بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وهذا الكلام غير صحيح ، ويرد عليه.

أولا : إنّ دليل وجوب الحج لم يؤخذ في موضوعه القدرة الشرعية.

وثانيا : إنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر ، أخذ في موضوعه القدرة الشرعيّة.

وثالثا : لو سلّم أنّ دليل وجوب الحج ، قد أخذ في موضوعه القدرة الشرعيّة ، دون النذر ، لكن مجرّد عدم أخذ القدرة الشرعيّة في لسان الدليل ، لا يثبت كون القدرة عقليّة ، كما عرفت ، بل غاية ما ينتج ، هو أن نشك في أنّ ملاك وجوب الوفاء بالنذر ، هل هو مطلق حتى لحال العجز عن الفرد المزاحم ، أو إنّه ثابت في حال القدرة فقط؟.

وحينئذ لا بدّ من الرجوع إلى نكتة سابقة في مثل هذا المورد ، وهي إنّ أحد الدليلين لو كانت القدرة دخيلة فيه جزما ، بينما نحتمل أن تكون هذه القدرة دخيلة في الآخر ، فإنّه يقدّم ما كانت القدرة فيه محتملة الدخول في ملاكه ، على ما جزم بدخولها في ملاكه.

٢ ـ الوجه الثاني : لترجيح دليل وجوب الوفاء بالنذر ، هو أن يقال : بأنّ كلا من الدليلين مشروط بالقدرة الشرعيّة ، ورغم هذا يقدّم دليل وجوب الوفاء بالنذر لأسبقيّته زمانا على دليل وجوب الحج.

وهذا الكلام باطل مبنى وبناء :

أمّا مبنى : فلما عرفت من كونهما غير مشروطين بالقدرة الشرعيّة معا.

وأمّا بناء : فلأنّه لو سلّم بأنّهما مشروطين بالقدرة الشرعيّة ، فالأسبقيّة زمانا عبارة عن الأسبقيّة بلحاظ زمان الواجب والوجوب لا سبق الوجوب فقط بدعوى أنّ القدرة الشرعية المأخوذة في كل منهما تنصرف إلى ذلك.

بل الميزان في التقديم ، السبق بلحاظ زمان الواجب والوجوب كما تقدم تفصيله.

١٦١

وعليه ، فالصحيح تقديم دليل وجوب الحج على دليل وجوب الوفاء بالنذر ، لما عرفته سابقا.

وبذلك ينتهي بحث الترتب والتزاحم الحقيقي الذي هو خارج عن باب التعارض الحقيقي.

ولو لا أنّ قسما آخر من التزاحم هو بحسب الحقيقة من باب التعارض ـ وإن سمّاه المحقّق الخراساني «قده» بالتزاحم بين مقتضيات الأحكام وملاكاتها في مقام التأثير ـ لكنّا أكملنا البحث فيه ، لكنّه خلاف الغرض.

١٦٢

الأمر بشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه

هذا العنوان ظاهر في الفراغ عن الجواز مع عدم العلم بانتفاء الشرط.

وإنما الإشكال تسبّب من ناحية علم الأمر بالانتفاء.

ومن الواضح أنه ينبغي أن يحمل على أنّ ما يكون قد انتفى شرطه هو مرتبة من الأمر.

وما يتكلم عن جواز صدوره إنما هو مرتبة أخرى من الأمر ، وإلّا فمن الواضح إنّه لو كان المقصود «بالأمر» في العنوان مرتبة واحدة ، فإنّه من الواضح استحالة وقوع هذه المرتبة مع انتفاء الشرط واقعا ، سواء علم بالانتفاء ، أو ظنّ ، أو شكّ ، لأنّ المشروط تابع لواقع شرطه ، والمعلول ينتفي بانتفاء علته واقعا لا علما ، إذن فتلك المرتبة المنوطة بذلك الشرط المنتفي ، منتفية قطعا.

وأمّا ما يمكن أن يقع الكلام في «أنّه يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه» فهو مرتبة أخرى من الأمر.

إذن فالأحسن أن يقال في صياغة السؤال : هل يجوز جعل حكم على تقدير مع العلم بانتفاء ذلك التقدير؟.

فإنّه هنا ، حينئذ ، يكون ما انتفى شرطه هو «المجعول» وما نتساءل عن جوازه هو «الجعل» ، وجواز الجعل غير منوط بشرط.

١٦٣

إذن ، فينبغي أن يقال : بأنّ انتفاء شرط المجعول ، تارة يكون انتفاء ضروريا قهريا ، وتارة أخرى يكون انتفاء باختيار المكلّف.

أمّا الأول : من قبيل أن يقول الآمر : «إذا وجدت في مكانين في زمان واحد فتصدّق» ، فهنا الشرط منتف بالضرورة والقهر ، لامتناعه في نفسه ، كما في اجتماع الضدّين ، من دون فرق بين أن يكون انتفاء الشرط بسبب غير الجعل ، كما لو كان ممتنعا في نفسه ، كما في المثال ، أو كان انتفاؤه بسبب الجعل نفسه ، كما لو قال : «إذا لم يجعل عليك وجوب الصّدقة ، فتجب عليك الصّدقة».

