بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

١
٢

٣

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف خلقه وأعزّ رسله محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين.

وبعد فهذا هو الجزء الثامن من كتابنا بحوث في علم الأصول الّذي يتضمن بعض مباحث الأدلة العقلية ـ القطع ، والتجري ، والعلم الإجمالي ، والّذي استفدناه من دروس سيّدنا وأستاذنا الشهيد السعيد آية الله العظمى ، السيّد محمّد باقر الصدر «قدس سرّه» الّتي ألقاها في دورته الأصولية الثانية ، وقد امتازت بالمنهجة والتهذيب والإبداع ، نقدّمها بين يدي الباحثين والمحقّقين ، متوسلين إلى الله سبحانه ، أن يتغمد سيّدنا وأستاذنا الشهيد برحمته الواسعة ، وأن يحشره مع آبائه وأجداده المعصومين ، إنّه سميع مجيب.

بيروت ـ حسن عبد الساتر

ذو القعدة ـ ١٤٢٢ ه

٥
٦

مقدمة

في تقسيم مباحث الحجج والأصول العملية

ذكر الشيخ «قده» في مقام تقسيم وتصنيف الحج والأصول العملية :

إنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي ، فإمّا أن يحصل له القطع ، أو الظن ، أو الشكّ ، ثمّ فرّع على كل واحد من هذه الأصناف أحكامها (١).

وكلامنا حول هذا التقسيم لمباحث هذا القسم ، يقع في جهات.

١ ـ الجهة الأولى : في المقسم ، وفيه بحثان :

١ ـ البحث الأول : هو أنّ الشيخ «قده» جعل المقسم هو «المكلّف» ، إلّا أنّ صاحب الكفاية «قده» عدل عن ذلك ، وعبّر بدلا عنه ، «بالبالغ العاقل الّذي وضع عليه القلم» (٢). وكأنّ عدوله باعتبار مسألة لفظية ، حاصلها : إنّ المكلّف ظاهر في فعليّة التلبس بالمبدإ ، وهو التكليف ، مع أنّ الواقعة الملتفت إليها قد لا يكون فيها تكليف ، كما لو كان فيها ترخيص وإباحة ، ولأجل ذلك عبّر «بالبالغ العاقل الّذي وضع

__________________

(١) الرسائل : الأنصاري ، ص ٣.

(٢) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ٥.

٧

عليه القلم» (١) ، ويراد بالقلم ، قلم التشريع والجعل ولو على نحو الترخيص ليتلاءم المقسم مع سائر محتملات الواقع.

وهذا العدول في محله ، لو كان المراد من المكلّف هو ، المكلّف في شخص هذه الواقعة ، أمّا لو ادّعي أنّ المراد من المكلّف هو ، المكلّف في نفسه ، يعني من كان ملزما من قبل الشريعة بما ألزم به النّاس من دون نظر إلى خصوص هذه الواقعة الملتفت إليها ، لما بقي إشكال في جعل المكلّف مقسما.

وعلى أيّ حال : فإنّ هذه المناقشة لفظية لا مضمون علمي لها ، وإنّما الّذي له مضمون علمي ، هو التكلم في انّ هذه الوظائف المقرّرة في حالة القطع والظن والشك ، هل تختصّ بالمكلّف ، أو أنّها قد تجري في حق من لم يكن مكلفا؟.

فعلى الأول : يكون المقسم هو خصوص المكلّف ، وعلى الثاني : ينبغي أن يوسّع ، بحيث يشمل غير المكلّف.

والصحيح هو الثاني ، وانّ هذه الوظائف يمكن جريانها في شبهات حكميّة في حق غير المكلف ، وذلك بأحد أنحاء.

