بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

مستقل ، فكما تعقل هذه الفرضيّة في صلاة الميت ، تعقل هنا (١).

٢ ـ الاعتراض الثاني ، هو : إننا إذا التزمنا بالوجوبين المشروطين بهذا النحو ، بحيث أنّه إذا قام بالفعل «الواجب الكفائي» أكثر من مكلّف واحد ، فإنه يلزم من ذلك ، أن لا يكون قد وقع امتثال أصلا ، لأنّ كل واحد ، إنّما ثبت الوجوب في حقه بشرط ترك المكلّف الآخر له ، والمفروض ، أنّ مكلّفين أو ثلاثة قد قاموا أو قاما بالفعل. إذن فلا وجوب على واحد منهم ، ومعنى هذا ، عدم تحقق الامتثال فيبقى الأمر في ذمة المكلّفين بدون امتثال.

ولا يمكن التخلّص من هذا الاعتراض كما تخلصنا في الوجوب التخييري ، حيث تصورنا في الوجوب التخييري عدلا ثالثا ، وهو المجموع من الفعلين ، إذ قلنا هناك : إنّ الوجوب التخييري متقوم بثلاثة بدائل فيكون مرجع وجوب أحد البدائل الثلاثة إلى وجوبات تخييرية ثلاثة هي : هذا البدل ، وهذا البدل ، ومجموع البدلين ، فهنا إنما تعقّل هذا في مجموع فعلين صدرا من مكلّف واحد.

ولكن هنا في الوجوب الكفائي ، لا يعقل ، لأنّ كل فعل صدر من مكلّف غير المكلّف الذي صدر منه الفعل الآخر ، إذ لا شيء وراء زيد وعمرو ، كي يكون الواجب على المجموع المركب من زيد وعمرو وذاك الشيء ، فهذا الاعتراض باق.

وكذلك لا يمكن التخلّص من هذا الاعتراض ، بما لو افترض أنّ الشرط ، هو عدم إتيان المكلّف الآخر بالفعل قبله فإذا أتى به المكلّف الآخر مقارنا لا يكون مسقطا.

فإنّ معنى هذا ، إنّه في آخر الوقت يجب على كل المكلّفين الإتيان بالفعل ، لكن بحيث أنّه لو علم بأنّ المكلّف الآخر يأتي به في هذا الوقت ،

__________________

(١) ولعلّه بسبب التنافي والتدافع بين وجودات هذه الملاكات المتعددة ، كان الوجوب مشروطا (المقرر).

٢٦١

إذن لا يكون ذلك مسقطا ، وهو خلف خصائص الوجوب الكفائي كما عرفتها.

وكذلك لا يمكن التخلّص من هذا الاعتراض بافتراض أنّ الشرط هو عدم إتيان المكلّف الآخر بالفعل وحده ، بحيث أنّه في صورة إتيانهما معا يكون شرط الوجوب فعليا.

فإنّ معنى هذا : إنّ إطلاق الوجوب شامل لصورة ما إذا كان المكلّف الآخر قد جاء بالواجب ، ولكن لا مطلقا ، بل على تقدير أن يأتي المكلّف الأول به أيضا ، كي لا يكون وحده.

وهذا الإطلاق كما ترى فإنه يؤدي إلى تحصيل للحاصل ، إذن فهذا الاعتراض يبقى مسجّلا.

ـ الصيغة الثالثة : من صيغ الفرض الأول ، هي : أن نتصور ما تصوّره المحقق الأصفهاني «قده» (١) في الواجب التخييريّ ، ونطبّقه على المقام ، حيث كان تصوره هناك يفترض ، أنّ صدور الفعل له مبرزان : كونه مطلوبا للمولى أولا ، ومطلوبا صدوره من كل المكلّفين ثانيا ، إلّا أنّه باعتبار أنّ مصلحة التسهيل والإرفاق تقتضي عدم إلزام كل المكلّفين بالقيام بالفعل ، فيرخص المولى لكل واحد منهم بترك الفعل مشروطا بامتثال الآخر لطلبه هذا وهكذا الآخر ، يرخّصه المولى بالتّرك ، إذا امتثل الآخر مطلوبه.

أو فقل : إنّه يفترض أنّ الفعل واجب على كل المكلّفين ، لكن هناك ترخيص في التّرك لكل واحد منهم مشروط بفعل الآخر ، مراعاة لمصلحة التسهيل والأرفاق.

وقد تقدم إنّه بناء على مذهب المحقق النائيني «قده» في الوجوب والاستحباب ، من أنهما عقليّان بلحاظ ورود الترخيص تارة ، وعدم وروده

__________________

(١) نهاية الدراية الأصفهاني : ج ٢ من المجلد الأول ص ٦٨ ـ ٦٩ ـ ٧٥.

٢٦٢

أخرى ، فينتزع العقل الوجوب والإلزام أو عدمه ، ومن أنّ المجعول من قبل الشارع إنّما هو الطلب فقط.

بناء على مذهب المحقق النائيني «قده» هذا ، تكون هذه الفرضيّة الأولى في تفسير الوجوب الكفائي ، معقولة ومستوفية لكل خصائصه المتقدمة ، وذلك ، إذا افترضنا أنّ غاية ما يترقب صدوره من المولى هو صدور الطلب ، وقد صدر ، غايته أنّه باعتبار مصلحة التسهيل والإرفاق ، رخّص لكل من المكلّفين في مخالفة الطلب ، ترخيصا مشروطا بعدم ترك الآخر ، وهذا وسط بين الاستحباب والوجوب العيني.

