بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

فنقول : قد عرفت أنّ المحقق النائيني «قده» يذهب إلى أن تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون إذا كانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه.

ونحن وإن كنّا قد ذكرنا حاصل استدلاله ، ولكن هنا سنفصّل هذا الاستدلال ، مع استعراض ما ذكره المحقق الخوئي «قده» عليه من الاعتراض ، كي تتضح حقيقة المطلب.

وتفصيل ذلك هو : إنّ المحقق النائيني «قده» (١) ذكر أن العناوين على قسمين :

١ ـ القسم الأول : العناوين الاشتقاقية التي تحمل على الذات ، من قبيل عنوان العالم ، والعادل ، والطويل ، وأمثالها.

٢ ـ القسم الثاني : العناوين التي هي عناوين لمبادئ الاشتقاق.

أو فقل مبادئ اشتقاق تلك العناوين ، من قبيل عنوان ، العلم ، والعدل ، فإنه هو المبدأ لاشتقاق عنوان العالم والعادل الذي يحمل على الذات.

وفي القسم الأول : عندنا محمول عليه ، وهو زيد ، ومحمول ، وهو العالم. وعندنا حيثيّة الحمل والصدق ، وهي العلم ، فإنّ قيام هذه الحيثية في زيد هي التي صحّحت حمل العالم عليه ، وهذه الحيثية ، حيثية تعليليّة لأنّها هي العلة في صدق هذا المحمول على هذا الموضوع. إذن فهذه العناوين منتزعة من الذات ، وجهة صدقها عليها كونها تعليلية وليست تقييدية ، وبناء على ذلك ، فتكثر الحيثيّات في مثل ذلك لا يوجب تعدد الموضوع ـ «المعنون» ـ خارجا ، بل يمكن تكثرها مع انحفاظ ذات واحدة في الخارج ، فيقال ، «زيد عالم» ، لحيثية العلم القائمة به ، و «أبيض» ، لقيام حيثية البياض ونحو ذلك ، فتعدّدت الحيثيات الموجبة لصحة الحمل ، مع أنّ

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٣٦١

الذات واحدة. وعليه فتعدد الحيثيات التعليلية لا يوجب تعدد الموضوع ـ «المعنون» ـ خارجا.

إذن لا يكون تعدد العناوين الاشتقاقية هذه موجبا لتعدد المعنون خارجا ، وإن كانت النسبة بينها عموما من وجه. ومن هنا يكون التركيب بين كل هذه العناوين الاشتقاقية كالحلو ، والأبيض ، والمصلّي ، والغاصب ، في مورد الاجتماع اتحاديا دائما ، ومن هنا لا يصح الاجتماع.

وأمّا القسم الثاني من العناوين ، وهي : عناوين مبادئ الاشتقاق من قبيل «العلم والعدل» ، والتي هي مبادئ لاشتقاق عنوان العالم والعادل ، فإنّ هذه العناوين بنفسها حيثيات تعليلية وتقييديّة. كما يقال : «هذا علم» ، ويشار إلى الكيف النفساني المخصوص فيما أنّ المحمول عليه هو نفس تلك الحيثية التي هي كيف نفساني ، فتكون هذه الحيثية حينئذ حيثية تقييدية. وبما أنّ هذه الحيثية هي التي صحّحت الحمل ، فتكون حيثية تعليليّة.

وبناء على ذلك : فإذا تعددت حيثيّات الصدق كما لو فرض وجود عنوانين «كالغصب ، والصلاة» ، لا الغاصب ، والمصلّي ، وكان لكل منهما حيثية صدق ، غير حيثية الصدق في الآخر ، فلا محالة حينئذ يتعدد المصداق بتعددها ، فتعدد العنوان في مثل ذلك ، يوجب تعدد المعنون خارجا.

والميزان الكلّي الذي فيه تكون حيثية الصدق في أحد العنوانين غير حيثية الصدق في العنوان الآخر ، هو ما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه ، لأنّه إذا كان بينهما عموم من وجه ، فهذا يحتاج لافتراض حيثية صدق محفوظة في مورد الاجتماع والافتراق.

وهذا معناه ، أنه في مورد الاجتماع نحتاج إلى افتراض حيثيّتي صدق :

إحداهما : تحفظ في مورد اجتماع الصلاة مع الغصب. وافتراق الصلاة عن الغصب.

والأخرى : تحفظ في مورد اجتماع الغصب مع الصلاة ، وافتراق

٣٦٢

الغصب ، عنها. وإحدى الحيثيتين غير الأخرى كما عرفت تفصيله سابقا.

وبهذا يتبرهن أنّ حيثيّة الصدق التي هي تقييدية وتعليلية بالنحو المتقدم ، متعددة في كل مورد تكون النسبة بين العنوانين عموما من وجه ، وإذا تعدّدت الحيثية هذه ، فلا محالة يتعدّد المصداق المحمول عليه خارجا ، ومعه يكون التركيب بين العنوانين والمصداقين انضماميا فيصح الاجتماع.

ومن هنا قال المحقق النائيني «قده» بجواز اجتماع الأمر والنّهي.

وما تقدم كان توضيحا لما ذكره في تقسيم العناوين إلى قسمين.

والخلاصة ، هي : إنّ النوع الثاني من العناوين ، حيث أنّه ينتزع من نفس مبادئ الاشتقاق التي هي عناوين ذاتية لها ، فتكون هي مصداقها بنحو الحيثية التقييدية ، إذن فتعددها يوجب تعدد المعنون خارجا إذا كان بين العنوانين عموم من وجه ، كالغصب والصلاة ، لا الغاصب والمصلي ، وحينئذ لا بدّ لكل من العنوانين من جهة صدق بنحو الحيثية التقييدية محفوظة في مورد افتراقه عن العنوان الآخر ، وهذا لا يكون إلّا مع تعدد المعنون ، وإلّا لزم عدم صدقهما في مورد الاجتماع.

