بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

١
٢

الأمر الثاني من أمور المقدمة في

(الوضع)

والكلام في (الوضع) يقع في أربع جهات :

١ ـ الجهة الأولى : في حقيقة (الوضع)

٢ ـ الجهة الثانية : في تشخيص الوضع

٣ ـ الجهة الثالثة : في الأقسام الممكنة (للوضع)

٤ ـ الجهة الرابعة : فيما هو واقع من هذه الأقسام

٣
٤

الجهة الأولى

في

حقيقة (الوضع)

٥
٦

الجهة الأولى

في تشخيص حقيقة (الوضع)

فممّا لا إشكال فيه ، ان اللفظ مع المعنى ، بينهما في ذهن الإنسان العالم بالوضع ، سببية حقيقية في عالم. الوجود الذهني ، بمعنى أنّ الوجود الذهني للّفظ في ذهن الإنسان العالم باللغة ، يكون سببا حقيقيا لوجود المعنى في ذهنه. فهناك سببية وملازمة حقيقية في عالم الوجود الذهني ، بين الوجود الذهني للّفظ ، والوجود الذهني للمعنى ، فمتى ما سمع الإنسان العالم باللغة كلمة (ماء) ، انتقش في ذهنه تصور معنى الماء ، وهو المسمّى بالدلالة التصورية.

فهذه الدلالة التصورية ، معناها بحسب الدقة الملازمة والسببية بين الوجود الذهني التصوري للّفظ ، وبين الوجود الذهني التصوري للمعنى.

كما أنه ممّا لا إشكال فيه ، أنّ هذه السببية القائمة حقيقة بين الوجودين الذهنيين للفظ والمعنى ، ليست سببية ذاتية ، بحيث لا تحتاج إلى جاعل ، وإلى سبب خارجي ؛ يعني إنّ اللفظ بذاته ، لا يكون سببا لانتقاش المعنى في ذهن السامع ، ما لم ينضم إليه أمر خارجي ، وإلّا لما اختلف الناس باختلاف علمهم بالوضع ، وجهلهم بالوضع ، فلو كان اللفظ بنفسه سببا لانتقاش المعنى في الذهن إذن لما اختلف العالم بالوضع (١) عن الجاهل بالوضع بشيء.

__________________

(١) محاضرات أصول الفقه ـ فياض ـ ج ١ ص ١ ـ ٤٢ ـ ٤٣.

٧

فإذا ضممنا هاتين القضيتين إحداهما إلى الأخرى ؛ وهي أن اللفظ سبب لوجود المعنى ذهنا ، ولتصوره في ذهن السامع ، والقضية الثانية ، وهي أن اللفظ بذاته لو خلّي وطبعه بدون أن ينضم إليه أمر خارجي ليس سببا ذاتيا لحضور المعنى وانتقاشه في الذهن ، يستنتج من ذلك ، أنه لا بد وأن يوجد أمر خارجي ، وهذا الأمر الخارجي بانضمامه إلى اللفظ ، هو الذي أوجب صيرورة اللفظ سببا للمعنى في عالم الذهن ، بحيث ينتقل الذهن من تصور اللفظ إلى تصور المعنى.

فمن هنا يقع الكلام في حقيقة هذا الأمر الخارجي ، ما هو هذا الأمر الخارجي ، الذي ببركته وبانضمامه حصل بين اللفظ والمعنى هذه السببية؟ :

هذا الأمر الخارجي نسميه (الوضع) ، وحينئذ نتكلم في حقيقة هذا الوضع ؛ ما ذا صنع الواضع بحيث جعل اللفظ سببا للمعنى ، هذه السببية بين اللفظ والمعنى في عالم الوجود الذهني ، كيف حصلت؟ وبأي نحو نشأت من الواضع؟ هذا هو معنى البحث عن حقيقة الوضع ، وفي هذا البحث يوجد ثلاثة مسالك :

١ ـ مسلك التعهّد.

٢ ـ مسلك الاعتبار.

٣ ـ مسلك الجعل الواقعي.

وسوف نتكلم في كل واحد من هذه المسالك مع مناقشته.

