بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

كونه بنحو العليّة التامة المنحصرة ، فإنّ هذه الأمور حيثيّات تعليليّة للتوقف ، وليست هي السبب في التوقف.

وبهذا يظهر ، انّ الركن الأول الذي ذكره المشهور ، في مقام بيان الضابط ، في دلالة الجملة على المفهوم ، غير تام.

وأمّا استفادة المفهوم بلحاظ المدلول التصديقي ، فيما إذا فرض أنّا لم نستفده بلحاظ المدلول التصوري ، فهو أن يقال : إنّا لو صدّقنا انّ الشرط علة تامة منحصرة للجزاء ، بتقريب من التقريبات لصدقنا بأنه إذا انتفى الشرط لا بد وأن ينتفي الجزاء ، كما لو تمسكنا بقاعدة انّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد ، بتقريب ، انّه لو كان للحكم في الجزاء علة أخرى غير الشرط ، لزم صدور الواحد من اثنين ، وهو مستحيل ، إذن فالجزاء لا يصدر إلّا من الشرط ، وهذا يعني انحصاره به إذ مع عدم الشرط ، لا بدّ وأن يكون الجزاء معدوما أيضا.

ومن الواضح ، انّ كلام المشهور أكثر انطباقا على هذا اللحاظ التصديقي منه على اللحاظ التصوري ، غاية الأمر ، أنّه لا بدّ من تعديل ما ذكره المشهور كما عرفت في التعليق الإجمالي ، وهو انّه لا يلزم أن نثبت الأمور الأربعة لتتم الدلالة على المفهوم.

وبما ذكرناه ، يتضح انّ استفادة المفهوم على مستوى المدلول التصوري ، يكون بإثبات كون الجملة الشرطيّة موضوعة بهيئتها أو بأداتها للنسبة التوقفيّة.

وأمّا استفادته على مستوى المدلول التصديقي ، فهو أن يكون المدلول التصديقي متضمنا للدلالة على انّ الشرط والجزاء لا ينفك أحدهما عن الآخر ، إمّا لكون الشرط علة منحصرة له ، أو لأنّه جزء علة منحصرة ، أو لكونهما معلولين لعلة ثالثة منحصرة.

وعليه ، فلا بدّ من صياغة الركن الأول الذي ذكره المشهور بهذا النحو.

٥٨١

ثم إنّ المحقق العراقي «قده» (١) قد وافق المشهور على انّ ضابط دلالة الجملة على المفهوم ، هو تماميّة هذين الركنين دون أن يناقش في ذلك ، إلّا انّه قال ، إنّ الركن الأول ، وإن كان دخيلا في استفادة المفهوم من الجملة ، لكن هذا الركن محل وفاق بين العلماء حتى في مثل الجملة الوصفية ، كما ستعرف ، وإنّما النزاع وقع بينهم ، في الركن الثاني ، وأنّ المعلّق على الشرط ، أو الوصف ونحوهما ، هل هو نوع الحكم ، ليثبت المفهوم ، أم انّه شخص الحكم كي لا يثبت ، ولذا حصر بحثه في الركن الثاني ، واستدل على ما ذكره «قده» من كون الركن الأول محل وفاق بين العلماء ، بأنّه لا إشكال عندهم ـ فيما إذا ورد مطلق ، «كأعتق رقبة» ، ثم ورد مقيد ، «كأعتق رقبة مؤمنة» ـ في حمل المطلق على المقيّد ، فيما إذا علم انّ الحكم المجعول في مؤمنة» ـ في حمل المطلق على المقيّد ، فيما إذا علم انّ الحكم المجعول في كلا الدليلين واحد ، فيحكم بوجوب عتق خصوص الرقبة المؤمنة ، وهذا يدل على انّهم متفقون على الركن الأول ، لأنّهم لو لم يروا بأنّ الوصف مثلا علة تامة منحصرة للحكم ، لما حملوا المطلق على المقيد ، وذلك لأنّه بناء على ذلك ، يحتمل أن يكون هناك وصف غير الإيمان يوجب إيجاب العتق ، ومعه لا يصح حمل المطلق على المقيّد والحكم بوجوب عتق خصوص المؤمنة.

وعليه فحملهم المطلق على المقيد ، يدل على اتفاقهم ، بأنّ الوصف أو الشرط ونحوهما علّة تامة منحصرة بالنسبة للجزاء ، ولأجل ذلك ، حصر بحثه في الركن الثاني ، وذكر انّه متى ما أثبتنا انّ المعلّق على الشرط ، هو نوع الحكم ، فيثبت المفهوم ، وأمّا إذا لم نثبت ذلك ، فلا مفهوم.