إذن فالوجوب الكفائي وسط ، فيطلب من كلا المكلّفين ، ويرخّص لكل منهما على تقدير عدم ترك الآخر.

وحينئذ ، إذا أتى المكلّف بهذا الفعل ، فقد امتثل ، فإذا فرض أنّ أحدهما فقط قام بالواجب ، فقد امتثل أيضا ، إذ إنّ الآخر مرخّص له بالترك ، وإذا لم يأت أحد منهما بالواجب أصلا ، فيعاقبان ، لأنّ كلا منهما كان الواجب مطلوبا منه ، غايته أنّه مشروط بعدم إتيان الآخر به ، والمفروض أنّ الآخر لم يأت به ، والأول لم يأت به ، إذن فقد عصيا معا.

أو فقل : إنّ هذه الصيغة وافية بجميع خصائص الوجوب الكفائي المتقدمة ، إذ لو جاء أحد المكلّفين بالواجب ، أمكن للآخر تركه ، لأنّه مرخّص له بالترك في حال مجيء الآخر به ، وإلّا فلو عصيا معا ، ولم يأتيا معا بالفعل ، فيعاقبان معا ، لأنّ الطلب فعليّ في حقهما ، وإن قاما كلاهما بالفعل ، كانا ممتثلين للطلب ، وإن كان أحدهما يصح له ترك الفعل عند قيام الآخر به.

بل بناء على هذا ، يمكن الاستغناء في الكفائي وفي الواجب التخييري عن افتراض مصلحة ثالثة للترخيص هي مصلحة التسهيل والإرفاق ، على أنها ملاك برأسه يزاحم كلا الطلبين.

٢٦٣

بل نفترض أنّ كلا الطلبين التخييري والكفائي ناشئ من ملاك موجود فيه ، وليس إلزاميا ، وإن كان قريبا منه.

غايته أنّ تجمّع التفويتات قد تستبطن الاستهانة والاستخفاف بالمولى ، مما يوجب أذيّته ، فلا يرخص بترك أحدهما ، إلّا مشروطا بفعل الآخر.

وأمّا بناء على المسلك الصحيح والمشهور ، من أنّ الوجوب والاستحباب مجعولان للشارع ، فإنّ الطلبين المجعولين على المكلّفين بعد فرض كونهما وجوديّين ، فلا محالة يقع تناقض بين كونهما مطلقين لعدد المكلّفين ، إذن فلا يجوز الترخيص فيهما وبين الترخيص لبعضهم مشروطا إذن فلا يجوز الترخيص فيهما. إذن فلا بدّ من تضييق دائرة الوجوبات ، حيث يرجع إلى الصيغة الأولى.

أو فقل : إنّه بعد فرض كون الطلبين المجعولين على المكلّفين وجوديّين ، فإن كانا مطلقين ، فلا يعقل الترخيص فيهما ، وإن كانا مقيّدين ومشروطين ، فكذلك لا يعقل الترخيص فيهما ، إذن فيرجع إلى الصيغة الأولى.

ـ الصيغة الرابعة ، هي : أن يكون مرجع الوجوب الكفائي إلى المنع عن بعض أنحاء العدم ، فالمولى يمنع كل مكلّف عن بعض أنحاء العدم الجمعيّ ، أي : إنّه يمنعه أن يترك ، منضما في تركه إلى ترك الآخرين ، لا مطلق الترك ، فهنا أحكام ليس مرجعها إلى الأمر والنهي ، بل مرجعها إلى بعض حصص العدم.

وهذه صياغة تشريعيّة معقولة لإيجاب الفعل ، يعني : لو افترض ملاكات متعددة مزاحمة لمصلحة التسهيل والإرفاق ، أو إنها فيها قصور ذاتي ، فإنّه ـ بناء على مسلك المشهور ، من كون الوجوب والإلزام مجعولا مولويّا ـ حينئذ يصوغ المولى تشريعه بهذا النحو بحيث لا يرد عليه ، أنّه إن كانا مطلقين يلزم عدم الترخيص فيهما ، وإن كانا مقيّدين مشروطين فلا

٢٦٤

يجوز الترخيص فيهما أيضا ، بل المولى هنا يمنع عن الترك المنضم إلى ترك الآخرين ، وبذلك يحصل على مطلبه ، مع استيفاء كل خصوصيات الواجب الكفائي ، فإن فرض أن ترك أحدهما دون الآخر إذن فلا عقاب لأحدهما ، ولو فرض أن قاما معا أو أكثر من واحد بالفعل ، فلا عقاب كذلك بل يكون كل واحد منهم قد حقق الملاك وتجنب الحرام ، وإن فرض أنهما تركاه معا ، فيعاقبان ، لأنّ كلّا منهما أتى بترك منضم إلى ترك الآخر.

وهذا الإيجاب على الجميع بهذا النحو ، قد يعبّر عنه بصيغة الوجوب الكفائي ، وهو أحد الأساليب العرفيّة.

وبهذا يثبت أنّ الفرض الأول معقول ، ويدخل في نطاقه عدة صيغ معقولة ثبوتا.

وفي مقام فحصنا للفرض الثاني الذي كان يفسّر الوجوب الكفائي بأنه وجوب وتكليف لعموم المكلّفين ، بنحو العموم المجموعي ، بحيث يكون العموم موضوعا واحدا لخطاب الوجوب الكفائي ، يتراءى لنا فيه احتمالان :

١ ـ الاحتمال الأول ، هو : أن يكون المقصود منه مقايسة الوجوب الكفائي بمثل خطاب : «أيّها العشرة دحرجوا هذا الحجر» ، حيث يقال ، هنا أيضا ، يقال في الوجوب الكفائي : «أيّها العشرة ادفنوا الميت». فيتوجه الخطاب إلى مجموع المكلّفين.

