بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

الخارج ، هل هو أمر واحد ، أو أمران؟ أي : إنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدد المعنون ، خارجا لكون التركيب بينهما انضماميا فيكون الموجود خارجا أمرين أو لا يوجبه ، لكون التركيب بينهما اتحاديا ، فيكون الموجود خارجا أمرا واحدا.

وبعبارة أخرى : هل إنّ التركيب بين العنوانين اتحادي أو انضمامي؟.

فإن قلنا إنّه اتحادي : فلا يجوز الاجتماع ، حتى ولو قلنا بتعلق الأوامر والنّواهي بالطبائع ، لأنّها إنّما تتعلّق بالطبائع ، باعتبار فنائها في الأفراد ، والمفروض أنّ الموجود في الخارج إنّما هو فرد واحد ، فيستحيل تعلّق الأمر والنّهي به.

وإن قلنا إنّ التركيب بينهما انضماميا : فيجوز الاجتماع ، حتى لو قلنا بتعلق الأوامر ، والنّواهي بالأفراد ، لأنّ المفروض ـ بناء على ذلك ـ كون الموجود في الخارج أمرين ، لا أمرا واحدا.

ولتحقيق المقام يقال : إنّه بعد أن استعرضنا مسالك أربعة لمسألة تعلّق الأوامر والنّواهي بالطبائع أو الأفراد ، كما استعرضنا ثلاثة ملاكات في جواز الاجتماع ، ينبغي حينئذ استعراض كل مسلك من المسالك الأربعة في مسألة تعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد ، على ضوء كل واحد من ملاكات الجواز ، لنرى مدى تأثير كل منها على ملاكات القول بالجواز.

وبذلك يتضح ابتناء مسألة الاجتماع على مسألة تعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد وعدم ابتنائها :

المسلك الأول ، من مسالك تعلق الأوامر بالطبائع أن يقال :

إنّ معنى تعلق الأوامر بالطبائع هو : إنّ الأمر متعلق بالجامع ، ولا يسري إلى الأفراد ، لا عرضا ولا بدلا ، أي : تعلّق بالجامع بنحو صرف الوجود ، فيكون التخيير بين الأفراد عقليا محضا.

ومعنى القول بتعلّقها بالأفراد ، هو : إنّ الأمر يسري من الطبيعة إلى

٤٠١

الأفراد ، فيتعلق بكل فرد من أفراد الطبيعة على نحو البدل ، فيكون التخيير بين الأفراد شرعيا ، وحينئذ ، فعلى ضوء هذا المسلك ، إذا قلنا بتعلق الأوامر بالأفراد ، إذن سوف يبطل الملاك الأول للجواز القائل بأنّ الأمر متعلق بصرف الوجود ، والنّهي متعلق بالحصة ، والوجه في بطلانه ، هو : إنّ الأمر بناء على هذا المسلك ، سوف يسري إلى الحصة ، إذ إنّ هذا ، هو معنى تعلق الأوامر بالأفراد كما عرفت ، والمفروض أنّ النّهي أيضا متعلق بالحصة ، إذن فتكون هذه الحصة مركزا لتعلّق الأمر بالسراية وللنهي ابتداء ، وهذا غير جائز ، لأنّ متعلق الأمر والنّهي واحد.

وبذلك تكون مسألة الاجتماع مبنيّة على تلك المسألة بهذا النحو المذكور.

وأمّا الملاك الثاني ، والملاك الثالث لجواز الاجتماع : فلا يبطلان بناء على هذا المسلك ، لأنّ الملاك الثاني عبارة عن أنّ تعدّد العنوان يكفي لرفع غائلة الاجتماع ، ومعه لا مانع من اجتماع الأمر والنّهي في هذه الحصة الخاصة ، لأنّ لها عنوانين كما هو مفروض البحث.

وأمّا الملاك الثالث : فهو لا يبطل ، لأنّ التركيب خارجا بين العنوانين انضمامي ، ومعه يكون الموجود في الخارج حصتين ، والتركيب بينهما انضماميا ، إذن فلا مانع من اجتماع الأمر والنّهي فيهما ، وذلك بأن يكون الأمر متعلقا بحصة ، والنّهي بالأخرى.

والحاصل : إنّ القول بتعلّق الأوامر بالأفراد بناء على هذا المسلك ، يبطل الملاك الأول لجواز الاجتماع دون الملاك الثاني والثالث ، فتكون مسألة الاجتماع مبنيّة على تلك المسألة باعتبار الملاك الأول للجواز بالنحو الذي عرفت.

المسلك الثاني ، وحاصله : إنّ معنى تعلق الأمر بالطبيعة هو : إنّ الأمر لا يسري إلى الطبائع الثانوية ، أي : إلى المشخّصات العرفيّة للطبيعة

٤٠٢

خارجا من «الأين والكون» في زمان خاص ، أو صفة خاصة ، وغير ذلك ، بل يبقى واقفا على الطبيعة ، بينما معنى القول بتعلّقه بالأفراد أنّه يسري ، ولذلك فبناء على هذا المسلك ـ إذا قلنا بتعلّق الأوامر بالأفراد ـ سوف يبطل الملاك الثالث للجواز دون الأول والثاني.

أمّا بطلان الثالث : فلأنّ «الكون» في المكان المخصوص صار واجبا ، لسراية الأمر من الصلاة إليه : لأنّ هذا «الكون» مشخّص لوجود الطبيعة في الخارج ، وصار حراما ، لخطاب «لا تغصب» ، بينما هو «كون» واحد ، ومعه لا يمكن حينئذ دعوى أنّ التركيب انضمامي بين العنوانين ليصح الاجتماع ، إذ حتى لو فرض كون التركيب انضماميا بينهما ، فسوف يسري الأمر إلى المشخصات العرفيّة لوجود الطبيعة في الخارج ، والتي منها خصوصيّة المبدأ المنهي عنه في مورد الاجتماع.