فهنا ، الشرط في المجعول هو عدم الجعل ، وهذا الشرط منتف بنفس الجعل. إذن يستحيل فعليّة هذا المجعول ، لأنّه بنفس هذا الجعل ينتفي موضوع المجعول لانتفاء شرط جعله بنفس هذا الجعل.

وفي كلتا الحالتين ، يكون الجعل هذا مستهجنا عقلائيا ، حتى لو فرض إمكانه عقلا ، لأنّه بعث مشروط بشرط لا يتحقق ، بل هو مستهجن حتى لو فرض إمكان أن يكون الغرض في نفس الجعل ، فإنّ هذا ليس غرضا عقلائيا من الجعل.

وأما القسم الثاني ، وهو ما لو كان الانتفاء اختياريا :

فتارة يكون الانتفاء بنفس الجعل ، أي إنّ منشأ انتفاء الشرط هو نفس الجعل ، كما لو قال : «من أفطر في يوم رمضان على حرام متعمدا ، فعليه كفارة الجمع بين عتق رقبة ، وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينا» ، فإنّ هذا الجعل مستلزم لانتفاء شرط هذا الجعل خارجا ، إذ بسبب هذا الجعل امتنع الناس عن الإفطار ، خوفا من الكفارة ، فامتنع الشرط.

وتارة أخرى : يكون منشأ انتفاء الشرط غير ناحية الجعل ، بل يكون منشؤه هو نفسه ، بقطع النظر عن الجعل ، كما لو كان الشرط متأصلا رفضه في عمق الوجدان وطبع الإنسان ، فرفضه ثابت في طبع الإنسان بقطع النظر

١٦٤

عن الجعل ، كما لو قال : «من أكل العذرة فعليه كفارة» ، فهذا الشرط بنفسه على خلاف طبع الإنسان.

وحينئذ ، فإن كان سبب الانتفاء هو نفس الجعل كما في الافتراض الأول ، فإنّه لا إشكال في صحته ، إذ لا يخرج عن كونه محقّقا وطريقا إلى المقصود والغرض من الجعل.

وإن كان سبب الانتفاء اختياريا ، سببه غير ناحية الجعل ، فإنّه حينئذ لا يمكن أن يكون الجعل مرادا بإرادة ناشئة من ذاك الغرض الأصلي ، إذ إنّ ذاك الغرض الأصلي مؤمّن للمولى ، إذ من المعقول أن يكون هنا غرض في جعل باعث على تقدير ، وإن لم يتحقق هذا التقدير خارجا ، إذ إنّه مربوط بظروف المولى.

وإن شئت قلت في الثاني : إنّه كما إذا جعل الكفارة على شرط أكل العذرة ، فأنّ الشرط هنا بحسب طبعه منتف خارجا.

فالجعل ، وإن كان معقولا وجائزا في نفسه ، إلّا أنّه لا يمكن أن يكون كسائر الأوامر التي تكون بملاك الإرادة الغيرية والمقدميّة للمولى ، يقع في طريق امتثال المكلّف خارجا ، لأنّ ذلك مضمون في المقام بحسب طبع القضيّة ، إذ لا محالة يكون الجعل مرادا لغرض مترتب عليه ، من قبيل أن يتمكن المكلّف من التعبّد ، وقصد الامتثال الموجب لترتب الثواب عليه ، ونحو ذلك من الأغراض والمصالح التي تترتّب على الجعل.

١٦٥
١٦٦

تعلق الأمر بالطبيعة أو الأفراد

وتحقيق ذلك هو : إنّه لا بدّ من توضيح مقدمة بين يدي البحث ، حاصلها :

إنّ الأعراض على خمسة أقسام :

١ ـ القسم الأول ، الأعراض الذهنية : وهي التي يكون معروضها لا محالة ذهنيا ، لأنّ العرض الذهني لا يعرض إلّا على الذهن ، ويمثّلون لها بالمعقولات الثانوية في منطق الحكمة كالنوعيّة ، والفصليّة ، والجنسية ، ويطلق على هذا القسم ، العوارض الذهنية ، وظرف العروض فيها هو الذهن ، لأنّ المعروض هو صورة الكلّي في الذهن بما هو موجود فيه ، فالمعروض ذهني ، فالإنسان الذهني يتّصف بأنّه نوع لا الإنسان الخارجي.

٢ ـ القسم الثاني ، هو الأعراض الخارجية : وهي عكس الأول تماما ، وهي ما يكون عروضها والاتصاف بها كلاهما في الخارج ، من قبيل الحرارة بالنسبة إلى النار ، فإنّ ظرف العروض هو الخارج ، وظرف الاتصاف بها هو الخارج ، إذ الحرارة تعرض للنار في العالم الخارجي على النار الخارجية ، دون أن يكون لها وجود في الذهن ، ووصفها بأنّها حارة ، إنما هو بلحاظ النار الخارجية ، لا النار الذهنيّة.

٣ ـ القسم الثالث : وهو يختلف عن كلا القسمين ، وهو من قبيل ، الإمكان والامتناع ، والضرورة ، والاستلزامات ، كما في استلزام العلة للمعلول ونحو ذلك.

