا تسقط حرمة شرب الخمر في الساعة الثانية ، بل يبقى خطاب ، «لا تشرب الخمر» ساريا ، وكذلك من امتثل ، ولم يشرب الخمر مرة واحدة ، فإنّه لا تسقط حرمة شرب الخمر بعدها ، بل يبقى خطاب «لا تشرب الخمر» مستمرا.

ومعنى هذا : إنّه يوجد خطابات متعددة بلا تشرب الخمر ، وأحكام متعددة تنتظر امتثالها وعصيانها ، بخلاف الأوامر ، فأنّه حيث لا يوجد إلّا أمر واحد وتكليف واحد ، لا يبقى عصيان بعد العصيان الأول للأمر ، ولا امتثال بعد الامتثال الأول له.

فعدم التكليف وبقاؤه من حيث انحلاليّة الحكم في جانب النواهي ، وعدمه في جانب الأوامر ، هو لما عرفت.

وبذلك ظهر أن ما ذكره المحقق الخراساني «قده» (١) في «الكفاية» ،

__________________

(١) كفاية الأصول : المشكيني ـ ج ١ ص ٢٣٣.

٣١٥

من إمكان إثبات النّهي بعد العصيان ، بالتمسك بإطلاق المتعلق ، حيث فسّر بقاء النّهي بمقتضى إطلاق المتعلق للشرب الثاني ، حيث أن هذا الكلام غير صحيح لما أوضحناه ، من أنّ إطلاق المتعلق الثابت بمقدمات الحكمة ، لا يقتضي أكثر من كون الطبيعة بما هي موضوع لهذا الأمر.

وأمّا كون هذا الأمر استغراقيا ، أو انحلاليا ، فإنّه يحتاج إلى قرينة أخرى كما عرفت.

وأمّا بقاء النّهي بعد العصيان الأول ، فإنّه من تبعات تكثّر النّهي وتعدد الحكم كما عرفت أيضا.

وهذا التعدّد لا يفي به إطلاق المتعلّق الثابت بمقدمات الحكمة ، إذ إنّه على نهج واحد في الموضوعات والمتعلقات ، كما تقدم معنا.

الجهة الثالثة :

وهي : إنه لو فرض أن النهي كان نهيا واحدا ، ولم يكن انحلاليا واستغراقيا ـ بعد أن أثبتنا استغراقيّته بقرينة في باب النواهي ـ بحيث صار مفاد «لا تشرب الخمر» حكما واحدا وإلزاما واحدا ، كمفاد الأمر بالطبيعة ، نقول : مع هذا سوف يبدو لنا فرق بين الأمر والنّهي غير الفرق الذي ذكرناه في الجهة الثانية ، حيث ذكرنا هناك أنّ مرجع أحدهما الانحلال إلى تكاليف متعددة وأمّا هنا فكل منهما تكليف واحد وتحريم واحد ، وهذا لا يتحمّل وجوبين وعصيانين ، بل لا فرق بينهما من حيث السقوط بالعصيان ، حيث يرتفع النّهي بعد العصيان الأول.

وبهذا يتساوى الأمر مع النّهي ، وبهذا يزول الفارق المتقدم.

ولكن مع هذا يبقى بينهما فرق هو في كيفيّة امتثال هذا الأمر والنّهي ، فخطاب «صلّ» يمتثل بإتيان أحد أفراد الطبيعة ومن ثم يسقط الأمر ولا يكون عصيانه إلا بترك تمام إفراد الطبيعة.

وأمّا في جانب النّهي ، فالتحريم الواحد يمتثل باجتناب تمام أفراد

٣١٦

الطبيعة ، ولا يكفي اجتناب بعض أفرادها ، وإنما يقع العصيان ويحصل ، بإيقاع فرد واحد من أفراد الطبيعة ، وحينئذ يعتبر المكلّف بهذا عاصيا ، ويسقط النهي حينئذ.

وهذا هو مفاد الكلام المشهور بين الأصوليين ، بأنّ الأمر يمتثل بإيجاد فرد من أفراد الطبيعة الواحدة مفهوما ، ولا تنعدم إلّا بانعدام تمام أفرادها.

وهذا الفارق فسّره الأصوليون على أنه مفاد حكم عقلي ، وليس مفاد دلالة لفظيّة ، حيث قالوا : بأنّ الطبيعة مطلوبة الوجود في جانب الأمر ، وهو يحصل بإيجاد فرد واحد ، ومطلوبة العدم في جانب النّهي ، وهو لا يحصل إلّا بانعدام جميع أفرادها.

