بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

١
٢

٣

٤

بحث التزاحم

والكلام فيه يقع في موضعين :

١ ـ الموضع الأول : في تحقيق أنّ التزاحم هل هو حالة من حالات التعارض ، بحيث يدخل تحت كبرى التعارض بين الدليلين ، أو إنّه حالة متميزة عنه؟

٢ ـ الموضع الثاني : في بيان أحكام وطبيعة التزاحم التي تخرجه من تحت كبرى التعارض ، وتميّزه عنه ، وتنفي تطبيق أحكام التعارض عليه.

٥
٦

تميّز التعارض عن التزاحم

١ ـ الموضع الأول : وفيه لا بدّ من تحقيق مفهوم التعارض ، لنرى هل إنّه موجود في باب التزاحم أو غير موجود ، كما يحدد لنا مفهوم التزاحم ، وهل إنّه داخل في باب التعارض ، أو غير داخل؟

إذن فهنا نقطتان لا بد من تحقيقهما أولا ، لنفهم التعارض ، ومن ثمّ نفهم التزاحم :

أما النقطة الأولى التمهيدية ، فهي : أنّه تقدم مرارا إنّ الأحكام لها مرتبتان :

أ ـ مرتبة الجعل والإنشاء.

ب ـ مرتبة المجعول والفعلية.

فمثلا وجوب الحج على المستطيع ، إنّ المولى يفرض المستطيع في عالم الذهن موجودا ، ثم ينشئ الحكم عليه.

وإن شئتم قلتم : إنّ الجعل يرجع إلى قضية مشروطة ، شرطها وجود المستطيع ، ومشروطها وجوب الحج ، ثم بعد أن يوجد المستطيع ، ويتحقق الشرط ، يصبح الجزاء فعليا ، وهذه مرتبة المجعول ، وهي مرتبة خروج الحكم من القضية الشرطية إلى القضية التنجيزية.

ومن الواضح أنّ الخطابات الشرعية مفادها المرتبة الأولى ، وهي مرتبة الجعل ، أي : القضية الشرطية ، فإذا قال المولى : «يجب على المستطيع

٧

الحج» دون أن يتعرض إلى فعليّة الوجوب وعدم فعليّته ، حينئذ يقال : إنّ التعارض عبارة عن التنافي بين مفاد دليلين من الأدلّة ، أي : بين الجعلين على نحو القضية الشرطيّة ، فمتى ما امتنع اجتماع الجعلين أي : المرتبتين من الحكم ، أي : مرتبتي الجعل ، إذن فسوف يحصل التكاذب بينهما ، وهو المسمّى بالتعارض.

وأمّا إذا فرض أنّه لا تناف بين الجعلين بما هما جعلان ، ولكن التنافي بين فعليّة هذه المشروطة ، وهذه المشروطة ، حينئذ لا يحصل تناف بين الخاطبين بسبب التنافي بين المجعولين ، لأنّ التنافي إنّما هو في مرحلة الجعل «المرحلة الأولى».

والخلاصة هي : إنّ التعارض هو التكاذب بين الخطابين ، وميزانه هو التنافي بين الجعلين ، أي : مرتبة القضية المشروطة ، فمتى كان تناف بين القضيتين المشروطتين ، بما هما مشروطتان ، حينئذ يحصل التكاذب بين الخطابين ، ومتى لم يكن تناف بين الجعلين والمشروطتين ، وإنما كان التنافي بين فعليّة هذه المشروطة ، وفعليّة هذه المشروطة ، حينئذ يقع التنافي بين الجعلين أيضا بناء على عدم الترتب ، ومثاله ما لو قال المولى : «إذا أمطرت السماء يجب عليك القيام» ثم قال في خطاب آخر : «إذا أمطرت السماء يحرم القيام عليك» ، فكلتا القضيتين موجودتان بنحو القضية الشرطية ، ففي المرحلة الأولى يقع التنافي بين المشروطتين.

ومثال الثاني أن يقول المولى : «إذا أمطرت السماء يحرم القيام» ، ثم يقول في خطاب آخر : «إذا لم تمطر يجب القيام» ، فهنا قضيتان مشروطتان ، لا تناف بينهما بما هما مشروطتان وإنما التنافي بينهما في المرحلة الفعليّة إذ يستحيل اجتماعهما فيها ، وهذا ليس تعارضا بين الدليلين.