وإن شئت قلت : إنّ المحقق العراقي «قده» ذكر ، بأنّ نزاع الأصحاب في بحث المفاهيم ، إنّما وقع في الركن الثاني من الأركان الأربعة المتقدمة ، فيكون قد جعل ضابط استفادة المفهوم ، هو كون المعلّق في الجزاء هو سنخ الحكم ، بينما هم متفقون على الركن الأول.

__________________

(١) مقالات الأصول ـ ج ١ ـ العراقي ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

٥٨٢

وقد استدلّ على اتفاقهم هذا ، بأنّهم يتفقون في باب المطلق والمقيّد على حمل المطلق على المقيّد فيما لو علم وحدة الحكم المجعول في كلا الدليلين ، وليس معنى هذا ، إلّا كون القيد والوصف علة منحصرة للحكم ، وإلّا فلو فرض احتمال وجود علة أخرى للحكم لاحتمل ثبوت الحكم مع انتفاء القيد ، وحينئذ لا يكون هناك وجه لحمل المطلق على المقيد ، بل لا بدّ وأن يؤخذ بالمطلق والمقيّد معا.

وما ذكره «قده» غير تام ، لأنّ اتفاقهم على حمل المطلق على المقيّد ، يكشف عن اتفاقهم على ان شخص الحكم ينتفي بانتفاء شرطه أو وصفه ، وهذا يعني ، انّ الشرط أو الوصف علة تامة منحصرة بالنسبة لشخص الحكم المعلّق عليهما.

وهذا لا خلاف فيه ، وبهذا يثبت اتفاق العلماء على دلالة القضيّة الوصفيّة على انّ الوصف علة تامة منحصرة بالنسبة لشخص الحكم المعلّق على الوصف.

إلّا انّ هذا لا يكشف عن اتفاقهم ، بأنّ القضيّة الوصفيّة تدل على كون الوصف علة تامة منحصرة بالنسبة إلى طبيعي الحكم ، لو كان المعلّق على الوصف هو طبيعي الحكم.

وذلك لأنّ البرهان الذي يثبت به العليّة التامة الانحصاريّة للوصف إنما هو بالإضافة لشخص الحكم ـ إذا فرض انّ المعلّق عليه هو شخص الحكم.

ولكن هذا البرهان لا يثبت العليّة التامة الانحصاريّة للوصف بالنسبة إلى طبيعي الحكم.

وتوضيح ذلك ، يتوقف على ذكر هذا البرهان ، وحاصله : هو انّ تشخّص كل حكم ، يكون بجعله ، ومن الواضح ، انّ كلّ جعل له موضوع واحد يجعل الحكم على أساسه ، ولا يعقل أن يكون له موضوعان عرضيّان.

نعم يمكن أنّ يكون الحكم متقوّما بموضوعين ، لكن على سبيل البدل.

٥٨٣

وبناء على ذلك يقال : إذا ورد ، «أكرم العالم» ، ثم ورد ، «أكرم العالم العادل» وعلمنا بوحدة الحكم في المطلق والمقيد ـ ومن الواضح انّ وحدة الحكم ترجع إلى وحدة الجعل ـ ومن هنا يمكن أن نثبت انّ «العدالة» التي أخذت في المقيّد هي علة تامة منحصرة بالنسبة إلى شخص الحكم ، وهو «وجوب الإكرام» ، بمعنى أنّها مأخوذة في موضوع ذلك الجعل الواحد ، بنحو لا يكون الجعل شاملا لحالة فقدها.

والذي يدلنا على ذلك ، هو انّه لو كان هناك علة أخرى ، لوجوب الإكرام ، غير العدالة ، فحينئذ ، لا يخلو الأمر ، فإمّا أن يكون كل من العلتين بعنوانه مأخوذا في موضوع هذا الجعل الواحد ، وإمّا أن يكون المأخوذ هو الجامع بينهما.

فإن كان الأول ، فهو مستحيل ، لأنّه يستحيل أن يكون للجعل الواحد موضوعان عرضيّان كما عرفت.

وإن كان الثاني ، أي انّ المأخوذ هو الجامع ، فهذا ممكن ، إلّا أنّ معنى ذلك ، هو انّ العدالة لم تؤخذ بعنوانها الخاص في عالم الجعل ، وإنّما هي مأخوذة في ضمن أخذ الجامع بينها وبين العلة الأخرى المفروضة.