١ ـ النحو الأول : هو أنّه بعد الفراغ عن انّ رفع التكليف عن غير المكلّف ، ضرورة شرعية وعقلائية بنحو القضية المهملة ، إلّا أنّه قد يفرض حصول الشك لغير المكلف في ارتفاع بعض الأحكام عنه كما قد يقال بالنسبة للأحكام الشرعية الثابتة بقانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، حيث يشكّ في انّ مثل هذه الأحكام ، هل هي مجعولة في حق كل مميّز وإن لم يكن بالغا ومكلفا ، أو أنّها مجعولة في حق خصوص المكلف؟ فهذه شبهة حكميّة قد تحصل لغير المكلّف ، ولا

__________________

(١) درر الفوائد : الخراساني ، ص ٢.

٨

توجد ضرورة على خلافها ، وحينئذ ، فلا بدّ له من إعمال الوظيفة المقرّرة في مثل ذلك ، ويكون حاله حال المكلف البالغ إذا حصلت له هذه الشبهة.

والوظيفة في المقام بالنسبة لغير البالغ هو ، أن يرجع إلى إطلاق دليل «رفع القلم». فإنّه حاكم على إطلاق أدلة الأحكام الواقعيّة ومخصّص لها فيما إذا لوحظ بالنسبة إلى مجموعها ، هذا إذا لم يرد مقيّد لدليل «رفع القلم» في المقام ، وأمّا مع وروده ووجوده ، فيثبت به وجود التكليف حتّى لو وجد ما يدلّ على نفي فعليّة العقاب بالنسبة لغير البالغ ، حيث أنّه لا منافاة بين فعليّة التكليف ، واستحقاق العقاب ، وبين عدم استحقاقه.

٢ ـ النحو الثاني : وهو كما لو شكّ غير البالغ في وقت تحقّق البلوغ بنحو الشبهة الحكمية ، فلم يدر ، هل انّ البلوغ يتحقّق بدخول الخامسة عشر أو بإكمالها؟ ، وحينئذ ، يحتاج إلى مؤمّن ، إمّا اجتهادا ، أو تقليدا ، أو احتياطا.

وحينئذ يقال : إنّه إن كان لدليل الحكم الأولي إطلاق ، فيتمسك به ويثبت بذلك الحكم في حقّه لمجرد الدخول في الخامسة عشر ، والمفروض أنّ أدلة إخراج البالغ مجملة ، فيكون المقام من قبيل المخصّص المنفصل المردّد أمره بين الأقل والأكثر ، فبالنسبة للأكثر يتمسك بإطلاق الدليل الأولي ، ومعه ، يثبت الحكم في حقّه.

وأمّا إذا لم يكن للدليل الأولي إطلاق ، فيرجع إلى الأصول ، من الاستصحاب أو البراءة ومقتضى الأصول ، هو البراءة عن فعليّة التكليف.

٣ ـ النحو الثالث : هو أن يشكّ غير البالغ في وقت تحقّق البلوغ

٩

بنحو الشبهة المفهومية ، كما لو شكّ في أنّ الشعر الّذي نبت له ، هل يتحقّق به البلوغ ، أو لا؟ وفي مثله : لا بدّ من حل هذه الشبهة اجتهادا ، أو تقليدا ، أو احتياطا ، والرّجوع إلى الوظائف المقرّرة في مثل المقام.

ومرجع هذه الشبهة في أكثر الحالات ، إلى وجود عام ، ومخصّص مجمل مفهوما ، يدور أمره بين الأقل والأكثر ، فالعام ، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، والمخصّص المجمل مفهوما هو ما دلّ على أنّ من لم ينبت له شعر لا تجب عليه الصّلاة.

وهنا يفرض إجمال الشعر ، من حيث كون المراد به خصوص الخشن ، أو ما يشمل الناعم.

وحينئذ ، يدور أمره بين الأقل والأكثر ، فإذا شكّ إنسان في أنّ ما نبت له من شعر ، هل يتحقّق به البلوغ أو لا؟ فلا إشكال في أنّه يرجع إلى العموم ، وهو قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، وبه يثبت وجوب الصّلاة على هذا الشاك ، هذا إذا لم نقل بجريان الاستصحاب في الشّبهات المفهوميّة كما هو الصحيح.