أو فقل : إنّه كما يكلف مجموع العشرة برفع الحجر ، كذلك في الوجوب الكفائي ، يكلف العشرة بدفن الميّت.

إن كان هذا المعنى هو المقصود ، فيرد عليه أولا :

إنّه من الواضح أنّ خطاب «أيّها العشرة دحرجوا الحجر» ، ليس خطابا واحدا متعلقا بالمجموع ، بل هو تحريكات متعددة بعدد الأفراد ، بنحو العموم الاستغراقي ، فمتعلّق التكليف هو تعدد الطاقة ، وإيقاع الفعل من

٢٦٥

العشرة ينتج الدحرجة. وليس هذا من قبيل العام المجموعي في شيء ، غايته أنّه يعبّر عنه بهذا اللسان.

وبناء عليه ، يصبح من الواضح ، أنّه لا يمكن تفسير الوجوب الكفائي وتنظيره ، بمثل خطاب «أيّها العشرة دحرجوا الحجر» ، لأنّ الوجوب الكفائي لا يعقل صدوره من الجميع ، بحيث يكون لكل واحد حصة في هذا الواجب حتى لو تعقّلنا توجه التكليف إلى الجميع ، إذ فرق بين رفع الحجر ، وبين الصلاة على الميّت ، فإنّ الصلاة على الميّت عمل فرد واحد لا يساهم غيره فيها فضلا عن كون صلاة كل مكلف عليه غير صلاة الآخر عليه ، بينما رفع الحجر أو دحرجته ، تساهم طاقات متعددة فيها كي تكون دحرجة.

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو فرض إمكان اشتراك الجميع في الوجوب الكفائي ، فمع هذا إذا قام به واحد سقط عن الجميع ، ولا يشترط أن يأتي به الجميع ، وهذا لا ينسجم مع خصائص الوجوب الكفائي ، حيث يسقط التكليف عن الجميع إذا قام بالفعل واحد.

ومن هنا يتبيّن أنّ الوجوب الكفائي ـ بناء على هذا التنظير برفع الحجر ـ يرجع إلى وجوبات عديدة بالنسبة لكل مكلّف ، ويكون متعلق التكليف فيه هو المشاركة في رفع الحجر ، وليس رفع الحجر ، ولذلك يكون هناك امتثالات عديدة ، وعصيانات عديدة أيضا.

والخلاصة هي : إنّ تنظير الواجب الكفائي ، برفع الحجر أو دحرجته من قبل عشرة مكلّفين معا قياس مع الفارق ، وبالتالي فهو غير صحيح.

٢ ـ الاحتمال الثاني ، هو : أن يكون المراد من مجموع المكلّفين كأنهم مكلّف واحد ، بحيث تكون هذه الوحدة منشأ لوحدة اعتباريّة ، ويكون المكلّف جزءا من هذا المركّب الاعتباري ، فكما أنّ السجود ، والركوع ، والقيام ، والجلوس ، تشكل وحدة اعتبارية تكون منشأ للصلاة ، بينما كل واحد من هذه المفردات جزء من الواجب ، فكذلك في المقام ، فإنّ هذا المكلّف الكبير المركّب من عشرة مكلّفين ، هو المكلّف بالواجب الكفائي ،

٢٦٦

حينئذ فلو أنّ جزء هذا المكلّف الكبير الذي هو أحد المكلّفين ، قام بالفعل وامتثل ، لحصل الامتثال وسقط الواجب عن هذا المركب الاعتباري ، وهذا كما لو كان زيد هو المكلّف برفع الحجر فرفعه برجله ، أو يده اليمنى فقط ، فحينئذ لا يرد على هذا الاحتمال الإيرادان السابقان ، لأنّ ما يصدر من الكلّ يصدر من الجزء.

والخلاصة هي : إنّه إن كان المراد من مجموع المكلّفين في هذا الاحتمال كونهم مكلفا واحدا بالوحدة الاعتبارية ، بحيث يكون منه امتثال واحد ، وعصيان واحد ، فلو أنّ واحدا من هذا المجموع ، قام بالفعل ، فكأنّ هذا الفعل قد صدر من المجموع ، نظير المكلّف الذي قد يدحرج الحجر بيده فقط ، أو برجله فقط ، ومع هذا يكون ممتثلا ، فكذلك في الواجب الكفائي ، عند ما يكون المراد منه جعل التكليف على مجموع المكلّفين.

ولكن هذا الاحتمال غير صحيح في نفسه ، لأنّ التركيب الاعتباري ، إن كان يصحّ في متعلّق التكليف ، أي : المكلّف به ، كما في تعلّق التكليف بمجموع أجزاء الصلاة المركّب الاعتباري من السجود ، والركوع ، والقيام ، والجلوس ، حيث أنّ المطلوب إيجاد هذه المفردات وإيجاد المركب فيما إذا كان يمكن انقداح الدّاعي نحو هذا المركب ، قلت : إن كان يصحّ تعلّق التكليف في طرف متعلّقه ، فإنّه لا يصح تعلّقه بالمركب الاعتباري من مجموع المكلّفين ، لأنّ المركب الواحد الاعتباري من اثنين أو ثلاثة من المكلّفين ليس مكلّفا واحدا حقيقة ، بحيث يمكن زجره ، أو مثوبته ، أو عقوبته ، أو إشغال ذمته بالتكليف لعدم إمكان قدح الداعي في نفس هذا المركب الواحد الاعتباري من مجموع مكلّفين ، وإنّما المكلّف حقيقة إنما هو كل فرد فرد من هذا المركّب.