وبهذا يتبرهن أن التركيب انضمامي بين المبادئ والعناوين الذاتية في مورد الاجتماع ، إذا كان بينهما عموم من وجه ، كما في الصلاة ، والغصب ، ولأجله ذهب الميرزا «قده» إلى القول بجواز الاجتماع.

نعم لا يتم هذا البرهان في العناوين والماهيّات الطوليّة ، كما في الأجناس المتصاعدة ، أو النوع ، أو الفصل ، فإنّه حتى لو كانت النسبة بين العنوانين فيها التساوي أو العموم من وجه ، فقد يكون التركيب فيها اتحّاديا ، ولذلك لا يتم فيها البرهان الذي ذكره.

وقد اعترض السيد الخوئي «قده» (١) على هذا الكلام ، فذكر أنّه وإن

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ هامش ص ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٣٦٣

كان يوافق على أصل هذا الاستدلال ، إلّا أنّ القسم الثاني من العناوين التي هي عناوين مبادئ الاشتقاق لها شقّان :

١ ـ الشق الأول : العناوين المقوليّة ، أي : الماهيّات الأولية ، فإنّه في مثلها يكون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون والمصداق ، وذلك لاستحالة أن يكون لمصداق واحد ماهيتان حقيقيتان.

٢ ـ الشق الثاني : العناوين الانتزاعية العرضيّة ، التي لا حقيقة مقولية لها في الخارج ، كالفوقيّة ، والتحتية ، ونحوها ، فإنّها حيث أنّها ليست من الماهيّات المتأصلة في الخارج ، فلا يلزم من تعدد العنوان فيها ، تعدد المعنون خارجا ، ولو كان بين العنوانين منها عموم من وجه ، لإمكان أن يكون للعنوان الانتزاعي الواحد مناشئ انتزاع متباينة ، كما يقال في «السقف أنّه فوق ، والسماء فوق» وهكذا كما عرفت تفصيله ، لاحتمال أن يكون العنوانان في مادة الاجتماع منتزعين من ماهيّة واحدة ، وحيث أنّ الصلاة ، والغصب من هذه العناوين ، ويحتمل أن يكون منشأ انتزاعها في الخارج حركة واحدة ، فلا يكون تعدد العنوان فيها حينئذ موجبا لتعدد المعنون ، وعليه فيلزم امتناع الاجتماع.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ مرد هذا النزاع بين هذين العلمين ليس كبرويا ، وإنما النزاع بينهما مبني على جهة لم تبحث بينهما ، فكأنّه نزاع صغروي ، يرجع إلى تشخيص كون الحمل في العناوين الانتزاعيّة ، ما هو؟ هل هو حمل اشتقاق فقط ، أي : حمل ذو هو؟ أو حمل مواطاة ، أي : حمل هو هو ، كما يكون في المبادئ الذاتية المتأصلة؟.

وتوضيح ذلك ، هو : أنّ الحمل ينقسم إلى قسمين :

١ ـ القسم الأول : حمل المواطاة ، أي : حمل «الهوهوية» ، كما يقال :

هذا بياض ، ويقصد باسم الإشارة ، نفس البياض ، فيكون المحمول نفس الموضوع ، ولذا سمي هذا الحمل ، بحمل ، «هو هو» ، أو الهوهوية.

٣٦٤

٢ ـ القسم الثاني : حمل الاشتقاق ، أو حمل ، «ذو هو» ، كما لو أشير إلى جسم وقيل : هذا ذو بياض ، وقد يعبّر عن «ذو» ، بهيئة اشتقاقية فيقال : هذا ، أي الجسم ، أبيض.

إذا عرفت ذلك نقول : إنّ عناوين مبادئ الاشتقاق ، ذات شقين ، كما ذكر السيد الخوئي «قده» (١).

١ ـ الشق الأول : العناوين المقولية ، التي هي ماهيّات حقيقية لمصاديقها في الخارج ، من قبيل عنوان ، العلم والبياض ، فمثل هذه العناوين تحمل بكلا الحملين ، حيث أنّها تحمل على مصاديقها بحمل الهوهويّة ، فيقال : «هذا علم ، وهذا بياض» ، وتحمل على معروض ذلك المصداق بحمل ذو هو ، فيقال : هذا. أي جسم. ذو بياض ، أو أبيض.

٢ ـ الشق الثاني : هو العناوين العرضية الانتزاعيّة ، فلا إشكال في أنها تحمل بحمل «ذو هو» في الخارج على مناشئ انتزاعها ، فيقال : السقف فوق ، أي : ذو فوقية ، والإنسان عالم ، أي : ذو علم.

إلّا أنّ الكلام في أنّ مثل هذه العناوين هل تحمل بحمل الهوهوية ، أو لا؟ فهل يصح أن نشير إلى شيء في الخارج ولو ذهنا فنقول : هذه فوقية أو هذه تحتية ، أو لا يصح؟

والخلاصة هي : إنّ مرجع هذا الاختلاف بين العلمين ، النائيني ، والخوئي «قده» ، ليس كبرويا ، وإنما هو صغروي ، بمعنى أنّه يرجع إلى تشخيص أنّ الحمل في العناوين الانتزاعيّة هل هو حمل مواطاة ، أي : حمل هو هو ، كما هو في المبادئ الذاتية المتأصلة ، حيث يمكن أن يشار إلى حيثية في الخارج فيقال : هذه فوقية ، وهذه تحتية؟ أو إنّ الحمل فيها هو

__________________

(١) نفس المصدر.