٨

المسلك الأول

١ ـ مسلك التعهد

وهو المسلك الذي اختاره السيد الأستاذ (١) ـ دام ظله ـ وجماعة من المحققين قبله ، وحاصل هذا المسلك هو : إن هذا الأمر الخارجي الذي نسميه بالوضع ، والذي ببركته وبسببه صار اللفظ سببا لانتقاش المعنى ، وللدلالة على المعنى ، هذا الوضع ، هو عبارة عن تعهد من قبل الإنسان اللغوي ، بأنه متى ما قصد تفهيم المعنى الفلاني ، أتى باللفظ الفلاني من أجل تفهيمه.

فالوضع : عبارة عن التعهد بقضية شرطية كلية ، شرطها ـ هو أنه متى ما قصد تفهيم معنى الماء ـ ، وجزاؤها ، أتى بلفظ الماء من أجل تفهيم ذلك ـ وهذا التعهد شيء معقول بنفسه ، لأنه تعهد بأمر اختياري لهذا الإنسان ، وكل إنسان من حقه أن يتعهد بما يكون أمرا اختياريا له ، فإذا تعهد الإنسان اللغوي ، بأنه متى ما قصد تفهيم المعنى ، أتى باللفظ الفلاني ـ لفظ الماء ـ نشأ ببركة هذا التعهد ، عهد ، من قبل هذا الشخص بالقضية الشرطية ، وبضم أصالة وفاء العقلاء بتعهداتهم ، تحصل هناك ملازمة بين اللفظ والمعنى ؛ بمعنى أنه متى ما قال ـ ماء ـ نقول ، إنّ هذا العاقل وفى بتعهده ، لأنّ الأصل في العاقل الوفاء بتعهده ، فما دام أنه تعهد بالإتيان بلفظ الماء لتفهيم المعنى الفلاني ، وما دام الأصل في العقلاء الوفاء بتعهداتهم ، إذن فنستكشف أنه بإتيانه بلفظ (الماء) أنه

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ـ فياض : ج ١ ص ٤٤.

٩

يقصد تفهيم المعنى الذي تعهد به ، وبذلك نفسر حصول السببية بين اللفظ والمعنى. إذن فالسببية بين اللفظ والمعنى في عالم الوجود الذهني ، حصلت ببركة هذه الملازمة التي نشأت من التعهد من قبل الإنسان اللغوي ، بالقضية الشرطية ، وضمّ إلى هذا التعهد أصالة وفاء العقلاء بتعهداتهم ، فحصل بذلك ملازمة نوعية طبعية بين اللفظ والمعنى.

فمتى ما أتى باللفظ يستكشف منه أنه قصد تفهيم المعنى الفلاني. هذا هو مبنى التعهد ومعنى المبنى الذي يفسر الوضع بالتعهد.

ويستخلص من هذا المبنى عدة أمور :

الأمر الأول :

إن الملازمة والدلالة قائمة بين طرفين ، وهما اللفظ وقصد تفهيم المعنى ، لأنّ هذين هما طرفا التعهد ـ الشرط والجزاء في القضية الشرطية ـ تعهد بأنه متى ما قصد تفهيم المعنى أتى باللفظ ، فيكون مدلول اللفظ هو قصد تفهيم المعنى لأنّ هذا هو طرف الملازمة.

الأمر الثاني :

وما نستخلصه ثانيا مترتبا على الأمر الأول ؛ إنّ الدلالة التي نشأت ببركة هذا التعهد ، دلالة تصديقية ، لا مجرد دلالة تصورية ، لأنّ هذا التعهد جعل ملازمة بين اللفظ وإرادة تفهيم المعنى ، فاللفظ يدلّ إذن على أنّ المتكلم قصد تفهيم المعنى ، وهذا هو معنى الدلالة التصديقية. فإنّ الدلالة على قسمين :

أ ـ دلالة تصورية : بمعنى انتقاش المعنى تصورا في ذهن السامع ، ولو سمعه من اصطكاك حجرين.

ب ـ دلالة تصديقية : وهي دلالة اللفظ على أن المتكلم قصد تفهيم هذا المعنى ، وإخطاره في ذهن السامع بناء على أن الوضع عبارة عن التعهد ، وأن

١٠

هذا التعهد تعهد بقضية شرطية ، وأن هذه القضية الشرطية يحصل ملازمة بين شرطها وجزائها.

بناء على هذا ، يكون طرف الملازمة قصد تفهيم المعنى ، لكي تكون الدلالة تصديقية لا تصورية بحتة ، وطبعا التصورية موجودة في ضمن التصديقية أيضا.

