بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وليس التضاد خاصا بالوجوب والحرمة فقط. فلو لم يجز الاجتماع ، لما جاز هنا في المقام.

والخلاصة هي : إنّه كيف يمكن أن تكون عبادة واحدة مأمورا بها وصحيحة ، ومع ذلك يكون منهيا عنها ، وتتصف بالكراهة؟.

وقد أورد الآخوند (١) على هذا البعض ، بأنّ هذه المشكلة كما تواجه القائلين بالامتناع ، فكذلك هي تواجه القائلين بالجواز ، لأنّ القائلين بالجواز ، إمّا بملاك كفاية تعدد العنوان ، وإمّا بملاك أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون. وفي كلتا الحالتين لا ينطبق ملاكهم في المقام ، لأنّ الصلاة لها عنوان واحد ، وقد تعلق الأمر بطبيعتها والنّهي بها مقيدة بالحمام ، فلا يوجد في المقام عنوانان حتى يكون ملاكا الجواز المذكور منطبقين في المقام.

كما إنّ القائل بالجواز ، بالملاك الأول ، وهو : إنّ الأمر يتعلق بصرف الوجود ، ولا يسري إلى الحصص. والنّهي متعلق بالحصة ، ولا يصعد إلى صرف الوجود ، فإنّه كذلك ، يواجه المشكلة ، لأنّ بعض موارد العبادات المكروهة ، يكون متعلق الأمر والنّهي فيها طبيعة واحدة ، وذلك كصوم يوم عاشوراء.

والخلاصة هي : إنّ استدلال القائلين بالجواز باجتماع الوجوب مع الكراهة ، ليس إشكالا على القائلين بالامتناع ، بل لا بد للقائلين بالجواز من الدفاع أيضا عن أنفسهم ، حيث أنّ القائل بالجواز ، إنما يقول به مع تعدّد العنوان ، لا وحدته ، وفي العبادات المكروهة ، قد تعلّق النّهي بنفس عنوان العبادة ، كالصلاة في الحمّام.

وما أفاده صاحب الكفاية (٢) صحيح ، بل حتى لو قلنا بالملاك الأول

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ج ١ ـ ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) كفاية الأصول ـ الخراساني : ج ١ ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

٤٦١

للجواز ، فإنّه أيضا يرد الإشكال في العبادات المكروهة ، لأنّها ليست منحصرة بما إذا كان الأمر بصرف الوجود ، بل يشمل موارد الأمر بنحو مطلق الوجود ، من قبيل كراهة صوم يوم عاشوراء ، فإنّه مستحب لأنّه عبادة مستحبة في كل يوم ، مع أنّه مكروه في يوم عاشوراء.

إذن فالإشكال ليس مختصا بالقائلين بالامتناع ، كما أنّ ثبوت العبادات المكروهة لا يمكن أن يكون دليلا على الجواز.

ثم إنّ صاحب الكفاية «قده» قسّم البحث في المقام إلى قسمين :

أ ـ القسم الأول : العبادة المكروهة التي لها بدل «كالصلاة في الحمّام».

ب ـ القسم الثاني : العبادة المكروهة التي لا بدل لها «كصوم يوم عاشوراء».

أمّا الكلام في القسم الأول : فإنّ القائلين بجواز الاجتماع بالملاك الأول ، فهم في فسحة من دفع هذا الإشكال طبقا لمبناهم ، حيث لا يرد عليهم ، وذلك لأنّ الأمر قد تعلّق بطبيعي الصلاة ، والنّهي قد تعلّق بحصة خاصة ، وهي الصلاة في الحمّام.

وكذلك من يقول بالامتناع بملاك الميرزا «قده» ، وهو كون المحذور ، اجتماع النّهي مع الترخيص في التطبيق ، كما عرفت تفصيله ، لأنّه لا منافاة بين النّهي عن الصلاة في الحمام ، وبين الترخيص في تطبيق المأمور به على الصلاة في الحمّام الذي استفيد من إطلاق دليل «صلّ» ، وذلك لأن هذا النهي كراهيّ ، كما هو المفروض ، فهو لا ينافي الترخيص بالفعل.

وإنّما يواجه هذا الإشكال من يقول بالجواز بالملاكين الثاني والثالث ، حيث لا ينطبق ملاكهما ، باعتبار عدم تعدد العنوان في المقام.

وكذلك يواجه هذا الإشكال من يقول بالامتناع ، بملاك أنّ النّهي عن

٤٦٢

الحصة يتنافى مع نفس الأمر المتعلق بصرف الوجود. وهذا الملاك متحقق في المقام لأنّه يقال : إنّ النّهي عن الصلاة في الحمّام ، يتنافى مع الأمر المتعلق بطبيعي الصلاة ، باعتبار سريانه إلى حصصه ، فيجتمع وجوب وكراهة في الصلاة في الحمّام ، وهو مستحيل.

والحاصل : إنّ هذه المشكلة مستحكمة بناء على هذه المذاهب.

وقد حاول صاحب الكفاية «قده» (١) دفع هذا الإشكال بحمل النّهي على الكراهة الإرشادية ، إلى قلة الثواب ، لا الكراهة المولوية ، ووجود حزازة في العبادة ، وبذلك يرتفع إشكال اجتماع حكمين متضادين ، وذلك لعدم وجود حكمين حينئذ في البين.

وبيان ذلك كما ذكر في «الكفاية» ، هو أن نفترض كون الصلاة لو خليت وطبعها ، فإنّها تقتضي ، خمس مراتب من المصلحة ، ولو عنونت بعنوانها الحسن ، كالصلاة في المسجد ، لاقتضت ست مراتب. ولو عنونت بعنوانها المكروه لاقتضت أربع مراتب. ويفترض أنّ المولى يريد أربع مراتب على أقل تقدير ، فهذه المراتب الأربعة تحفظ في الصلاة في الدار ، أو المسجد ، أو الحمّام. فالصلاة في أيّ واحد منها ، يكون محققا للمأمور به.