ب ـ النقطة الثانية التمهيدية ، هي : إنّ التزاحم هو التنافي بين الحكمين الإلزاميين اللّذين يمكن للمكلف امتثال كل منهما إذا ترك الآخر

٨

على نحو الترتب ، ولا يمكنه امتثال كل منهما إذا انضمّ أحدهما إلى الآخر في عالم الامتثال.

وحينئذ يقال : إنّه في كل مورد وجد دليلان على حكمين إلزاميين تكون القدرة على أحدهما بدلا عن امتثال الآخر ، حينئذ قد يحصل التعارض بينهما ، وقد لا يحصل.

فإن كان بين الجعلين ، فيقع التعارض ، وإن كان بين المجعولين ، فلا تعارض.

وهنا يكون لبحث الترتب دور مهم ، لأنّنا لو قلنا بامتناع الترتب ، فمن الواضح أنّ التزاحم يدخل في باب التعارض ، لأنّ امتناع الترتب معناه أنّ خطاب «صلّ وأزل» لا يمكن ثبوت كل منهما ، ولو مشروطا بعدم الآخر ، حيث لا يرضى بهما القائل بالترتب ، يعني : إنّ التنافي بين المشروطين ، بما هما مشروطان ، أي : بين خطاب «يجب الإزالة ، وخطاب «يجب الصلاة على القادر ، بما هما مشروطان ، وبقطع النظر عن فعليتهما ، فإنّه يوجد بينهما تناف ، وعليه ، فيدخلان في باب التعارض ، وعليه لا إشكال في امتناع الترتب بناء على التعارض بين الخطابين.

وأمّا بناء على إمكان الترتب ، حينئذ ينفتح بحث في أنّه هل يمكن أن يبرهن على أنّ باب التزاحم أجنبيّ عن التعارض؟.

وإن شئت قلت : إنّه إذا تمت النقطتان المتقدمتان وهما الالتزام.

أولا : يكون كل خطاب شرعي مقيدا بعدم الاشتغال بضد واجب آخر كما في «الصلاة والإزالة» ، فإنّ موضوع كل منهما مقيّد بعدم الاشتغال بالآخر ، والالتزام.

ثانيا : بإمكان الترتب في الوجوبين المتزاحمين ، حيث يكون الوجوب الآخر مجعولا على تقدير عصيان الوجوب الأول.

٩

حينئذ إذا تمّت هاتان النقطتان يخرج التزاحم عن باب التعارض إذ لا يقع حينئذ أي تناف بين الجعلين.

وأمّا إذا أنكرنا النقطة الأولى ، وقلنا : بأنّ خطاب «أزل» غير مقيّد لبيا بعدم الاشتغال بضد آخر ، وإنّ إطلاقه بنفسه ، دال على عدم وجود مكافئ له في الأهميّة ، حينئذ يقع التعارض بين الخطابين ، لأنّ كلا منهما يدل على وجوب متعلقه مطلقا ، حتى مع الاشتغال بالآخر ، ومعنى هذا الإطلاق إلزام كل من الخطابين بصرف القدرة في متعلقه ، بدلا عن متعلق الآخر.

وكذلك إذا قبلنا النقطة الأولى ، ولكن أنكرنا النقطة الثانية ، فقلنا باستحالة الترتب ، فهنا أيضا سوف يحصل التنافي والتعارض بين الخطابين ، لأنّ عدم الترتب يؤدي إلى فعلّية كلا الخطابين المجعولين في فرض عصيان أحدهما ، ومعنى هذا : سراية التعارض إلى عالم الجعل ، واستحالة ثبوت الخطابين المشروطين بما هما مشروطان أيضا ، وهذا معناه التعارض أيضا.

والصحيح في المقام هو : إنّ باب التزاحم أجنبيّ عن التعارض ، ولتوضيح ذلك لا بدّ من استعراض كل الوجوه ، بدءا بالوجه الذي أفاده المحقق النائيني «قده» حتى ننتهي إلى الوجه الصحيح ، فنصوغ التزاحم على أساسه ، صياغته الفنيّة بعد أن تكفّلت النقطة الثانية وهي «إمكان الترتب» ، بحث الترتّب الملحق ببحث «اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده».