وهذا ينافي أصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات ، فإنّ مقتضى هذا الأصل ، هو انّ كل قيد أخذ إثباتا ، فهو مأخوذ ثبوتا ، وإذا لم يكن مأخوذا إثباتا ، فلا يكون مأخوذا ثبوتا.

وفي محل كلامنا ، المفروض ، انّه قد أخذت العدالة بعنوانها الخاص في عالم الجعل ومقام الإثبات ، وهذا يكشف عن أنها مأخوذة كذلك في مقام الثبوت ، وبذلك يبطل فرض كونها مأخوذة في ضمن الجامع.

وعليه ، فإذا بطل هذان الاحتمالان المتفرعان على فرض علة أخرى غير العدالة ، يثبت حينئذ ، انّ العدالة ، علة تامة منحصرة ، وإذا كانت هكذا

٥٨٤

فبانتفائها ينتفي شخص الحكم ، وبذلك يتعيّن حمل المطلق ، وهو «أكرم العالم» ، على المقيّد ، وهو «أكرم العالم العادل».

إلّا انّ هذا البرهان لا يتم فيما إذا كان المعلّق على الوصف هو طبيعي الحكم ، لأنّا نختار الاحتمال الأول ، وهو أن يكون هناك علّة أخرى للوجوب ، ويكون كل من العلّتين بعنوانه الخاص ، علة وموضوعا ، ولا يلزم منه ، تقوّم الجعل الواحد بموضوعين عرضيين ، لأنّ كلامنا في طبيعي الحكم ، ولا مانع من وجود جعلين بالنسبة للطبيعي ، أحدهما أخذ في موضوعه العدالة ، والثاني ، أخذ في موضوعه العلة الأخرى المفترضة.

فبهذا يثبت انّ البناء على كون الوصف علة منحصرة بالنسبة لشخص الحكم إذا علّق على ذلك الوصف لا يلزم منه كون الوصف علة منحصرة بالنسبة لطبيعي الحكم إذا علق على ذلك الوصف ، وعليه فلا يمكن ان نستكشف من اتفاق العلماء على حمل المطلق على المقيد انهم متفقون على الركن الأول الذي ذكره المشهور بحيث لا نحتاج في إثبات المفهوم إلّا إلى إثبات الركن الثاني كما ذكر المحقق العراقي «قده».

هذا تمام الكلام في الركن الأول ، مع ما يرد عليه.

وأمّا بالنسبة إلى الركن الثاني ، وهو ان يكون المعلّق على الشرط أو الوصف طبيعي الحكم لا شخصه ، فهذا الركن لا إشكال في اعتباره في الجملة ، باعتبار انّه لو كان المعلّق على الشرط هو شخص الحكم ، فلا مفهوم ، لأنّه مع انتفاء الشرط يحتمل أن يكون وجوب نفس الفعل ثابتا ، لكن في شخص آخر ، وبملاك آخر.

وإن شئت قلت : إنهم ذكروا انّه لا بدّ وأن يكون مدلول الجزاء ـ فيما لو كانت الجملة شرطية ـ طبيعي الحكم وسنخه ، لا شخصه ، حتى يمكن أن يستكشف من انتفاء الشرط انتفاء الحكم ، وأمّا استكشاف انتفاء شخص الحكم الذي قد يثبت في كل قضيّة ، فليس هو المفهوم ، لاحتمال وجود شخص آخر من نفس الحكم.

٥٨٥

ولنا حول هذا الركن كلامان :

١ ـ الكلام الأول : ونتعرّض فيه لذكر إشكال مع دفعه ، وهذا الإشكال ، قد أورد على ما ذكره المشهور من الضابط ، ومرجعه ، إلى انّه على بعض التقادير ، يكون الركن الثاني وحده كافيا لإثبات المفهوم ، دون حاجة إلى الركن الأول ، وعلى بعض التقادير الأخرى ، لا يكون كلا الركنين وافيين لإثبات المفهوم.

وحاصل هذا الإشكال هو : انّه إذا قال المولى ، «إذا جاءك زيد فأكرمه» ، وفرض انّ المعلق على المجيء ، هو مطلق الوجوب وطبيعيّة ، فحينئذ ، نقول.

إنّ للإطلاق معنيين ، أحدهما ، الإطلاق بنحو مطلق الوجود ، وهو المسمى بالإطلاق الاستغراقي ، والثاني ، الإطلاق بنحو صرف الوجود ، ففي مثالنا ، إمّا أن يكون المعلّق على الشرط هو المطلق بنحو مطلق الوجود ، أو المطلق بنحو صرف الوجود.