وعليه فلا يعقل تصور امتثال واحد ، أو عصيان واحد لهذا المجموع المركب ، إذن فهذا الاحتمال ساقط ، وبالتالي فهذا الفرض ساقط أيضا.

وفي مقام فحصنا للفرض الثالث الذي كان يفسر الوجوب الكفائي

٢٦٧

بكونه وجوبا متعلقا بالمكلّفين عامة على سبيل العموم البدلي ، أي : بأحدهم ، مقايسة بالعموم البدلي في طرف المتعلقات ، فكما يقال ، «أكرم عالما» ، فيجزي إكرام أحد العلماء ، كذلك هنا حينما يجب الدفن على المكلّفين ، فإنّه يكفي أن يقوم أحدهم به.

وتحقيق الحال فيه ، هو : إنّ العموم البدلي في طرف متعلقات الأمر ، يتصوّر على نحوين :

فإمّا أن تكون طبيعة العموم المتعلقة للأمر ، مقيّدة بقيد الأوّليّة ، كما لو كان «عالم» ـ في قولنا ، «أكرم عالما» ـ مقيّدا بالأوليّة ، كما لو قال : «أكرم أوّل عالم تشاهده».

والنحو الثاني هو : أن تكون طبيعة العموم المتعلقة للأمر مقيّدة بقيد الوحدة ، كما لو قال ، «أكرم عالما واحدا» حيث لا يجب إكرام اثنين.

وأمّا إذا لم يؤخذ قيد من قبيل الأوليّة أو الوحدة ، فسوف تكون طبيعة متعلق الأمر ، استغراقية ، كما هو الحال في «أكرم العالم».

وفي محل الكلام ، عندنا وجوب كفائي معلّق على المكلّف ، فإن لم يؤخذ فيه قيد زائد على طبيعته ، فيكون بحسب طبيعته استغراقيا ، لا محالة ، فينحلّ الحكم فيه إلى أحكام عديدة بعدد أفراد الموضوع.

وحينئذ إذا أريد من هذا العموم البدليّة ، فلا بدّ من تقييده بعناية مخصوصة كي يخرج عن طبيعته الاستغراقيّة.

وحينئذ نقول : إن كانت هذه العناية هي قيد «الأوليّة» وأنّ التكليف متعلّق بأوّل المكلّفين ، فهذا واضح الفساد ، ولا معنى معقولا له ، لأنّه على خلاف خصائص الوجوب الكفائي ، إذ فيه لا يفرّق بين المكلّف الأوّل ، والآخر ، بل هما فيه سواء.

وإن كانت هذه العناية هي قيد «الوحدة» ، أي : إنّ متعلّق الوجوب هو المكلّف ، بقيد «الوحدة» ، بمعنى أنّ المكلّف «أحدهم» ، نظير الوجوب

٢٦٨

التخييريّ الذي هو وجوب لأحد الفعلين على بعض المباني ، وعليه يتعين أن يكون العموم بدليا لا محالة ، وكذلك هي حقيقة الوجوب الكفائي.

فإنّ هذا غير تام أيضا ، وإن كان يتم في طرف متعلق الوجوب التخييريّ.

ووجه الفرق ، هو : إنّ الوجوب الكفائي المجعول على عنوان «أحد المكلّفين» يختلف عن الوجوب التخييريّ ، إذ إنّ إرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوب لأحد الفعلين معقول ، لأنّ المطلوب في طرف متعلقه ، أي : من المكلّف ، إنّما هو إيجاد الفعل خارجا ، بسبب جعل التكليف بأحد الفعلين داعيا نحوه ، وقدح الدّاعي نحو أحد الفعلين أو الأفعال معقول ، إذ يمكن إيجاد الفعل خارجا ، وبه يتم المطلوب.

وأمّا في جانب المكلّف ، وجعل أحد الإنسانين موضوعا للوجوب ، فهو غير معقول ، لأنّ الغرض من هذا الوجوب والتكليف ، هو إشغال ذمته بالتكليف ، بنحو يتحرك المكلف في الخارج نحو الامتثال.

ومن الواضح أنّ هذا الإشغال يتعلّق بنفس ما تعلّق به الوجوب ، وهو أحد المكلّفين.

وحينئذ إن أريد بتكليف أحد المكلّفين تشغيل ذمة وعهدة هذا العنوان الاعتباري ، دون أن تسري إلى الخارج ، لأنّ كل مكلف في الخارج سوف يتبرأ من هذا العنوان بحجة أنّه واقع أحد المكلّفين وليس عنوان أحد المكلفين.

إذا كان المراد من تكليف أحد المكلّفين هذا ، فهو لغو ، إذ ليس لهذا العنوان ذمة كي تنشغل بالتكليف.

ولو فرض أنّ هذا العنوان سرى إلى المعنون ، فأشغلت ذمة كل فرد من أفراد الخارجيين ، باعتبارهم مصاديق لهذا العنوان ، فهذا غير معقول أيضا ، لأنّه خلاف وحدة التكليف.

٢٦٩

وإن فرضت سراية هذا العنوان إلى أحد مصاديقه المعنونين بعينه ، فهو غير معقول أيضا ، لأنّه ترجيح بلا مرجح.

وإن فرضت سراية هذا العنوان إلى أحد مصاديقه المعنونين لا بعينه ، فأريد تشغيل ذمة أحدهم المردّد ، فهو مستحيل أيضا ، لاستحالة وجود الفرد المردّد ، فلا يعقل إذن تشغيل ذمته.

إذن فهذا الفرض غير تام ، ويبقى الإشكال مسجلا عليه.