٣٦٥

حمل اشتقاق فقط أي : حمل ذو هو ، فيقال : السقف فوق ، والإنسان عالم ، أي : ذو فوقيّة ، وذو علم.

وصحة ذلك وعدمه مبني على مسألة تقدم تحقيقها ، واخترنا فيها خلاف ما عليه المشهور.

وحاصلها هو : إنّ المشهور ذهبوا إلى أن هذه العناوين الانتزاعية هي أمور ، ظرف العروض فيها هو الذهن ، وظرف الاتصاف فيها هو الخارج.

وبناء على ذلك يتعذر حمل «الهوهوية» في هذه العناوين ، لأنّ ظرف الفوقيّة هو الذهن ، وعليه فوراء الذهن لا يمكن أن نشير إلى شيء في الخارج بحمل مواطاة ، فنقول : إنّه فوقيّة ، بل نشير إلى سقف فنقول : «هذا ذو فوق» ، لأنّ ظرف الاتصاف هو الخارج ، إذن فالمتعيّن هو حمل «ذو هو» فقط.

وأمّا بناء على ما اخترناه من أنّ هذه العناوين لها واقع خارجي ثابت في لوح الواقع خارج الذهن ، وهو أوسع من لوح الوجود بقطع النظر عن عالم الاعتبار والذهن ، فإنّ هناك حيثية في خارج الذهن يحمل عليها عنوان «الفوقية» ويصدق عليها ، كصدق سائر المبادئ الذاتية على مصاديقها بحمل المواطاة ، فإنّ السماء فوق الأرض ، حتى لو لم يكن هناك ذهن.

إذن فالفوقية ثابتة على كل حال ، وظرف العروض في هذه العناوين هو ظرف الاتصاف ، ولا يعقل أن يكون غير ذلك كما عرفت سابقا ، غايته أنّ هذه الأمور الانتزاعية بنفسها خارجية ، لا بوجودها.

وبناء على هذا المسلك ، يصح حمل «هو هو» في هذه العناوين الانتزاعية ، أي : حمل المواطاة ، لأنّ الفوقية لها واقع خارجي بقطع النظر عن عالم الذهن ، وحينئذ يشار إلى هذا الخارج ويقال : هذا فوق ، أو هذه فوقيّة.

٣٦٦

إذا عرفت ما تقدّم نقول : إنّ هذه العناوين الانتزاعية ، بناء على أنّها تحمل على الخارج بحمل «الهوهوية» أي حمل مواطاة ، كما لو كان لها مصداق بالذات ، فيكون الإتجاه العام لكلام الميرزا «قده» هو الصحيح.

وأمّا بناء على أنّها لا تحمل بهذا الحمل ، بل تحمل فقط بحمل «ذو هو» على مناشئ انتزاعها ، فتكون الخارجية لمناشئ انتزاعها ، فحينئذ يكون الإتجاه العام لكلام السيد الخوئي «قده» هو الصحيح.

فالنزاع بين هذين العلمين «قده» مبني على هذه النقطة ، وكأنهما لم يلتفتا إلى ذلك ، ولهذا لم يبحثاها.

ولهذا فما ذكره النائيني «قده» يتم بنحو عام ، بناء على أنّ هذه العناوين تحمل بحمل «الهوهوية» ، وذلك لأنّ هذا العنوان الذي يحمل على تلك الحيثية بحمل «الهوهوية» ، تكون نسبته إلى تلك الحيثية نسبة العنوان الذاتي إلى مصداقه. فكما لا يمكن أن يكون لموجود واحد في الخارج ماهيّتان حقيقيتان ، وعنوانان عرضيان منتزعان من مرتبة ذاته ، لأنّ الموجود الواحد ليس له إلّا ماهيّة واحدة ، كذلك الأمر هنا ، فإنّه لا يمكن أن يكون لجهة خارجية واحدة عنوانان ذاتيان عرضيان ، فإنّ قولنا : هذه فوقية ، أي : إنّ اسم الإشارة هو بنفسه المصداق بالذات للعنوان المحمول عليه ، وحينئذ ، لا يمكن أن يكون مصداقا لعنوانين عرضيّين بحيث يكون كل منهما تمام ماهيته ، وعليه فلا بدّ وأن يتعدّد المحمول عليه بتعدد الحيثيّات المصحّحة لحمل العناوين عليه ، وحيث أنّ هذه الحيثيات خارجية بأنفسها ، فلا محالة تكون خارجيّة إحداها غير خارجيّة الأخرى.

وبهذا يثبت ، أنّ تعدّد العنوان في مثل ذلك يوجب تعدّد المعنون خارجا ، كما ذكر النائيني «قده» ، ولا يرد حينئذ ما ذكره المحقق الخوئي «قده» ، من أنّ العناوين الانتزاعية كالفوق والتحت ، قد تنتزع من منشأ واحد ، وأنّ عنوانا واحدا قد ينتزع من مناشئ متباينة ، كالسقف والسماء ، لأنّ هذا ناظر إلى حمل العناوين الانتزاعية على مناشئ الانتزاع الذي هو

٣٦٧

حمل «ذو هو» ونحن لا ندعي تعدد المحمول فيها بتعدد الحيثيات ، بل ندّعي ذلك في حمل «هو هو» كما عرفت.

وعليه يكون ما ذكره المحقق الخوئي «قده» من الخلط بين حمل المواطاة ، وحمل الاشتقاق ، إذ إنّ «السقف والسماء» المتباينين يحمل عليهما ، الفوق حمل اشتقاق ، لا حمل مواطاة كما هو ثابت حتى في الماهيّات المتأصلة ، هذا بناء على أن يكون لهذه الحيثيات خارجية ، فتحمل عليها هذه العناوين بحمل «الهوهوية» ، حينئذ يتم ما ذكره المحقق النائيني «قده» بنحو عام.