وأمّا عدم بطلان الملاك الأول : فلأنّ الأمر بالطبيعة وإن سرى إلى «الكون» المشخّص المسامحي لها ، إلّا أنّه لا يسري إلى حصصه ، كما هو مقتضى الملاك الأول للجواز ، بل يقف على طبيعي الكون ، فهو أمر بصرف الوجود ، والمفروض أنّ النّهي متعلق بالحصة كما هو مقتضى هذا الملاك ، ومعه لا يلزم محذور ، حيث أنّ الأمر متعلق بطبيعي الكون ، بينما النّهي متعلق بالكون المخصوص ، ولا منافاة ، فلا مانع من الاجتماع حينئذ.

وأمّا عدم بطلان الملاك الثاني : فلأنّه وإن سرى الأمر إلى طبيعة الكون ، «المشخّص المسامحي» ، إلا أنّه لا يعني السريان إلى عنوان المشخص وطبيعي الغصب ، بل السريان إلى طبيعة المشخّص سريان إليه بما هو مشخص ، لا بما هو غصب. وعليه : فيكون العنوان متعددا ، ومعه يجوز الاجتماع ، لأنّ تعدّد العنوان يكفي لرفع غائلة الاجتماع ، كما هو مقتضى هذا الملاك.

وعليه فمسألتنا ، مبنيّة على تلك المسألة على ضوء هذا المسلك ،

٤٠٣

بالمقدار الذي عرفته ، أي : على ضوء الملاك الثالث للجواز فقط.

المسلك الثالث : من مسالك تعلّق الأوامر بالطبيعة أو الأفراد.

وحاصله ، هو : إنّ معنى القول بتعلق الأمر بالطبيعة ، هو إنّ الأمر متعلق بالطبيعة بما هي هي ، ومعنى القول بتعلقه بالأفراد ، هو إنّه متعلق بالطبيعة بما هي فانية في الوجود الخارجي لأفرادها.

وحينئذ ، فإن قلنا بتعلقه بالأفراد ، فيمكن النزاع في تماميّة ملاكات الجواز الثلاثة وعدم تماميّتها.

وأمّا إذا قلنا بتعلقه بالطبيعة ، فسوف يتعيّن الملاك الثاني للجواز القائل بأنّ تعدّد العنوان يكفي لرفع غائلة الاجتماع ، وذلك لأنّ العنوان متعدد في المقام.

المسلك الرابع هو : أن يقال : بأنّ تعلّق الأمر بالطبيعة أو الأفراد ، مرجعه إلى البحث في «أصالة الوجود ، أو الماهية».

فمن يقول بأصالة الماهية ، يقول بتعلق الأوامر بالطبيعة لأنها هي الماهيّة.

ومن يقول بأصالة الوجود ، يقول بتعلق الأوامر بالأفراد. وبناء على هذا المسلك قد يتوهم ابتناء مسألتنا في المقام على تلك المسألة ، بدعوى أنّه لو قلنا بأصالة الوجود ، فلا إشكال في امتناع الاجتماع ، لأنّه ليس عندنا إلّا وجود واحد في مورد الاجتماع ، وعليه : فلا يمكن الاجتماع.

وأمّا لو قلنا بأصالة الماهية ، وأنّ الأمر متعلق بالطبيعة ، فلا إشكال في جواز الاجتماع ، لأنّه يوجد عندنا ماهيتان ، وهما : ماهيّة الصلاة ، وماهية الغصب. وعليه : فيصح الأمر بالأولى. والنّهي عن الثانية.

وجواب هذا التوهم ، هو أن يقال : إنّ القول بأصالة الوجود ، أو أصالة الماهيّة ، لا يفرق فيه من ناحية الوحدة والتعدد ، إذن هو غير مؤثر

٤٠٤

على المقام ، حيث أنّه كلما كان الموجود واحدا ، كانت هناك ماهيّة حقيقية واحدة أيضا ، كما تقدّم ، وإنّما يتصور التكثّر في عناوين الموجود الواحد فيما إذا كانت تلك العناوين عرضيّة انتزاعيّة ، لا ذاتيّة ماهويّة حقيقية له.

وعليه : فلا تخلو مسألتنا من بناء على تلك المسألة بالنحو والمقدار الذي عرفته ، حيث أنّه لا خلاف بين القول بأصالة الوجود ، والقول بأصالة الماهيّة ، من حيث الوحدة والتعدّد الخارجي ، فإنّ كل ما يراه القائل بأحدهما واحدا ، يراه الآخر واحدا أيضا ، وإنّما الاختلاف في أنّ الأصل ما هو قوام الشيء وحقيقته ، هل هو أمر عيني ، «في مصطلح أهل العرفان». حيث لا يمكن أن تدركه العقول إلّا عرضا ، كمفهوم الوجود المشار به إلى الخارج؟ أو إنّ الأصل وقوام الشيء هو ما ينتزعه العقل ، ويدركه من المعقولات الأوليّة من الخارجيات؟ إذن فالخلاف في هويّة الخارج لا في وحدته وتعدده.

* التنبيه الخامس :

وحاصله : هو إنّه هل يشترط في موضوع مسألة الاجتماع ، فرض ثبوت الملاكين في المجمع ، بحيث تكون الصلاة في الدار المغصوبة واجدة لملاك الوجوب ، ولملاك الحرمة ، أو لا يشترط ذلك؟.

والكلام هنا يقع في عدة مقامات :

المقام الأول : في أصل هذه الشرطية ، التي ذكرها المحقق الخراساني «قده» (١) حيث ذهب إلى اشتراط ذلك في المجمع ، لأنّه إذا لم يكن المجمع واجدا لكلا الملاكين في مورد الاجتماع ، بل كان واجدا لأحدهما فقط ، ففي مثل ذلك يكون هذا الفرض خارجا عن هذا البحث ، لأنّه على كل تقدير سوف يقع التعارض بين دليلي الحرمة والوجوب ، ولا

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٤١ ـ ٢٤٢.