الأمر الثالث :

إن كل إنسان لغوي فهو واضع ، لأنّ الوضع إذا كان عبارة عن التعهد ، والتعهد لا يتعلق إلّا بما يقع تحت اختيار المتعهد ، وما يقع تحت اختيار المتعهد إنما هو استعماله هو ، لا استعمال الأشخاص الآخرين إلى يوم القيامة. إذن فهو يتعهد في حدود كلامه ، والآخر يتعهد في حدود كلامه ، وهكذا دواليك ، فكل إنسان لغوي ، هو متعهد ، يعني هو واضع ، غاية الأمر ، أن هذا واضع بالأصالة ، وهذا واضع بالمتابعة ، فالكل واضعون ، لكن واحد أصلي ، وآخر بالمتابعة والمتابع ليس أصيلا

هذا هو خلاصة توضيح مبنى التعهد ، ولنا حول هذا المبنى ثلاث كلمات :

الكلمة الأولى :

كان حاصل مبنى التعهد ، أن سببية اللفظ للمعنى في عالم الذهن ، نشأت من تعهد من قبل الواضع بقضية شرطية. وهذا التعهد بالقضية الشرطية أوجد ملازمة بين الشرط والجزاء ، بحيث أصبح أحدهما يدلّ على الآخر ، من باب دلالة أحد أطراف الملازمة على الطرف الآخر للملازمة ، والطرفان في هذه القضية الشرطية هما : الإتيان باللفظ ، وقصد تفهيم المعنى. ففي هذا أصبح الإتيان باللفظ دالا على قصد تفهيم المعنى ، من باب دلالة أحد المتلازمين على ملازمة.

ومن هنا تكون الدلالة الوضعية على مبنى التعهد ، هي الدلالة

١١

التصديقية ، بمعنى أن الوضع ينتج الدلالة التصديقية ، حيث أن المتعهد تعهد بالإتيان باللفظ متى ما قصد تفهيم المعنى ، فقد أوجد هذا التعهد ملازمة بين الشرط والجزاء في هذه القضية الشرطية.

وهذه القضية الشرطية تتصوّر على ثلاثة أنحاء :

النحول الأول :

أن يتعهد الواضع بأنه متى ما قصد تفهيم المعنى ، أتى باللفظ ، بحيث يكون الشرط في القضية الشرطية ، هو قصد تفهيم المعنى ، والجزاء فيها ، هو الإتيان باللفظ. هذا النحو مطابق مع ظاهر كلمات السيد الأستاذ ؛ إن كان التعهد منصبّا على قضية شرطية بهذا النحو من التعهد.

وبهذه الصيغة ، فمن الواضح أن هذا لا يحقق دلالة اللفظ على المعنى ، لأنّ هذا النحو من التعهد يستوجب أن الشرط يستلزم الجزاء ، لا أن الجزاء يستلزم الشرط. والشرط هنا هو قصد تفهيم المعنى ، والجزاء هو الإتيان باللفظ.

إذن فقصد تفهيم المعنى ، يستلزم الإتيان باللفظ ، إذن فيدل على اللفظ ، لكن ليس معنى هذا ، أن الإتيان باللفظ يدلّ على قصد تفهيم المعنى الذي هو المقصود في المقام. فإنّ المقصود في المقام بيان نكتة تستوجب دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى ، لا دلالة قصد تفهيم المعنى على اللفظ.

وهنا إذا فرضنا أن التعهد تعلق بقضية شرطية ، شرطها ، قصد تفهيم المعنى ، وجزاؤها ، هو الإتيان باللفظ ، ومن المعلوم أن كل قضية شرطية مقتضى طبعها أنّ شرطها يستلزم جزاءها ، وليس فيها اقتضاء لاستلزام جزائها لشرطها ؛ إذن فيكون الشرط دالّا على الجزاء ، لا أن الجزاء دالّ على الشرط ، إذن فما حصل بالتعهد ليس هو المطلوب ، وما هو المطلوب لا يحصل بهذا التعهد ، فما حصل بهذا التعهد ، هو دلالة قصد تفهيم المعنى على اللفظ ، وما هو المقصود بالتعهد ، دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى ، وأحدهما غير الآخر.

١٢

إذن فلا يمكن تصحيح هذه الدلالة الموجودة بالفعل للّفظ على المعنى ، بتعلق التعهد بهذه القضية الشرطية بهذا النحو.