وأمّا إذا أنكرنا أن يكون لهذه الحيثيات خارجية ـ وإنما الخارجية لمناشئها ، أي : لما تحمل عليه بحمل الاشتقاق ـ وبنينا على مسلك الحكماء ، فإنّ هذه العناوين حينئذ لا تحمل إلّا بحمل «ذو هو» فقط ، وحينئذ يتجه كلام المحقق الخوئي «قده» ، ولا يتم كلام النائيني «قده».

وذلك لأنّ مجرد تعدّد العنوان الانتزاعي لا يوجب تعدد المحمول عليه في الخارج ، لأنّ المحمول عليه في الخارج محمول عليه بحمل «ذو هو» أي : هو مصداق بالعرض والمسامحة للمبدا ، وما هو مصداق بالعرض والمسامحة ، يمكن أن يكون بالعرض والمسامحة مصداقا لمبدأين.

وهذا معنى قول المحقق الخوئي «قده» إنّه يمكن أن ينتزع عنوانان من منشأ انتزاعي واحد ، وبناء على هذا المسلك ، حينئذ لا يكون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون.

وحيث قد عرفت أنّ المسلك الصحيح هو أنّ هذه العناوين الانتزاعية لها واقع خارجي ، بقطع النظر عن عالم الاعتبار والذهن ، وأنّ ظرف العروض فيها هو ظرف الاتصاف خلافا لمشهور الحكماء ، فحينئذ بناء على هذا المسلك الصحيح ، يمكن أن تحمل هذه العناوين على الخارج بحمل «الهوهوية». ومتى ما صحّ هذا الحمل يكون كلام المحقق النائيني «قده» هو

٣٦٨

الصحيح كبرويا كما عرفت ، إلّا أنّه يبقى لنا حساب مع المحقق النائيني «قده» من جهتين :

١ ـ الجهة الأولى ، هي : إنّ ما ذكره الميرزا «قده» ، برهانا ، ووافقه الخوئي «قده» ، على كون تعدّد العنوان موجبا لتعدد المعنون ، لا يختص بما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه ، كما ذكر الميرزا «قده» ، إذ غاية ما ذكر في فذلكة هذا البرهان هو : إنّ الحيثيتين العرضيتين يستحيل أن يكون لهما مصداق واحد بالذات في الخارج ، لأنّه يستحيل أن يكون للشيء الواحد ماهيّتان عرضيّتان.

وهذا البرهان والفذلكة يصدق أيضا فيما لو كان بين العنوانين نسبة التساوي ، لأنّه يستحيل أيضا أن يكون للشيء الواحد ماهيتان عرضيتان ، سواء أكانت النسبة بين العنوانين عموما من وجه ، أو التساوي ، فإنّه متى ما كان هناك عنوانان ، ولكل واحد منهما مصداق بالذات في الخارج ، وكان العنوانان عرضيّين ، فإنه حينئذ يستحيل أن يكون مصداقهما بالذات واحدا ، ولو كانا متساويين لما عرفت من دون فرق بين العناوين الحقيقية والانتزاعية كما تقدّم. نعم يمكن أن يكون هذا الاختصاص للبرهان فيما إذا كانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه في الماهيات المتداخلة ، والتي يتمم بعضها البعض الآخر.

٢ ـ الجهة الثانية ، هي : إنّ هذا الملاك لجواز الاجتماع ، إنّما ينفع فيما إذا تعلّق الأمر والنّهي بالمبدإ الانتزاعي بجنبته المصدرية ، لا فيما إذا تعلق الأمر والنّهي بالمبدإ بجنبته الاشتقاقية. ونحن هنا نخالف بعض مصطلحات النحويين.

وتوضيح المقصود في المقام هو : إنّه إذا تعلق الأمر بالعبادية والنّهي بالغضبيّة ، فيصح الاجتماع حينئذ بهذا الملاك المذكور ، لأن الصلاة التي هي فعل واحد ، هي معروضة لجهتين واقعيتين :

٣٦٩

١ ـ الجهة الأولى ، هي : كون هذا الفعل الصلاتي مضافا إلى الله تعالى بإضافة التعبّد.

٢ ـ الجهة الثانية ، هي : كون هذا الفعل مضافا إلى استعمال ملك الغير بغير رضاه.

فهاتان إضافتان وأمران انتزاعيّان قد عرضا على الصلاة ، فهي منشأ انتزاعهما بمعنى من المعاني ، فحينئذ إن تعلق الأمر بعنوان إحدى هاتين الإضافتين كما لو أمره المولى أن يجعل عمله هذا عبادة ومضافا إلى المولى وتعلق النّهي بعنوان الإضافة الأخرى كما لو نهاه المولى عن جعل عمله هذا غصبا فيصح الاجتماع ، لأنّ هذين العنوانين ، يحملان بحمل «الهوهوية» على تلك الإضافة ، لأنّ الإضافة الأولى هي العباديّة ، والثانية هي الغصبية. وعليه فيكون تعدّد العنوان موجبا لتعدد المعنون لما عرفت تفصيله ، ومع التعدد يصح الاجتماع ، هذا إذا كان متعلق الحكم نفس الإضافة أي العباديّة والغصبيّة.