٤٠٥

يعقل ثبوتهما معا ، كما هو مقتضى القول بجواز الاجتماع ، لأنّ معناه ، ثبوت أحد الحكمين بلا ملاك ، كما أنّه لا يعقل التزاحم بين مقتضيهما ، لأنّه فرع ثبوت الملاكين. وعليه : فلا تدخل المسألة في باب الاجتماع وعدمه.

وأمّا إذا فرض كون المجمع واجدا لكلا ملاكيّ الأمر والنّهي ، فحينئذ تدخل المسألة في باب الاجتماع.

فإن قلنا بالجواز فمعنى ذلك ، أنّ الملاكين يؤثران معا ، ويجتمع الوجوب والحرمة تمسكا بإطلاق دليلهما وإن قلنا بالامتناع ، فحينئذ تدخل المسألة في باب التزاحم بين الملاكين والاقتضاءين ، دون أن يقع التعارض بينهما ، لأنّ الملاكات مفروضة الوجود.

وعليه : فلا بدّ من فرض ثبوت الملاكين في المجمع ، كي تدخل المسألة في باب الاجتماع وعدمه.

هذا خلاصة ما ذكره في «الكفاية» ، من دون أن يستدل عليه بشيء ، وسوف يتوضح من خلال التعليق عليه ، ما يمكن أن يكون دليلا على مدّعاه.

وقد اعترض غير واحد من المحققين ، كالمحقق النائيني «قده» (١) على هذا الكلام ، فذكر ما حاصله :

إنّ مرجع ما ذكره المحقق الخراساني «قده» هو إلى ابتناء مسألة الاجتماع على مسألة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها. إذ بناء على ذلك ، لا بدّ أن يكون المجمع واجدا لكلا الملاكين ، وأمّا إذا لم يكن واجدا لهما ، فمعنى ذلك هو عدم تبعيّة الأحكام لذلك ، كما يقول بذلك (الأشعري) ، والصحيح أنه لا وجه لدعوى ابتناء مسألة الاجتماع على ذلك ،

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ص ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ـ فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٥٦.

٤٠٦

لأنّ كلا منهما مسألة مستقلة عن الأخرى ، لأنّ مسألة تبعيّة الأحكام وعدمها ، مربوطة بمسألة الإيمان بالحسن والقبح العقليّين وعدمه. وأمّا مسألة الاجتماع ، فموضوعها إنّ اجتماع الأمر والنّهي على عنوانين تصادقا على موضوع واحد ، بحيث يكون أحدهما متعلقا للأمر والآخر للنّهي ، هل يلزم من هذا الاجتماع اجتماع الضدّين ، أو لا؟

فمن قال بلزوم اجتماع الضدّين : يقول بعدم جواز الاجتماع.

ومن قال بعدمه : يقول بجواز الاجتماع.

وعليه : فيمكن حتى للأشعري أن يتكلّم في جواز الاجتماع وعدمه في مورد واحد ، ما دام أنّ مناط البحث ، هو لزوم اجتماع الضدّين ـ أي : الأمر والنّهي ـ في موضوع واحد ، فإن كان (الأشعري) يرى المحال في لزوم اجتماع الضدّين ، إذن هو لا يقول بالاجتماع ، رغم أنّه ينكر التبعيّة.

وعليه : فلا وجه لاشتراط وجود الملاكين في مورد الاجتماع حيث أنّه لا ربط بين المسألتين.

هذا ملخص ما ذكر في اعتراض الميرزا «قده» على المحقق الخراساني «قده». إلّا أنّه لا يظن أنّ صاحب الكفاية «قده» أراد ممّا ذكره ، ما فهمه منه الميرزا «قده» ، لوضوح عدم الربط بين المسألتين ، إذ ليس مقصود صاحب الكفاية «قده» من الملاكين ، المصلحة والمفسدة ، بل مقصوده من الملاك ، الغرض ، سواء أكان الغرض هو المصلحة والمفسدة ، أو كان المراد منه التحكم ، أو أيّ شيء آخر غير ذلك ، فإنّ (الأشعري) الذي ينكر التبعية ، لا ينكر نشوء الحكم عن الإرادة.

غايته أنّ الكلام بين الأشعري وغيره ، في أنّ هذه الإرادة هل هي لمصلحة في فعل المكلف دائما ، أو ليست كذلك.

فمقصود المحقق الخراساني «قده» من وجوب وجدان المجمع لكلا الملاكين ، هو إنّ الصلاة في الدار المغصوبة ، يجب أن تكون واحدة

٤٠٧

للحيثيّة ، أيّ شيء كانت تلك الحيثيّة الداعية للأمر بها ، بحيث لو لم يكن غصب ، لأمر بها المولى جزما وتعيينا ، كما أنها يجب أن تكون واجدة للحيثيّة التي تدعو المولى للنهي ، بحيث لو لا الصلاة ، لنهى المولى عن الكون في الدار المغصوبة جزما وتعيينا ، وهذا الاشتراط المذكور يمكن افتراضه حتى على مبنى (الأشعري) كما عرفت.

وبناء على ذلك ، لا يكون كلام الميرزا «قده» واردا على المحقق الخراساني «قده».

وإن شئت قلت : إنّ ما أورده الميرزا «قده» على صاحب «الكفاية» ، منشؤه التشابه اللفظي بين ما ذكره صاحب «الكفاية» من لزوم فعليّة وجدان المجمع لكلا الملاكين ، وبين مسألة تبعيّة الأحكام للملاكات بمعنى المصالح والمفاسد. بينما من المظنون قويا أنّ مقصود صاحب «الكفاية» من الملاك في المقام ، ليس هو الملاك في مسألة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد لوضوح عدم الربط بين المسألتين ، بل مقصوده من الملاك ، سنخ ملاك لا يختلف فيه (الأشعري) المنكر للتبعية عن غيره ، كالغرض ومبادئ الحكم ، سواء أكان هذا الملاك هو المصلحة والمفسدة الراجعة إلى المولى نفسه ، أو إلى العبد. وسواء أكان هذا الملاك جزافيّا وتحكّميّاً ، ولا مصلحة للمكلّف فيه ، أو لم يكن كذلك ، إذ كل حكم لا بدّ له من منشأ وغرض يكون داعيا له ، وينشأ منه لا محالة ، حتى ولو لم يكن فيه مصلحة للمكلف.