وأمّا إذا بنينا على جريان الاستصحاب فيها ، فإنّ مقتضاها عدم وجوب الصّلاة على هذا الشاك وذلك باعتبار استصحاب عدم نبات الشعر الموجب للبلوغ ، وحينئذ ، فهذا الاستصحاب لو لا عموم (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) لجرى ونفى التكليف ، إلّا أنّه باعتبار وجود العموم هذا ، لا بدّ له من ملاحظته بالنسبة إليه ليرى أيّهما المقدّم في المقام ، وهذا بحث كلّي كان ينبغي ذكره في مباحث العام والخاص في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص.

وحاصل الكلام في ذلك : هو أنّه قد يقال أولا : إنّ الاستصحاب هو المقدّم في المقام على أصالة العموم ، وذلك لأنّه يرفع موضوع

١٠

العموم ، فإنّ موضوعه «من نبت له شعر موجب للبلوغ» ، والاستصحاب ينفي هذا الموضوع كما عرفت ، ومعه لا يبقى مجال للتمسك بدليل العام ، فيكون الجاري في المقام هو الاستصحاب ، وبذلك ينفى التكليف عن هذا الشاك.

وقد يقال ثانيا في قبال ذلك : إنّ المقدّم هو أصالة العموم ، لأنّ مقتضاها بحسب مدلولها المطابقي هو شمول الحكم لهذا الشاك ، وحينئذ ، فتدلّ بالالتزام على أنّ ما نبت له من الشعر موجب للبلوغ ، ولوازم الإمارات حجّة ، ومعه يرتفع موضوع الاستصحاب ، إذ لا يبقى شكّ في كون هذا الشعر موجبا للبلوغ وعدمه.

وقد يقال ثالثا : بعدم تقديم أحدهما ، بل هما متعارضان.

وتقريب ذلك : هو إنّ الاستصحاب في المقام ينقح موضوع عدم التكليف بالنسبة لهذا الشاك ، لأنّه يثبت عدم نبات الشعر الموجب للبلوغ.

بينما أصالة العموم ، فإنّها تثبت وجوب الصّلاة على هذا الشاك بمدلولها المطابقي ، إلّا أنّها لا تدلّ بالالتزام على أنّ الشعر النابت موجب للبلوغ كما ادّعي ، وذلك لأنّها لو دلّت بالالتزام على ذلك ، لكان منشأ هذا التلازم هو دليل الخاص القائل : «بأنّ من لم ينبت له شعر فلا تجب عليه الصّلاة حتّى لو كان شاكّا» ، إذن ، فبضم هذا الخاص إلى ذلك العام ، يثبت إنّ هذا الشاك لم ينبت له شعر موجب للبلوغ ، وإلّا لو قطعنا النظر عن الخاص لما أمكن استفادة التلازم المذكور.

إلّا أنّ الاستعانة بالدليل الخاص في مثل ذلك غير ممكن ، لأنّ الغاية من التمسك بهذا العموم ليست إدخال الفرد المشكوك تحته ، بل إخراجه من تحته ، وإدخاله تحت العام الأولي ، وهو (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ،

١١

وهذا من قبيل التمسك بالعام في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ، وقد عرفت الكلام فيه مفصّلا ، وأنّه غير ممكن.

وعليه : فلا يمكن أن نثبت بالعام إنّ الشعر النابت لهذا الشاك موجب للبلوغ ، وعليه فلا ينتفي موضوع الاستصحاب بل تبقى أركانه تامة ، كما أنّ أصالة العموم بمدلولها المطابقي تامة ، فيقع التعارض بينهما.