نعم يمكن أن يقال : بأنّ التكليف من قبل المولى ، وجعل الفعل في عهدة العنوان ، يستوجب من العقل ، أن يحكم على كل واحد من المكلّفين ـ باعتباره قابلا لانطباق العنوان عليه ـ بلزوم التحرك ، وحفظ غرض المولى بمرتبة «ما» ، بحيث لا يجوز لهم الترك المطلق للواجب.

وهذه الدّعوى إن صحّت ، فيجب تصوير صيغة أخرى للوجوب الكفائي ، ولو على مستوى حكم العقل ، وحينئذ لا بدّ من القول : إنّ العقل يحكم بلزوم الفعل على هذا المكلّف بالخصوص ، وذاك بالخصوص ، مع إعمال عناية في طرف اللزوم ، أو المكلف ، أو غيرهما.

وهذا رجوع إلى بعض الوجوه المتقدمة في تفسير الواجب الكفائي ، لتشخيص من تشتغل عهدته بالتكليف ، ومعنى هذا عدم تماميّة هذا الفرض.

٤ ـ وأما الفرض الرابع. الذي كان يصور الواجب الكفائي بأنّه عبارة عن طلب مولوي وإيجاب للفعل من دون إضافته إلى مكلّف أصلا ، وإنّما له متعلّق وهو دفن الميّت. غاية الأمر أنّه حيث كان الطلب من قبل المولى ، وحاجة من حاجاته ، فيجب على عبيده ، بمقتضى عبوديتهم له ، تحقيق حاجته وإيجادها.

وهذا الافتراض معقول على مستوى مبادئ الحكم ، أي : عالم الحب والبغض ، إذ من المعقول أن يتعلق الحب والشوق بأمر في نفسه ، بقطع النظر عن صدوره من أيّ إنسان. ولكن هذا الافتراض غير معقول على

٢٧٠

مستوى عالم الجعل والباعثيّة وإشغال العهدة. إذ هنا عالمان :

١ ـ عالم الحب والبغض المسمّى بعالم مبادئ الوجوب : في هذا العالم لا بأس بأن يكون غرض المولى متمثلا في حبّه دفن الميّت ، من دون أن ينظر إلى المكلّفين. فلو أنّ غرابا وارى هذا الميت لحصل المحبوب ، لأنّه غير مشروط بدفن الإنسان له ، مضافا إلى أنّ المصلحة قائمة بذات الدفن دون أن يكون لصدور الدفن من مكلف دخل في المصلحة ، حيث لا يلزم أن يكون هناك من يجب عليه هذا الفعل ، وإن كان الحب من الصفات الإضافية التي تحتاج إلى متعلق «يحب». فهو مضايف مع المحبوب ، إذن فعدم وجود موضوع للوجوب الكفائي بحسب عالم الحب ، أمر معقول.

٢ ـ عالم الخطاب والباعثيّة والتحريك : فالأمر غير معقول ، لأنّ الباعثية مضايفة للمبعوث ، لا للمبعوث عنه ، إذ لا يتصور باعث بلا مبعوث ، ولو كان هناك مبعوث نحوه ، وكذلك إشغال العهدة فإنّه بغير ذي عهدة ، أمر غير معقول إذ لا بدّ من فرض ذي عهدة لكي تشتغل بذلك عهدته ، فاشتغال العهدة مضايف مع من تشتغل عهدته. إذن فلا يعقل في هذا العالم افتراض باعثيّة وتحريك من دون طرف هو المكلّف.

ومن هنا كان فرض الوجوب الكفائي بلا موضوع على مستوى الجعل والخطاب ، غير معقول. بل حتى لو تنازلنا عن ذلك فافترضنا ـ في أحسن الحالات ـ أنّ تعلّق التكليف بالفعل بلا مكلّف ، أمر معقول ، فكما قلنا في عالم الحب ومبادئ الحكم : إنّ هذا يكفي في إشغال العهدة بحكم العقل ، كذلك نقول هنا في عالم الخطاب والتحريك. أقول : حتى لو قلنا بذلك ، فإنّنا نحتاج إلى الرجوع إلى بعض التفاسير التي تقدمت في تفسير الوجوب الكفائي وكيفية اشتغال العهدة بشكل يتناسب مع خصائص الوجوب الكفائي التي ذكرناها. وعليه ، فهذا الفرض غير تام ، بعد أن عرفت الصحيح منه.

٢٧١
٢٧٢

الواجب الموسّع ، والمضيّق ، والموقت ،

قسّموا الواجب إلى : مؤقت وغير مؤقت ، وقسّموا المؤقت : إلى موسّع ومضيّق :

فالواجب المؤقت : هو الواجب الذي اشترط فيه ، أداؤه في وقت معيّن.

والواجب غير المؤقت : هو الذي لم يشترط في أدائه وقت دون وقت.

والواجب الموسّع : هو ما كان وقته أوسع من فرض الإتيان به بحيث يكون له أفراد طوليّة ، والواجب هو الجامع بين هذه الأفراد الطوليّة.

والواجب المضيّق ، هو ما ليس له إمكان فردين طوليّين ، أو قل : هو الذي حدّد وقته بمقداره كما يأتي بيانه.

وقد تعرّض هذا التقسيم لبعض الشّبهات ، وحيث أنّها شبهات لا تستحق التوقف عندها ، نتجاوزها كي ندخل في بحث ما هو المهم :

والمهم في بحثنا هو : مسألة ، ما إذا لم يمتثل الواجب المؤقت في وقته ، فهل يمكن إثبات وجوب امتثاله خارج الوقت ، بنفس دليل وجوبه ، أم إنّنا نحتاج إلى دليل آخر جديد؟ وهذا هو البحث المعروف ، بمسألة تبعيّة القضاء للأداء.