١٦٧

وقد أفاد مشهور الحكماء في ذلك حيث قالوا : بأنّ هذا النوع من الأعراض يكون الاتصاف به خارجيا ، إذ الإنسان الخارجي هو الممكن ، والنار الخارجيّة هي الملازمة للحرارة استلزام العلة لمعلولها ، أو العكس.

إذن هذا القسم ليس من قبيل القسم الأول ، وهو ليس من قبيل القسم الثاني ، حيث أنّ الإمكان ليس كالحرارة والبياض ، فإنّ الحرارة لها وجود في الخارج ، بينما الإمكان والملازمة ليس كذلك ، فإنّ عروضها يكون في الذهن وبالاعتبار ، بل لا يعقل ، بل يستحيل أن يكون عروضها في الخارج ، لأنّ ذلك يستلزم وجودها في الخارج وهو محال.

وبرهان ذلك لزوم التسلسل ، إذ لو كان الإمكان موجودا خارجيا ، ويعرض على الممكن الموجود الخارجي ، كان ذلك الوجود كوجود ، معروض له الإمكان أيضا ، ويلزم من هذا وجود ثالث في الخارج يعرض عليه الإمكان ، فيكون من ثم وجود رابع ، وهكذا يتسلسل.

والخلاصة هي : إنّ الإمكان والملازمة ليس لهما وجود في الخارج كالحرارة ، وإلّا لزم التسلسل فيهما.

وبهذا يتبرهن أيضا ، بأنّ الاستلزام لا يعقل وجوده في الخارج ، وهو مناف لكونه وجودا ذهنيا.

ومن هنا قال مشهور الحكماء : إنّ مثل هذه الأعراض يكون وجودها وعروضها في الذهن والاعتبار ، وبذلك تكون معقولات ثانوية عند الحكيم ، وهي ليست كذلك عند المنطقي (١).

ولذلك قالوا : بأنّها وسط بين القسمين الأوّلين.

ونحن قد أشرنا سابقا إلى عدم تعقّل هذا المطلب ، إذ لا يعقل أن يكون عالم العروض غير عالم الاتصاف ، أي : ظرف العرض غير ظرف

__________________

(١) منظومة السّبزواري في المنطق والحكمة : ص ٣٩ ـ ٤٠.

١٦٨

المعروض ، كما بينّا أنّ الاستلزام والإمكان إذا لم يكن موجودا في الخارج ، فلا يمكن أن نقول : إنّ قوامه العقل ، إذ من الواضح أنّ قضيّة «أنّ العلة تستلزم المعلول» لا تتوقف على وجود العقل ، بل حتى لو لم يكن هناك عقل في العالم ، فهذه القضايا صادقة.

ومن هنا قلنا : بأنّ الإمكان والاستلزام هي أمور خارجية ، وظرف الاتصاف فيها هو الخارج ، لكنّها خارجيّة بنفسها ، لا بوجودها.

وتوضيحه ، هو : إنّ هناك وعاء اسمه الخارج ، ومعناه ، أنّ كل مطلب لا يكون للاعتبار دخل في حقّانيته فهو خارج.

وهذه القضايا التي لا يكون للاعتبار دخل في حقّانيتها هي على قسمين :

القسم الأول : أن تكون حقانيّتها بالوجود ، لا بذاتها ، كالإنسان.

القسم الثاني : هو كون خارجيّة بعض القضايا بنفسها ، لا بوجودها ، كالإمكان والاستلزام ، فهي قضايا خارجيّة ، لأنّه من الحق أنّ العلّة تستلزم المعلول ، بقطع النظر عن الاعتبار ، ومن الحق استحالة اجتماع النقيضين ، فإنّها ماهيّة بنفسها حقّة ، دون إضافة شيء لها ، لا كماهيّة الإنسان بما هي ماهيّة الإنسان ، إذ هذه الماهيّة يلبسها ثوب الوجود ، فتصبح حقّة. إذن فوعاء الخارج أوسع من وعاء الوجود.

والقسم الثالث من العوارض : هو من وعاء الخارج الذي يكون خارجا بنفسه.

ويرد على مختار مشهور الحكماء ، من التفكيك بين القسم الثالث ، والقسمين الأوّلين ، يرد عليهم إيرادان :

١ ـ الأول : هو إنّ التفكيك بين ظرف العروض ، وظرف الاتصاف ، أمر غير معقول ، ذلك لأنّ الاتصاف إنما يكون بلحاظ العروض ، وحينئذ

١٦٩

يستحيل أن يكون ظرفه غير ظرف العروض ، حيث يكون ظرف الاتصاف في عالم ، والعروض في عالم آخر.

٢ ـ الثاني : هو إنّ الإمكان والاستلزام ، والشيئيّة ، من المعقولات الثانوية ، فما ذا تقصدون من كونها أمورا ذهنية؟ هل تقصدون إنّها بمعنى الاعتبارات الذهنيّة التي لا واقع لها إلّا اعتبار المعتبر ، باعتبار أنّه بالضرورة. إنّه فرق بين قولنا : الإنسان ممكن ، والإنسان طويل يصل إلى القمر؟ بمعنى أنّ القضية الأولى صادقة ، وجد إنسان ، أو لم يوجد إنسان ، والقضيّة الثانية كاذبة ، وجد أو لم يوجد إنسان.