والصحيح في المقام هو ، انّ فرض جريان الاستصحاب في المقام ، مع فرض جريان أصالة العموم ، غير ممكن ، لأنّ كلا منهما مبني على نقيض ما بني عليه الآخر ، وذلك لأنّه إذا فرض أنّ العام بعد التخصيص قد تعنون بما عدا مدلول الخاص ، فحينئذ يتعيّن جريان الاستصحاب ، ولا يمكن التمسك بالعام ، لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وإن فرض أنّ العام يتعنون بما عدا القدر المتيقن من الخاص ، لا بما عدا مدلوله كما هو الصحيح في موارد الشبهة المفهومية ، فحينئذ ، يتعيّن جريان أصالة العموم ، ولا يجري الاستصحاب ، كاستصحاب عدم نبات الشعر الخشن ، لأنّه ينقح مدلول الخاص بما هو ، وهذا المدلول ليس موضوعا لحكم شرعي كما عرفت. إذن فيرجع إلى عمومات التكليف.

٢ ـ البحث الثاني : من الجهة الأولى : وهو لبيان أنّ المقسم ، وهو المكلّف ، هل يختصّ بخصوص المجتهد ، أو أنّه يشمل مطلق المكلّف ولو كان عاميا؟.

وفي المقام ذهب المحقق النائيني «قده» وغيره إلى اختصاصه بالمجتهد (١) ، ولعلّ ذهابهم إلى ذلك باعتبار انّ هذه الوظائف المقرّرة

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ٢.

١٢

هي وظائف للمجتهد ، فلا بدّ أن يكون موضوع التقسيم هو المجتهد حينئذ.

وتحقيق الحال في المقام ، يقع في مقامين.

١ ـ المقام الأول : في أنّه ما هو مقتضى القاعدة والمنهجية في هذا التقسيم ، وهل أنّها تقتضي اختصاصه بالمجتهد ، أو الأعم منه ومن المقلد؟

٢ ـ المقام الثاني : هو في أنّ الوظائف المقرّرة في علم الأصول من قبيل جعل الحجيّة ، أو حجية الخبر الواحد ، والطريقيّة ، أو الوظيفة العملية وما ينشأ من ذلك ويتفرع عليه من النتائج ، مع قطع النظر عن التقسيم وصحته هل تختصّ بالمجتهد ، أو أنّها تعمّ غيره؟

أمّا المقام الأول : وهو البحث من زاوية هذا التقسيم ، فنقول : إنّه لا إشكال في أنّ المقسم ينبغي شموله للعامي أيضا ، وذلك لأنّه يكون موردا لهذه الوظائف في موارد الشّبهات الحكمية ، وذلك لأنّ غير المجتهد يعلم بأنّه مكلّف بأحكام ، فقد تحصل له القطع بحكم من جهة كونه ضروريا كحرمة الخمر ، أو إجماعيا كحرمة العصير العنبي المغلي قبل ذهاب ثلثاه ، وحينئذ ، يعمل على مقتضى قطعه.

وقد لا يحصل له ذلك ، بل يحصل له الظن باعتبار فتوى مقلّده بعد أن حصل له القطع بحجيّة فتواه ، ففي مثل ذلك ، يعمل بمقتضى ظنّه ويكون ظنّه حجّة.

وقد لا يحصل له قطع ولا ظن ، فينتهي أمره إلى الشك ، وحينئذ ، لا بدّ وأن يستقل عقله ، إمّا بالبراءة ، وإمّا بالاشتغال ، وإمّا بالتفصيل بين الموارد ، وإمّا بالتوقف ، ثمّ يستقل عقله بحكم من الأحكام في طول التوقف.

١٣

وعليه : فمن ناحية التقسيم لا ينبغي الاستشكال في عموم المقسم لغير المجتهد.

وعدم توفر بعض مصاديق العلم أو العلمي في حقّ غير المجتهد ، لا يجعل غير المجتهد خارجا عن دائرة المقسم ، ولا إلى تخصيص المقسم بخصوص المجتهد.