فمن قال : بأنّه يمكن إثبات وجوب امتثال الفعل خارج الوقت بنفس

٢٧٣

دليله الأول ، فهو إذن لا يحتاج إلى دليل خاص على القضاء ، بل يكون ذلك مقتضى القاعدة.

ومن قال : بعدم إثبات وجوب امتثاله خارج الوقت بنفس دليله الأول ، إذن فهو يحتاج لإثبات القضاء ، إلى دليل خاص.

وتحقيق الكلام في ذلك ، يقع في جهتين :

الجهة الأولى : نبحث فيها ، عن الأنحاء المتصوّرة ثبوتا في دليل التوقيت ، ومدى علاقة كل نحو بتبعيّة القضاء وعدمه.

الجهة الثانية : نبحث فيها عما هو الممكن من هذه الأنحاء إثباتا ووقوعا في الخارج.

والأنحاء المعقولة ثبوتا في دليل التوقيت في الجهة الأولى ، عديدة :

١ ـ النحو الأول ، هو : أن يكون دليل التوقيت لا بلسان التقييد ، بل بلسان جعل وجوب جديد ، وهذا الوجوب الجديد ، تارة يجعل على التقييد فيكون القيد واجبا نفسيا ، وأخرى يكون دليل التوقيت مقيدا لإثبات الوجوب على المقيّد لا على التقييد ، بحيث يكون هناك أمر بالجامع بالدليل الأول ، وبعده أمر بالحصة الخاصة ثابت بالدليل الثاني إذن ففي هذه الصورة يكون دليل التوقيت أجنبيّا عن التقييد ، بل مفاده جعل الأمر المستقل ، إمّا على التقييد ، وإمّا على المقيّد.

وفي مثل ذلك ، لا إشكال بإمكان الالتزام بالوجوب في خارج الوقت بنفس الدليل الأول ، لأنّ الثاني إذا لم يمتثل ، فلا موجب لسقوط الأول.

وإن شئت قلت : إذا دلّ دليل على وجوب فعل مطلقا ، ثم جاء دليل ثان يدل على وجوب آخر مستقل متعلّق ، إمّا بتقييد نفس الواجب الأول بوقت خاص ، وإمّا متعلق بالحصة الخاصة من ذلك الجامع ، أي : الواقع منه في ذلك الوقت المعيّن ، كما بنينا في بحث الإجزاء على معقوليّة تعدّد الأمر ، حيث يتعلّق أحدهما بالجامع ، ويتعلق الآخر بحصة منه.

٢٧٤

وحينئذ بناء على ذلك ، لا إشكال في وجوب الإتيان بالفعل خارج الوقت ، بنفس الدليل والخطاب الأول ، لأنّ غاية ما يقتضيه فوات الوقت ، هو فوات التكليف الثاني ، بينما يبقى التكليف الأول المتعلق بذات الفعل على حاله.

٢ ـ النحو الثاني ، هو : أن يكون دليل التوقيت لسانه لسان تقييد الوجوب المستفاد من الدليل الأول ، إلّا أنّه تقييد لبعض مراتب هذا الوجوب ، فكأنّ الوجوب المستفاد من الدليل الأول له مراتب ، فالمرتبة الشديدة تقيّد بالوقت ، بلسان الدليل الثاني ، وأمّا المرتبة الضعيفة من الوجوب ، فهي متعلّقة بطبيعي الوجوب ، وهذا هو معنى أنّ دليل التوقيت يكون تقييدا لبعض مراتب الوجوب.

فلو أمكن هذا الفرض ، تعيّن أيضا ثبوت القضاء بالدليل الأول ، لأنّه يكون عندنا من أول الأمر وجوبان : وجوب ضعيف متعلق بالجامع ، ووجوب شديد متعلق بالحصة ، غايته أنّ الضعيف استفيد من الأول ، والشديد استفيد من الثاني.

والفرق بين هذه الصورة ، والصورة الأولى ، هو : إنّه في الصورة الأولى ، استفيد وجوب الجامع من الدليل الأول ، ووجوب الحصة ، استفيد من الدليل الثاني.

وأمّا في هذا النحو ، فالوجوبان مستفادان من الدليل الأول ، ووظيفة الدليل الثاني في هذا النحو هي أن تقيّد ما هو معروض بعض مراتب الوجوب التي استفيدت من الدليل الأول فقط ، وليست وظيفة الدليل الثاني إنشاء الوجوب.

والخلاصة ، هي : إنّ دليل التوقيت في هذا النحو ، لم يرد بلسان الأمر بالتقييد أو بالمقيّد ، بل ورد بلسان تقييد الأمر في الدليل الأول الدّال على أصل الواجب. إلّا أنّه لا يقيّد أصل الوجوب فيه ، وإنّما يقيّد المرتبة الشديدة من ذلك الوجوب ، مع بقاء أصل الوجوب غير مقيّد بالوقت.

٢٧٥

وهذا يعني ، إنّ هناك وجوبان في داخل الوقت ـ ولو بنحو التأكيد ـ ثابتان بنفس الدليل الأول.

وبهذا يفترق هذا النحو عن سابقه ، ويكون أحدهما مقيدا دون الآخر.

ولا إشكال في هذا النحو أيضا ، من حيث بقاء الأمر بذات الفعل خارج الوقت ، بنفس دليل الواجب.