فإن أريد الأول ، فيرجع قولنا : «إذا جاءك زيد فأكرمه إلى أن المعلق على المجيء هو كل فرد من أفراد وجوب الإكرام ، وإنّ تمام أفراد وجوب الإكرام إنّما تثبت عند مجيئه.

وهذا يكفي لإثبات المفهوم ، حتى ولو لم نثبت الركن الأول ، وهو كون الشرط علة تامة منحصرة ، أو كون الجملة الشرطيّة بأداتها أو هيئتها موضوعة للنسبة التوقفيّة كما ذكرنا نحن ، لأنّ تعليق تمام أفراد الوجوب على المجيء ، يدل كما هو واضح ، على انتفاء طبيعيّ وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء ، بلا حاجة إلى ضم شيء آخر ، وحينئذ ، فيكون الضابط لإثبات المفهوم ، هو تماميّة الركن الثاني فقط.

وإن أريد الثاني : وهو كون المعلّق على الشرط إنّما هو المطلق بنحو صرف الوجود ، فمن المعلوم ، انّ صرف الوجود ، مساوق للوجود الأول ، لأنّ صرف الوجود ، هو الناقض للعدم المطلق ، وذلك يساوق الوجود

٥٨٦

الأول ، وحينئذ ، فيرجع قولنا ، «إذا جاءك زيد فأكرمه» إلى انّ أول وجود لوجوب إكرامه ، معلّق على مجيئه ، فإذا أثبتنا أنّ المجيء علة منحصرة لوجود وجوب الإكرام الأول ، فيثبت المفهوم بالنسبة للوجود الأول ، بمعنى ، انّه إذا لم يجيء ، فالوجود الأول لوجوب الإكرام ، لا يثبت ، إلّا انّ هذا لا يكفي لإثبات المفهوم الذي نحن بصدد إثباته ، والذي هو عبارة ، عن نفي وجوب إكرامه قبل مجيئه ، وانّه إذا جاء وأكرمناه فلا سبب آخر يقتضي وجوب إكرامه بعد ذلك ، فهذا هو المفهوم الذي نحن بصدد إثباته.

وفي محل الكلام ، لو فرض «أنّ زيدا جاء وأكرمناه» ، وبعد ذلك ، فرض واحتملنا أن يكون مرضه سببا لوجوب إكرامه ، فهنا لا يمكن أن ننفي هذا الاحتمال بهذا المفهوم ، لأنّ غاية ما يدل عليه هذا المفهوم هو انّ الوجود الأول لوجوب الإكرام ، لا يتحقّق إلّا بالمجيء ، إلّا انّ ما فرضناه ، هو وجود ثاني للوجوب ، وهذا المفهوم لا يتكفّل بنفيه هذا الوجود الثاني ، لأنّ كون المجيء علة منحصرة للوجود الأول لوجوب الإكرام ، لا ينافي أن يكون المرض علة منحصرة للوجود الثاني لوجوب الإكرام كما هو واضح.

وبهذا يثبت ، انّ كلا الركنين على هذا الفرض ، لا يثبتان المفهوم بالمعنى الذي هو محل كلامنا.

وبهذا يتحصل ، انّه على بعض التقادير ، الركن الثاني ، يكفي لإثبات المفهوم ، بلا حاجة إلى إثبات الركن الأول ، وعلى بعض التقادير الأخرى ، لا يكون كلا الركنين وافيين لإثبات المفهوم.

وبهذا يثبت ، انّ ما ذكره المشهور من الضابط ، غير تام.

هذا هو حاصل الإشكال.

إلّا ان هذا الإشكال غير تام ، لأنّه مبني على انّ الإطلاق الاستغراقي ، يرجع إلى ملاحظة تمام الأفراد ، وانّ الإطلاق بنحو صرف الوجود ، يساوق الوجود الأول ، مع انّ هذا غير صحيح.

٥٨٧

وتوضيح ذلك ، يتوقف على التنبيه على أمر ، تقدّم تحقيقه سابقا ، في مقام التفريق بين الأمر والنهي ، وانّ إطلاق الأول بدلي ، وإطلاق الثاني استغراقي ، حيث ذكرنا هناك ، انّ المطلقات لا نظر فيها إلى الأفراد بما هي أفراد ، وإنّما النظر فيها إلى الطبيعة ، وأمّا العمومات ، فالمنظور فيها هو الأفراد.