إذن ينحصر بحث خروج التزاحم عن التعارض في النقطة الأولى ، وقد ذكر في مقام تقريب ذلك عدة وجوه :

١ ـ الوجه الأول ، هو : ما أفاده الميرزا «قده» (١). لإثبات هذا المدّعى ، وهو كون كل من الخطابين قد أخذ في موضوعه القدرة التكوينية ، لكون العقل يحكم بقبح تكليف العاجز ، كما في الحكمين المجعولين على موضوعي

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ : ص ٢٧٠ ـ ٢٧١ ـ ٢٧١.

١٠

«الصلاة والإزالة» ، فإنّه لا تناف هنا بين الجعلين ، لعدم المحذور في جعل قضيتين مشروطتين بالقدرة ، وإنما التنافي يكون بين المجعولين ، فإنّهما لا يكونان فعليّين معا ، لعدم قدرة المكلف على امتثالهما معا ، فلو فرض أنّه اختار الصلاة تعيينا أو تخييرا ، فلا يكون وجوب الإزالة فعليا في حقه ، وكذلك لو أزال فإنه عاجز عن الصلاة ، فيخرج عن موضوع «صلّ». ذلك لأنّ موضوعه القادر ، والمشتغل بأحد المتزاحمين غير قادر ، وإذا كان التنافي بين المجعولين ، فلا يسري إلى مفاد الخطابين والجعلين ، إذ بناء على الترتّب ، لا محذور في جعل قضيتين مشروطتين بالقدرة. نعم هنا المجعولان لا يكونان فعليين معا. لعدم قدرة المكلف على امتثالهما معا ، وبامتثال أحدهما تعيينا أو تخييرا ينتفي الحكم الآخر بانتفاء موضوعه وعليه ، فلا تعارض بينهما.

وهذا الوجه يعترض عليه ، بأنّه إن أردتم من القدرة التكوينية المأخوذة في موضوعات التكاليف «لبّيا» ، القدرة حدوثا وبقاء ، بحيث يكون التكليف بالصلاة مشروطا بالقدرة عليها ، وعدم صرف القدرة في ضدّ آخر ، وهكذا الإزالة.

إن أردتم هذا ، فهو وإن كان بناء على الترتب لا محذور فيه لأنه من قبيل الأمر بالضدين المتزاحمين ، لكن لازم هذا ارتفاع التكليف ، وعدم تحقق العصيان فيما لو اشتغل المكلّف بضد للواجب ليس واجبا عليه ، وهذا ممّا لا يلتزم به صاحب الدعوى ، لأنّه تعجيز بعد القدرة ، والتعجيز بعد القدرة لا يرفع موضوع الخطاب ، إذ بمقدور كل إنسان أن يعجز نفسه ، ويكون بذلك عاصيا.

وإن أردتم من اشتراط القدرة التكوينية لبّيا في موضوعات التكاليف ، اشتراطها بحدود القدرة الحدوثيّة فقط ، على أساس أنّ العقل لا يحكم بأكثر من هذا الاشتراط ، بمعنى أنّ التكليف يصبح فعليا بمجرد توفر القدرة عليه حدوثا في الآن الأول.

إن أردتم هذا ، فإنّ القدرة بهذا المعنى موجودة في كلا الطرفين ، لأنّ المكلف كان قادرا حدوثا أن يصلي أو يزيل ، وإنما هو عجّز نفسه ، وهذا التعجيز لا يرفع موضوع الخطاب كما عرفت.

١١

وكون القدرة الحدوثية موجودة على كلا التكليفين ، يلزم منه ثبوت فعليّة الخطابين معا في حق المكلف ، وعدم ارتفاع أحدهما بامتثال الآخر ، وهذا معناه ثبوت جعلين متنافيين.

وقد عرفت أنّ التنافي بين الجعلين هو ميزان التعارض.

وبهذا يحصل التعارض إذن بين الدليلين ، وبهذا يدخل التزاحم في التعارض ولا يخرج عنه.

كما أنه بهذا يتضح أنّ الجعلين المشروطين بالقدرة التكوينية بهذا المعنى ، هما أوسع من الجعلين الترتبيّين كما صوّرهما الميرزا «قده» ، حيث يكون موضوعهما محفوظا حتى مع امتثال أحدهما ، وقد عرفت استحالته.

٢ ـ الوجه الثاني ، لإخراج التزاحم عن التعارض هو : أن يقال : بأنّ الشرط وإن كان هو القدرة التكوينية حدوثا ، إلّا أنّ القدرة التكوينية حدوثا غير موجودة في مفاد أحد الدليلين في موارد التزاحم ، وإنّما الموجود هو قدرة واحدة على الجامع بين الصلاة والإزالة.