فإن كان المقصود إنّ هذه الأعراض هي اعتبارية محضة ، حيث لا حقيقة لها وراء الاعتبار ، كما في «الإنسان طويل يصل إلى القمر» ، فهذا واضح الفساد ، لبداهة أنّ مثل قضيّة «الإنسان ممكن» ، تختلف عن قضيّة ، «الإنسان طويل يصل إلى القمر» ، إذ إنّ العقل يدرك صدق القضية الأولى وواقعيّتها ، بقطع النظر عن وجود عقل ومعتبر.

وإن كان المراد من هذه المعقولات الثانوية ، أنّها حالة عقلية معيّنة بالضرورة ينساق إليها الإنسان اضطرارا؟ حينئذ هذا يكون نحو فرق بينهما؟

فإنه يقال حينئذ : بأنّ هذا الانسياق ، إمّا أن يكون باعتبار نكتة قائمة بالتركيب الفسلجي لذات الإنسان ، أو باعتبار نكتة خارجة عن ذات المفكر.

فإن كان الأول ، فهو أيضا خلاف الضرورة والوجدان ، بل الضرورة قائمة على الفرق بين القضيتين بغض النظر عن وجود إنسان ، فمساوي المساوي مساو ، والنقيضان لا يجتمعان ، وجد أو لم يوجد مدرك في العالم.

إذن فكذب النكتة راجع إلينا على خلاف الضرورة.

إذن فقد انحصر الاختلاف بينهما في أنّه يرجع إلى نكتة خارجية عنّا ،

١٧٠

فمتى تتصوّر الإنسان ، تتصوّر فيه نكتة لها الإمكان ، وهكذا في اجتماع النقيضين ، إذن فتكون النكتة خارجة.

وعليه فالصحيح أن نعترف لهذه المحمولات والعوارض في القسم الثالث ، بأنّها أمور خارجيّة بنفسها ، لا بوجودها ، فهي كالأعدام خارجيّة بنفسها. بمعنى أنّ الأعدام والعدم واقعي بنفسه ، وليس معناه ، أنّ وجوده خارجا بمعنى أنّه موجود خارجا ، فتكون خارجيته بوجوده ، ليس هكذا ، لأنّ العدم أفقه أوسع من أفق الوجود ، وهو لا يتقبّل الوجود.

وهذا المسلك هو الذي يمكن أن يوصل إلى بطلان مقالة من يحصر الخارج بالمادة وظواهر المادة ، إذ إنّ مدّعي هذا الحصر ، لا يمكنه أن يفسّر هذه العوارض ، إذ من الضروري صدق ، أنّ المساوي للمساوي مساو ، فهو أمر حقيقي صادق بقطع النظر عن وجود أيّة مادة أصلا ، لأنّها قضيّة خارجية ، لا ماديّة ، ولا قائمة بمادة.

وهذا معناه ، أنّ الواقعيّة والخارجيّة أوسع من المادية ، فلوح الواقع أوسع من لوح الوجود.

وقد نقل عن المحقّق نصير الدين الطوسى «قده» (١) اقتراحا لحل هذه المشكلة ، وهو التسليم بأنّ المحمولات والعوارض في القسم الثالث ، أمور خارجيّة ، لكن هي عوارض للعقل الأول قائمة فيه ، لا ذهنيّة ، لكي يقال : إنّها إذا كانت ذهنية ، والذهن يخلقها ، فكيف تكون صحيحة حتى مع فرض عدم الذهن؟.

وهذا الحل أيضا غير صحيح ، لأنّ هذه القضايا مطلقة ثابتة حتى مع عدم وجود العقل الأول ، إذ النقيضان لا يجتمعان قضية مطلقة ثابتة حتى لو لم يوجد عقل أول.

__________________

(١) الأسفار الأربعة ـ الشيرازي : ج ١ ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

١٧١

إذن فلا محيص عن الالتزام بلوح الواقع ، وكون هذا اللوح أوسع من لوح الوجود ، فضلا عن لوح المادة التي هي قطّاع من قطّاعات لوح الوجود.

وإن شئت قلت : إنه يرد على تفكيك مشهور الحكماء بين القسم الثالث ، والقسمين الأوّلين ، يرد إيرادان :

الإيراد الأول ، هو : إنّ التفكيك بين ظرف العروض وظرف الاتصاف ، أمر لا نتعقّله ، لأنّ الاتصاف إنّما يكون بلحاظ العروض ، إذن فيستحيل أن يكون ظرفه غير ظرف العروض.

الإيراد الثاني ، هو : إنّ هذه الأعراض إذا كان مرادهم من كونها اعتباريّة إنّها اعتباريّة ذهنية محضة كاعتبار «رجل طويل يصل إلى القمر» ، بحيث أنّه لا حقيقة لها وراء الاعتبار ، فإنّ هذا واضح الفساد ، بداهة أنّ قضيّة «الإنسان ممكن» تختلف عن قضيّة. «رجل طويل يصل إلى القمر». إذ إنّ العقل يدرك صدق القضيّة الأولى وواقعيّتها ، بقطع النظر عن وجود عقل ومعتبر ، بل حتى لو لم يوجد إنسان ، ويدرك كذب الثانية حتى لو لم يوجد إنسان.