وأمّا إذا فرض أنّ متعلّق الأمر والنّهي هو الفعل المضاف ، أي : الفعل العبادي المعبّر عنه بالعبادة ، والفعل الغصبي المعبر عنه بالغصب ، لا العباديّة ، والغصبيّة ، فإنّ أسماء الأفعال هذه ، وإن كانت مبادئ بحسب عرف اللغة والنحو ، إلّا أنّها بحسب الحقيقة نسبتها إلى مصادرها ، نسبة المشتق إلى المصدر ، فهي تستبطن اشتقاقا مستترا. فالعبادة ، والغصب فيهما جنبة اشتقاق ، وإن لم يذكر في اللغة. فمصدر الغصب هو الغصبية ، وكذلك العبادة ، فإنّ مصدرها هو العباديّة ونحن كلامنا في طبيعة الأشياء ، لا حسب مصطلحات النحاة واللغويين. وحينئذ ، فإذا تعلق الأمر والنّهي بالمبدإ الانتزاعي بجنبته الاشتقاقيّة ، أي : تعلق بالعبادة ، والغصب ، أي : بمعروض الإضافة في كل منهما ، لا بنفس الإضافة ، فحينئذ لا يصح الاجتماع لأنّ حمل الغصبية والعبادية على الفعل الغصبي والفعل الصلاتي يكون حمل ذو هو وفيه لا يكون تعدد على الحيثيات والإضافات موجبا

٣٧٠

لتعدد المحمول عليه ، فلا يكون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون ، ومعه لا يصح الاجتماع.

والخلاصة ، هي : إنّ هذا الملاك الثالث لجواز الاجتماع ، كما ذهب إليه المحقق النائيني «قده» ، إنما ينفع إذا كان متعلق الحكم هو نفس الإضافة ، لا الفعل المضاف ، أي : فيما إذا كان العنوانان عرضيين ومحمولين على الخارج حمل مواطاة ، أي : إنّ لهما مصداقا بالذات ، لا حمل اشتقاق.

أو فقل : إنّ الملاك الذي ذهب إليه المحقق النائيني ، إنّما ينفع في جواز الاجتماع ، إذا كان متعلق الحكم هو نفس الإضافة ، فيحمل هذا العنوان على مصداقه الخارجي بالذات ، حمل مواطاة ، لا الفعل المضاف ، لأنه إذا كان متعلق الحكم هو نفس الإضافة ، يكون الحمل حينئذ حمل مواطاة ، أي : حمل «هو هو» ، ومعه لا يتعدّد المعنون بتعدد العنوان.

وأمّا إذا كان متعلّق الحكم هو الفعل المضاف ، فحينئذ يكون الحمل حمل اشتقاق ، أي : حمل «ذو هو» ، ومعه لا يتعدّد المعنون بتعدد العنوان.

على ضوء ما سبق فقد تحصّل لدينا ملاكان صحيحان لجواز اجتماع الأمر والنّهي :

الملاك الأول ، هو : ما ذكرناه من أنّ تعدّد العنوان يكفي لرفع غائلة التضاد ، لأنّ كون الأمر متعلقا بصرف وجود الطبيعة في الخارج ، لا ينافي كون النّهي متعلقا بالفرد والحصة ، إذ لا تضاد بينهما ، حيث أنّه لا محذور في إرادة صرف وجود الجامع والنّهي عن أحد أفراده.

الملاك الثاني ، هو : ما ذكره الميرزا «قده» ، من كون متعلّق الأمر غير متعلّق النّهي بحسب العنوان ، وإن انطبق العنوانان على وجود واحد في بعض الموارد خارجا ، فإنّ تعدد العنوان يوجب تعدّد معروض الأمر والنّهي ، والحب والبغض ، حقيقة.

٣٧١

وهناك ملاك ثالث للجواز : ذكرناه في النحو الأول ، وهو ما بنى عليه المحققون جواز الاجتماع كبرويا ، واختلفوا في تشخيص مورده صغرويا.

وخلاصته كبرويا ، هي : ما لو كان الاختلاف بين مركزيّ الأمر والنّهي بالإطلاق والتقييد ، وكان التركيب بين عنوانيّ المأمور به والمنهيّ عنه انضماميا ، لا اتحاديا ، حيث يكون الأمر متعلقا بصرف وجود الطبيعة ، ولا يسري إلى الأفراد ، ويكون النّهي متعلقا بالفرد ، ولا يصعد إلى الطبيعة. وبهذا يتعدّد العنوان فيكون مستلزما لتعدد المعنون خارجا.

وحينئذ لو أغمضنا النظر عن الوجدان الذي أبطلنا به هذا الملاك للجواز ، فإنّه يتحصل عندنا حينئذ ثلاث ملاكات لجواز الاجتماع.

وإذا أردنا المقارنة بين هذه الملاكات ، لنرى ما هو الأوسع منها بحسب النتيجة ، فإننا نرى أنّ الملاك الثاني الذي ذكرناه وأثبتناه نحن ـ وهو كون تعدّد العنوان يكفي في رفع غائلة التضاد ـ لا يختلف كثيرا من حيث النتائج عن الملاك الثالث الذي ذكره الميرزا «قده» ، من كون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون ، إذ نرى كأنّه بين الملاكين ملازمة لتصادقهما معا ، وارتفاعهما معا ، باستثناء مورد واحد حيث يصدق ما ذكرناه وأثبتناه نحن ، دون ما ذكره الميرزا «قده» ، فيكون ما ذكرناه من ملاك وتبينّاه أعمّ ممّا ذكره الميرزا «قده» وتبنّاه.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّه بالنسبة لجميع عناوين المبادئ الحقيقية أو الانتزاعية التي تعتبر من المعقولات الأوليّة ـ والتي تحمل على مصاديقها حمل مواطاة ـ ينطبق ما اختاره الميرزا «قده» وما اخترناه.