وتعيّنها في أحد الواجبين ، هو فرع عدم تطبيقها على الآخر من قبل المكلّف ، وبهذا لا يكون هنا في موارد التزاحم أكثر من تكليف فعلي واحد في حق المكلف. وأمّا التكليف الآخر فإنه يرتفع موضوعه بامتثال الأول.

وعليه ، فلا يقع تعارض بين دليلي الجعلين. وهذا الوجه إن اقتصرنا فيه على هذا المقدار ، يمكن أن نشكل عليه فنقول : بأنّ الحاكم على اشتراط القدرة في موضوع التكليف هو العقل ، وهو الذي يخصص ، إذ لو لا هذا المخصص لشمل الخطاب حتى العاجز ، والعقل إنّما يحكم باشتراط القدرة ، بملاك قبح التكليف للعاجز.

ومن الواضح أنّ القبيح يرتفع إذا انوجدت القدرة عند المكلف على الجامع.

فلو سلّمنا أنّ المكلّف حدوثا ليس له إلّا قدرة واحدة على الجامع ،

١٢

لكن نقول : بأنّ العقل المخصص بالقدرة ، يكتفي بالقدرة ولو على الجامع ، إذن فلا يتبرهن أنّ القدرة على أحدهما المعيّن تعيينا ، بل يكفي القدرة على أحدهما بدلا.

إذن فما هو الشرط اللّبي الثابت على القاعدة ؛ إنما هو القدرة على المتعلق ، ولو بنحو بدلي ، لأنّ قبح تكليف العاجز يرتفع بهذا المقدار ، فيكون الموضوع ، هو : «أيها القادر على الصلاة ولو بدلا صلّ» ، وهكذا ، في الخطاب الآخر ، يكون الموضوع : «أيّها القادر على الإزالة ولو بدلا أزل».

ومن الواضح أنّ القدرة على أحدهما هكذا ، لا ترجع إلى ترك الآخر ، إذن فلم ترجع المشروطتان هنا إلى المشروطتين اللّتين فرغ القائلون بالترتب عن إمكانهما ، لأنهما هناك كل منهما مشروطة بترك الأخرى ، بينما هنا كل منهما مشروطة بالقدرة على الأخرى ولو لم يترك الأخرى.

إذن فيستحيل اجتماع هاتين القضيتين عند القائلين بالترتّب ، فيقع التعارض والتنافي بينهما.

والخلاصة هي : إنّه بناء على إمكان الترتب ومعقوليّة جعل قضيتين مشروطتين ، خطاب «صلّ» وخطاب «أزل» ، عند ما نفحص كلتي القضيتين وكلا الخطابين ، مع مخصصاتهما اللبيّة العامة ، فإن استفدنا من هذين الخطابين أنّهما لا يثبتان في أنفسهما أزيد من القضية المشروطة ، إذن فلا تعارض بينهما.

وإن استفدنا منهما أريد من القضيتين المشروطتين فيحصل التعارض في الأزيد ، لأنّ كلا من القضيتين مقيدة به ، ولتحقيق ذلك استعرضنا وجهين والآن نستعرض وجها ثالثا :

٣ ـ الوجه الثالث ، هو : أن يقال ، بأنّ المخصّص اللّبي العقلي العام

١٣

القاضي بتقييد كل من الخطابين بالقدرة ، هذا المخصص يقتضي أيضا إدخال قيدين على كل خطاب من الخطابين.

أ ـ القيد الأول ، هو : القدرة التكوينية ولو بالقدرة البدلية على الجامع في مقابل العجز التكويني ، وهو الذي كان ملحوظا حتى الآن في الوجه الأول والثاني ، حيث أنّ الأول يقول : بأنّ هذا القيد يرجع إلى قيدية ترك الآخر ، إذن فقد انطبق المقام على القضيتين المشروطتين المفروغ عن إمكانهما.

وقد اتضح في مناقشة الوجه الأول والثاني أنّ هذا القيد لا يرجع إلى ترك الآخر ، لأنه عبارة عن القدرة حدوثا ، لا بقاء ، والقدرة على متعلق الجامع ولو بدلا.

وقد تبين أنّ هذه القدرة محفوظة سواء فعل الآخر أو تركه ، إذن فهذا القيد قيد من نمط أوسع ، وعليه ، فهذا القيد لا يفيد بإرجاع مفاد الخطاب إلى القضية الترتبية وإخراج التزاحم عن التعارض.