٣ ـ النحو الثالث ، هو : ان يفرض أنّ دليل التوقيت ، لسانه التقييد بلحاظ تمام المراتب ولو لم توجد مراتب ، ولكن هذا التقييد ليس تقييدا مطلقا ثابتا ، بل هو تقييد ، ما دام يمكن ذلك ، إذن لا يكون مطلقا حتى لحال العجز والتمكن ، بل هو تقييد ما دام يمكنه ، من قبيل القيود غير الركنيّة في الصلاة ، كالقيام حال التمكن ، وإلّا فيسقط ، أي : إن لم يمكنه القيام ، فقيديّة القيام ترتفع ، وإلّا لو بقيت حتى مع عدم التمكن ، لارتفع وجوب الصلاة لا محالة.

فهنا دليل التوقيت مفاده القيديّة للواجب بتمام مراتبه ، لكن القيدية ليست مطلقة ، بل ما دام في الوقت ، وحينئذ فلو لم يأت في الوقت ، فيرتفع التقييد.

ونتيجة ذلك : إنّ هذا المكلف ، حدوثا ، مأمور بأمر واحد وهو الصلاة في الوقت وهذا الأمر يسقط بالعصيان وذهاب الوقت ، ويحدث أمر جديد بالصلاة غير مقيّدة بالوقت ، وهذان الأمران متغايران ، وحينئذ ، يكون الوجوب الثاني أيضا ثابتا بالدليل الأول ، لأنّه كان يدل على وجوب الصلاة بلا قيد ، والدليل الثاني قيّد بالوقت ما دام ممكنا ، ثم سقط القيد ، إذن فيرجع إلى الأول ، وهو إطلاق «صلّ» ، فيثبت الواجب في خارج الوقت.

وبناء على هذا ، يثبت القضاء بنفس الدليل الأول أيضا.

أو فقل : إنه يفرض أن يكون دليل التوقيت ـ في هذا النحو ـ مقيدا للأمر الأول بتمام مراتبه ، ولكن لا يقيّده مطلقا ، بل في فرض إمكان الإتيان

٢٧٦

بالقيد ، فكأنّ الوقت فيه قيد غير ركني ، وإنما يتقيّد به الواجب مع القدرة عليه ، وأمّا مع العجز عنه ، فلا تقييد به.

وهذا يعني تعدّد الأمر أيضا ، وإنّ هناك أمرا بالمقيّد في حق القادر عليه ، وأمرا آخر بذات الفعل في حق من لم يأت بالمقيّد ، وهذا مقتضى إطلاق الدليل الأول لحال عدم الإتيان بالفعل المقيّد عند عدم التمكن منه ، إذ إنّ دليل التقييد لم يقيّد حالة عدم التمكن.

ومعنى هذا ، أنّ القضاء يثبت بنفس الدليل الأول.

٤ ـ النحو الرابع ، هو : أن يكون الدليل الثاني دالا على مقيّديّة الوقت بنحو الركنية في تمام الحالات وتمام المراتب بما فيها حالة التمكن والعجز ، فيكون الوقت قيدا ركنيا.

ومعنى هذا ، إنّه يوجد هنا وجوبا واحدا بالمقيّد ، أفيد بمجموع الدليلين ، وحينئذ ، فمقتضى القاعدة ، أن يسقط الأمر بخروج الوقت ، ومع سقوطه لا بدّ من أمر ودليل خاص لإثباته.

والخلاصة ، هي : أن يفترض كون دليل التوقيت مقيّدا لدليل الواجب بتمام مراتبه وحالاته ، وحينئذ يكون الوقت قيدا ركنيا.

ومعنى هذا أنّه يوجد وجوب واحد بالمقيّد ، أفيد بمجموع الدليلين ، وحينئذ مقتضى القاعدة ، أنّه إذا فرض انتهاء الوقت ، أن يسقط الأمر الأول ، ولا يمكن أن نثبت به القضاء ، ومع سقوطه ، لا بدّ من أمر جديد ودليل خاص لإثباته.

هذه أربع احتمالات وأنحاء ثبوتية لدليل التوقيت.

وها نحن الآن ، نريد أن نبحث في الجهة الثانية عمّا هو الممكن من هذه الأنحاء إثباتا ووقوعا في الخارج ، بحسب ظاهر الدليل ، الذي افترض فيه ، انفصال دليل التوقيت عن دليل الواجب ، حيث نبحث فيه إنّه : هل

٢٧٧

يمكن إثبات الوجوب خارج الوقت بإطلاق دليل الواجب أم أنه لا يمكن ذلك؟.

أما النحو الأول : فمنفيّ أو مفروض العدم على الأقل ، لأنّنا نتكلم في مورد ، بحيث لو كان القيد فيه غير الزمان ، لتعيّن فيه حمل المطلق على المقيّد بنكات نفترضها أصلا موضوعيا ، فيكون مورد تحقيقها المطلق والمقيّد ، وذلك كما لو قيل ، ـ بدلا ، عن «صلّ في النهار» ـ «صلّ إلى القبلة» ، فإنّه حينئذ يقال ـ أي : عند ما نفترض الكلام أنّه في مورد لو كان المأمور به غير الزمان ـ بأنّ العرف لا يرى فرقا بين الزمان وغيره من الخصوصيات ، فكما يستظهر التقييد من لسان «صلّ» متطهرا ، ولا يرى الأمر الثاني استقلاليا عن الجامع ، فكذلك هنا ، يستظهر من «صلّ» في النهار ، أنّه وارد مورد التقييد وجعل القيديّة للوقت.

فالنحو الأول ساقط من دون فرق ، بين أن يكون دليل التوقيت متصلا ، أو منفصلا.