وبما ذكرناه من التمييز بين هذا الفارق ، والفارق في الجهة السابقة ، يتضح جملة من المغالطات وقعت في كلام الأصوليين ، منها ـ على سبيل المثال ـ ما وقع في كلام المحقق العراقي «قده» (١) عند ما أراد أن يعالج الفرق بين الأمر والنهي «حيث لا يبقى الأمر بعد العصيان. بينما يبقى النهي بعد العصيان». حيث طرح النكتة التي ذكرناها سابقا. وأجاب عليها بالكلام المشهور حيث جعل الفارق العقلي في كيفيّة الامتثال ، هو الفارق حيث يمتثل الأمر بإيجاد فرد ، والنهي بإعدام جميع الأفراد كما ذكرناه آنفا بينما هذا ليس له دخل بل هو من تبعات ما عالجناه في الجهة الثانية.

ومن الواضح أنّ كلام المحقق العراقي «قده» لا ربط له في دفع السؤال والإشكال.

وقد عرفت أنّ الانحلالية في النّهي هي الموجب لبقاء النّهي بعد العصيان ، وعدم الانحلاليّة هي الموجب لعدم بقاء الأمر بعد العصيان.

وبعد اتضاح هذه المسألة يتبيّن عندنا فارقان :

__________________

(١) مقالات الأصول : العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٢١ ـ ١٢٢.

٣١٧

الأول : هو فارق الانحلالية.

والثاني : فارق في طريقة امتثال كل من الأمر والنّهي.

ولا ينبغي أن نجعل أحد الفارقين ملاكا للآخر ، حينئذ نسأل : هل صحيح أنّ الأمر والنّهي يختلفان في كيفية الامتثال؟ أم إنّهما يختلفان في شيء آخر؟.

وقد استشكل المحققون المتأخرون عن صاحب (الكفاية) في هذا الفارق وأنكروه ، وقد تعرضنا في بحث المرة والتكرار لهذه المسألة ولاعتراضات المتأخرين ، وأجبنا عنها مفصلا ، وأثبتنا صحة ما ذهب إليه المشهور في حلّها.

وملخّص ما أجبنا به عن هذه المشكلة في بحث المرة والتكرار هو :

إننا إذا لاحظنا الوجود الخارجي للكلّي الطبيعي ، فهناك نظريتان في تصوير وجوده في الخارج :

١ ـ النظرية الأولى ، وهي : الصحيحة والمشهور ، وهي إنّ الكلّي الطّبيعي موجود بوجودات كثيرة ، ولهذا قالوا : إنّ نسبة الكلي الطبيعي إلى أفراده الخارجية ، هي نسبة الآباء إلى الأبناء ، وفي مقابل كل وجود من هذه الوجودات عدم.

٢ ـ النظرية الثانية ، كما ينقلها ابن سينا (١) عن رجل همداني فيلسوف ، هي : إنّ الكلّي الطبيعي له وجود واحد عددي ، وهذا الوجود الواحد العددي يوجد مع أول فرد ، ثمّ تعرض عليه جميع العوارض العارضة

__________________

(١) رسالة في الكلي الطبيعي : ابن سينا ـ ج ١ ط ١ ص ٦٧.

منظومة السبزواري ـ تعليق الآملي : ص ١٤٦ ـ ١٤٧ ـ ١٤٨ ـ ١٤٩.

الأسعار ـ الشيرازي ـ المقولة الثالثة : ج ٢ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

الشفاء ـ إلهيات ـ ابن سينا ـ المقالة السابعة ـ الفصل الثاني ص ٣١٤ ـ ٣١٥.

٣١٨

على بقية الأفراد ، ويعبّر عن هذا الكلّي الطبيعي ، بأنّ نسبته إلى الأفراد نسبة الأب الواحد إلى أبنائه ، بخلاف الأول ، فإنّه في الكلي الهمداني ، كل حالة للفرد هي حالة لأبيه الكلّي الطبيعي.

وهنا على مستوى البحث الفلسفي يقال : بأنّ الإتجاه الأول هو الصحيح والثاني خطأ.