أمّا انطباق ملاك الميرزا «قده» فلأنّه إذا أمر المولى بالسجود ، ونهى عن الكلام ، فهنا عنوانان ، وتعددهما يوجب تعدد المعنون ، باعتبار أنّ كلا من عنوانيّ السجود والكلام ، له محمول عليه مواطاتي في الخارج ، لأنّه

٣٧٢

يمكن الإشارة إلى شيء في الخارج ، فنقول : هذا كلام ، وهذا سجود ، فيكون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون.

وأمّا انطباق ما اخترناه هنا من الملاك أيضا ، فلأنّ العنوان متعدد ، فإنّ عنوان السجود غير عنوان الكلام. هذا بالنسبة لعناوين المبادئ الحقيقية.

وأمّا بالنسبة إلى عناوين المبادئ الانتزاعيّة ، فيما إذا تعلق الأمر والنّهي بالعنوان الانتزاعي بجنبته المصدرية كما ذكرناه ، أي : بالعباديّة والغصبية ، فهنا أيضا يصدق كلا الملاكين. أمّا ملاكنا ، فباعتبار تعدد العنوان كما هو واضح ، وأمّا صدق ملاك الميرزا «قده» فلأنّ العباديّة والغصبية لهما محمول عليه مواطاتي ، كما عرفت ، وحينئذ يكون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون.

وأمّا إذا فرض أن الأمر والنّهي قد تعلّقا بالعنوان الانتزاعي بجنبته الاشتقاقية ، والذي يحمل على مصداقه حمل اشتقاق ، أي : بالعبادة والغصب ، كما عرفت ، فإنّه هنا لا يصدق كلا الملاكين.

أمّا عدم صدق ملاك الميرزا «قده» ، فلأنّ المحمول الاشتقاقي لعنوانين انتزاعيّين ، قد يكون واحدا وجودا ، فلا يكون المعنون حينئذ متعددا.

وأمّا عدم صدق ملاكنا ، فلأنّ كلا من الأمر والنّهي قد تعلق بذي الإضافة ، أي : بالعبادة والغصب ، ومعه يكون هناك محمول مشترك بين متعلق الأمر والنّهي ، أعني عنوان العبادة والغصب ، وهو الفعل والذات ، لأنّ الغصب والصلاة ، نسبتهما إلى الغصبيّة والصلاتيّة ، نسبة المشتق إلى المصدر ، فيكونان مطعّمين بنحو من التركيب بين الحيثية التي قلنا إنّها خارجية بنفسها ، وبين ذي الحيثية ، حيث يكون للعنوانين محور مشترك ، هو الذات المتّصفة بالحيثية.

٣٧٣

وإذا كان الأمر كذلك ، فيدخل هنا تحت التحفظ الثالث الذي قلنا إنّه كلما كان هناك محور مشترك بين العنوانين ، فلا يتم فيه الملاك الثاني ، وإن تعدد العنوان ، وكذلك الملاك الثالث للجواز ، لأنّه بلحاظ ذلك المحور المشترك ، سوف يجتمع الأمر والنّهي على عنوان واحد ، فلا يصح الاجتماع ، إذن ففي المقام لم يصدق كلا الملاكين.

نعم هناك مورد واحد يصدق فيه ملاكنا ، ولا يصدق فيه ملاك الميرزا «قده» ، وهو ما لو تعلق الأمر بعنوان حيثية الجنس ، وتعلق النّهي بعنوان حيثية الفصل. ففي مثل ذلك يصدق ملاكنا لأنّ الجنس والفصل ، وإن كانا موجودين بوجود واحد خارجا ، إلّا أنّ الذهن يمكنه تحليل هذه الماهية الواحدة ، فينتزع عنوانا من حيثية جنسها ، وعنوانا آخر من حيثية فصلها ، فيتعدد العنوان ، ومعه يصح الاجتماع ، بناء على ملاكنا. ومثاله : ما لو أمر المولى برسم خط ، ونهى عن إيجاد الانحناء. فلو أوجد المكلف خطا منحنيا ، أمكن فيه اجتماع الأمر والنّهي ، لأنّ الخط المنحني نوع من الخط ، وجنسه الخط ، وفصله الانحناء ، فهو وإن كان موجودا واحدا في الخارج ، إلّا أنّ الذهن يحلّله كما تقدم ، ومع كون الانحناء «الفصل» من المبادئ بالنسبة إلى الخط «الجنس» وليس بينهما محور مشترك ، إذن فيكون العنوان متعددا فيجوز الاجتماع ، ومعه يصدق ملاكنا.

وأمّا عدم صدق ملاك الميرزا «قده» ، «الملاك الثالث» فلأنّ خارجيّة الجنس والفصل ليست مستقلة بإزاء كل منهما مستقلا بنفسه ، وإنما خارجيتهما بوجودهما معا ضمن ماهية واحدة لها وجود واحد في الخارج فهما جزءا ماهيّة ، فوجودهما واحد لأنّ التركيب بينهما اتحادي ، ومعه يكون المعنون واحدا ، لا متعددا ، إذ ليس ما بإزاء الخط وجود خارجي مغاير للوجود الخارجي الذي بإزاء عنوان الانحناء ، وذلك كما في مثال ما لو رسم المكلف خطا منحنيا ، ولهذا اشترطنا في صحة هذا الملاك ، كون العنوانين عرضيّين ، وليسا طوليّين ، كما في الجنس ، والنوع ، والفصل ، لأنّ الفصل متمّم للجنس ، وفي طوله.

٣٧٤

وهذا المورد يكون برهانا «إنّيا» على صحة ملاكنا من كفاية تعدد العنوان في جواز الاجتماع ، وإن كان المعنون واحدا بحسب وجوده الخارجي ، فإنّ الوجدان قاض بجواز أن يقول المولى : «أرسم خطا ولا توجد انحناء».