النحو الثاني :

هو أن يقال بأنّ الواضع يتعهد بعكس النحو الأول من التعهد : فهو يتعهد بأنّه متى ما صدر على لسانه كلمة (ماء) فهو سوف يحدث في نفسه قصدا لتفهيم المعنى ، إذا كان الواضع يتعهد بقضية مثل هذه ، فحينئذ يكون الشرط هنا مستلزما للجزاء ، ودالّا عليه. فيثبت بذلك دلالة اللفظ على المعنى بالنحو المطلوب.

ويردّ عليه : إنه لو صدرت لفظة (ماء) سهوا من هذا الإنسان ، حينئذ نعلم أن هذا الإنسان سوف يحدث في نفسه قصدا لتفهيم المعنى.

إلّا أنّه من الواضح أنّ مثل هذه القضية الشرطية لا يتعهد بها عاقل ، فإنّ الإتيان باللفظ في عالم الاستعمال اللغوي ، هو في طول قصد تفهيم المعنى ، لا إنه متى ما أتى باللفظ أحدث حينئذ قصد تفهيم المعنى ، فالتعهد في مثل هذه القضية الشرطية غير محتمل في المقام ، وهذا النحو الثاني باطل أيضا.

النحو الثالث :

هو أن يتعهد الواضع بأنه لا ينطق بلفظة (أسد) إلّا حين يقصد فيها تفهيم معنى الحيوان المفترس ، فحينئذ يتعهد بأنه إذا لم يكن قاصدا لتفهيم معنى الحيوان المفترس لا يأتي بلفظة (أسد). هذا هو مفاد القضية الشرطية المتعهد بها ، حينئذ إذا انتفى الجزاء يعني إذا أتى بلفظ (أسد) فنستكشف من ذلك أنه قصد تفهيم المعنى ، أو أننا نستكشف من ذلك انتفاء الشرط ، يعني أنه قد قصد تفهيم المعنى ، هذا هو النحو الثالث المتصوّر.

وبعبارة أوضح ، إن الواضع يتعهد بأنه إذا لم يكن قاصدا لتفهيم المعنى ، لا يأتي باللفظ وحينئذ ، إذا أتى باللفظ نستكشف كذب الشرط ، يعني أنه قاصد لتفهيم المعنى. وهذا النحو ، نحو معقول بنفسه ، وعقلائي. كما أنه يحدث

١٣

الدلالة المطلوبة ، وهي دلالة اللفظ على المعنى.

وهذا النحو أيضا باطل : وذلك لأنّ التعهد بأنه متى ما لم يكن قاصدا لتفهيم المعنى فلا يأتي باللفظ ، أي : متى ما لم يكن قاصدا لتفهيم معنى الحيوان المفترس ، فلا يأتي بكلمة (أسد) ، هذا التعهد يستبطن التعهد بعدم الاستعمال المجازي ، أي : إنه لا يستعمل لفظة (أسد) مجازا في غير الحيوان المفترس ، لأنّ معنى التعهد بأنه لا يأتي بلفظة (أسد) أصلا إلّا إذا قصد تفهيم معنى الحيوان المفترس. وهذا يعني أنه يستلزم التعهد بعدم الاستعمال المجازي ، مع أنه من الواضح ، أن الواضع حتى حين الوضع ، هو بان على الاستعمال المجازي ؛ فإن الاستعمال المجازي باب من أبواب اللغة ، وليس الواضع حينما يضع لفظة (الأسد) للحيوان المفترس ، يأخذ على نفسه عهدا بأنه لا يستعمل لفظة (أسد) في الرجل الشجاع ، بل هو حتى حين وضعه للفظة (أسد) في الحيوان المفترس ، بان أو أنه يحتمل ، أنه سوف يستعمل لفظة (أسد) في المعنى المجازي.

ولا يتصور أن إنسانا عاقلا يتعهد بأنه لا يأتي بلفظة (أسد) إلّا إذا كان قاصدا لتفهيم معنى الحيوان المفترس ، إذن فالنحو الثالث غير معقول.