وأمّا المقام الثاني : فتحقيق الحال فيه هو ، انّ دعوى اختصاص هذه الوظائف المقرّرة بالمجتهد ، لم ينشأ من ناحية احتمال كون المجتهد قد أخذ موضوعا في لسان دليل تلك الخطابات ، باعتبار أنّ عنوان المجتهد لم يؤخذ ، حيث لم يقل الشارع ، إنّ المجتهد لا ينقض اليقين بالشكّ ، كما أنّه لم يقل : يا أيّها المجتهد «صدق العادل» ، وإنّما كانت دعوى الاختصاص باعتبار أنّ بعض القيود المأخوذة في تلك الوظائف لا تحصل إلّا للمجتهد ، فمثلا : «صدق العادل» ، وهو دليل حجية خبر الواحد ، أخذ في موضوعه الفحص عن المعارض ، وهكذا حجية الظهور ، فإنّها مقيّدة بالفحص عن المخصّص والمقيّد والحاكم ، وحجية الاستصحاب متقومة باليقين السابق ، وكل هذا من اختصاص المجتهد ، ومن هنا قد ينشأ الإشكال في كيفيّة تحليل إفتاء المجتهد للعامي ، بعد الفراغ عن أصل جواز رجوع المقلّد إلى المجتهد.

وتوضيح هذا البحث هو ، إنّنا نقول : إنّ المركوز في الأذهان ، انّ إفتاء المجتهد للعامي يكون من باب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة ، كالرّجوع إلى الطبيب ، وهذا موقوف على وجود واقع محفوظ مشترك بين الخبير وغيره حيث يدركه الخبير بنظره ولا يدركه الجاهل ، فيرجع إليه حينئذ ، وهذا إنّما ينطبق في باب الرّجوع إلى المجتهد فيما إذا حصل القطع الوجداني للمجتهد بالحكم الواقعي. فيفتي العامي به ولا إشكال ،

١٤

لأنّ المجتهد يكون قد أدرك ما يكون مشتركا بينهما ثابتا في الواقع ، فيكون نظره مجرد خبرة وطريق إليه.

وأمّا لو فرض عدم حصول القطع الوجداني للمجتهد بالحكم الواقعي ، وإنّما أفتاه بما انتهى إليه نظره استنباطا ، عن طريق وظيفة ظاهرية مقرّرة ، كرواية معتبرة سندا ، أو ظهور حجّة ، أو أصل عملي انتهى إليه ، ونحو ذلك ، إذن ، فكيف يفتي غيره الجاهل الّذي لا يشترك معه في مقومات تلك الوظيفة ، فإنّه حينئذ :

إن أفتاه بالحكم الواقعي ، فهو إفتاء بغير علم ، لأنّ الحكم الواقعي غير معلوم لديه.

وإن أفتاه بالحكم الظّاهري ، ففيه : إنّ الحكم الظّاهري مجعول بلسان «صدق العادل وأمثاله» ، والمفروض انّ هذه الخطابات مختصّة بالمجتهد ، لأنّ موضوعه متقوّم به لا بغيره.

ويتحكم الإشكال أكثر ، فيما لو فرض أنّ الحكم الّذي يريد الإفتاء به كان خارجا عن موضع ابتلاء المجتهد ، كأحكام النّساء ، فإنّه لا يوجد في مثلها علم بحكم واقعي لكي يفتي به ، والحكم الظّاهري غير ثابت في حقّه أيضا لكونه ليس محل ابتلائه ولا في حقّ العامي ، لأنّ هذا الحكم مستنبط من وظائف مختصّة بالمجتهد.

ولهذا سمّيت هذه المسألة ، بتحليل عمليّة الإفتاء ، فإنّه بعد الفراغ عن ثبوت حجيّة الفتوى فقهيا ، نبحث عن كيفيّة تعقّلها وتخريجها صناعيا بنحو لا نحتاج فيه إلى إثبات عناية زائدة علاوة على كبرى حجيّة الفتوى الراجعة إلى كبرى حجيّة رأي أهل الخبرة في حق غيرهم.

إذن فهذه شبهة لا بدّ من حلّها ، وفي مقام حلّها يقع الكلام في ثلاث مقامات.