لكن هناك قيدا آخر ، ولنسمّه القدرة الشرعية في مقابل العجز الشرعي.

ونريد بهذه القدرة عدم الاشتغال بواجب آخر لا يقل أهميّة عن هذا الواجب

وهذا أيضا هو قيد لبّي يقتضيه التخصيص العقلي اللبّي العام.

وبرهان هذا القيد هو : إنّ الوجوب في أيّ خطاب ، لو لم يكن مقيدا بعدم الاشتغال ، بما لا يقل أهميّة عن هذا الواجب ، لكان معناه : إنّ الوجوب يبتلي حتى في حال الاشتغال ، بواجب لا يقل أهمية أو أهم ، وحينئذ نسأل : إنّ هذا الوجوب الذي يقتضي الخطاب فعليّته ، حتى في هذه الحالة :

١٤

إن أراد منّا المولى أن نشتغل بالاثنين معا ، فهذا غير معقول للتضاد المفروض بينهما.

وإن أراد منّا أن ننصرف عنه إلى الأول فهذا خلف فرض كونه لا يقل أهمية عنه ، فيكون الاشتغال بغيره ترجيحا بلا مرجح في نظر المولى. إذن فثبوت الوجوب في حال الاشتغال بالضد المساوي أو الأهم ، غير معقول.

فإذا تمّ هذا البرهان ، حينئذ ، إن فرض أنّ «الصلاة والإزالة» كانتا متساويتين من حيث الملاك ، إذن فهذا القيد اللّبي الثاني مآله إلى عدم الاشتغال بالآخر في كل منهما ، وهذا معناه أنّ القضيتين المشروطتين ترتّبيتين من الطّرفين ، إذن فلما ذا يقع التعارض؟.

وإن فرض أنّ أحدهما كان أهمّ من الآخر ، حينئذ سوف يكون هذا القيد اللّبي الثاني ، وهو عدم الاشتغال بمساو أو أهمّ ، يكون مفاده في طرف الصلاة ، أنّ وجوبها مقيّد بعدم الاشتغال بالإزالة ، وإن كان الأهمّ هو الإزالة يكون مفاد القيد في طرفها أنّ وجوب الإزالة مقيد بعدم الاشتغال بالصلاة.

وبهذا نصل إلى إمكان الترتب من أحد الطرفين ، وقد فرغنا عنه.

أذن فعلى كلا الحالين سواء تساوى الملاكان في الأهميّة ، أو كان أحدهما أهمّ من الآخر ، فإنّه لا يحصل من الخطابين التعارض لإمكان الترتب بينهما على كل حال.

وهذا الكلام وإن كان صحيحا لنفي التعارض بين دليلي «صلّ وأزل» ، لكن قد يناقش فيه فيقال : بأنّ إطلاق خطاب «صلّ وأزل» بنفسه ، يثبت عدم مساواة أحدهما للآخر بالأهميّة. إذ تقييد كل منهما بعدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم مطلقا ، يعني : عدم أخذ ترك الآخر بعنوانه قيدا ، وهذا يعني أنّ الآخر بعنوانه ليس أهمّ ولا مساو ، فكأنّ أحدهما يقول : إنّ الآخر ليس بمساو ولا أهم ، وكذلك يقول الآخر. إذن فهذا تكاذب ، إذن فهذا تعارض.

١٥

وجواب هذا النقاش ، هو : إنّ هذا تمسك بالعام ، أو المطلق في الشبهة المصداقيّة.

ومن الواضح أنّه لا يجوز التمسّك بالعام ، أو المطلق في الشبهة المصداقيّة ، لأنّ خطاب «صلّ» خرج منه بالتخصيص اللبّي العام صورة الاشتغال بالضد المساوي ، ونحن لا ندري هل إنّ الإزالة» مصداق لما خرج ، أو ليست مصداقا ، فتكون الصلاة مصداقا لما بقي تحت العام من قبيل ، «أكرم العالم ولا تكرم النحوي من العلماء» ، فالتمسك بكون النحوي من العلماء الذين يجب إكرامهم ، تمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، وهو غير جائز.

وهذا الجواب قد يناقش فيه على عدة مبان :

١ ـ المبنى الأول هو : أن يقال : إنّه إنّما لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، فيما إذا كان المخصص لفظيا ، لا فيما إذا كان لبيا ، كما ذهب إليه الميرزا «قده» (١) وجماعة (٢).