ولكن بما أنّ المولى يحرص على إرشاد العبد إلى المراتب العالية ، فحينئذ يأمره بالصلاة في المسجد ، وهذا أمر مولوي ، كما أنّه يحرص من تورطه بما يوجب نقصان المراتب ، فينهاه عن الصلاة في الحمّام ، وهذا النّهي ليس مولويا ، لأنّ النّهي المولوي هو الذي ينشأ عن مفسدة ، وهنا لا يوجد مفسدة ، غايته أنّه تقل فيه المصلحة. وعليه : فلا نهي مولويّ في المقام ، ومعه يندفع الإشكال لعدم اجتماع حكمين متضادّين في الصلاة الواقعة في الحمام.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني : ج ١ ص ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٤٦٣

إلّا أنّ الصحيح هو عدم تماميّة ما ذكره صاحب الكفاية «قده» ، وذلك لأنّه قد فرض أنّه يوجد عندنا بموجب ما ذكره ثلاثة أمور :

أ ـ الأمر الأول : المقتضي ، أي : الصلاة.

ب ـ الأمر الثاني : المقتضى ، وهو المصلحة ، أي : المرتبة الخامسة.

ج ـ الأمر الثالث : المانع ، الذي يمنع عن اقتضاء الصلاة لهذه المرتبة الخامسة. وهذا المانع هو الصلاة في الحمّام. وعليه : فيكون حصول هذه المرتبة الخامسة منوطا بعدم كون الصلاة في الحمّام.

وقد تقدم في بحث الضد ، أنّ مؤثرية عدم المانع الذي هو أحد أجزاء العلة ، ليس بمعنى أنّ عدم المانع يكون مؤثرا في اقتضاء المقتضي لمقتضاه حتى يقال : بأنّ عدم الصلاة في الحمام يؤثر في حصول المرتبة الخامسة ، فإنّ هذا مستحيل ، لأنّ معناه إنّ المعدوم يؤثر وجودا.

بل معنى مؤثريّة عدم المانع هو : إنّ وجود المانع يؤثر أثرا يمنع عن تأثير المقتضي لمقتضاه ، فحينئذ يؤخذ عدمه شرطا في التأثير.

ففي مقامنا مثلا : الصلاة ، لو خلّيت ونفسها ، تؤثر خمس مراتب ، وإيقاعها في الحمام يمنع عن تأثيرها خمس مراتب ، بمعنى أنّ كونها في الحمّام يوجب تأثيرها في أربع مراتب ، فيكون ذلك مانعا عن تأثيرها في خمس ، لأنّ هذه المرتبة مضادة لتلك.

وإلى هنا ثبت أنّ الصلاة في الحمّام تؤدي إلى منقصة ، لا إلى مجرد عدم الزيادة ، كما ذكر صاحب الكفاية «قده» ، لأنّ كونها في الحمّام أوجب حصول مرتبة تزاحم تأثير الصلاة في مرتبتها العالية ، فإيقاع الصلاة في الحمّام ، أوجب منقصة ، فتكون مبغوضة ، وهذا يستتبع نهيا مولويا ، وبذلك يبطل ما ذكره الآخوند «قده» من عدم استتباع الصلاة في الحمام المنقصة والمبغوضية ، وخاصة على مبناه من كون حسن الصلاة ذاتيا وتوضيحه :

إنّ صاحب الكفاية يرى أنّ محبوبية الواجب النفسي ذاتية ، بمعنى أنّ

٤٦٤

ملاك الصلاة قائم بذات الصلاة ، فبناء على ذلك يقال : بأنّ الصلاة لو خلّيت وطبعها تؤثر خمس مراتب من الحسن ، والكون في الحمام يمنع عن المرتبة الخامسة ، وعليه : فلا بدّ وأن يفرض أنّ الكون في الحمّام علّة لشيء مبغوض في نفسه ، ليقع الكسر والانكسار بين محبوبيتها الذاتية ومبغوضيّتها ، وتكون النتيجة : إنّ الصلاة في الحمّام توجب أربع مراتب فقط. وعليه : فلا بدّ من فرض مبغوضيّة تكون مؤثرة في نقصان المراتب ، ولا إشكال أنّ المبغوضية تستتبع نهيا مولويا.

نعم لو قيل : بأنّ محبوبية الصلاة ليست ذاتية ، بمعنى أنّ ملاك الصلاة غير قائم بها ، وإنّما هو قائم فيما يترتب عليها من مراتب الحسن ، فتكون محبوبيّتها غيرية ، ومعه لا يرد إشكالنا المذكور على صاحب الكفاية «قده» وذلك لأنّ الكون في الحمام ، وإن اقتضى ضدّا يزاحم تأثير الصلاة في خمس مراتب التي هي محبوبة في نفسها ، إلّا أنّ هذا الضّد لا يلزم أن يكون مبغوضا لأنّه لا يجب أن يكون ضد ما هو محبوب في نفسه ، مبغوضا ليرد الإشكال.

والصحيح إنّ التحقيق يقتضي ورود الإشكال حتى على هذا المبنى ، لأنّه يقال : إنّ المرتبة الخامسة محبوبة ، وبناء على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النّهي عن ضده العام ، كما هو الصحيح ، فيكون عدم هذه المرتبة الخامسة مبغوضا ، والمفروض أنّ الصلاة في الحمّام علة لعدم هذه المرتبة الخامسة ، وعلة المبغوض مبغوضة ، كما تقدم في مقدمة الواجب ، وعليه : فتكون الصلاة في الحمام مبغوضة ، وعليه : فلا بدّ أن تستتبع نهيا مولويا ، غايته أنّ هذا النهي غيريّ لأنّه مقدميّ.