فهناك إذن بحسب التحليل لهذا التعهد ثلاث صيغ : وهذه الصيغ الثلاثة كلها إمّا غير معقولة ، وإمّا غير مفيدة :

فالصيغة الأولى : معقولة في نفسها ، ولكنها غير مفيدة ، فإنها لا تحقق دلالة اللفظ على المعنى ، وهي أن يتعهد بأنه متى ما قصد تفهيم المعنى أتى باللفظ ، فإن هذا لا يحقق دلالة اللفظ على المعنى ، لأنّ اللفظ جزاء ، والمعنى هو الشرط ، والجزاء لا يستلزم الشرط ، وإنما الشرط يستلزم الجزاء ، إذن فلا تحقق هذه الصيغة دلالة اللفظ على المعنى ، بل تحقق دلالة المعنى على اللفظ.

والصيغة الثانية : تحقق الدلالة ، بأن يتعهد بأنه متى ما أتى باللفظ أن

١٤

يحدث في نفسه قصد تفهيم المعنى ، فهذا اللفظ هو الشرط ، والمعنى هو الجزاء ؛ فاللفظ يستلزم المعنى ، لكن هذه الصيغة في نفسها غير عقلائية ، فإن إنسانا لا يتعهد بمثل هذا التعهد.

والصيغة الثالثة : وهي أن يتعهد ، بأنه متى ما كان غير قاصد لتفهيم المعنى لا يأتي باللفظ ، فإذا كذب الجزاء استكشف من ذلك كذب الشرط أيضا ، يعني قصد التفهيم ، وهذا نحو معقول في نفسه ، ويحقق الدلالة دلالة اللفظ على المعنى ، لكنه غير واقع خارجا ، وذلك لأنه يستلزم تعهدا ضمنيا من الواضع بعدم الاستعمال المجازي ، وهذه هي الشقوق الثلاثة.

تعديل الصيغة الثالثة والرد على هذا التعديل :

الكلمة الأولى التي أوردناها على مبنى التعهد ، تقدم توضيحها ، حيث تصورنا ثلاث صيغ لهذه القضية الشرطية التي يتعلق التعهد بها ، وكل واحدة من هذه الصيغ الثلاثة التي تصورنا تعلق التعهد بها ، هي : إمّا صيغة غير عقلائية في نفسها كالصيغة الثانية ، أو فيها محذور كالصيغة الثالثة ، أو لا تنتج الدلالة كالصيغة الأولى.

وقد يقال بأنه يمكن تصوير صيغة رابعة في المقام ، وهذه الصيغة الرابعة تكون تعديلا للصيغة الثالثة ، بحيث يندفع عنها الإشكال الذي أوردناه سابقا عليها ، فإنّ الصيغة الثالثة التي بيّناها سابقا هي : أن يتعهد الواضع بأنه لا يأتي باللفظ إلّا إذا قصد تفهيم المعنى ؛ يعني إنّ القضية الشرطية التي تعهد بها هي أنه متى ما لم يكن قاصدا تفهيم المعنى لا يأتي باللفظ ، فحينئذ إذا أتى باللفظ وكذب الجزاء ، استكشف من ذلك كذب الشرط. أي إنه قاصد لتفهيم المعنى. وقد أوردنا على هذه الصيغة أنها تستلزم التعهد الضمني بعدم الاستعمال المجازي ، لأنه إذا تعهد بأنه لا يأتي باللفظ إلّا إذا كان قاصدا لتفهيم المعنى ، إذن فهذا تعهد ضمنا بأن لا يستعمل لفظة (أسد) في الرجل الشجاع مثلا ، مع أن الواضع لا يتعهد بعدم الاستعمال المجازي ، بل قد يكون حين الوضع بانيا ولو احتمالا على الاستعمال المجازي ، فلا يعقل صدور مثل

١٥

هذا التعهد من واضع بان على الاستعمال المجازي ولو احتمالا.

هذا هو الإشكال الذي أوردناه على الصيغة الثالثة ، حينئذ قد يقال في مقام دفع هذا الإشكال ، بإجراء تعديل على الصيغة الثالثة ، واستخراج صيغة رابعة وحاصلها :

إن الواضع يتعهد بأن لا يأتي باللفظ إلّا إذا كان قاصدا لتفهيم المعنى الحقيقي ، ويستثنى من ذلك ما إذا أقام قرينة على غير ذلك ، رعاية للاستعمال المجازي ، فيصير المتعهّد به بحسب الحقيقة ، أنه لا يأتي باللفظ إلّا إذا قصد تفهيم المعنى الحقيقي ، أو قصد تفهيم المعنى المجازي ، مقرونا بالقرينة ، حيث أن الاستعمال المجازي يحتاج إلى القرينة ؛ فهو لا يأتي بلفظة (أسد) إلّا في إحدى حالتين : إمّا أن يقصد تفهيم الحيوان المفترس فيأتي بلفظة (أسد) ، أو يقصد تفهيم الرجل الشجاع منضما مع كلمة «يرمي» حينئذ يأتي بكلمة أسد. وفي غير هاتين الحالتين لا يأتي بكلمة (أسد).