وإن كان مرادهم ، إنها حالة عقلية معيّنة بالضرورة ، بحيث أنّ الإنسان ينساق ويضطر إلى أن يعتبر هذه الأعراض ، منذ ما يلاحظ معروضاتها ، ولكن ليست كالأمور الاعتباريّة المحضة ، حينئذ يكون هذا نحو فرق بينهما.

وحينئذ يقال : بأنّ هذا الانسياق إمّا أن يكون باعتبار نكتة فسلجيّة قائمة في ذات الإنسان ، تضطرّه أن ينساق إلى هذه المعاني ، من دون أن يكون هذا مرتبطا بالواقع الموضوعي في الخارج ، بل هي مرتبطة بنكتة فسلجيّة قائمة في ذهن المفكر نفسه ، كما ذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة المحدثين. إن كان ذلك كذلك ، فهذا أيضا خلاف الضرورة والوجدان ، بل الضرورة قاضية بأنّ قضيّة «الإنسان ممكن» ، وأنّ قضيّة «مساوي المساوي مساو» ، قضيّة صادقة حتى لو لم يوجد إنسان أو فكر ، إذ العقل يدرك

١٧٢

استحالة اجتماع النقيضين ، وجد أو لم يوجد مدرك في العالم.

وإن كان مرادهم من اعتبارية هذه القضايا أنّ الذهن ينساق إليها بسبب نكتة قائمة في الموضوع نفسه ، أي : نفس القضيّة المفكّر فيها ، وليس في الفكر وفسلجته الذاتيّة ، إذن فقد انحصر الاختلاف بين القضيتين ، في أنّه يرجع إلى نكتة خارجيّة عنّا فتلك النكتة لا بدّ أن تكون هي النكتة الواقعيّة والثابتة في لوح الواقع بنفسها وذاتها ، وإنّ خارجيتها وواقعيتها بالذات لا بالوجود ، كما في اجتماع النقيضين ، والأعدام ، فإنّها خارجية وواقعيّة بنفسها لا بوجودها ، بل لا يمكن أن تكون خارجية بوجودها ، وهذا أحد المسالك لإبطال مقالة من يحصر الخارج بالمادة وظواهر المادة (١) ، إذ لا يمكنه أن يفسر لنا هذه العوارض حيث أنه من الضروري صدق قضيّة «أنّ مساوي المساوي مساو» بقطع النظر عن وجود أيّة مادة ، إذ إنّها قضيّة خارجية ، لا مادية ، ولا قائمة بمادة.

وقد عرفت بأنّ هذا معناه ، أنّ الواقعيّة والخارجية أوسع من المادية ، إذ لوح الواقع أوسع من لوح الوجود ، وكذلك عرفت بطلان مقالة المحقق الطوسي «قده» في دفع هذا الإشكال ، من نقل القضيّة من الذهن بالمعنى المتقدم ، إلى معنى آخر سمّاه بالعقل الأول ـ أي : الواجب ، وأنّ هذه الأعراض ثبوتها وعروضها إنما تكون في العقل الأول ، فهي ثابتة بثبوته ، وليس بوجود موضوعها في الخارج.

وقد عرفت أنّ هذه الأعراض ثابتة وواقعيّة حتى لو لم يكن هناك وجود للعقل الأول والواجب ، بل حتى المنكر لوجود الواجب يتقبّل صدق هذه القضايا ، إذ صدق استحالة اجتماع النّقيضين قضية ثابتة وحقة حتى في عالم يفترض فيه عدم وجود واجب الوجود ، ولو محالا.

__________________

(١) مقالة في التفكير الإنساني ـ جون لوك ـ فيلسوف إنكليزي ـ والمادية والمثالية في الفلسفة ـ جورج بوليتزير : ص ٧١ ـ ٧٢ ـ ٧٥ ـ وحول التطبيق ـ ماوتسي تونغ : ص ١١ ـ ١٤.

١٧٣

وعقلنا عند ما يدرك صدق هذه القضايا ، إنّما يدرك صدقها وثبوتها دون أن يعوّل في ذلك على وجود العقل الأول بوجه من الوجوه.

إذن فلا محيص عن الالتزام بأنّ هذه الأعراض والمعاني ، إنما هي أمور من لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود ، فضلا عن لوح المادة التي هي أحد قطاعات لوح الوجود.

٤ ـ القسم الرابع : العوارض الذهنيّة ، ذات الإضافة إلى شيء في الخارج ، كحبّ علي وبغض معاوية وهي كالمعقولات الثانوية في المنطق ، فهي كالقسم الأول منها ، كما عرفتها ، في كونها من عوارض النفس والصورة الذهنيّة ، ولكنها تختلف عنها في أنّ تلك العوارض تعرض على الصورة بما هي صورة ومفهوم ، فتصوّر الإنسان بما هو تصوّر ومفهوم ، يكون كليا أي : بما هو هو.