وإن شئت قلت : إنّ النحو الأول خارج عمّا افترض من أنّ دليل التوقيت دال على كون الوقت قيدا للواجب ، كما هو الحال في جميع التقييدات التي يحمل فيها المطلق على المقيّد ، في حين إنّ ما افترض في هذا النحو هو خلاف ذلك ، إذ أفترض فيه دلالة دليل التوقيت على وجوب مستقل للواجب المؤقت من دون أن يتعرض إلى الوجوب الثابت للواجب المطلق ، إذن فهذا الاحتمال ساقط.

وأمّا النحو الثاني ، فهو وإن كان لسان دليل التوقيت فيه لبعض مراتب المطلوبيّة ، إلّا أنّه يمكن أن يقرّب إمكان التمسك بالدليل الأول لإثبات وجوب الفعل ولو بعد انتهاء الوقت ، حيث يقال :

بأنّ دليل التوقيت إن كان متصلا ، فهو يوجب هدم ظهور الدليل الأول في الإطلاق رأسا.

٢٧٨

وأمّا إذا كان دليل التوقيت منفصلا ، فقد يمكن التمسك بالدليل الأول لإثبات وجوب الفعل بعد انتهاء الوقت وذلك بشرطين :

١ ـ الشرط الأول ، هو : أن يكون الدليل الأول ـ أي : دليل الواجب ـ مطلقا ، حيث كون المولى في مقام البيان ، وقد تمّت مقدمات الحكمة وانعقد الإطلاق ، لا من قبيل الأدلّة المجملة أو المهملة ، أو من قبيل الأدلّة اللّبيّة القاصرة دلالتها على كون الفعل في الوقت ، وهو القدر المتيقّن من دلالتها.

٢ ـ الشرط الثاني : هو أن يكون دليل التوقيت ليس له نظر إلى تمام مراتب المطلوب في الدليل الأول ، بمعنى أن يكون دليل التوقيت دليلا على التوقيت ، لكن بنحو القضية المجملة أو المهملة التي لا إطلاق لها ، كما لو كان دليلا لفظيا ليس في مقام البيان لأصل المطلب ، أو دليلا لبّيا وليس للّبي إطلاق.

أو فقل الشرط الثاني : هو أن لا يكون لدليل التوقيت إطلاق وظهور في تقييد الدليل الأول بتمام مراتبه.

وحينئذ إذا تمّ هذا ، يمكن أن يخرّج النحو الثاني ، حيث يقال : بأنّ الدليل الأوّل يقتضي بإطلاقه ، إنّ وجوب الفعل بتمام مراتب الوجوب ، ليس منوطا بالوقت ، وليس للوقت دخل في الواجب بتمام مراتبه ، ودليل التوقيت باعتباره مجملا أو مهملا ، فالقدر المتيقن من دلالته هو كونه دخيلا في المراتب العالية من مدلول الدليل الأول ، أي : دليل الوجوب ، وحينئذ يتمسّك بالنسبة إلى سائر المراتب ، بإطلاق الدليل الأول ، ونرفع اليد عن القدر المتيقّن لدليل التوقيت ، فيثبت أنّ الوجوب بمرتبة «ما» متعلّق بالفعل على الإطلاق ، وهذا الوجوب ثابت حتى بعد خروج الوقت.

أو فقل : إنّ دليل التقييد باعتباره مجملا أو مهملا ، فالقدر المتيقّن من دلالته ، هو كونه مقيّدا للمرتبة العالية جدا من الوجوب الثابتة بالدليل

٢٧٩

الأول ، وليس مقيّدا لأصل مفاد الدليل الأول ، وحينئذ نتمسك بإطلاق الدليل الأول لإثبات أصل الوجوب في خارج الوقت.

وهذا التقريب لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّ دليل التوقيت لا يخلو وضعه من حالتين :

١ ـ الحالة الأولى هي : أن يفرض فيها أنّ دليل التوقيت غير ناظر إلى مفاد دليل الواجب أصلا ، بحيث نحتمل أن يكون تقييدا لدليل آخر.

وفي مثل ذلك ، لا بأس بأن يقال : إنّ الدليل الأول يبقى على إطلاقه ، حيث لا تقييد له أصلا ، ويكون الواجب الأول مطلقا ، بينما يكون دليل التقييد ، قيدا لوجوب آخر لا نعلمه ، وهذا رجوع إلى النحو الأول الذي عرفت سقوطه.

٢ ـ الحالة الثانية ، هي : أن يفرض فيها أنّ دليل التوقيت قد انعقد له ظهور عرفي في مفاد الدليل الأول ولو في الجملة فيقيّده.

وفي مثل ذلك لا يمكن التمسك بإطلاق الدليل الأول ، كي نثبت به أصل الوجوب في خارج الوقت ، بلحاظ بعض مراتب الوجوب ، كما ادّعي ، لأنه وإن فرض فيه الإطلاق إلّا أنّ معنى الإطلاق فيه إنّ الوجوب ثابت على كل حال ، وليس معناه إنّ الوجوب متعدد ذاتا أو مرتبة ، إذ إنّ الدليل لو خلّي ونفسه ، لا يثبت بلحاظ مدلوله التصديقي إلّا وجوبا واحدا للفعل ، دون أن يثبت إنّ له مراتب.

نعم يثبت أنّ الوجوب الواحد لا يختص بزمان دون زمان ، ولا بحصة دون حصة.

إذن فلا معنى للقول : إنّ التقييد يثبت بلحاظ بعض المراتب دون بعض ، لأنّ هذا فرع أن يثبت مراتب متعددة.

نعم قد توجد عناية خاصة في دليل التوقيت تثبت هذا ، لكن ليس هذا مقتضى طبع القضية.

٢٨٠