وبهذا يثبت أنّ ملاك جواز لا ينحصر في ملاك الميرزا «قده» ، كما يثبت بهذا ، أنّ النسبة بين ملاكنا ، «الملاك الثاني» وبين ملاك الميرزا «قده». «الملاك الثالث» ، هي نسبة العموم والخصوص المطلق ، بمعنى أنّ الملاك الثاني «ملاكنا» هو الأوسع بحسب النتيجة.

وأمّا النسبة بين هذين الملاكين للجواز «ملاكنا ، وملاك الميرزا «قده» ، وبين ذلك الملاك الأول المذكور في النحو الأول ، والذي كان يكتفي في الجواز بأن يكون الأمر متعلقا بصرف الوجود ، والنّهي متعلقا بفرده ـ مع قطع النظر عن مسألة لزوم التخيير الشرعي بحسب عالم الإرادة والحب ـ فهي نسبة العموم من وجه.

أمّا مورد تماميّة ذلك الملاك الأول ، دون تماميّة ملاكنا وملاك الميرزا «قده» ، إنّما هو في العنوانين اللّذين بينهما محور مشترك ، فإنّه فيه لا يتم كلا هذين الملاكين ، ملاكنا وملاك الميرزا «قده» كما عرفت سابقا في مثال الأمر بالصلاة والنّهي عن الصلاة في الحمّام.

وأمّا الملاك الأول ، فإنه يتم ، لأنّ الأمر تعلّق بصرف وجود الصلاة وهو لا يسري إلى الحصص ، والنهي تعلق بحصة الغصب وهو لا يسري إلى الطبيعة.

وأمّا تماميّة ملاكنا وملاك الميرزا «قده» دون الملاك الأول ، فهو فيما لو فرض وجود عنوانين متغايرين ، وقد تعلّق الأمر بأحدهما بنحو مطلق الوجود ، وتعلّق النّهي بالآخر كذلك كما في «الصلاة» و «الغصب» ، فيما لو فرض تعلق الأمر والنّهي بعنوان الصلاة والغصب ، بجنبتهما المصدرية كما عرفته سابقا.

٣٧٥

والحاصل هو : إنّ نكتة ملاكنا تامة باعتبار تعدّد العنوان ، ونكتة ملاك الميرزا «قده» تامة أيضا باعتبار أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدد المعنون ، لأنّ كلا من هذين العنوانين له محمول عليه مواطاتي كما عرفت.

إلّا أنّ الملاك الأول لا يتم ، باعتبار أنّ كلا من الأمر والنّهي تعلّق بمطلق الوجود ، ومعه يسري الحكم إلى الحصص ، لا انّ الأمر تعلّق بصرف الوجود ، وتعلّق النّهي بالحصة ليتم ذلك الملاك الأول.

٣٧٦

تطبيق ملاكات اجتماع

الأمر والنهي

وبعد استعراض الملاكات في بحث اجتماع الأمر والنّهي ، ينبغي أن نبحث في تطبيق هذه الملاكات على المثال المعروف لهذه المسألة ، وهو «الصلاة في المغصوب» فيما لو اجتمع الأمر بالصلاة ، والنّهي عن الغصب في مورد واحد ، كما لو صلّى في المغصوب ، فإنه حينئذ يسأل : هل تقع الصلاة صحيحة ومصداقا للمأمور به ، أم لا؟

وهذا المثال ينحل إلى فرعين :

١ ـ الفرع الأول : الصلاة في اللباس المغصوب.

٢ ـ الفرع الثاني : الصلاة في المكان المغصوب.

أمّا الفرع الأول ، فله شقان :

١ ـ الشق الأول ، هو : أن يكون اللباس المغصوب هو نفس الساتر.

٢ ـ الشق الثاني : أن يكون المغصوب غير الساتر.

أو قل : أن لا يكون الساتر هو المغصوب ، وإنّما المغصوب غيره.

وفي هذا الفرع الأول يوجد تقريبان لبيان عدم جواز الاجتماع فيه : حدهما يختص بالامتناع بالشق الأول ، وثانيهما يعمّ كلا الشقّين.

٣٧٧

١ ـ التقريب الأول وهو : المختص بالشق الأوّل ، وهو ما لو كان نفس الساتر مغصوبا.

وحاصل هذا التقريب ، هو : إنّ الصلاة في الساتر المغصوب من موارد اجتماع الأمر والنّهي في واحد ، باعتبار أنّ التستّر فعل واحد ، وهو مصداق للواجب ، لأنّ التستر واجب في الصلاة ، وهو مصداق للحرام لأنه تصرّف بالمغصوب ، ففعل واحد ، صار مصداقا للأمر والنّهي معا ، وهذا غير جائز.

وهذا التقريب غير تام بقطع النظر عن جواز الاجتماع وعدمه ، والوجه في ذلك هو أنّ هذا المورد ليس من موارد الاجتماع أصلا ، لأنّ التستر بالمغصوب ، وإن كان مصداقا للحرام ، إلّا أنّه ليس مصداقا للواجب ، لأنّ التستر قيد في الصلاة الواجبة وليس جزءا منها ، والأمر بالمقيّد لا ينبسط على ذات القيد ، بل على التقيّد فحسب ، كما حقق ذلك سابقا. وعليه : فلا يكون القيد مصداقا للواجب ، فيكون التستر بالمغصوب خارجا عن مصب الأمر بالصلاة.

ومن هنا ، نحكم بصحة الصلاة في الساتر المغصوب على مقتضى القاعدة ، لو لا قيام إجماع تعبّدي على خلافه ، حتى ولو قلنا ببطلان جميع ملاكات جواز الاجتماع ، وذلك لأنّ المورد ليس من موارد الاجتماع.