إلّا أنّ القول بامتناع الاجتماع ، لا يفرّق فيه بين أن يكون الأمر والنّهي نفسيّين ، أو غيريّين أو مختلفين.

وعليه : فالإشكال وارد حتى على هذه الفرضية ، وبهذا يثبت أنّ ما أجاب به صاحب الكفاية عن أصل المشكلة ، غير صحيح على مبناه.

٤٦٥

والحاصل : إنّ المقصود أنّ ما ذكره صاحب الكفاية «قده» ، من عدم كون الصلاة في الحمّام موجبة للمفسدة والمبغوضية ، غير تام على مبناه ، ومعه لا يتم ما ذكره.

وتحقيق الكلام في دفع هذه المشكلة في هذا القسم ـ وهو العبادة التي لها بدل ـ أن يقال :

إنّ النهي في قوله «لا تصلّ في الحمام» له عدة ظهورات ، ويكون دفع الإشكال برفع اليد عن أحدها :

أ ـ الظهور الأول ، هو : ظهور النّهي في كونه مولويا ، بمعنى أنّه بداعي الزجر حقيقة ، وحينئذ نحمل هذا النّهي على الإرشاد ، فيكون بمثابة جملة خبرية يخبر فيها من يريد الصلاة ، أنّ الصلاة في الحمّام أقل مرتبة من غيرها ، وهذا الإرشاد قد يكون إرشادا إلى نقصان في الصلاة في الحمام ، ومبغوضية لها ، وبعد الكسر والانكسار بين هذه المبغوضيّة ومحبوبيّة الصلاة ينتج أربع مراتب ، وقد يكون إرشادا إلى أنّها أقل مرتبة بناء على المبنى الآخر في تأثير عدم المانع ، كما عرفت.

وعلى أيّ حال : يمكن حمل هذا النّهي على الإرشاد بأحد هذين المعنيين ، ومعه لا يلزم اجتماع حكمين متضادّين ، كما ذكر في تقريب صاحب الكفاية.

وقد عرفت فيما سبق ، إنّ إشكالنا على تقريب صاحب الكفاية «قده» ، إنّما هو على مبناه ، وإلّا فهو صحيح ، وبه يرتفع الإشكال.

ب ـ الظهور الثاني : هو : إن قوله «لا تصلّ في الحمّام» ظاهر في أنّ متعلقه الحصة الخاصة ، أي : المقيّد ، وهو الصلاة في الحمّام وليس متعلقا بنفس خصوصية الحصة : أي : بالتقييد ، وهو كون الصلاة في الحمّام ، حينئذ نقول :

٤٦٦

لو قطعنا النظر عن رفع اليد عن الظهور الأول ، وسلّمنا أنّ النّهي مولويّ ، فهنا بالإمكان دفع الإشكال ، وذلك برفع اليد عن هذا الظهور الثاني فنقول : إنّ متعلق النّهي هو خصوصية الحصة ، فيكون المنهي عنه التواجد في الحمام حين الصلاة ، ومتعلق الأمر هو ذات الصلاة ، فلم يلزم اجتماع حكمين متضادّين.

ج ـ الظهور الثالث ، هو : إنّ قوله : «لا تصلّ في الحمّام» الظاهر في النّهي المولويّ ، والمتعلق بالحصة الخاصة ، ظاهر في أن هذا النّهي ناشئ من مبادئ فعلية ، لا اقتضائية مغلوبة ، ومندكّة.

وحينئذ فلو قطعنا النظر عن رفع اليد عن الظهورين السابقين ، فبالإمكان رفع اليد عن هذا الظهور الثالث ، وبذلك يندفع الإشكال.

وتوضيح ذلك : إنّه يوجد مصلحة في طبيعي الصلاة ، كما أنّه يوجد مفسدة في الصلاة في الحمّام ، وهذه المفسدة بمقدار تعلقها الضمني بالكون في الحمّام ، لا يقع التنافي بينها وبين تلك المصلحة ، لأنّ الكون في الحمّام لم يكن متعلقا بالأمر ، ولكن هذه المفسدة بمقدار تعلقها الضمني بالصلاة الواقعة في الحمّام ، تكون مزاحمة لتلك المصلحة لأنّ هذه الصلاة الواقعة في الحمّام ، وقعت متعلقا للأمر ، ولذا حكمنا بصحتها ، فمن هنا حصل التنافي لاجتماع المصلحة ، والمفسدة في الصلاة الواقعة في الحمّام

الّا أنّ المفروض أنّ المصلحة فيها أقوى من المفسدة ، ولهذا حكم بصحتها.

وعليه : فهذه المفسدة بمقدار تعلقها بالصلاة ، تكون مغلوبة ومندكّة ، وبمقدار تعلقها في الكون في الحمّام ، لا تكون مغلوبة ، بل تكون فعلية.

والمولى يترقب منه أن يجعل حكما على طبق هذه المفسدة المغلوبة من جهة ، والفعلية من جهة أخرى.

٤٦٧

وبما أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الفعلية والغالبة ، لا للمصالح الاقتضائية المغلوبة ، فيكون المترقب من المولى أن يجعل النّهي على نفس الكون في الحمّام ، لا على الصلاة فيه ، وهذا هو ما ذكرناه من كون ظاهر النّهي المولوي ناشئا عن مبادئ فعلية ، لا اقتضائية مغلوبة ومندكة ، والوجه في ذلك ، هو : إنّ المقتضي لجعل النّهي موجودا والمانع مفقودا ، هو إمّا وجود المقتضي باعتبار أنّ ملاك النّهي موجود فيها ، لو خلّي هذا الفعل ونفسه ، وإمّا فقدان المانع ، فلأنّ المانع المتصور في المقام هو أنّه إذا جعل نهي على طبق هذه المفسدة المغلوبة بأن نهى المولى عن الصلاة في الحمّام ، للزم من ذلك تضييع المصلحة الغالبة الموجودة في هذه الصلاة حسب الفرض.