إذن فمصبّ النظر في المطلق ، هو ذات الطبيعة بلا قيد زائد ، ومثل هذه الطبيعة ، إذا علّق عليها محمول من المحمولات ، فقد يكون تعليق بعض المحمولات مقتضيا لتأثير هذا المحمول في تمام أفراد الطبيعة ، وقد يكون تعليق بعضها مقتضيا لتأثير المحمول في أحد أفراد الطبيعة ، والمثال الواضح لذلك ، هو «الأمر والنهي» ، فإذا علّق على الطبيعة محمول من قبيل الأمر ، كقوله ، «صل» فتعليق هذا المحمول ، يقتضي تأثيره في أحد أفراد الطبيعة ، لأنّ المحمول هنا ، وهو الأمر ، يقتضي إيجاد طبيعة الصلاة ، وهذا ، يتحقّق بإيجاد فرد واحد منها ، وهذا ما يسمى بصرف الوجود ، وأمّا إذا علّق على الطبيعة محمول ، من قبيل ، النهي ، كقوله ، «لا تكذب» ، فتعليق هذا المحمول ، يقتضي تأثيره في جميع أفراد الطبيعة ، لأنّ المحمول هنا وهو النهي ، يقتضي إعدام الطبيعة ، ومن الواضح ، انّ انعدام الطبيعة ، لا يتحقق ، إلّا بانعدام جميع أفرادها.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : في محل الكلام ، بالنسبة إلى الركن الثاني الذي ذكره المشهور لضابط المفهوم ، إنّ المعلّق على الشرط ، هو طبيعي الحكم ، من دون أي قيد زائد في الطبيعة ، وهذه الطبيعة ، وقعت موضوعا لمحمول ، وهذا المحمول ، هو النسبة التوقفيّة ، بناء على تماميّة ما ذكرناه في الركن الأول ، أو النسبة الإيجاديّة بناء على عدم تماميّته.

فإن كان المحمول هو النسبة التوقفية ، فيرجع قولنا ، «إذا جاءك زيد فأكرمه» إلى قولنا ، طبيعة هذا الحكم ، موقوفة على مجيء زيد ، وهذا يدل على انتفاء أفراد طبيعة هذا الحكم ، عند انتفاء المجيء ، لا من جهة أنّ

٥٨٨

الأفراد لوحظت بالطبيعة ـ بل هي غير ملحوظة كما عرفت ـ وإنّما ذلك ، من جهة انّ المحمول على الطبيعة في المقام إنما هو التوقف ، والتوقف من سنخ النهي ، لأنّه يقتضي الإعدام عند عدم وجود الشرط ، فإذا كان كذلك ، فيثبت المفهوم ، لكن بعد ضميمة الركن الأول إلى الثاني.

وأمّا إذا كان المحمول هو النسبة الإيجادية ، فيرجع قولنا ، «إذا جاءك زيد فأكرمه» ، إلى قولنا ، «طبيعة وجوب الإكرام» ، يوجدها المجيء ، وحينئذ ، فيكون المحمول في المقام ، من سنخ الأمر ، لأنّ وجود الطبيعة المتوقفة على الشرط ، يتحقّق بوجود فرد واحد منها ، وعليه فلا مفهوم ، لأنّه يحتمل أن يكون هناك فرد من أفراد طبيعي الحكم ، لا يوجد بهذا الشرط ، ولكن يوجد بشيء آخر ، وهو معنى عدم المفهوم.

وبذلك يتبيّن انّه ، إذا كان المحمول هو النسبة التوقفيّة ، فيثبت المفهوم ، لكن بعد ضميمة الركن الأول إلى الثاني كما عرفت ، ومعه يندفع الإشكال المذكور الذي أورده المحقق العراقي (١) «قده» ، هذا هو الكلام الأول حول الركن الأول.

٢ ـ الكلام الثاني : وهو حول الركن الثاني ، وحاصله : هو انّ هذا الركن الثاني ـ وهو كون مدلول الجزاء ، سنخ الحكم ، لا شخصه ـ لا يحتاج إليه إذا بني على بعض البراهين التي ذكرها بعض الأصحاب ، في مقام استفادة العليّة المنحصرة من الجملة الشرطية.