وعليه : يكون مراد صاحب «الكفاية» من لابدّية وجدان المجمع لملاك الأمر والنّهي ، أي : وجدان الحيثية الداعية إلى الأمر ، والحيثية الداعية إلى النّهي ، إذ حينئذ يمكن بحث إمكان فعليّة الأمر والنّهي في المجمع ، من حيث لزوم التضاد ، أو عدم لزومه.

وبهذا يتضح عدم الربط ـ في كلام صاحب «الكفاية» ـ بين ما جعله شرطا ، وبين ما جعله الميرزا «قده» تفسيرا لكلام الخراساني «قده» حيث

٤٠٨

فسّر هذه الشرطية بكونها مبنيّة على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.

ولعلّ السر في دعوى صاحب «الكفاية» لهذه الشرطية ، هو دفع أحد إشكالين قد يوردان على المشهور :

١ ـ الإشكال الأول : إنّه اذا وجد عنوانان بينهما عموم من وجه ، فقد ذهب بعضهم في مسألة الاجتماع إلى جواز اجتماع الأمر والنّهي فيهما ، وذهب آخرون إلى عدم جوازه.

بينما اتفق الجميع في بحث التعادل والتراجيح ، على أنّه إذا كان هناك دليلان متكفّلين لحكمين متنافيين ، وكانت النسبة بينهما العموم من وجه ، فيقع التعارض بينهما ، فحينئذ قد يشكل فيقال : إنّ القائل بالجواز منهم ، لما ذا يقول بالتعارض في مثل ذلك ، مع أنّ مقتضى مبناه هو عدم التعارض ، وذلك لتعدّد العنوان.

فلعلّ صاحب «الكفاية» «قده» اشترط في المجمع أن يكون واجدا لكلا الملاكين ، لدفع هذا الإشكال ، لأنّه يقال : بناء على هذا الاشتراط ، فرض وجدان المجمع لكلا الملاكين في مسألة الاجتماع ، ومن أجله قالوا بالجواز.

بينما في مبحث التعادل والتراجيح ، فرض وجود الملاك في أحدهما فقط ، ومن أجله قيل بالتعارض ، حيث لا يمكن الجمع بينهما.

وبهذا يتلاءم القول بالجواز في هذه المسألة ، مع القول بالتعارض في تلك المسألة.

وإن شئت قلت : عند ما كان قول القائل بجواز الاجتماع ـ لتعدد العنوان وعدم التعارض ـ فيما إذا كانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ـ متنافيا مع قوله نفسه ، بوقوع التعارض بينهما ـ في بحث التعادل والتراجيح ـ فيما إذا كانت النسبة بين العنوانين عموما من وجه أيضا ، حيث يشكل فيقال : لما ذا قال بالتعارض بينهما في بحث التعادل والتراجيح ، بينما

٤٠٩

مقتضى مبناه في مسألة جواز الاجتماع ، هو عدم التعارض ، لتعدد العنوان؟ لأجل ذلك حاول صاحب الكفاية «قده» دفع هذا الإشكال ، فاشترط وجدان المجمع لكلا الملاكين في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وعليه قالوا بجواز الاجتماع ، بينما قالوا بالتعارض بينهما وعدم إمكان جمعهما في بحث التعادل ، لعدم فرض وجود الملاك ، الّا في أحدهما فقط من قبيل ، «أكرم العالم ولا تكرم الفاسق» ، وبهذا يتلاءم قول القائل بجواز الاجتماع في المقام مع قوله بالتعارض في مسألة التعادل والتراجيح.

إلّا أنّ دفع هذا الإشكال لا يتوقف على ما ذكره صاحب «الكفاية» «قده» من الاشتراط ، بل يمكن دفعه بوجه آخر ، فيقال : إنّ التعارض قد يكون من ناحية المتعلّق كما في «صلّ ، ولا تغصب» ، وقد يكون في الموضوع ، كما في «أكرم عالما ، ولا تكرم الفاسق» ، وحينئذ ، فإن كان التعارض من ناحية المتعلّق ، فيدخل ذلك في مسألة الاجتماع ، وإن كان من ناحية الموضوع ، فقد يكون عندهم خارجا عن بحث الاجتماع ، وداخلا في بحث التعارض لما أشرنا إليه من أنّ هذه المبادئ تحمل بلحاظ الموضوع بحمل «ذو هو». وكيف ما كان ، فقد يقرّب مستند هذه الشرطية التي ذكرها صاحب الكفاية «قده» بأحد تقريبين :

١ ـ التقريب الأول ، هو : كون تعقّل جواز اجتماع الأمر والنّهي مبنيا على كون مقتضي الحكمين موجودا ، أو ثابتا في موردهما في المرتبة السابقة ، إذن فلا بدّ من افتراض وجود الملاكين في المجمع قبل بحث جواز اجتماع الأمر والنّهي فيه ، وإلّا كان من الواضح امتناع الاجتماع على كل حال ، ولو لعدم ملاك أحدهما.

وهذا التقريب غير تام ، وذلك ، لأنّ هذا خلط بين الامتناع بالذات ، والامتناع بالغير ، إذ إنّ امتناع اجتماع الأمر والنّهي لعدم ملاك أحدهما ، إنما هو امتناع بالغير ، وهذا ليس هو المبحوث عنه.

٤١٠

وإنما المبحوث عنه هو ، الامتناع بالذات من ناحية التضاد ، سواء وجد هناك مناطان ، أم لم يوجدا.

إذن فحيثية بحث الاجتماع ، هي كون الامتناع بالذات من ناحية التضاد وعدمه ، حتى مع إحراز المناطين.