إلّا أنّ الصحيح : أنّ هذا المحذور لا يلزم ، فيمكن أن يجعل المولى نهيا على هذه الصلاة مع عدم تضييع المصلحة الغالبة ، وذلك لأنّ الأمر بالصلاة تعلق بالجامع بين الصلاة في الحمّام وغيرها ، والنّهي يجعل حسب الفرض ، على خصوص الصلاة في الحمّام ، ويمكن للمكلف عدم تضييع المصلحة ، واجتناب المفسدة المغلوبة ، وذلك بالصلاة خارج الحمّام.

ولا شك أنّ تحصيل المصلحة مع اجتناب المفسدة المغلوبة ، أحسن عند المولى من تحصيل المصلحة مع المفسدة المغلوبة الناشئة من الصلاة في الحمّام ، فيجعل المولى نهيا عن الصلاة في الحمّام ، لتحصيل المصلحة ، مع اجتناب المفسدة المغلوبة.

وبهذا يرتفع الإشكال ، لأنّ مبادئ الأمر المتعلّق بطبيعي الصلاة ، فعليّة ، إلّا أنّ مبادئ النّهي المتعلق بالصلاة في الحمّام ، ليست فعلية ، لأنّها مغلوبة كما عرفت ، وإذا اختلفت المبادئ من هذه الجهة ، لا يبقى تضاد بين الحكمين ، فهذا تصرف في ظهور النّهي الثالث ، أعني : كونه ظاهرا في أنّه ناشئ من مبادئ فعلية ، وحمله على أنّه ناشئ من مبادئ اقتضائيّة مغلوبة ، وبهذا يرتفع الإشكال.

٤٦٨

هذا تمام الكلام في القسم الأول ، وهو العبادة المكروهة ، والتي لها بدل.

وأمّا القسم الثاني ، وهو : العبادة المكروهة التي لا بدل لها ، «كصوم يوم عاشوراء» على القول بكراهته ، فهنا تمام متعلق الأمر هو متعلق النهي ، وهنا يكون الإشكال المذكور في القسم الأول أقوى ، حيث أنّ ما ذكرناه من الأجوبة في القسم الأول لا تأتي هنا.

وأمّا عدم تأتي الجواب الأول : فلأنّ المفروض أنّه لا بدل لصوم عاشوراء ليرشد المولى إليه.

وأمّا عدم تأتي الجواب الثاني : فلأنّه يستحيل حمل النّهي على أنّه متعلق بالخصوصيّة ، لأنّ ذات هذا الفرد من الصوم الذي هو متعلق للأمر ، ملازم مع تلك الخصوصية ، فلو تعلّق النهي بتلك الخصوصية للزم التكليف بما لا يطاق.

وأمّا تأتي الجواب الثالث ، وهو : رفع اليد عن ظهور النهي في كونه ناشئا من مبادئ فعلية ، فلأنّ عدم ملاك النّهي إن فرض كونه غالبا ، لزم أن تكون مبغوضية صوم عاشوراء أشدّ من محبوبيّته ، فإذا قدم الغالب يكون الصوم مبغوضا بالفعل ، ومعه لا يمكن التقرب به ليقع صحيحا. وإن فرض أنّ ملاك النّهي كان مغلوبا ، فحينئذ لا يستتبع نهيا ، ولا يقاس بما قيل في القسم الأول ، لأنّه إن استتبع نهيا في المقام ، لزم من ذلك تضييع الملاك الغالب ، لأنّ كليهما في مصب واحد ، بخلاف القسم السابق كما عرفت ، ومن هنا كان الإشكال في هذا القسم أقوى.

ثم إنّ المحقق الخراساني «قده» (١) تصدى لدفع هذا الإشكال بما حاصله : إنّنا نسلّم كون الكراهة متعلقة بصوم عاشوراء ، إلّا أنّ النّهي عن هذا الصوم ، لم ينشأ عن مبغوضية هذا الصوم ، ليقع باطلا ، بل نشأ عن

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني : ج ١ ـ ص ٢٥٧ ـ ٢٥٩.

٤٦٩

مصلحة في تركه ، فيرجع النّهي في المقام إلى طلب الترك ، لا إلى الزّجر عن الفعل ، ومعه لا مانع أن يفرض بقاء الصوم على مصلحته ، غايته ، يقع التزاحم بين ملاك المحبوبية في الفعل ، وملاك المحبوبية في ترك هذا الفعل. وحيث أنّ محبوبية الترك أقوى فيقدّم ، وهذا يقتضي النّهي ، بمعنى طلب الترك ، وبذلك يكون طلب الترك فعليا.

وأمّا طلب الفعل فلا يكون فعليا ، لأنّه مغلوب ، فيسقط الأمر بالفعل خطابا ، إلّا أنّه يبقى ملاكا كما هو الحال في سائر موارد التزاحم.

وعليه : فيمكن تصحيح هذا الصوم بالملاك بلا حاجة للأمر ، ومعه يرتفع الإشكال لعدم لزوم اجتماع حكمين متضادّين ، باعتبار سقوط الأمر كما عرفت.