فإذا تصورنا التعهد بهذا النحو ، حينئذ إذا صدر من المتكلم المتعهد كلمة (أسد) ، ولم يأت بقرينة ، فحينئذ يتعين أن يكون قاصدا للمعنى الحقيقي وهو الحيوان المفترس ، لأنه تعهد أن لا يأتي بلفظة (أسد) إلّا في إحدى حالتين : تفهيم المعنى الحقيقي ، أو حالة نصب القرينة ، والأمر الثاني غير موجود. فيتعين الأمر الأول ، وهو : أن يكون قاصدا لتفهيم المعنى الحقيقي ، وبهذا تحصل دلالة اللفظ التصديقية على المعنى. هذه هي الصيغة الرابعة.

الرد على التعديل :

أولا : إنّ هذه القرينة الضميمة ، سواء أريد بها خصوص القرينة المتصلة ، أو أريد بها مطلق القرينة الأعم ، من المتصلة والمنفصلة ، على كلا التقديرين ، لا يفي هذا المقدار من العناية في تصحيح هذا التعهد ، لوضوح أن المستعمل اللغوي قد يستعمل اللفظ في المعنى المجازي بلا قرينة أصلا ، لا متصلا ولا منفصلا ، فيما إذا تعلق له غرض بالإجمال والإبهام ؛ فإذا تعهد بأن لا يأتي بلفظة (أسد) إلّا في حالة قصد تفهيم الحيوان المفترس ، أو حالة

١٦

القرينة ، فإنّ هذا خلف بنائه ، ولو احتمال بأن يستعمل اللفظ في المعنى المجازي بلا قرينة من موارد الإجمال والإبهام ، إذن فهذا المقدار من العناية لا يكفي لدفع هذا الإشكال ما لم تكتب عنايات إضافية أكثر.

ثانيا : ما المراد من القرينة هنا؟ هل هو خصوص القرينة المتصلة. أو الأعم من المتصلة والمنفصلة؟.

فإن كان المراد خصوص القرينة المتصلة ، بحيث أن الواضع يتعهد بأن لا يأتي بلفظة (أسد) إلّا إذا أراد الحيوان المفترس ، أو أراد الرجل الشجاع ، وأتى بالقرينة المتصلة ؛ إذا كان هكذا ، فمن الواضح أن كثيرا ما يعتمد المتكلم على قرينة منفصلة ، فهذا التعهد بهذا النحو يصير تعهدا ضمنيا بإلغاء القرائن المنفصلة ، مع أن الإنسان اللغوي قد يعتمد على القرينة المنفصلة.

وإن أريد بالقرينة الأعم من المتصلة والمنفصلة ، بمعنى أن يقول ـ إن كلمة (أسد) أتعهد بأن لا آتي بها إلّا إذا أردت تفهيم الحيوان المفترس ، أو أردت بها الرجل الشجاع ، ولو مع نصب قرينة ، لكن بعد أسبوعين مثلا ـ إذا كان هكذا ، فحينئذ ، ففيما إذا صدر الاستعمال من المتكلم ، وشككنا في أنه ينصب قرينة منفصلة ، أو لا ينصب قرينة منفصلة ؛ معنى هذا أن اللفظ لم نحرز دلالته بالفعل على المعنى الموضوع له ، لأنّ دلالة لفظ (أسد) على الحيوان المفترس فرع اقتضاء التعهد لذلك ، والتعهد لا يقتضي كشف قصد تفهيم الحيوان المفترس إلّا في حالة عدم القرينة مطلقا ، لا متصلة ولا منفصلة ، إذن ففي مثل هذا الحال يشكّ في أن اللفظ هل له دلالة وضعية على المعنى الحقيقي ، أو ليس له دلالة وضعية على المعنى الحقيقي ، لأنّ الدلالة الوضعية للّفظ على المعنى الحقيقي ، إنما تحصل عند أصحاب التعهد ببركة التلازم الناشئ من التعهد ، وهذا التعهد إنما يجعل الملازمة بين اللفظ وبين قصد تفهيم المعنى الحقيقي ، فيما إذا لم تكن هناك قرينة ، ولو منفصلة.