١٥

١ ـ المقام الأول : وفيه يقرّب تخريج عملية الإفتاء في موارد الوظائف الظّاهرية على القاعدة حتّى لو فرض اختصاصها بالمجتهد ، فيقال : بأنّه بناء على اختصاص الأحكام الظّاهرية بالمجتهد لتحقّق موضوعه فيه دون المقلّد ، وهو بذلك يصبح عالما بالحكم الواقعي المشترك بين المجتهد والمقلّد تعبّدا ، فيكون حاكما على دليل الإفتاء بالعلم والخبرة بمقتضى دليل التعبّديّة ، فيفتي المجتهد مقلّديه بالحكم الواقعي المعلوم لديه بهذا العلم ، وهذا أمر على القاعدة لا يحتاج فيه إلى عناية زائدة بعد فرض دلالة دليل الحجيّة على الحجيّة والعلمية التعبّديّة ، وذلك كما لو ورد خبر واحد يدلّ على وجوب السورة ، فيكون لدى المجتهد حكمان :

أحدهما : وجوب السورة ، وهو حكم واقعي مشترك بين المجتهد وسائر المكلّفين.

وثانيهما : دليل حجيّة خبر الواحد ، وهو حكم ظاهري مختصّ بالمجتهد ، ومعنى جعل الحجيّة هو جعل الطريقيّة ، بمعنى اعتبار المجتهد عالما بالتعبّد بتمام مدلول الخبر ، وقد فرضنا أنّ مدلول الخبر هو حكم واقعي مشترك بين المجتهد والعامي ، وحينئذ ، فيفتي المجتهد العامي بهذا الحكم الواقعي ، ويكون إفتاؤه حينئذ عن علم وهذا أمر على القاعدة لا يحتاج فيه إلى عناية زائدة ، غايته انّه علم تعبّدي حصل له بواسطة دليل حجيّة الخبر ، وبهذا ينحلّ الإشكال.

إلّا انّ هذا الجواب غير تام ، ويردّ عليه أولا : إنّ هذا الجواب لو سلّم ، فهو لا يتم بالنسبة للأصول غير التنزيليّة ، لأنّ مؤدّاها حكما ظاهريا ، والحكم الظّاهري مختصّ بالمجتهد حسب الفرض ، وحينئذ ، ففي مورد هذه الأصول ، إن أفتى بالحكم الواقعي ، فيكون ذلك إفتاء بغير علم ، وإن أفتى بالحكم الظّاهري ، فالمفروض أنّه مختصّ بالمجتهد.

١٦

وإن شئت قلت : إنّه إنّما يتمّ هذا التخريج ، لو تمّت أصوله الموضوعية في خصوص باب الإمارات المجعولة فيها الحجيّة والطريقية دون غيرها من موارد الأحكام الظّاهرية (١).

وثانيا : فإنّ هذا الجواب إنّما يتمّ في الإمارات بناء على أنّ جعلها إنّما هو من باب الطريقية ، ليكون مؤدّاها واقعيا ، وأمّا إذا كان بلسان جعل الحكم المماثل ، أو بلسان المعذريّة والمنجزيّة ونحو ذلك ممّا هو مختار بعض العلماء ، أي أنّ الحجيّة تكون بمعنى جعل ما ليس بعلم علما ، فلا يتمّ حينئذ هذا الجواب.

وثالثا : فإنّ هذا الجواب لا يتمّ في الإمارات حتّى بناء على مسالك جعل الطريقيّة والعلميّة لها ، وذلك لأنّ القطع «الموضوع» للحكم بجواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم ، لا يكفي فيه مجرد كونه عالما كيفما اتفق ، بل لا بدّ وأن يكون عالما وقطعه عن خبرة وبصيرة وكونه من أهل الفن ، لا مطلق القطع ، ومن هنا : لو قطع العالم بحكم عن طريق غير معتبر كالرؤيا ، والرمل ، وحساب الأعداد وغيره ، فإنّ قطعه هذا حجّة على نفسه ، لكن لا يجوز لغيره الرّجوع إليه في هذا الحكم ، لأنّه وإن كان عالما به ، إلّا أنّ علمه ليس علم خبرة.