وهذا أمر لا يلزم في تعقله ثبوت المناطين ، بل قد يكون ثبوت الجواز في هذه الحيثية منشأ لإحراز المناطين كما يصرح به صاحب الكفاية «قده» في موضع آخر من كلامه.

٢ ـ التقريب الثاني لمستند الشرطيّة ، هو أن يقال : إن ترتب ثمرة بحث جواز الاجتماع تتوقف على ثبوت كلا الملاكين في المجمع ، وذلك لأنّ ثمرة القول بالجواز هو ثبوت كلا الحكمين ، وثبوتهما لا يكفي فيه مجرد عدم امتناع الاجتماع ، بل يتوقف على ثبوت ملاكيهما.

وهذا التقريب غير تام أيضا حيث يقال : إنّ الثمرة منوطة بعدم إحراز انتفاء الملاكين في المجمع ، دون أن يشترط إحراز ثبوتهما ، لأنّه إذا قلنا بالجواز ، ولم نعلم من الخارج بانتفاء المناطين ، فإنّه يتمسك حينئذ بإطلاق دليل المناطين لإثبات متعلقهما ، وبالتالي إثبات فعليتهما.

هذا مع أنّه لا ينبغي أن يؤخذ في موضوع مسألة ، ما يكون دخيلا في ترتّب الثمرة على تلك المسألة ، بل يكفي كون المسألة بنفسها دخيلة في ترتبها فمثلا : إذا كانت الثمرة المترتبة على ظهور صيغة الأمر في الوجوب ، متوقفة على عدم وجود معارض له ، فلا يعني هذا ، أنّ عدم وجود المعارض هذا ، شرط في موضوع بحث ظهور صيغة الأمر في الوجوب.

وعليه : فلا وجه للشرطيّة التي ذكرها صاحب «الكفاية» لأنّ مسألة الاجتماع غير منوطة بإحراز الملاكين في المجمع.

٢ ـ الإشكال الثاني ، الذي قد يورد على المشهور هو : إنّ القائلين من

٤١١

الأصحاب بامتناع اجتماع الأمر والنّهي ، أفتوا بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع الجهل بالغصب ، وببطلانها مع العلم به.

ومن هنا قد يشكل عليهم فيقال : إنّ القائل بجواز الاجتماع ينبغي أن يقول بصحة الصلاة في الدار المغصوبة ، حتى مع العلم بالغصب.

والقائل بامتناع الاجتماع ، ينبغي أن يقول ببطلانها ، حتى مع الجهل بالغصب ، لأنّ مقتضى الامتناع هو وقوع الصلاة باطلة حتى مع الجهل ، كما لو صلّى بلا وضوء جهلا.

وحينئذ تأتي محاولة صاحب الكفاية «قده» لدفع هذا الإشكال ، حيث يقال : إنّ هناك فرقا بين الصلاة في المغصوب مع الجهل ، وبين الصلاة بلا وضوء مع الجهل ، حيث يحكم بصحتها في الأول ، وببطلانها في الثاني ، وذلك لأنّه في بحث مسألة الاجتماع نفترض إحراز وجود الملاكين في الجمع من أول الأمر. فإذا قلنا بالامتناع وتقديم جانب النهي بعد التعارض ، تقع الصلاة باطلة في الغصب ، مع العلم ، ولأنّها منهيّ عنها تكون معصية.

وأمّا مع الجهل فتقع صحيحة لوجود المقتضي ، وهو الملاك ، وفقدان المانع ، حيث لا معصية مع الجهل.

وأمّا في موارد تقييد الصلاة بالوضوء ، فيحكم بالبطلان حتى مع الجهل ، لعدم إحراز الملاك حينئذ.

وقد عرفت فيما تقدم ، أنّه لا وجه للشرطية التي ذكرها المحقق الخراساني «قده».

المقام الثاني : في إمكان إثبات كلا الملاكين في المجمع في باب الاجتماع وعدم إمكان إثباتهما ، سواء قلنا بالشرطية التي ذكرها صاحب «الكفاية» واعتبرها ، أو لم نقل باعتبارها :.

ومن الواضح أنّه لو وجد دليل خاص على ثبوتهما ، لأمكن التمسك

٤١٢

بدلالته ، وكذلك لو وجد إجماع فلا إشكال في ذلك.

كما أنّه من الواضح إنّه بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنّهي ، أيضا يتم الدليل على وجودهما ، لأنّ نفس خطاب «صلّ» وخطاب «لا تغصب» ، يدلّان بالمطابقة على ثبوت الحكم ، وبالالتزام على ثبوت الملاك.

كما أنّه لا إشكال في أنّ الدليلين إذا كان مفادهما الحكم الاقتضائي لا الفعلي ، فأيضا يمكن إثبات كلا الملاكين بنفس إطلاق دليل «صلّ» ودليل «لا تغصب» ، سواء قلنا بجواز الاجتماع ، أو امتناعه.

أمّا إثباتهما إذا قلنا بالجواز : فواضح ، لأنّه يمكن التمسك بمفاد دليل الوجوب ، الذي هو الحكم الاقتضائي ، في مورد النّهي ، لعدم منافاة مدلوله مع الحرمة.

وأمّا إثباتهما إذا قلنا بالامتناع : فلأنّه لا مانع من الجمع بين مدلولي الدليلين ، لأنّ مدلوليه حكمان اقتضائيان مناطيّان ، أي : عبارة عن الملاكين ، لا فعليّين ، والامتناع يكون في مرحلة الفعلية ، لا في المرحلة الاقتضائيّة ، فلا يحصل تعارض بين الدليلين ، فيعمل بهما معا.

نعم يقع التزاحم بين الاقتضاءين في الفرض الأول والثالث ، دون الثاني ، لأنّه ليس فيه تزاحم ولا تعارض ، كما ذكر هذه الحالات صاحب «الكفاية» أيضا.