إلّا أنّ الميرزا «قده» (١) أشكل على ما ذكره الخراساني «قده» بما حاصله :

إنّ التزاحم لا يعقل أن يكون بين استحباب صوم عاشوراء ، وبين استحباب تركه ، لأنّ هذين من الضدّين اللّذين لا ثالث بينهما ، فهما من المتناقضين ، وفي مثله لا يعقل التزاحم ، لأنّ فرض التزاحم هو فرض ثبوت جعلين ، حينئذ يقال : إنّه إن وجد ملاكان للاستحباب في الفعل والترك :

فإن كان أحدهما أقوى ، تعيّن جعل الحكم على طبق الأقوى.

وإن تساويا ، فلا حكم أصلا ، لأنّ جعله عليهما معا غير معقول ، لا تعيينا ، ولا تخييرا.

أمّا الأول : فلاستحالة الجمع بين الفعل والترك ، فيكون تكليفا بغير المقدور.

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٤٧٠

وأمّا الثاني : فلأنّ وقوع أحدهما قهريّ ، ومعه لا حاجة لجعل حكم تخييريّ بينهما.

نعم التزاحم يعقل بين الضدّين اللّذين لهما ثالث ، كالصلاة والإزالة كما مرّ تفصيله في محله.

لكن السيد الخوئي «قده» ، (١) حاول دفع هذا الإشكال عن صاحب الكفاية «قده» ، وصوّر إمكان التزاحم في المقام ، فذكر أنّ مقامنا من قبيل الضدّين اللّذين لهما ثالث ، ومعه يعقل وقوع التزاحم ، فإنّه ليس المقصود من المتناقضين ، المتناقضين في اصطلاح الفلاسفة ، بل المقصود بهما هو كل شيئين لا ثالث لهما ، كما أنّ المقصود بالضدّين ، كل شيئين لهما ثالث.

ومقامنا من قبيل الضدّين ، لأنّ لهما ثالث ، وذلك لأنّ المأمور به في محل الكلام ، ليس مطلق الصوم في عاشوراء ، بل حصة خاصة منه ، وهو الصوم القربي. وعليه : فيكون عندنا ثلاثة أطراف :

أ ـ الصوم القربي.

ب ـ الصوم بلا قربة.

ج ـ وترك الصوم.

وحينئذ ، ففي موارد التزاحم بين فعل الصوم القربى ، وترك الصوم ، إذا تساويا يمكن جعل حكم بينهما على نحو التخيير ، ولا يرجع ذلك إلى طلب الحاصل ، بدعوى أنّ وقوع أحدهما قهريّ ، وذلك باعتبار أنّه يمكن عصيانهما معا ، وذلك باختيار الضد الثالث وهو الصوم ، لا بقصد القربة ، وعليه : فما ذكره الميرزا «قده» من عدم إمكان فرض التزاحم بين فعل الصوم في عاشوراء ، وبين تركه ، غير صحيح.

__________________

(١) اجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

٤٧١

ولكن التحقيق في المقام هو أن يقال : بأنّ الميرزا «قده» تخيّل أنّ مقصود صاحب الكفاية «قده» من التزاحم ، هو التزاحم الحقيقي في عالم الامتثال.

ومثل هذا التزاحم يستدعي جعلين ، وحينئذ ، فيتوجه إشكال الميرزا «قده» بالنحو الذي عرفت.

ثم إنّ السيد الخوئي «قده» ، (١) مشى على فهم الميرزا «قده».

ومن هنا حاول دفع الإشكال عن الآخوند «قده» بناء على كون المقصود هو التزاحم الحقيقي.

إلّا أنّ الصحيح أنّه ليس مقصود صاحب الكفاية «قده» من التزاحم الحقيقي ، بل مقصوده ، التزاحم الملاكي الذي يستلزم جعلا واحدا على طبق الملاك الأقوى ، فإنّ صاحب الكفاية «قده» يريد أن يقول : بأنّه يوجد عندنا محبوبان : أحدهما صوم عاشوراء ، والثاني ترك هذا الصوم.

وبما أنّ ملاك الترك أقوى ، لذا جعل الحكم على طبقه دون الطرف الآخر ، وهو الفعل ، إلّا أنّ الفعل يبقى ملاكه محفوظا في نفسه ، فيتقرب بالفعل بواسطة ملاكه.

إذن فلا يوجد عندنا جعلان ، كي يرد إشكال الميرزا «قده».

ثم إنه لو سلّم أنّ مقصود صاحب الكفاية «قده» ، من التزاحم ، هو التزاحم الحقيقي ، لا الملاكي ، فحينئذ يتوجه إشكال الميرزا «قده» ، وما ذكره السيد الخوئي دفعا لإشكال الميرزا «قده» ، غير تام.

وقد أشرنا سابقا إلى الوجه في ذلك بما ملخصه :

إنّه كما في الأوامر الوجوبية يكون الأمر مقيدا لبّا ـ كما برهنّا عليه

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

٤٧٢

سابقا بعدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، كذلك في الأوامر الاستحبابية ، يكون الأمر الاستحبابي مقيدا لبّا بعدم الاشتغال بمستحب آخر مضاد مساو أو أهم.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الأمر بصوم عاشوراء ، لا بدّ أن يؤخذ في موضوعه عدم الاشتغال بمستحب آخر مضاد مساو ، أو أهم ، وهو هنا ترك هذا الصوم ، لأنّ المفروض أنّ الترك مستحب أهم ، وحينئذ فيكون عدم الترك مأخوذا في موضوع الأمر بصوم عاشوراء ، وعدم الترك هو الفعل ، فكأنه أخذ الفعل ، وهو صوم عاشوراء ، في موضوع الأمر بصوم عاشوراء ، فيرجع مثل هذا إلى قوله : إذا صمت ، فصم بقصد القربة.