إذا عرفت ذلك نقول : إنّ دليل حجيّة الخبر ، يجعل المجتهد عالما بوجوب السورة مثلا ، لكن لا يجعله عالما عن خبرة ، أي أنّ دليل الحجيّة لا يعبد المفتي بكونه أهل خبرة وأهل الفن ، وإن جعله عالما تعبّدا.

والحاصل : هو أنّ الحكم الّذي هو عالم به عن خبرة هو مختصّ به ، والحكم الشامل له ولغيره ليس عالما به علم خبرة.

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ٧.

١٧

نعم لو فرض أنّ دليل حجيّة الخبر كان يدلّ أيضا على أنّ علمه علم خبرة ، بحيث يكون العلم قد أخذ موضوعا فيه ، لكان كافيا في جواز الإفتاء ، لأنّ الإسناد ، موضوعه مطلق العلم ، فيكفي فيه قيام الحجّة منزلة القطع الموضوعي.

وإلّا ، لو كان الموضوع نفس الواقع ، فلا يتمّ هذا الجواب ، لأنّ هذا خروج عن فرض الكلام ، لأنّ محل الكلام هو تصحيح الإفتاء على القاعدة بدون ضم مئونة زائدة ، والمفروض انّ الفرض المذكور يرجع إلى فرض مئونة زائدة ، وعليه فهذا الجواب غير تام.

هذا ، مضافا إلى ما ذكر من اعتراضات في المقام على أصل مبنى جعل الطريقية وقيام الحجج مقام القطع الموضوعي ، من قبيل ، إنّ هذه الحكومة لا تتم في الأحكام الثابتة بدليل لبّي ، كحجيّة الخبر أو الفتوى بناء على أنّ مدرك الحجيّة فيها هو السيرة العقلائية ، ومن قبيل أنّ بعض الحجج ، «كالاستصحاب» لا يكون حجّة وقائما مقام القطع الموضوعي ـ فيما لو قيل بقيامه مقامه ـ إلّا في طول قيامه مقام القطع الطريقي ، بحيث يكون للمستصحب أثر عملي في حق المجتهد نفسه.

وهذا لا يكون في موارد أحكام النّساء مثلا أو غيرها ممّا هو خارج عن محل ابتلاء المجتهد ، ولا يكون ذا أثر عملي في حقّه كما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن يذكر جواب ثان في المقام يخرّج بواسطته تصحيح إفتاء المجتهد للعامي ـ بناء على اختصاص موضوع الحكم الظّاهري بالمجتهد ـ على القاعدة من دون افتراض عناية زائدة.

وحاصل هذا الجواب يرجع إلى إمكان رجوع العامي إلى المجتهد في الحكم الظّاهري ، حتّى بناء على القول باختصاص الحكم الظّاهري

١٨

بالمجتهد ، لكن رجوعه إليه في ذلك في طول رجوعه إليه في حكم واقعي ، ويتضح ذلك من خلال بعض الأمثلة.

١ ـ المثال الأول : إنّ الماء إذا تغيّر بالنجاسة يتنجس ، ثمّ إذا زال تغيره يبقى على نجاسته ، وذلك للاستصحاب ، وفي مثل ذلك يجوز للمجتهد أن يفتي العامي بالحكم الأول ، وهو تنجس الماء بالتغيير ، لأنّ هذا حكم واقعي بنظر المجتهد قد علم به ، لكن تعبّدا ، والحكم الواقعي مشترك بينهما كما تقدّم ، إذن فإفتاؤه به على القاعدة ، ويكون رجوع العامي هنا رجوع إلى أهل الخبرة ، وبذلك يصبح العامي عالما بحدوث النجاسة ، وهذا هو الرّكن الأول للاستصحاب ؛ فإذا زال التغيّر وشكّ العامي في بقاء النجاسة ، فحينئذ يتحقّق لديه الرّكن الثاني للاستصحاب ، وحينئذ يمكن للمجتهد أن يفتيه بالاستصحاب ، لأنّه خطاب مجعول في حقّ من كان على يقين فشكّ ، والمفروض أنّ العامي كذلك ، وبهذا أمكن للمجتهد أن يفتي العامي بالحكم الظّاهري ، ويكون إفتاؤه على القاعدة.