وأمّا في غير هذه الحالات. وليسمّ ذلك حالة رابعة ، فقد ذكر صاحب «الكفاية» ، إنّه لا سبيل لإثبات الملاكين في المجمع ، لأنّ معنى الحالة الرابعة هو القول بالامتناع مع عدم ثبوت أيّ حالة من الحالات الثلاثة المتقدمة ، وحينئذ يكون معنى القول بالامتناع ، وقوع التكاذب والتعارض بين دليلي «صلّ» و «لا تغصب» ، ومعه لا يبقى دليل على ثبوت كلا الملاكين.

٤١٣

أو فقل : إنّه في هذه الحالة ، إذا كان مفاد الدليلين حكما فعليا ، وقلنا بالامتناع ، فهنا ذكر صاحب «الكفاية» إنّه لا سبيل إلى إثبات الملاكين في المجمع ، وذلك لوقوع التعارض والتكاذب بين دليل الأمر مع دليل النّهي فيتساقطان ، ومع التساقط لا يبقى دليل نثبت به كلا الملاكين.

إلّا أنّ المحقق الأصفهاني «قده» ذكر أنّه يمكن إثبات الملاكين في هذه الحالة الرابعة بأحد طريقين : (١).

الطريق الأول : هو التمسك بالدلالة الالتزامية لدليلي الأمر والنّهي على الملاك ، بعد سقوط دلالتهما المطابقية على الخطاب في مورد الاجتماع ، وذلك لعدم تبعيّتها لها في الحجية ، فإنّ لدليل ، «صلّ» ، و «لا تغصب» مدلولا مطابقيا هو ثبوت الحكم الفعلي ، ومدلولا التزاميا هو ثبوت الملاك ، وبعد سقوط المدلول المطابقي بالمعارضة ، يبقى المدلول الالتزامي بلا مكذب ومعارض له ، فيكون حجة. وهذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه :

أمّا أولا : فلأنّه مبنيّ على عدم تبعيّة الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجيّة ، وهذا غير تام لما عرفت من أنّ الصحيح هو التبعيّة.

وأمّا ثانيا : فلو سلّم ذلك ، لجرى هذا الكلام في سائر موارد التعارض بين دليلين في موضوع واحد ، كما لو قال «صلّ ولا تصلّ» فإنّه حينئذ يقال : إنّ «صلّ» يدل بالمطابقة على الأمر ، وبالالتزام على ملاكه ، وهو محبوبيته الشأنيّة ، وخطاب «لا تصل» أيضا يدل بالمطابقة على ثبوت النّهي ، وبالالتزام على ملاكه ، وهو مبغوضيته الشأنيّة. وبعد سقوط الدلالة المطابقية بالمعارضة ، تبقى الدلالة الالتزامية فيهما على الحجيّة ، وحينئذ يدخل المقام في باب التزاحم بين الملاكات ، لتماميّة الملاكين بالدلالة الالتزاميّة لكل منهما ، مع أنّ دخولهما في هذا الباب لم يلتزم به أحد.

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني : ج ٢ ص ٩١ ـ ٩٢ ـ المطبعة العلمية ـ رقم ١٣٧٩ ه‍.

٤١٤

وقد حاول المحقق العراقي «قده» (١). أيضا ، إثبات كلا الملاكين في المجمع بالدلالة الالتزامية ، كما فعل المحقق الأصفهاني «قده» ، إلّا أنّه كأنه التفت إلى ورود النقض على ما ذكره الأصفهاني «قده» ، فحاول إثبات مراده ببيان آخر ، حيث لا يرد عليه مثل هذا النقض الذي ورد على الأصفهاني «قده». فقدّم على بيان مراده مقدمة حاصلها :

إنّ كلّ خطاب يتكفّل طلب الفعل ، كما في «صلّ» ، فإنّه يدل بالمطابقة على طالب المادة المأخوذة فيه وهي الصلاة ، ويدل بالالتزام على الردع عن نقيضها وهو ترك الصلاة ـ بناء على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام ـ وطلب المادة يكشف إنّيا عن وجود مبادئ الطلب في تلك المادة ، وإلّا لما طلبها ، كما أنّ الردع عن نقيض المادة ، يكشف إنّيا عن عدم وجود مبادئ الطلب في هذا النقيض ، وإلّا لما ردع عنه ، وبذلك يكون لدليل «صلّ» أربعة مداليل : الأول : طلب المادة ، وهي الصلاة ، الثاني : الردع عن ترك الصلاة ، الثالث : وهو مدلول التزامي للمدلول الأول ، وهو إنّ الصلاة التي طلبت ، واجدة لمبادئ الطلب. الرابع : هو : مدلول التزامي للمدلول الثاني ، وهو إنّ نقيض الصلاة ، وهو تركها الذي ردع عنه ، غير واجد لمبادئ الطلب وكذلك يقال فيما لو كان الخطاب متكفلا للردع عن الفعل كما في قوله لا تصلّ.

فيكون ذا مداليل أربعة على غرار ما ذكر أولا :

فالمدلول الأول هو : طلب ترك الصلاة.

والثاني : هو الرّدع عن نقيض ترك الصلاة ، وهو الصلاة.

الثالث : وهو مدلول التزامي للأول ، وهو إنّ الردع عن الصلاة واجد لمبادئ الطلب.

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي : ج ١ ـ ص ١٣٠ ـ ١٣١ المطبعة العلمية في النجف الأشرف ١٣٥٨ ه‍.

٤١٥

والرابع : هو مدلول التزامي للثاني وهو إنّ نقيض ترك الصلاة الذي هو الصلاة ، غير واجد لمبادئ الطلب. وبعد هذه المقدمة قال :

إنه تارة يرد دليلان متعارضان على موضوع واحد من قبيل : «صلّ ولا تصل».

وتارة أخرى ، يرد دليلان متعارضان بنحو العموم من وجه ، من قبيل : «صلّ ولا تغصب».

وحينئذ لا بدّ من معالجة هذين الموردين على ضوء هذه المقدمة.