وهذا غير معقول ، لأنّه قد فرض أنّ وقوع الفعل في مرتبة سابقة على الأمر ، وأنّ الأمر في طول وقوع الفعل ، والأمر الذي يكون في طول وقوع الفعل ، يستحيل أن يكون محركا نحو ذلك الفعل ، إذن فمثل هذا الأمر لا معنى له ، ومعه لا يبقى أمر بالصوم ليؤتى به بقصد القربة.

وعليه : فيقع الصوم باطلا.

وبهذا يثبت أنّ تطبيق التزاحم الحقيقي في المقام غير تام.

والخلاصة : إنّ السيد الخوئي «قده» (١) حاول دفع اعتراض الميرزا «قده» على صاحب الكفاية «قده» بما حاصله : إنّ المقام ليس من النقيضين أو الضدّين اللّذين لا ثالث لهما ، بل من الضدّين اللّذين لهما ثالث ، إذ توجد عندنا ثلاثة أمور ، هي : الصوم بقصد القربة ، والإمساك من دون قصد الصوم والقربة ، وعدم الإمساك أصلا. والعبادة ، هي الأمر الأول ، والمصلحة الأقوى في الأمر الثالث ، ويمكن التزاحم بينهما لإمكان تركهما ، وذلك بإتيان الفعل مجردا عن قصد القربة.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

٤٧٣

ودفع السيد الخوئي لإشكال الميرزا «قده» غير تام كما عرفت ، لأنّ الأمر بالصوم يوم عاشوراء ، ككل أمر ترتّبي ، في مقام التزاحم ، لا بدّ وأن يكون مشروطا بترك الاشتغال بالأهم ، أو المساوي ، وهو في المقام ترك الصوم ، الذي هو فعل الصوم.

إذن فيرجع هنا ، الأمر بالصوم ، إلى الأمر بقصد القربة على تقدير الصوم.

وهذا غير معقول ، لأنّ الأمر بشيء يستحيل أن يكون محركا نحو متعلقه ، مشروطا بتحقق متعلقه ، إذ لا يراد بقصد القربة إلّا محركية الأمر وداعويته ، وفي طول وقوع الشيء خارجا ، لا يعقل داعويّة الأمر نحوه.

وقد عرفت أنّ مقصود صاحب الكفاية من التزاحم في المقام ، إنما هو التزاحم الملاكي ، لا التزاحم الامتثالي ، والأمر الترتبي.

وحيث أنّ التزاحم الملاكي يقتضي ثبوت الملاك الأقوى ، وهو هنا ملاك الأمر ، وإن سقط خطابه ، وهذا لا يستلزم إلّا جعلا واحدا على طبق هذا الملاك. حينئذ أراد صاحب الكفاية «قده» تصحيح العبادة المكروهة على أساس ذلك ، حيث جعل الحكم على طبق ملاك الترك الذي هو أقوى ، وبقي ملاك الفعل محفوظا في نفسه ، وحينئذ يمكن التقرب بالفعل بواسطة ملاكه.

وعليه : فلا يوجد هنا جعلان كي يرد إشكال الميرزا «قده».

ثم إنّه قد يورد على ما ذكره في الكفاية ، بأنه حتى لو فرض أنّ التزاحم بين فعل صوم يوم عاشوراء وتركه ، كان تزاحما ملاكيا ، فلا يمكن الحكم بصحة الصوم من باب التقرب بملاكه ، وذلك لأنّه بناء على أنّ الأمر بشيء يقتضي النّهي عن ضده العام ، سوف يكون الأمر المتعلق بترك هذا الصوم مقتضيا للنّهي عن هذا الصوم ، وهذا يوجب مبغوضيته ، ومعه يستحيل وقوعه عباديا.

٤٧٤

وبهذا يبدو الفرق بين التزاحم الملاكي ، بين ملاكي النقيضين ، كما في محل الكلام ، وبين التزاحم الملاكي بين ملاكي الضدّين كما في الإزالة والصلاة ، حيث أنّ هذا الإشكال لا يرد باعتبار أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النّهي عن ضده الخاص ، وهو محل كلام. إلّا أنّ هذا الإشكال غير صحيح ، ويجاب عنه بعدة أجوبة :

١ ـ الجواب الأول : إنّ مثل هذا النّهي عن الصوم الذي اقتضاه الأمر بالصوم ، إنّما هو نهي غيريّ ، وهو لا يوجب البطلان ، كما حقّق في محله.

٢ ـ الجواب الثاني ، هو : إنّ المصلحة الاستحبابية الغالية ، لم تكن متعلقة بالترك بعنوانه ، بل هي متعلقة بعنوان منطبق على الترك ، كما فرض صاحب الكفاية «قده» في كلامه.

وبذلك يندفع الإشكال ، لأنّ الأمر يكون متعلقا بذلك العنوان المطبق على الترك ، ولنفرضه عنوان مخالفة بني أميّة ، باعتبار أنّ بني أميّة صاموا يوم عاشوراء فرحا ، وحينئذ فمثل هذا الأمر يستدعي النّهي عن نقيض هذا العنوان وهو عدم مخالفة بني أميّة.

وبذلك يثبت أنّه لا نهي عن نفس الصوم.

وعليه فهذا الإشكال لا يرد على صاحب الكفاية «قده»

هو أن يقال : إنّ الإتيان بصوم عاشوراء ، بداع إلهي ، هو أمر غير معقول ، لأنّ معنى الإتيان بالفعل كذلك ، هو إنّ الله تعالى هو الدافع إلى ترجيح الفعل على الترك ، وفي مثله يمكن التقرب بالفعل.

إلّا أنّ المفروض في مقامنا ، أنّ ترك صوم عاشوراء أفضل من صومه.

ومعه لا يعقل أن يكون الله تعالى داعيا إلى ترجيح فعله على تركه.