٢ ـ المثال الثاني : موارد الإفتاء بوجوب الاحتياط للعلم الإجمالي ، كما لو رأت المرأة «دما» ولم تدر ما هو ، فشكّت في جواز دخولها إلى المسجد ، وحينئذ ، فإذا رجعت إلى المجتهد فإنّها لا تسأله عن هذا الحكم هنا ، بل تسأله عن ثبوت أحد حكمين في حقّها ، وهما : لزوم تروك الحائض ، أو لزوم أفعال المستحاضة ، والمفروض أنّ المجتهد يعلم إجمالا بلزوم أحد هذين الحكمين بعد علمه برؤيتها للدم المشكوك ، فيكون رجوعها إليه في ذلك ، رجوعا إليه في نفس العلم الإجمالي الحاصل عنده وجدانا ، وفي هذا الحال ، هو يعلم بوجوب الجامع بينهما ، فيفتيها به ، ويكون رجوعها إليه على القاعدة ، لأنّه رجوع إلى أهل الخبرة ، وحينئذ ، يحصل لها بواسطة ذلك علم إجمالي تعبّدي بأحد الحكمين ، ويكون ذلك منجزا.

١٩

٣ ـ المثال الثالث : موارد الإفتاء بالأحكام المستنبطة من الإمارات ، كما لو قام خبر العادل عند المجتهد على نجاسة العصير العنبي إذا غلا ولم يجد له مخصّصا ، وحينئذ ، فالعامي يرجع إلى المجتهد في مسألة عدم وجود المخصّص ، وهذا رجوع إلى أهل الخبرة ، وبذلك يشمله خطاب «صدق العادل» ، لتحقّق موضوعه ، فيتنجز في حقّه نجاسة العصير العنبي إذا غلا.

٤ ـ المثال الرابع : موارد الإفتاء بأصالة البراءة عند الشكّ في حرمة شيء وعدم وجود دليل على حرمته ، فالعامي يرجع إلى المجتمع في مسألة الفحص عن دليل ، وهو رجوع على القاعدة كما تقدّم ، وإذا ثبت لدى العامي عدم وجود دليل على الحرمة تعبّدا يشمله دليل البراءة ، وبذلك يصحّ للمجتهد أن يفتيه بمفادها ، وهو حليّة المشكوك في حرمته مع عدم وجود دليل على حرمته.

غاية الأمر ، انّه تبقى مسألة الاختصاص ، من ناحية عدم الفحص ، وفي هذه النقطة يقال : بأنّ دليل الفحص يدلّ على لزوم فحص كلّ مكلّف بحسبه ، وفحص المقلّد ليس بالرّجوع إلى كتب الفقه ، وإنّما هو بالرّجوع إلى المجتهد ، إذ برجوعه إليه وعدم وجدان ما يدلّ منه على الخلاف ، يكون قد أكمل الفحص ، وبذلك يصير صغرى لكبرى الوظيفة الظّاهرية المقرّرة ، بسبب قيام الإمارة أو الأصل الشرعي أو العقلي.

والخلاصة : هي أنّه من غير ناحية الفحص ، يكون الاشتراك بين المجتهد والمقلّد في الوظيفة الظّاهرية المقرّرة ثابتا لكون المجتهد عالما بموضوعه وجدانا.

وبذلك يكون المقلّد برجوعه إلى العالم في ذلك هو عالم أيضا بالموضوع تعبّدا على القاعدة.

٢٠