أمّا المورد الأول ، وهو ما لو ورد «صلّ ، ولا تصلّ» ، فهنا قال المحقق العراقي :

إنّ بابه باب التعارض البحت ، ولا يمكن إثبات الملاكين معا ، ليكون داخلا في باب التزاحم.

والوجه في ذلك هو ، إنّ دليل «صلّ» وإن كان دالا بالملازمة على وجدان الصلاة لمبادئ الطلب ، وهي المحبوبيّة التي هو المدلول الثالث له ، إلا أنّ خطاب «لا تصلّ» ، كما يكذّب خطاب «صلّ» ، بلحاظ مدلوله الأول ، وهو فعليّة طلب الصلاة الذي هو مدلول مطابقي «لصلّ» ، كذلك يكذّبه بلحاظ مدلوله الالتزامي الثالث ، وهو كون الصلاة واجدة لمبادئ الطلب لأن المدلول الرابع لخطاب لا تصل هو إن نقيض عدم الصلاة. وهو الصلاة غير واجد لمبادئ الطلب فيكون بذلك مكذبا للمدلول الثالث لخطاب صلّ ، وهو كون الصلاة واجدة لمبادئ الطلب.

وبعبارة أخرى : يقال : كما أنّ الدليلين يتكاذبان بلحاظ مدلولهما المطابقي كما تقدم ، فكذلك يتكاذبان بلحاظ مدلوليهما الالتزامي الرابع والثالث في كل منهما ، لأنّ الرابع في كل واحد منهما يدل على أنّ نقيض مادته ليس واجدا لمبادئ الطلب ، ونقيض مادة كل منهما هو عين مادة الآخر ، والثالث في كل منهما يدل على أنّ مادته واجدة لمبادئ الطلب ، وبذلك يقع التكاذب ، ولهذا يقع التعارض بين الخطابين.

٤١٦

وإن شئت قلت : ما دام أنّه لكل خطاب هذه الدلالات الأربع ، إذن في مورد التعارض سوف يقع التكاذب فيما بينها ، حيث يقع التكاذب بين المدلولين الالتزاميّين الثالث والرابع في كل من الدليلين مع الآخر ، أي إنّ المدلول الرابع في خطاب «صلّ» يعارض المدلول الثالث في خطاب «لا تصل» ، وكذلك فإنّ المدلول الرابع في خطاب «لا تصلّ» ، يعارض المدلول الثالث في خطاب «صل» ، وبناء على هذا لا يبقى ما يثبت الملاك.

وأمّا المورد الثاني الذي عالجه المحقق العراقي «قده» ، فهو في مورد الاجتماع ، وهو ما لو ورد ، «صلّ ، ولا تغصب» ، وحينئذ : فإمّا أن يفرض أنّ الصلاة والغصب متباينان ذاتا بتمام أجزائهما ، وإمّا أن يفرض اشتراكهما في جزء ، واختلافهما في آخر ، كما لو فرض كون الصلاة عبارة عن الحركة المضافة إلى المولى ، وكون الغصب عبارة عن الحركة المضافة إلى مال الغير.

فإن فرض أنهما متباينان تماما كما في الأول ، فحينئذ ، لا يكون الطلب في كل منهما دالا على نفي مبادئ الطلب في الآخر ، لأنّ كلا منهما يدل على نفي مبادئ الطلب في نقيض مادته ، ونقيض مادة كل منهما ليس هو عين مادة الآخر ، للتباين التام بينهما بحسب الفرض ، إذ إنّ الأمر بالصلاة ، وإن دلّ على فقدان نقيضهما من الملاك ، إلّا أنّ نقيضها ليس هو عدم الغصب ، كما أنّ النهي عن الغصب ، لا يدل على فقدان الصلاة للملاك.

وعليه فيكون هذان الخطابان متعارضين في الحكم الفعلي ، وغير متعارضين في إثبات المبادئ ، إذن فنأخذ بالمبادئ في كل منهما.

وإن فرض أنهما يشتركان في جزء ، ويختلفان في آخر ، كما لو فرض أنّ الصلاة عبارة عن المجموع المركب من الحركة والصلاتية ، وفرض أنّ الغصب عبارة عن المجموع المركب من الحركة والغصبية ، فهما يشتركان في جزء ، وهو الحركة ، ويختلفان في غيرها ، وحينئذ ، إذا قال المولى :

٤١٧

«صلّ ، ولا تغصب» ، لا يكون كل من هذين الخطابين نافيا لمبادئ الطلب في الآخر ، حيث لا منافاة بين محبوبية الحركة الصلاتية ، ومبغوضيّة الحركة الغصبية ، فيكون الملاك في كل منهما تاما. فإذا تصادقا في مورد ، كالصلاة في الدار المغصوبة ، يقع التزاحم بين ملاكيهما ، ولا يقع التعارض بين ملاك الأمر بالصلاة وملاك النّهي عن الغصب ، بناء على الامتناع.

وبعبارة أخرى يقال : إنّ الأمر بالمجموع من الحركة والصلاتية ، يدل على وجود الملاك في هذا المجموع ، وكذلك فإنّ النّهي عن المجموع من الحركة والغصبية ، يدل على وجود الملاك في ترك هذا المجموع ، إذن فلا يتعارض ملاك الأمر بالصلاة ، وملاك النّهي عن الغصب ، بناء على الامتناع ، لأنّ ترك المجموع من الحركة والغصبية ، يختلف عن المجموع من الحركة والصلاتية ، ولكن يدخلان في باب التزاحم بلحاظ ملاكيهما.

ومن ثمّ قال المحقق العراقي : إنّ هذا هو السر في تفريق مورد الاجتماع عن غيره ، حيث قالوا : إنّ غير مورد الاجتماع من باب التعارض المحض كما عرفت ، بينما قالوا إنّ مورد الاجتماع من باب التزاحم إذا قيل بالامتناع.