وتوضيح ذلك هو انّ بعض الأصحاب ، حاول استفادة العليّة المنحصرة من الجملة الشرطيّة على مستوى المدلول التصديقي للجملة ، ببرهان ، انّ مقتضى الإطلاق الأحوالي في الشرط ، هو انّ هذا الشرط ، علة على كل حال ، سواء قارنه شيء آخر أو لا ، ولازم ذلك هو : عدم وجود علة أخرى غير هذا الشرط ، لأنّه لو كان هناك علة أخرى غير هذا الشرط ، للزم

__________________

(١) المصدر السابق.

٥٨٩

في حال اجتماعهما أن تكون العلة ، إمّا المجموع المركب ، أو الشرط وحده.

والأول ينافيه الإطلاق الأحوالي ، باعتبار انّه يقتضي كون الشرط علة مستقلة كما عرفت.

والثاني يلزم منه اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد ، وهو مستحيل.

وبهذا يتبرهن ، انّ الشرط علة منحصرة للجزاء.

وهذا البيان ، لو تمّ ، فهو يثبت المفهوم ، بلا حاجة إلى الركن الثاني ، لأنّه حتى لو كان المعلّق على الشرط ، هو شخص الحكم ، فمع ذلك ، يثبت المفهوم بضم ضميمة.

وبيان ذلك هو : انّ مقتضى الإطلاق الأحوالي للشرط ، كون الشرط علة مستقلة لشخص هذا الحكم ، وهو وجوب الإكرام مثلا ، سواء وجد شيء آخر مع الشرط ، أو لم يوجد ، وهذا الإطلاق ينفي كون الشيء الآخر علة ، ولو لشخص حكم آخر ، فضلا عن شخص هذا الحكم الأول ، وذلك لأنّه لو كان الشيء الآخر علة ، فإن كان علة لشخص الحكم الأول ، فيلزم اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد ، وإن كان علة لشخص حكم آخر ، من وجوب الإكرام ، فيلزم اجتماع المثلين ، أي شخصين من وجوب الإكرام ، وهذا مستحيل.

فبهذا يثبت ، انّ هذا البرهان لو تمّ ، فهو يثبت المفهوم ، حتى ولو لم يتم الركن الثاني.

وكذلك ، هناك برهان آخر ، حاولوا إثبات المفهوم به ، ولو تمّ لا يحتاج إلى إثبات الركن الثاني.

وحاصله : هو انه في مقام استفادة المفهوم بلحاظ المدلول التصديقي يقال : انه لو كان هناك علة أخرى للجزاء غير الشرط المذكور في القضيّة

٥٩٠

الشرطيّة ، كما لو فرض انّ المجيء علة للإكرام ، والقيام علة له ، حينئذ يقال : انه إذا كان كل منهما علة بخصوصه ، فيلزم صدور الواحد بالنوع ـ وهو وجوب الإكرام ـ من المتعدد بالنوع ، لأنّ المجيء نوع ، والقيام نوع آخر ، ومن المعلوم انّ صدور الواحد بالنوع من المتعدّد بالنوع مستحيل.

وأمّا إذا كانت العلة هي الجامع بين المجيء والقيام ، فلازم ذلك ، أن لا يكون الشرط الموجود في القضيّة الشرطية ، مؤثرا وحده في الجزاء ، مع انّ هذا خلاف ظاهر الجملة الشرطية ، فإنّ ظاهرها انّه مؤثر فيه وحده.

وبهذا يثبت ، ان الشرط علة مستقلة للجزاء ، فيثبت المفهوم بلا حاجة إلى إثبات الركن الثاني ، غايته انّه لا بدّ من إضافة الضميمة المذكورة في البرهان الأول.

والحاصل انّه بناء على تماميّة هذين البرهانين ، يثبت المفهوم ، بلا حاجة إلى الركن الثاني الذي ذكره المشهور ، لكن بما انّ الصحيح هو بطلان هذين البرهانين ، فحينئذ كان الركن الثاني ضروريا في مقام إثبات المفهوم.

ومن مجموع ما ذكرنا ، اتضح انّ الضابط لإثبات المفهوم هو ، تماميّة الركن الأول بالنحو الذي ذكرناه ، لا بالنحو الذي ذكره المشهور ، مع تماميّة الركن الثاني أيضا ، هذا حاصل الكلام في ضابط المفهوم.

٥٩١

«في مفهوم الشرط»

وانه هل للجملة الشرطية مفهوم أو لا

وفي مقام تحقيق ذلك ، يقع الكلام في ثلاث نقاط.

١ ـ النقطة الأولى :

في مفاد الجملة الشرطية منطوقا.