بينما هذه العوارض هنا تعرضها بما هي مرآة وفانية في الخارج ، ولذلك يكون الوجود الخارجي معروضا بالعرض لها ، ومعروضها الحقيقي والذاتي إنّما هو نفس الصورة الذهنية ، فالصورة الذهنية بالحمل الشائع هي المعروض أولا وبالذات ، وهي بالحمل الأولي معروض بالعرض ، فالعلم ، والحب ، والبغض ، وغيرها ، عوارض قائمة بالنفس وعالمها ، فهي من أقسام الكيف النفساني ، ومعروضها بالذات أيضا هو أمر قائم في عالم النفس ، وهو الصورة الذهنية القائمة في النفس ، وليس معروضها الأمر الخارجي وجدانا وبرهانا :

أمّا الوجدان : فلوضوح ثبوت هذه العوارض أحيانا في موارد لا يكون في الخارج شيء معروض لها أصلا ، كحب زيد ، مع أنّه لا وجود لزيد في الخارج ، أو كالاعتقاد بإمامة زيد وليست لزيد إمامة في الخارج ، وإنّما كان المحب أو المعتقد يتوهّم وجود زيد ، ويتوهم إمامته ، فلو كان المتعلق الحقيقي هو الخارج كما هو المدّعى ، فلا خارج هنا في المقام.

١٧٤

وأمّا البرهان ، فهو لأنّ هذه الصفات ذات إضافة ، فهي لا يمكن أن نتصور في تمام مراتب ثبوتها حتى في مرتبة ذاتها ، أن تنفكّ الإضافة هذه عن طرفها الذي هو المضاف إليه ، بل لا بدّ أن يكون المضاف إليه ثابتا حتى في مرتبة ذاته الكائنة في الذهن والنفس.

فالعلم لا تكمل حقيقته حتى يكون له معلوم ، وهكذا الحب ، والبغض.

وهذا معناه ، إنّ الطرف المضاف إليه الحب وغيره ، يجب أن يكون ثابتا في رتبة ذاته ، وأفق وجوده ، إذ معروض الحب وغيره ، صفة قائمة في نفس أفق وجودها ، وهو الذهن.

لكن هذه الصورة الذهنيّة المعروضة تختلف عن الصورة الذهنيّة التي هي معروض الكليّة والنوعية في القسم الأول إذ إنّه في القسم الأول تعرض الكلية والنوعية الصورة الذهنية للإنسان ، لا بما هي فانية في الخارج ، بل بما هي هي.

وأمّا هنا في المقام ، فالحب يعرض للصورة الذهنية التي ترى فانية في الخارج ، وحاكية عنه ، وترى أنّها عين الخارج بالنظر التصوري ، وإن كانت بالنظر التّصديقي ترى غير الخارج.

ويترتب على ذلك ، أنّ الحب له معروضان : معروض بالذات : وهو الصورة الذهنيّة ، ومعروض بالعرض : وهو الموجود الخارجي ، وهو الذي انتزعنا منه الصورة الذهنية ، وهذا بخلاف الكليّة والنوعيّة ، فإنّها ليس لها معروض بالعرض.

وبهذا البرهان ، تثبت أيضا وحدة المتعلّق والمتعلّق ، وأنّ الصورة الحبيّة هي نفس الحب كما مرّ آنفا.

٥ ـ القسم الخامس : هو الأعراض الذهنيّة ذات الإضافة إلى صورة كليّة وطبيعية ، لا إلى موجود خارجي ، ومثاله تعلّق الطلب ـ لكن لا بما هو

١٧٥

إنشاء واعتبار ـ بل بروحه وملاكه الذي هو الحب في الأوامر ، والبغض في النواهي ، إذ إنّ الطلب يتعلّق بالمفهوم كما في القسم الأول والرابع ، ولكنّه يختلف عن كل منهما في شيء ، فيختلف عن الأول ، في أنّه يتعلق بالمفهوم بما هو مرآة ، لا بما هو هو ، ويختلف عن الرابع في أنه ليس له معروض بالعرض ، بل له معروض بالذات وهو نفس المفهوم الكلي ، وإنّما لا يعقل أن يكون له معروض بالعرض ، لأنّ وجود المعروض بالعرض مساوق مع التشخّص ، وحيث أنّ الوجود مساوق للتشخص ، إذن يكون تعلق الأمر به ، تعلقا بالموجود المتشخص ، إذن فتعلق الأمر به تحصيل للحاصل.

والحاصل ، هو : إنّ الصورة الذهنية النفسانية بالذات هي معروضة الطلب في هذا القسم بما هي مرآة ، لا بما هي فانية في الخارج ، لأن الصورة الذهنيّة للماء لا تدفع عطشا ، فلا تطلب بما هي هي ، وإنما الطلب يتعلق بالصورة الذهنية باعتبار أنها بالنظر التصوري هي عين الخارج ، لكن هي بالنظر التصديقي مغايرة للخارج :

فهو يشترك مع القسم الرابع في الإفناء والمرآتيّة ، ولكن في القسم الرابع كان له معروض بالعرض مطابقا للمعروض بالذات ، بينما هنا في الخامس الصورة الذهنية كالحب مثلا ، ليس له مطابق في الخارج ، بل الموجود في الخارج هو مصداق للمعروض بالعرض ، فالطلب ليس له معروض بالعرض ، فإنّ صرف الوجود لا مطابق له ، وإنما الخارج مصداق لمحكيّيه.