إذا فمع الشك في وجود القرينة ، ولو متصلة ، يشك في وجود الدلالة الوضعية وعدم وجودها ، وحينئذ لا بد من التوقف ، مع أنه لا إشكال في حالة

١٧

احتمال القرينة المنفصلة بالبناء على عقد اللفظ على المعنى الموضوع له.

فإن قيل : إنه إذا شكّ في القرينة المنفصلة ، يجري أصالة عدم القرينة ، فإن أصالة عدم القرينة من الأصول العقلائية ، فإن العقلاء إذا شكوا في القرينة المنفصلة ، أجروا أصالة عدمها ، فإذا أجرينا أصالة عدم القرينة المنفصلة ، حينئذ نكون قد أحرزنا موضوع التعهد وموضوع الدلالة الوضعية ، وإذا تمّ بذلك الدلالة الوضعية ، حملنا اللفظ على معناه الحقيقي.

كان الجواب : إن أصالة عدم القرينة الذي هو أصل من الأصول العقلائية ، لا يجريه العقلاء من باب التعبد الصرف ، وإنما يجرون أصالة عدم القرينة المنفصلة ، من باب أن القرينة المنفصلة على خلاف ظهور اللفظ ، وعلى خلاف دلالة اللفظ. إذن فأصالة عدم القرينة المنفصلة حيث أنها أصل عقلائي ، والعقلاء ليس عندهم أصول تعبدية من قبيل الشارع ، بل هي أصول استظهارية ، إذن فأصالة عدم القرينة عند العقلاء ، إنما هو باعتبار أن القرينة المنفصلة يرونها أنها على خلاف ظهور اللفظ ، وعلى خلاف دلالة اللفظ ، ولهذا يقولون إنّ الأصل عدمها. إذن فهذا الأصل إنما يجري لو فرغ قبله عن دلالة اللفظ ، فكيف يمكن نشوء دلالة اللفظ من أصالة عدم القرينة؟! بل لا بدّ أن يفرض أنّ الدلالة الوضعية تامة في نفسها وفعلية ، حينئذ عند فعلية الدلالة الوضعية إذا شكّ في أنّ المتكلم هل ينصب قرينة ، أو لا ينصب على خلاف دلالة اللفظ ، يقال إنّ الأصل أنه لا ينصب قرينة ، لأنّ هذا خلاف الدلالة الوضعية للّفظ.

أمّا في محل الكلام : فدلالة اللفظ الوضعية هي أوّل الكلام ، لأنّ المفروض أنها منوطة بعدم القرينة ولو منفصلة ، إذن فهذه الصيغة الرابعة غير صحيحة ، والنكتة في عدم صحة الصيغة الرابعة هو هذا الذي أوضحناه ، من أن مرجع الصيغة الرابعة إلى أنّ الدلالة الوضعية للفظ على المعنى ، التي نشأت من التعهد ، مشروطة بعدم قيام القرينة ، ولو منفصلة.

إذن فمع الشك في قيام القرينة ولو منفصلا ، يشك في الدلالة الوضعية ، ومعه كيف يحمل اللفظ على المعنى الحقيقي ، ولا تجري أصالة عدم القرينة

١٨

لأنّ أصالة عدم القرينة فرع تمامية الدلالة الوضعية قبل ذلك؟.

أمّا إذا لم نحرز تمامية الدلالة الوضعية ، فلا تجري أصالة عدم القرينة ، لأنّ العقلاء إنما يتعبدون بأصالة عدم القرينة من باب أنها على خلاف دلالة اللفظ ، وهنا أصل دلالة اللفظ مشكوكة ، فكيف يتعبدون بأصالة عدم القرينة؟.

هذا هو الكلام في إبطال الصيغة الرابعة لمبنى التعهد ، وبها يبطل مبنى التعهد ، هذه هي كلمتنا الأولى.