٢ ـ النقطة الثانية :

في انّ المعلق على الشرط ، هل هو طبيعي الحكم ، أو شخصه وهذا هو الركن الثاني للضابط.

٣ ـ النقطة الثالثة :

في تحقيق حال الركن الأول من الضابط ، على مستوى المدلول التصوري ، وعلى مستوى المدلول التصديقي.

وأمّا الكلام في النقطة الأولى ، فيكون في مراحل ثلاثة.

١ ـ المرحلة الأولى :

في مفاد أداة الشرط : والمشهور بين علماء العربية ، كما انّ المرتكز في أذهان أهل العرف والمحاورة ، هو ، انّ أداة الشرط ، موضوعة للربط بين جملة الشرط ، وجملة الجزاء ، بنحو من الأنحاء ، كما سيأتي تحقيق ذلك.

إلّا ان المحقق الأصفهاني «قده» خالف المشهور في ذلك ، وادّعى عدم وضع أداة الشرط للربط بين الشرط والجزاء ، وإنّما هي موضوعة لإفادة

٥٩٢

كون مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير (١) ، وإنّما استفيد الربط بين الشرط والجزاء ، من هيئة ترتيب الجزاء على الشرط ، كما تفيده ، «الفاء» ، فمثلا : إذا لاحظنا جملة «جاء زيد» ، فهذه الجملة ، تارة ، تقع موقع الاخبار ، وذلك ، حينما يقال ، «جاء زيد» وتارة أخرى ، تقع موقع الاستفهام ، وذلك ، حينما يقال ، «هل جاء زيد» ، وثالثة ، تقع موقع التمني أو الترجي ونحو ذلك ، ورابعة ، تقع موقع الفرض والتقدير ، فيقال : «إن جاء زيد فاكرمه» ، فقولنا ، «إن جاء زيد» أي «لو فرضنا وقدّرنا مجيء زيد» ، والذي دلّ على ذلك ، هو أداة الشرط ، وقولنا ، «فاكرمه» ، هو الذي أفاد الربط بين الجزاء والشرط.

والاصفهاني في ذلك ، لا يكون قد أقام دليلا على مدّعاه ، وإنّما اكتفى بادّعائه ذهاب أهل العربية إلى ذلك.

إلّا انه يمكن في المقام ، تصوير دليل على ما ذكره «قده» ، وحاصله : انّ الاستفهام يدخل على الجملة الشرطيّة بأحد نحوين.

١ ـ النحو الأول : هو ان يدخل عليها بنحو تكون الجملة الشرطية بتمامها متعلقة للاستفهام. كما في قولنا : «هل إذا جاء زيد تكرمه»؟

٢ ـ النحو الثاني : هو أن يدخل عليها بنحو يكون الاستفهام هو الجزاء فيها ، كما في قولنا : «إذا جاء زيد فهل تكرمه»؟ ، فالاستفهام هنا ، وقع جزاء.

ولا إشكال في انّ الاستفهام فعليّ في كلا النحوين ، ومن هنا ، كان السامع يترقب جوابا على هذا الاستفهام.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ فعليّة الاستفهام على النحو الأول ، واضح ومعقول ، لأن الاستفهام ورد على الجملة الشرطية بتمامها.

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني ـ ج ٢ ص ١٦١ ـ المطبعة العلمية ـ قم.

٥٩٣

وأمّا فعليّة الاستفهام بالنحو الثاني ـ أي فيما إذا وقع جزاء ـ فإنه لا يمكن تفسيرها على مذهب المشهور ، من كون أداة الشرط موضوعة للربط بين الشرط والجزاء ، وذلك ، لأنّ أداة الشرط ، إذا كانت موضوعة للربط ، فمعنى ذلك ، انّه في قولنا ، «إن جاءك زيد فهل تكرمه» ، تكون أداة الشرط دالة على إناطة الجزاء ، وهو الاستفهام ، هنا ، بوقوع الشرط ، وحينئذ ، فلا يكون الاستفهام فعليا ، وهو خلاف الفرض.

بينما على مبنى الأصفهاني «قده» ، يمكن تفسير فعليّة الاستفهام ، وذلك لأنّ الجزاء الذي هو الاستفهام ، يكون منوطا بحكم هيئة الترتيب ، بفرض الشرط وتقديره ، لا بواقعه خارجا ، وحيث انّ الشرط بوجوده الفرضي فعليّ ومتحقق ، فيكون الاستفهام المعلّق عليه ، أيضا فعليا.