وبناء على هذا تندفع عويصة في تصوير الطلب حاصلها : إنّه إن كان موضوع الطلب أمرا خارجيا ، فظرف عروضه وفعليته في طول ظرف تحقق الأمر وعروضيته وخارجيّته ، وفي هذا الظرف يكون الطلب تحصيلا للحاصل ، إذ لا معنى حينئذ لعروض الطلب عليه.

وإن كان موضوع الطلب أمرا غير خارجي ، فلا يمكن طلب عير الخارجي ، لأنّ المولى يتوخّى من طلبه نتيجة تقع في الخارج.

١٧٦

أو فقل : إنّ الطلب إذا كان متعلقا بالمفهوم ، بما هو هو ، فهذا أمر لا يستفيد منه المولى شيئا ، إذ المفهوم بما هو هو ليس إلّا هو ، فهو موجود في ذهن المولى فقط.

وإذا كان الطلب متعلقا بالموجود الخارجي ، فهو طلب للحاصل.

وحل العويصة هو أن يقال : إنّ الطلب متعلّق بالمفهوم والصورة الذهنية ، بما هو مرآة وفان في الخارج ، فهو مطلوب حينئذ بالحمل الأوّلي ، ولذلك لم يكن نفس المفهوم مطلوبا بالحمل الشائع ، إذ ليس المفهوم المطلوب بالحمل الشائع مصداقا للمفهوم المطلوب بالحمل الأوّلي ، وحينئذ لا يلزم من طلبه هكذا ، طلب الحاصل ، لأنّ الطلب هكذا ليس متعلقا بالوجود الخارجي ، ولو بالعرض ، وإنّما الوجود الخارجي يكون مصداقا لما يتعلّق به الطلب.

وحينئذ ، لا يرد إشكال ، أنّ المتعلق بالعرض ، لو كان هو الوجود الخارجي للزم تأخر الطلب عنه ، وكانت مرتبته متأخرة عن مرتبة المعروض بالعرض ، حيث معه يستحيل طلبه ، لأنّه طلب للحاصل.

وإن شئت قلت : إنّ القسم الخامس ـ وهو كما في الطلب ـ يشبه القسم الأول والرابع ، لأنّه عرض ذهني ذو إضافة إلى صورة كلية وطبيعية ، وهو حينما يتعلّق بالمفهوم ، فهو يتعلق به ، لا بما هو إنشاء واعتبار ، بل يتعلّق بروحه وملاكه الذي هو الحب في الأمر ، والبغض في النهي.

إذن فهو يتعلّق بصرف وجود الطبيعة ، وحينئذ ، فبنفس البرهان والوجدان المتقدم ، نثبت أنّ الطلب معروضه بالذات الصورة الذهنيّة النفسانيّة ، لكنّه يختلف عن الأول ، في كونه يتعلق بالمفهوم ، بما هو مرآة ، لا بما هو هو ، لأنّ المفهوم ، بما هو هو ، عبارة عن صورة ذهنية ، والصورة الذهنية للماء لا تدفع عطشا ، إذن فلا تطلب ، مضافا إلى كونها حاصلة في نفس المولى ، فيكون طلبها من قبل المولى تحصيلا للحاصل.

١٧٧

إذن فالطلب يتعلّق بالصورة الذهنية ، باعتبار أنها بالنظر التصوري هي عين الخارج ، لكن هي بالنظر التصديقي مغايرة للخارج.

ويختلف هذا القسم عن الرابع ، مع كونه يشترك معه في الإفناء والمرآتيّة ، في أنّ القسم الخامس هذا ، ليس له معروض بالعرض ، وإنما له معروض بالذات ، هو نفس المفهوم الكلي الطبيعي ، وإنّما لا يعقل أن يكون له معروض بالعرض ، لأنّ فرض معروض بالعرض ، هو فرض نحو من الوجود لهذا المعروض بالعرض ، وهذا النحو من الوجود للمعروض بالعرض ، مساوق مع التشخّص ، وحيث أنّه كذلك ، حينئذ يكون تعلق الأمر به تحصيلا للحاصل.

نعم المعروض الموجود في الخارج ، يكون مصداقا لمعروض الطلب ، إذ الطلب ليس له معروض بالعرض ، فإنّ صرف الوجود ليس له مطابق في الخارج ، بل ما هو في الخارج ، إنما هو مصداق صرف الوجود ، لا مطابقه ، وهذا بخلاف مثل الشوق والحب المتعلق بالإيمان ، مثل حبّنا لعليّ (ع) ، وبغضنا لمعاوية ، كما في القسم الرابع ، فإنّه فيه ، له معروض بالعرض ، وهو الوجود الخارجي للمحبوب المطابق للمعروض بالذات.

وبذلك تندفع عويصة تصوير الطلب وإشكاله القائل : بأنّ الطلب إذا كان متعلقا بالمفهوم بما هو هو ، أي : بالصورة الذهنية النفسانيّة ، فهذا أمر غير مفيد للمولى ، لأنّ الصورة الذهنية لهذا المفهوم موجودة وحاصلة في ذهن المولى ، بينما المولى يتوخّى من طلبه نتيجة تقع في الخارج.