الكلمة الثانية :

هي أنه لو قطعنا النظر عن الإشكال الأول ، الذي أبطلنا به مبنى التعهد ، وفرضنا أن واحدة من الصيغ الأربعة المتقدم ذكرها ، قد أصبحت معقولة في نفسها ، وأصبحت موجبة لما إدّعاه أصحاب التعهد من الدلالة التصديقية للّفظ على المعنى ، ومع هذا نقول : إنّ تفسير الوضع بالتعهد هذا أمر غير واقع بحسب الخارج ، وذلك لأنّ معنى تفسير الوضع بالتعهد ، يعني أن فهم المعنى من اللفظ عملية استدلالية ؛ لأنّ فهم المعنى من اللفظ يقوم على أساس ملازمة بين الجزاء والشرط في القضية الشرطية ، بحيث متى ما صدق الشرط صدق الجزاء ، وهذا استدلال وبرهنة بأحد طرفي الملازمة على الطرف الآخر من طرفي الملازمة.

فإذا رأينا إنسانا يأكل السّم ، نستدلّ بأنه سوف يموت. وهذا الاستدلال مبني على أساس هذه القاعدة ، وهي أنه متى ما كان شيء مستتبعا لشيء آخر ، وكان الشيء الآخر موجودا ، حينئذ فالشيء الأول يكون موجودا لا محالة ، فيصير فهم المعنى من اللفظ استدلالا مبنيا على هذه القاعدة.

ومن الواضح أن فهم المعنى من اللفظ مطلب يتحقق عند الطفل ، قبل أن ينشأ عنده أيّ مدرك على الاستدلال ، فالطفل بتكرار اللفظ عليه ، يحصل عنده فهم للمعنى من اللفظ في ذهنه ، وهذا الفهم للمعنى من اللفظ عنده ، يحصل لكثرة تكرار اللفظ ، وهذا سنخ فهم ، قبل أي قدرة في ذهن الطفل على

١٩

الاستدلال بأحد المتلازمين على الملازم الآخر.

ولم يستنتج استنتاجا أرسطيا بأن قال : ما دامت أمي تعهدت بأنها لا تأتي بكلمة (ماء) إلّا إذا أرادت المعنى الفلاني ، وما دامت أمي عاقلة ، والأصل في العاقل أن يفي بتعهداته ، وما دامت قد قالت كلمة (ماء) ، فلا بدّ أن تكون قد قصدت هذا المعنى.

وهذا الاستدلال كيف يمر على ذهن طفل! بل إن هذا لا يمر على ذهن الكبير ، فضلا عن الطفل.

إذن فبوجدان هذا الطفل يعرف : أن عملية فهم المعنى من اللفظ ، له سنخ ملاك سابق على الاستدلالات المنطقية ، وهذا الملاك السابق على الاستدلالات المنطقية ، لعلّه وحده كاف في تصوير الوضع بلا حاجة إلى الالتزام بهذا التعهد ، فما دام بنحو الإجمال ، وبنحو البرهان الإنّي ، نعرف إجمالا أنّ هناك ملاكا لانتقال من اللفظ إلى المعنى ، قبل أي استدلال أرسطي ، ببرهان أن الطفل يفهم المعنى.

إذن فلعلّ تلك النكتة التي هي ملاك الانتقال قبل كل استدلال برهاني ، لعلّها هي الوضع ، فلا بد من الكشف عن هذه النكتة ، وإجلاء هذا الملاك لنرى هل تكفي هذه النكتة أو لا تكفي؟ وسوف يتضح أنها وحدها كافية.

وبشكل آخر لكلمتنا الثانية نقول : إنّ القائلين بالتعهد يحاولون أن يفسروا انتقال ذهن السامع من اللفظ إلى المعنى ، بأنه مبني على أن السامع يعلم بتعهد الواضع المتكلم ، وهو أن يأتي باللفظ متى ما قصد تفهيم المعنى ، فهو تعهد بقضية شرطية ؛ وبسبب هذا يعلم السامع بأنه وجدت ملازمة ببركة هذه القضية الشرطية بين شرطها وجزائها ، فحينئذ إذا وجد أحد طرفي القضية الشرطية ، انتقل الذهن إلى الطرف الآخر ، فيكون انتقال ذهن السامع من اللفظ إلى المعنى بسبب اعتقاده بالملازمة بين الشرط والجزاء في القضية الشرطية الناشئ من علمه بالتعهد من قبل المتكلم.

٢٠