هذا مضافا إلى أنّه لو كان التستر جزءا ، لوجب إتيانه مع قصد القربة ، مع أنّه من الوضوح بمكان عدم وجوب قصد القربة فيه ، ناهيك عن قصور الأدلّة عن إثبات جزئية التستر.

٢ ـ التقريب الثاني : الشامل لكلا شقي الفرع الأول ، أعني الصلاة في الساتر المغصوب ، وفي الثوب المغصوب ، وإن لم يكن ساترا.

وحاصل هذا التقريب ، هو : أنّه يلزم منه اجتماع الأمر والنّهي في الفعل الصلاتي الواحد نفسه ، من ركوع وسجود وقيام ، فإنّ الركوع مثلا

٣٧٨

فعل صلاتي واحد ، وهو مأمور به باعتباره جزءا من الصلاة الواجبة ، ومنهيّ عنه باعتباره علة للغصب ، بناء على أنّ ما هو جزء من الصلاة إنّما هو نفس الهوي للركوع ، وحينئذ يقال : بأنّ هذا الهويّ علة في تحريك الثوب ، وتحريكه ، حرام لأنّه غصب ، فيكون الهوي حراما لأنّه علة للحرام ، والمفروض أنّه واجب باعتباره جزءا من الصلاة ، فيلزم حينئذ اجتماع الوجوب والحرمة على نفس الهوي ، وهو فعل واحد ، وهذا مستحيل.

وكذلك الحال إذا قلنا : بأنّ ما هو جزء الصلاة ، هو نتيجة الهوي ، وهو نفس الركوع ، ففيه أيضا يلزم الاجتماع في فعل واحد ، حيث يقال : إنّ تقوّس الجسم الذي هو عبارة عن الركوع واجب ، لأنّه جزء من الصلاة ، وهو حرام لأنّه علة في تحريك الثوب المغصوب أو تقوّسه وطيّه ، فيلزم الاجتماع في فعل واحد ، هو مستحيل.

وهذا التقريب لو تمّ ، فإنّه لا يفرّق فيه بين أن يكون المغصوب هو الثوب الساتر ، أو غير الساتر كما هو واضح.

ولكن هذا التقريب غير تام أيضا : سواء قلنا بأنّ الهويّ هو نفسه جزء الصلاة ، أو أنّ نتيجة الهوي الذي هو الركوع ، هو جزء الصلاة ، فعلى كلا الحالين لا يتم هذا التقريب.

وذلك لأنّ نفس الهويّ وبقية أفعال الصلاة ليست علة تامة للغصب ، وتحريك هذا اللباس المغصوب ، حتى مع فرض كون هذا التحريك تصرفا في المغصوب ، لأنّ الهوي ، والركوع ، والقيام ، ليست سببا تاما في تحريك الثوب ، وإنّما هي جزء السبب. وهناك أجزاء أخرى كإبقاء الثوب على البدن وغيره ، تشكل بمجموعها مع القيام والركوع والسجود ، سببا تاما وعلة تامة للحرام ، وما لم يكن علة تامة للحرام لا يكون حراما ، فالركوع والسجود بمفردهما ليسا علة تامة للحرام. إذن فالفرع الأول ليس من موارد اجتماع الأمر والنّهي. وعليه : فيحكم بصحة الصلاة في مثل هذا المورد ، إذا لم يقم إجماع على خلافه ، وإن لم نقل بتمامية كل ملاكات جواز الاجتماع.

٣٧٩

٢ ـ الفرع الثاني ، وهو : «الصلاة في المكان المغصوب». والكلام فيه ليس من جهة الروايات ، وإلّا فقد ذكرت رواية واحدة (١) تدل على عدم جواز الصلاة في المكان المغصوب ، وهي مناقشة سندا ودلالة ، وإنّما الكلام في هذا الفرع من جهة مسألة الاجتماع ، وحينئذ يقال ـ كما جرت العادة ، أن تطرح هذه المسألة ـ بأنّه يوجد عندنا عنوانان : أحدهما متعلق للأمر ، وهو الصلاة ، والثاني متعلق للنّهي ، وهو الغصب.

وحينئذ لا بدّ وأن يرى أنّ تعدّد العنوان في المقام ، هل يكفي لرفع غائلة الاجتماع بأحد الملاكات المتقدمة ، أو إنّه لا يكفي؟

والصحيح إنّ هذا الطرح لهذه المسألة غير صحيح ، لأنّ الغصب ليس محرما بعنوانه ، وإنّما المحرّم هو مصاديقه ، «كأكل مال الغير» ، ونحوه ، ممّا ورد في القرآن الكريم النص على تحريمه كقوله تعالى (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا.)

ومن المعلوم أنّه لا خصوصيّة للدخول كي تحرم مصاديقه لحرمته أيضا ، إذ عنوان الغصب ليس بنفسه مركزا ومصبا للنّهي. وعليه فلا بدّ من تنقيح العناوين التفصيلية لمصاديق الغصب التي هي المحرمة ، لنرى أنّه هل أخذ واحد منها تحت الأمر في قوله : «صلّ» ، أو لم يؤخذ؟

وهل يتحد شيء منها مع أفعال الصلاة ، أم لا؟.

فنقول :

إنّ الغصب والتصرف في ملك الغير يكون بأحد أمور :

١ ـ الأمر الأول ، هو : أن يكون بإحداث تغيير في ملك الغير.

٢ ـ الأمر الثاني ، هو : أن يكون بالكون في ملك الغير.

__________________

(١) الوسائل : باب ٢ من أبواب مكان المصلي حديث ٢.

٣٨٠