فإذا قيل : «لعن الله بني أمية قاطبة» ، وكان يوجد مخصّص لبّي يخرج الإنسان المستقيم ، ونشك في أموي مخصوص أنّه مؤمن ، أو لا ، فهنا نتمسك بالعام باعتبار أنّ هذا كغيره من بني أميّة.

وفي المقام إذا جرينا على هذا ، فهنا مخصّصنا لبّي ، وحيث أنه كذلك ، إذن فيجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

٢ ـ المبنى الثاني وهو : مختارنا في مباحث العام والخاص وهو التفصيل بين كون الشبهة المصداقية سنخ شبهة مضبوطة بالأمور الخارجية ،

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٣٣٧ بمعنى أنه يتساوى اللفظي واللّبي في عدم جواز التمسك عند الميرزا «قده».

(٢) مطارح الإنظار ـ الأنصاري : ص ١٩٣.

١٦

حيث يكون المولى والعبد بالنسبة إليها سواء ، من ناحية الاطلاع ونحوه ، وبين الشبهة الحكمية التي يكون المولى أخبر من العبد بها.

ففي الأولى : لا يجوز التمسك بالعام فيها ، وفي الثانية : يجوز التمسك بكلام المولى العام لإدخال الفرد المشتبه تحت العام ، إذ طبقا لهذا التفصيل نقول : بأنّ الشبهة ، وإن كانت مصداقية إلّا أنّ المولى أخبر من العبد بها فهو المقرّر أن يوجد واجبا مساو ، أولا لأنّها من وظيفته ، إذن فنتمسك بالعام.

٣ ـ المبنى الثالث هو : أن يقال : إنّه لو بنينا على عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، إذا كان المخصّص لبّيا ، وقطعنا النظر عن كل ما تقدم ، فإنّه إنما نقول بذلك فيما إذا علمنا أنّ العام قد انثلم وشككنا بمقدار الانثلام ، فلو كنا نعلم ، ـ كما في المثال السابق في المبنى الثاني ـ أنّ أحد بني أمية وقف إلى جانب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وخطب مدافعا عنه ـ عليه‌السلام ـ إذن نعلم أنّ هذا المخصص ثلم العموم ، لكن لا نعلم أنّ هذا المخصّص ينطبق على معاوية بن يزيد ، أو لا فهنا لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

وأما إذا لم يعلم بالانثلام أصلا ، كما لو احتملنا عدم الانثلام ، فحينئذ لا بأس هنا بالتمسك بالإطلاق ، أو العام الذاتي ، لإثبات أنّ المولى لم يأخذ قيدا في موضوع خطابه ، لأنّ العام هنا لم ينثلم كي يدور الأمر بين الدخول في الانثلام وفي المنثلم وعدمه ، إذن فلا محالة من التمسك بالعام.

وحينئذ إذا تمّت هذه المخارج الثلاثة يمكن إيقاع التعارض بين خطابي «صلّ وأزل» لعدم دلالة خطاب «أزل» على أنّه أهم.

والصحيح في المقام هو عدم وقوع التعارض بين خطابي : «صلّ وأزل» حتى لو تمّت الأصول الموضوعية لهذه المباني المتقدمة وغيرها ، لأنّ جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، إنما يتم فيما إذا كان المخصص منفصلا ، ففي مثله ينعقد للعام ظهور في العموم ، وكذلك

١٧

للمطلق ظهور في الإطلاق ، بحيث يكون العموم شاملا للفرد المشكوك ، وحينئذ يثبت حكمه على الفرد المشكوك ، دون أن يزاحمه المخصص ، لعدم العلم بشموله للفرد المشكوك.

وأما إذا كان المخصّص متصلا فلا ينعقد للعام ظهور في العموم ، ومعه لا يمكن التمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد المشكوك.

ومقامنا من قبيل الثاني ، وذلك لأنّ المخصص في مقامنا هو حكم العقل وهو مخصص لبّي ، وهو يشكّل قرينة متصلة ، ومعه لا يمكن التمسك بالعام لصيرورته مجملا في العام فلا يرجع إليه ، بالنسبة إلى الفرد المشكوك.

وبهذا يتم المدّعى ، وهو أنّ كلا من خطابي «صلّ وأزل» ليس له إطلاق ينافي إطلاق الآخر ، إذن فلا تعارض بينهما ، لكون كل منهما مقيّدا بعدم الاشتغال بالآخر ، وبهذا يخرج التزاحم عن باب التعارض.