ومن هنا لا يمكن الإتيان بالصوم بداع إلهي ، إذن فما ذكره صاحب الكفاية «قده» من أنّه يتقرب بصوم عاشوراء بواسطة ملاكه ، غير صحيح.

٤٧٥

ولا يقاس ذلك على مورد تزاحم الصلاة مع الإزالة ، بداع إلهي ، مع أنّ الإزالة أهم ، لأنّنا نقول : إنّ المقصود من الداعي الإلهي ، هو أن يكون المولى هو الدافع إلى أنّ الفعل أولى من الترك ، وهنا فعل الصلاة أولى من ترك الصلاة في نظر المولى على تقدير ترك الإزالة وعصيانها.

والحاصل : إنّ تصحيح الصوم بناء على ما ذكره في الكفاية من التقرب بملاكه ، غير صحيح ، لأنّه لا معنى لمثل هذا التقرب ، ولا للإتيان بالفعل بداع إلهي ، كما عرفت.

فالتحقيق في مقام دفع الإشكال بالنسبة للعبادات المكروهة التي لا بدل لها ، هو في حمل النواهي الواردة في المقام على الإرشاد ، بمعنى أنّ المكلّف حسب العادة الجارية ، لا يصوم الدهر كله ، وإنّما يصوم استحبابا بعض الأيام ، وحينئذ فيرشده المولى إلى تطبيق هذه الأيام التي يريد صومها استحبابا على غير يوم عاشوراء.

وبذلك يندفع الإشكال ، لأنّه لا نهي مولوي ليلزم من ذلك اجتماع الحكمين المتضادّين كما هو لسان الإشكال.

ولا يخفى أنّ هذا الإرشاد هو غير الإرشاد الذي حملت عليه النواهي في القسم الأول من العبادات المكروهة.

ومن هنا ، فلا يرد الإشكال على قولنا ، من أنّ جميع الأجوبة التي ذكرت في القسم الأول ، لا تأتي هنا في القسم الثاني ، لأنّ الإرشاد السابق قصد به الإرشاد إلى بقيّة الأفراد ، وهذا لا يأتي في المقام ، لأنّ الصوم لا بدل له ليرشد إليه ، وإنما المقصود بالإرشاد هنا ، الإرشاد إلى التطبيق ، كما عرفت.

* ـ التنبيه التاسع

هو فيما إذا فرض كون الحرمة ساقطة أو مترقبة السقوط بقطع النظر عن الأمر ، وإنما سقوطها أو ترقبه بسبب طرو الاضطرار لإيقاع الحرام ، كما

٤٧٦

لو ألزم المكلّف بالتّوضّي بالماء المغصوب ، وألزم بإراقة الماء المغصوب على أعضائه ، بحيث لا يكون في إراقته على أعضاء الوضوء غصب زائد على الغصب الحاصل من إراقته على بقيّة الأعضاء ، ففي مثل ذلك تسقط الحرمة عن مادة الاجتماع ، باعتبار الاضطرار.

وهذا الكلام لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في مادة الاجتماع من ناحية الأمر ، وأنّه هل يثبت الأمر في مادة الاجتماع بعد سقوط الحرمة؟ أو إنّه لا يثبت؟ وذلك بعد الفراغ عن القول بامتناع اجتماع الأمر والنّهي.

بينما كان الكلام في غير هذا التنبيه في مادة الاجتماع ، والتي يفرض فيها كون الحرمة ثابتة ، بقطع النظر عن الأمر ، بمعنى أنّه لا يوجد ما يترقّب مانعيّته عن الحرمة سوى الأمر ، وإلّا فلو لا الأمر لكانت الحرمة فعليّة ، ولذا كنّا نبحث هناك أنّ الأمر هل ينافي ثبوت الحرمة ، وهو معنى القول بالامتناع ، أو إنّه لا ينافي ثبوتها ، وهو معنى القول بالجواز ، بينما الكلام في هذا التنبيه ، كما عرفت.

وتفصيل الكلام فيه يقع في مقامين ، لأنّه تارة يكون الاضطرار بغير اختياره ، وأخرى يكون الاضطرار باختياره.

١ ـ المقام الأول ، وهو : فيما إذ حدث الاضطرار بغير اختياره.

والكلام في هذا المقام ، تارة يقع في الكبرى ، أي : في حكم مادة الاجتماع ، وأخرى في الصغرى ، أي : في الأمثلة التي تكون مصداقا لهذه الكبرى.

أمّا الكلام في الكبرى : أي : في حكم مادة الاجتماع : فلا إشكال من ناحية الحكم التكليفي ، لأنّ الحرمة تسقط بالاضطرار كما عرفت وستعرف عند البحث في حديث الرفع.

وإنما الكلام في الحكم الوضعي ، وهو : إنّه بعد سقوط الحرمة عند الوضوء بالماء المغصوب ، هل يكون إطلاق دليل الأمر بالوضوء ، شاملا

٤٧٧

لمثل هذا الوضوء ، بحيث يقع هذا الوضوء بالمغصوب مصداقا للواجب ويكون صحيحا ، أو إنّه لا يشمله ، فيقع فاسدا؟

ذهب المشهور إلى أنّ إطلاق دليل الأمر ، شامل له لوجود المقتضي وعدم المانع.

أمّا وجود المقتضي ، فلأنّ الأمر بالوضوء مطلق لم يقيّد بعدم كون الوضوء بماء الغير.

وأمّا عدم المانع ، فلأنّ المانع عن فعليّة هذا المقتضي هو الحرمة ، وقد سقطت بالاضطرار.