وإن كان موضوع الطلب امرا خارجيا ، فأيضا لا يفيد ، لأنّ ظرف عروض الطلب وفعليّته في طول ظرف تحقق الموضوع وخارجيته.

إذن ، في مثل ذلك ، يكون الطلب تحصيلا للحاصل ، لكون عروضه على موضوع متحقق في الخارج ، وحينئذ لا معنى لعروض الطلب عليه.

ودفع هذه العويصة هو أن يقال حينئذ : إنّ الطلب يتعلق بالمفهوم

١٧٨

والصورة الذهنية النفسانية ، بما هو مرآة فان في الخارج ، فالمطلوب ليس هو نفس المفهوم بالحمل الشائع ، لأنّه ليس مصداقا للمفهوم بالحمل الأوّلي ، كما أنّ الطلب غير متعلق ولو بالعرض ، بالوجود الخارجي لمعروضه ، وأنّما يكون الوجود الخارجي مصداقا لمحكيّ الصورة الذهنية ، ولما يتعلّق به الطلب.

وعليه ، فلا يرد حينئذ قول المشكل : بأنّ المتعلّق بالعرض ، إن كان هو الوجود الخارجي لمعروض الطلب ، لزم تأخر الطلب عنه ، لكون مرتبته متأخرة عن مرتبة المعروض بالعرض ، ومعه يلزم طلب الحاصل.

وقد تصدّى المحقق الخراساني «قده» (١) للجواب عن هذا الإشكال ، فذهب إلى أنّ الطلب يتعلق بإيجاد الطبيعة ، لا بالطبيعة الموجودة ، وحينئذ لا يلزم تعلّق الطلب بالطبيعة الموجودة كي يلزم منه طلب الحاصل.

وهذا الجواب غير تام ، ذلك لأنّه لا فرق بين الإيجاد والوجود ، بل هما بمعنى واحد ، وإنّما الاختلاف بينهما بالاعتبار ، إذ إنّ إضافة الشيء إلى الفاعل تارة ، وإلى نفسه أخرى ، لا يغيّر من الواقع شيئا ، حتى إذا كان الطلب متعلقا بإيجاد الطبيعة ، فإنه سوف يكون متأخرا مرتبة عن رتبة هذا الإيجاد لأنه إن أريد بالإيجاد الخارج ففرض فعليّة العرض فرع فعليّة موضوعه ، وموضوعه ، حاصل ، فطلبه تحصيل للحاصل وإن أريد به غير الخارج فلا يمكن طلبه.

إذن يكون طلب هذا الإيجاد إما طلبا للحاصل ، وإمّا طلبا لما لا يمكن طلبه.

وعليه ، فيبقى إشكال طلب الحاصل على حاله.

والصحيح ، إنّ حل هذه العويصة يعرف من خلال ما تقدم ، وذلك لأنّه

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ص ـ ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

١٧٩

إن لوحظ المعروض بالذات للطلب ، فهو الصورة الذهنيّة التي هي بالنظر التصوّري عين الخارج ، وبالنظر التّصديقي غير الخارج ، وحيث أنّها بالنظر التصوّري عين الخارج ، يتعلق الطلب بها رغم عدم خارجيّتها بالنظر التّصديقي ، وحيث أنّها بالنظر التّصديقي غير الخارج ، صحّ تعلّق الطلب بها ، من دون لزوم تحصيل الحاصل ، إذ إنّ الخارج تصور لا تصديق ، هذا بلحاظ المعروض بالذات.

وأمّا بلحاظ المعروض بالعرض فقد أنكرناه ، وقلنا : بأنه ليس للطلب معروض بالعرض ، وإنما الموجود في الخارج هو مصداق المعروض بالعرض ، أي : مصداق المرئي بالصورة ، لا عين الصورة كما هو الحال في حب الأعيان المتقدم في حب علي (ع) ، وبغض معاوية ، فإنّ المحبوب بالعرض صرف الوجود ، وإنّما المحبوب بالعرض خارجا هو مصداق المحبوب بالعرض.

وعليه ، فلا يلزم محذور تحصيل الحاصل ، لا على مستوى العروض بالذات ، ولا على مستوى المعروض الخارج.

أما بالنسبة إلى المعروض بالذات ، فلأنّ المعروض ليس هو الخارج ، وأما بلحاظ التطبيق خارجا ، فلأنّ معناه إيجاد مصداق للمحكي المعروض بالعرض.

وبناء على ما بيّناه ، يمكن الاستغناء عمّا ذكره المحقق الخراساني «قده» (١) في (الكفاية) من دعوى أخذ الوجود في مفاد هيئة الأمر ، حيث ذكر أنّ «صلّ» لها هيئة ، ولها مادة ، فمادة «صلّ» تدل على الطبيعة ، وهيئتها تدل على الطلب.

ولكن هنا شيء ثالث غير الطبيعة ، وغير الطلب. وبما أنّ الطلب لا

__________________

(١) المصدر السابق.

١٨٠