وعلى مستوى البحث الأصولي : فقد ربط البحث الأصولي بالبحث الفلسفي ، فقيل : بأنّ الكلي الطبيعي إن كان وجوده على طريقة الفيلسوف الهمداني ، فحينئذ ، التفرقة بين كيفية امتثال الأمر والنّهي ، تكون صحيحة كما تقدّم في كلام المشهور من أنّ الكلي الطبيعي يوجد بفرد واحد ، ولا ينعدم إلّا بانعدام تمام أفراده ، لأنّ وجود الكلّي الطبيعي في كل فرد محفوظ في ضمن ذلك الفرد فقط ، ولا يعدم إلّا بانعدام ذلك الفرد. فالوجودات العديدة للطبيعة يقابلها أعدام عديدة ، فإذا تعلق الأمر بوجود واحد ، فإنّ النّهي يتعلق بعدم واحد من تلك الأعدام ، وحينئذ لا يبقى معنى لكلام المشهور.

وأمّا إذا كان وجود الكلّي على النحو الأول المشهور ، وهو الوجودات المتعددة ؛ وأنّ وجود كل فرد ناقض لعدم الكلي الطبيعي في ضمن ذلك الفرد ، فإنّه حينئذ لا نتصور أن تكون الطبيعة محفوظة في فرد واحد ، ولا تنعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد ، إذ تقدم وقلنا : إنّ وجود الكلّي الطبيعي وإن كان في أفراد متعددة ، إلّا أنّها مقابلة بأعدام متعددة بعددها.

والخلاصة ، هي : إنّ نسبة الكلّي الطبيعي إلى أفراده الخارجية ، هي نسبة الآباء إلى الأبناء ، وفي قبال كل وجود منها عدم ، كما هو المسلك الصحيح والمشهور.

وفي مقابل ذلك ، مسلك الفيلسوف الهمداني ، من أنّ نسبة الكلي الطبيعي إلى أفراده نسبة الأب الواحد إلى أبنائه فما يصيب أحدهم يصيبه ، وما يطرأ على الفرد من أفراده يطرأ عليه.

٣١٩

وهنا على مستوى البحث الفلسفي يقال بصحة الأول وخطأ الثاني.

ولكن بعد ربط البحث الأصولي بالبحث الفلسفي ، يقال : بأنّ الكلي الطبيعي ، إن كان وجوده على طريقة الهمداني ، فحينئذ ، هذه التفرقة بين كيفية امتثال الأمر والنّهي ، تكون صحيحة كما تقدم.

وأمّا إذا كان وجود الكلي الطبيعي على النحو الأول المشهور ، وهو الوجودات المتعددة ، وأنّ وجود كل فرد ناقض لعدم الطبيعة في ضمن ذلك الفرد لا مطلقا ، إذن لا يبقى معنى محصل لما اشتهر من أنّ الكلي الطبيعي يوجد بوجود فرد واحد ، ولا ينعدم إلّا بانعدام تمام أفراده ، إذ لا نتصور أن تكون الطبيعة محفوظة في فرد واحد ، ورغم هذا ، لا تنعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد ، ذلك لأنّ وجود الطبيعي في ضمن كل فرد لا يحفظ إلّا في ضمن ذلك الفرد ، ولا ينعدم إلّا بانعدام ذلك الفرد ، إذ كما أنّ هناك وجودات عديدة للطبيعة ، فأيضا هناك أعدام عديدة لها ، وحينئذ إذا كان الأمر متعلقا بوجود واحد ، فكذلك يكون النّهي متعلقا بعدم واحد من تلك الأعدام.

وقد تقدم في بحث المرة والتكرار أنّ الربط بين المسألة الأصولية والمسألة الفلسفية غير صحيح.

وأمّا بطلان مسلك الفيلسوف الهمداني ، إنما كان بلحاظ المسألة الفلسفية ، وعالم الوجود الخارجي للكلي الطبيعي.

ولكنّه بلحاظ المسألة الأصولية ، وفي عالم الذّهن ، فإذا أمكن توصل الذهن البشري إلى انتزاع جامع ، يكون قدرا مشتركا بين الأفراد ، وانعدام ما به الامتياز بينها ، فإنّه حينئذ يصح كلام الفيلسوف الهمداني ، إذ لا إشكال في وحدة الكلي الطبيعي عنوانا ومفهوما ، ونحن ، كلامنا في الأوامر والنّواهي ينصبّ على هذا الوجود الذّهني لهذا العنوان والمفهوم الواحد ، لا الوجود الخارجيّ له ، إذ إنّ هذا الوجود الذهني المتعلق للأمر والنّهي ملحوظ بما هو مرآة للخارج ، فما يكون من هذا الوجود الذهني متعلقا للأمر

٣٢٠