ومن هنا فرّق المشهور بين قسمين من المانعية :

أ ـ القسم الأول من المانعية ، هو : المانعيّة المتحصلة من الحرمة التكليفية كما في المقام ، فإنّ الوضوء قيّد بأن لا يكون بماء مغصوب ، فالغصبية مانعة عن صحة الوضوء ، وهذه المانعيّة لم يدل عليها دليل مباشرة ، وإنما استفيدت بلحاظ دليل حرمة الغصب ، بضم برهان القول بالامتناع.

إذن فهذه مانعيّة استفيدت بلحاظ دليل الحرمة التكليفية.

ب ـ القسم الثاني من المانعيّة ، هي : المانعيّة المستفادة من النّهي الإرشاديّ ابتداء ، من قبيل ، «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» ، فإنّ هذا النّهي مسوق ابتداء لإفادة مانعيّة لباس ما لا يؤكل لحمه عن صحة الصلاة ، وليس مفاده الحرمة.

فهذان قسمان من المانعيّة.

وقد فرّق المشهور بينهما ، فقالوا : إنّ كل مانعيّة تكون من قبيل القسم الأول ، أي : مستفادة بلحاظ الحرمة التكليفية ، فمثل هذه المانعية ترتفع بارتفاع الحرمة ، لأنّها نتجت عنها. وكل مانعيّة تكون من قبيل القسم الثاني ،

٤٧٨

فلا ترتفع بالاضطرار إلى ارتكاب نفس المانع ، كما لو أضطر المكلف إلى لبس «ما لا يؤكل لحمه طوال النهار» ، وذلك لأنّ قوله ، «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» ، ليس مفاده الحرمة لترتفع المانعية بارتفاع الحرمة ، وإنّما مفاده المانعيّة ، والمانعية يمكن انحفاظها حتى مع الاضطرار. وعليه :

فيتمسك بإطلاق دليل المانعيّة لإثبات مانعيّة «لبس ما لا يؤكل لحمه» عن صحة الصلاة ، حتى في حالة الاضطرار إلى لبسه.

ونتيجة ذلك : سقوط الأمر بالصلاة المقيّد بعدم هذا المانع.

نعم إذا وجد دليل خاص على ثبوت أمر بالصلاة ، مع وجود هذا المانع ، فإنّه حينئذ يلتزم به ، كما وجد ذلك الدليل الخاص بالنسبة للصلاة التي لا تسقط بحال ، وإن كان هذا الالتزام على خلاف القاعدة ، إلّا أنّه لا بدّ من مراعاة الدّليل الخاص.

وقد خالف المحقق النائيني «قده» (١) هذا المشهور ، في هذه التفرقة بين المانعيّة في كل من القسمين ، وذهب إلى أنّ حال المانعيّة في القسمين واحد ، وهو عدم ارتفاع المانعيّة بطرو الاضطرار إلى ارتكاب المانع ، ويقرب ذلك بتقريبين :

١ ـ التقريب الأول ، هو : المستفاد من كلام الميرزا «قده» كما ذكره السيد الخوئي «قده» (٢) في التقريرات وحاصله :

إنّ سقوط الحرمة لا يوجب ارتفاع المانعيّة ، كما ذكره المشهور ، لأنّ النّهي التكليفي عن الغصب يكون علة لأمرين في رتبة واحدة ، وهذان الأمران ضدان : أحدهما الحرمة ، والثاني : عدم الوجوب ، أي : المانعيّة عن كونه واجبا ، وعن شمول دليل الواجب له. وقد عرفت في بحث الضدّ ، أنّ وجود أحد الضدّين في مرتبة عدم ضده الآخر.

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٢) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ـ ص ٣٧١ ـ ٣٧٢.

٤٧٩

وحينئذ ، فهذه العلة ، وهي النّهي ، إذا وجد ما يمنعها عن إيجاد معلولها الأول وهو الحرمة ، فلا يعني ذلك عدم تأثيرها في إيجاد معلولها الثاني ، وهو المانعيّة.

وعليه فالمانعيّة تكون ثابتة وإن سقطت الحرمة ، كما تكون المانعيّة من القسم الثاني ثابتة بعد الاضطرار إلى ارتكاب نفس المانع.

ثم إنّ السيد الخوئي «قده» (١) اعترض على الميرزا «قده» باعتراضين :

١ ـ الاعتراض الأول ، هو : إنّ مقصود الميرزا «قده» من كون النّهي علة للحرمة ولعدم الوجوب ، أي : إن المانعيّة هو العليّة بحسب مقام الإثبات والكشف ، لا بحسب مقام الثبوت ، وذلك لأنّه في عالم الثبوت يكون النّهي ناشئا عن الحرمة ، فكيف يكون علة لها.

وعليه : فعلّيّة النّهي للحرمة والمانعيّة ، إنّما هو بحسب عالم الإثبات والكشف ، بمعنى أنّ النّهي يكون كاشفا عن الحرمة والمانعية.

ومن هنا يرد الاعتراض على الميرزا «قده» بما حاصله : إنّ النهي لا يكون كاشفا عن الحرمة والمانعيّة في عرض واحد ، لأنّ الحرمة مدلول مطابقيّ للنّهي ، والمانعيّة مدلول التزاميّ له.

ومن الواضح أنّ كشف الكلام عن مدلوله المطابقيّ ، أسبق رتبة من كشفه عن مدلوله الالتزاميّ.

وما ذكر برهانا في بحث الضدّ ، من أنّ وجود أحد الضدّين مع عدم ضده الآخر ، معلولان في رتبة واحدة ، إنّما هو بحسب مقام الثبوت ، لا الإثبات كما هو نظر الميرزا «قده».

إذن فلا يمكن أن يثبت مقصود الميرزا «قده» بذلك البرهان من عرضية المدلولين.

__________________

(١) أجود التقريرات الخوئي : ج ١ ص ٣٧١ ـ ٣٧٢.

٤٨٠