إلّا أن ما أفاده المحقق العراقي «قده» ، فيه مواقع للنظر :

١ ـ الموقع الأول : هو إنّه يرد عليه نفس الإشكال الأول الذي ورد على المحقق الأصفهاني «قده» ، لأنّ ما أفاده العراقي «قده» مبنيّ على عدم تبعيّة الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية ، وقد عرفت تبعيّتها لها.

٢ ـ الموقع الثاني : هو إنّه بعد الغض عن الأول ، يبقى الإشكال الثاني واردا عليه ، والوجه في ذلك هو : إنّ كلام المحقق العراقي «قده» مبنيّ على مقدمة ، حيث فرض فيها أنّ لكل دليل أربعة مداليل ، وقد أوقع التعارض بين المدلول الرابع والثالث لكل من الدليلين ، وبذلك دفع الإشكال الثاني.

إلّا أنّ التحقيق هو : إنّ المدلول الرابع الذي جعله مكشوفا إنّيا

٤١٨

للمدلول الثاني ، لا وجود له ، لأنّ النّهي عن النقيض ، لا ينافي مع ثبوت مبادئ الطلب في ذلك النقيض ، غايته ، قد تكون مبادئ هذا الطلب مطلوبة لمبادئ أخرى ، فلذلك نهى عنه.

فما ذكره ، من أنّ الردع عن نقيض المادة ، يكشف إنّيا عن عدم وجود مبادئ الطلب في ذلك النقيض ، غير تام.

وعليه : فإذا لم يكن للمدلول الرابع وجود ، فيبقى المدلول الثالث لكل من الدليلين سالما عن المعارض ، وحينئذ يتوجه عليه الإشكال الثاني الوارد على المحقق الأصفهاني «قده» بالنحو الذي عرفت.

وإن شئت قلت : إنّه لا نسلم بالمدلول الرابع لخطاب ، «صلّ» ، أي : الدلالة على فقدان ترك الصلاة للملاك.

لأنه إذا أريد استفادته بالملازمة ، من نفس الأمر بالصلاة ، أي : من المدلول المطابقي لخطاب «صلّ» ، فمن الواضح ، أنّ الأمر بفعل ، لا يكشف عن فقدان الملاك في نقيضه ، وإنما يكشف عن جود ملاك في طرف الفعل المأمور به ، سواء أكان نقيضه ، أي : ترك الفعل ، فاقدا لكل ملاك ، أو كان فيه ملاك ، ولكنه مغلوب لملاك الفعل المأمور به.

وإن أريد استفادته من المدلول الالتزامي الأول ، أي : من حرمة الضد العام ، فمن الواضح أنّ حرمة الضد حرمة تبعيّة ناشئة من نفس ملاك الأمر بالفعل ، وليس من ملاك آخر. وحينئذ يتوجه عليه نفس الإشكال الذي توجه إلى الأصفهاني «قده».

٣ ـ الموقع الثالث : هو إنّه لو قطع النظر عن الموقع الأول والثاني ، فإنّه يرد عليه : إنّ مقتضى ما ذكره هو دخول بعض موارد المطلق والمقيد في موارد التزاحم ، مع أنّ هذا لا يلتزم به أحد.

وتوضيحه هو : إنّه لو قال : «صلّ» ، ثم قال : «لا تصلّ في الحمّام» ،

٤١٩

فهنا ، المطلق آمر ، والمقيّد ناه ، فيكون لدليل «صلّ» بناء على ما ذكره ، أربعة مداليل :

الأول : كون الصلاة مطلوبة. الثاني : الردع عن تركها ، الثالث : إنّ الصلاة واجدة لمبادئ الطلب. الرابع : إنّ تركها ليس واجدا أو موردا لمبادئ الطلب ، وكذلك ، يكون لقوله : «لا تصلّ في الحمّام» ، أربعة مداليل : الأول : إنّ ترك الصلاة في الحمّام مطلوب. الثاني : إنّ نقيض هذا الترك ، وهو الصلاة في الحمّام مردوع عنه. الثالث : إنّ ترك الصلاة في الحمّام واجد ومورد لمبادئ الطلب. الرابع : إنّ نقيض ترك الصلاة في الحمّام ، وهو الصلاة في الحمّام ، غير واجد لمبادئ الطلب ، وحينئذ يقال : إنّه لا منافاة بين المدلول الثالث لقوله ، «صلّ» ، والمدلول الرابع ، لقوله ، لا تصلّ في الحمّام» ، لأنّ المدلول الثالث لقوله ، «صلّ» ، هو إنّ الصلاة مورد لمبادئ الطلب ، والمدلول الرابع لقوله «لا تصل في الحمّام» ، هو إنّ الصلاة في الحمّام ليس موردا لمبادئ الطلب ، ولا منافاة بينهما ، لأنّ ترك الصلاة في الحمّام عبارة عن ترك المجموع المركب من الصلاة والكون في الحمّام ، وترك المجموع غير ترك الجزء ، وهو نفس الصلاة ، فليس ترك الجزء جزءا من ترك المجموع ، بل فرد منه.

والحاصل هو : إنّ كون الصلاة في الحمّام ليس موردا لمبادئ الطلب ، لا ينافي كون ذات الصلاة موردا لها ، فيكون الملاك في كل منهما موجودا ، وبذلك يقع التزاحم بينهما ، مع أنّ دخول ذلك في باب التزاحم الملاكي لم يلتزم به أحد ، فإنّ مورد التزاحم الملاكي هو المورد المتعارف لبحث الاجتماع.

وبتعبير آخر. يقال : إنّه ينقض على العراقي «قده» بموارد المطلق والمقيد ، فيما إذا ورد الأمر بالصلاة والنّهي عن الصلاة في الحمّام ، وذلك لأنّ النّهي يدل على حرمة المجموع ، وحرمة المجموع تدل بالالتزام على وجود ملاك في تركه ، وترك المجموع غير ترك الصلاة ، مع أنّه هنا لم يلتزم أحد بالتزاحم الملاكي بما فيهم العراقي «قده».

٤٢٠