وأما فيما لو فرض تساويهما ، فيرجع هذا إلى الترتّب من الجانبين ، ويكون أحدهما واردا على الآخر ، ورافعا لموضوعه وقد عرفت إمكانه ، وهذا معنى دخول التزاحم في الورود.

وأمّا لو كان أحدهما فقط مقيدا بعدم الاشتغال بالآخر ، فيما لو كان أحدهما أهم ، فإنّ هذا يرجع إلى الترتّب من طرف واحد ، وقد عرفت إمكانه ، وعليه فلا تعارض بين الخطابين.

وبهذا يثبت أنّ باب التزاحم باب مستقل ، وغير داخل تحت كبرى التعارض ، وبهذا يتم الكلام عن الموضع الأول.

١٨

في أحكام التزاحم

الموضع الثاني :

بعد أن فرغنا عن كون باب التزاحم بابا مستقلا غير داخل تحت كبرى التعارض ، ولا تطبّق عليه أحكام التعارض ، صار لزاما علينا أن نستعرض أحكام التزاحم.

وفي مقام بيان مرجّحات باب التزاحم ، يتبيّن أنّ ما يصح من هذه المرجحات ، كلّها يرجع إلى باب الورود ، وأنّ أحد الخطابين يكون واردا على الآخر إمّا بنفسه ، أو بامتثاله كما ستعرف.

ويتضح هذا عند البحث عن المخصّص اللبّي العقلي الذي به أخرجنا خطاب «صلّ وأزل» عن المعارضة ، إذ به تبيّن أنّ مرجحات هذا الباب ترجع إلى الورود.

إذن وظيفتنا هي تنقيح صغرى هذا الورود ، وبحث هذا في جهتين :

الجهة الأولى :

المرجّح الأول هو : ترجيح الخطاب المشروط بالقدرة العقلية على الخطاب المشروط بالقدرة الشرعية.

وقد ذكر المحقق النائيني «قده» (١) ما حاصله : إنّه إذا وجد خطابان ،

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٢٧٢.

١٩

وكان أحدهما مشروطا بالقدرة العقلية ، والآخر مشروطا بالقدرة الشرعية ، فمعنى ذلك ، أنّ الخطاب المشروط بالقدرة العقليّة ، تكون القدرة فيه دخيلة في موضوع خطابه ، دون ملاكه ، بمعنى أنّ ملاكه يكون ثابتا حتى حال العجز ، غايته أنّ الخطاب لا يثبت حال العجز.

وأما المشروط بالقدرة الشرعية ، فإنّ القدرة فيه تكون دخيلة في موضوع خطابه وملاكه ، بحيث لا ملاك حال العجز.

وكلما تزاحم خطابان ، وكانت القدرة في أحدهما دخيلة في موضوعه دون ملاكه ، وكانت في الآخر دخيلة في موضوعه وملاكه ، قدم الأول على الثاني.

وتحقيق ذلك ، هو : إنّه لا بدّ من بيان معنى القدرة الشرعية التي تكون دخيلة في ملاك أحد الخطابين دون الآخر ، فنقول :

إنّ القدرة الشرعية المفروض دخلها في ملاك الوجوب لها ثلاثة معان :

* المعنى الأول للقدرة الشرعية هو : أن تكون هذه القدرة بمعنى القدرة التكوينية في مقابل العجز التكويني ، بحيث يكون الخطاب الذي لا تكون هذه القدرة دخيلة في ملاكه ، شاملا للمشكوك ، دون الخطاب الذي كانت هذه القدرة دخيلة في ملاكه ، فإنّه فيه لا يشمل المشكوك ، وذلك لتماميّة ملاك الخطاب الأول دون الثاني ، حيث أنّ القدرة التكوينية غير موجودة ، وغير دخيلة في الأول ، فيكون ملاكه تاما ، بينما هي دخيلة في ملاك الثاني فلا يكون تاما.

وبناء على ذلك ، لا موجب لترجيح الخطاب المشروط بالقدرة العقلية على الخطاب المشروط بالقدرة الشرعية ، لأنّ المشروط بالقدرة الشرعية قد تمّ ملاكه أيضا ، لما عرفت من أنّ القدرة الدخيلة في ملاكه ، إنما هي القدرة التكوينية ، وهذه القدرة ثابتة في كلا الطرفين كما برهنّا عليه سابقا في مناقشة

٢٠