إذن ، بناء على مذهب الأصفهاني «قده» أمكن تصوير فعليّة الاستفهام ، وهذا يكون دليلا على صحة ما ذهب إليه ، من عدم كون أداة الشرط موضوعة للربط ، بل الدال على الربط هو هيئة الترتيب بين الجزاء والشرط. التمثل ، «بالفاء».

وإن شئت قلت : انّ المشهور بين علماء العربية ، والمتداول عند أهل العرف والمحاورة ، انّ أداة الشرط ، موضوعة لإيجاد الربط بين جملة الشرط ، وجملة الجزاء بنحو من الأنحاء ، كما سيأتي تحقيقه.

وخالف في ذلك المحقّق الأصفهاني «قده» ، فذهب إلى انّ أداة الشرط ، موضوعة ، لإفادة انّ مدخولها الذي هو الشرط ، واقع موقع الفرض والتقدير ، وليس للربط بين الشرط والجزاء ، وحيث انّ المحقق الأصفهاني «قده» لم يبرهن على مدّعاه ، فإنه يمكن تصوير برهان على هذا المدّعى ، وحاصله : ان الاستفهام يدخل على الجملة الشرطية بأحد نحوين.

فإمّا أن يدخل عليها بنحو تكون الجملة الشرطية بتمامها متعلقة للاستفهام كما في قولنا ، «هل إذا جاء زيد تكرمه»؟ وإمّا أن يدخل عليها بنحو

٥٩٤

يكون الاستفهام هو الجزاء فيها كما في قولنا ، «إذا جاء زيد فهل تكرمه»؟ فالاستفهام هنا وقع جزاء ، ولا إشكال في ان الاستفهام فعلي على كلا النحوين.

ومن هنا كان السامع يترقب جوابا على هذا الاستفهام.

إذا عرفت ذلك نقول : انّ فعليّة الاستفهام على النحو الأول ، واضحة ومعقولة ، لأنّ الاستفهام ورد على الجملة الشرطية بتمامها.

وامّا فعليّة الاستفهام على النحو الثاني ، ـ أي فيما إذا وقع الاستفهام جزاء ـ فهذه الفعليّة ، لا يمكن تفسيرها على مذهب المشهور ، من كون أداة الشرط ، موضوعة للربط ، بين الجزاء والشرط ، إذ بناء على هذا يكون الاستفهام معلقا على مجيء زيد ، لأنّ الجملة الاستفهاميّة هي بنفسها جعلت جزاء في الجملة الشرطية ، وعليه لا يكون الاستفهام فعليا حينئذ ما دام انّ مجيء زيد ليس فعليا.

بينما فعليّة الاستفهام على النحو الأول ، واضحة ، بل بديهية.

وأمّا على مبنى المحقق الأصفهاني «قده» فإنه يمكن تفسير فعليّة الاستفهام ، بان يقال إن الاستفهام وإن كان معلّقا على الشرط أيضا ، إلّا انّ الشرط هنا ، ليس هو واقع مجيء زيد ، كي لا يكون فعليا ، وإنّما الشرط هنا ، هو فرض مجيء زيد ، وحيث انّ هذا الفرض ثابت وفعلي ببركة أداة الشرط ، فالاستفهام المعلق على هذا الشرط ، أيضا يكون فعليا ، وإذا تحققت فعليّة الاستفهام ، تعيّن مبنى المحقق الأصفهاني «قده» ، دون مبنى المشهور ، وتبيّن انّ الدال على الربط ، هو هيئة الترتيب بين الجزاء والشرط ، المتمثل «بالفاء» ، وليس أداة الشرط هي الدالة على الربط بين الجزاء والشرط ، كما ذهب إليه المشهور.

إلّا انّ هذا الدليل غير تام ، لأنّ الجزاء الذي أنيط بمفاد الشرط الذي هو الفرض والتقدير ، لم ينط به ، بما هو فرض وتقدير ، بل أنيط به بما هو

٥٩٥

فان بواقع المفروض والمقدّر ، والحال انّ واقع المفروض والمقدّر ليس فعليا ، إذن ، لازمه ، أن لا يكون الاستفهام فعليا.

وبهذا يعود الإشكال ، فيرد على مسلك الأصفهاني «قده» ، كما كان واردا على مسلك المشهور.

وإن شئت قلت ـ في عدم تماميّة البرهان لمدّعى الأصفهاني «قده» ـ بأنّ إشكال فعليّة الاستفهام يرد حتى على مبنى المحقق الأصفهاني «قده» ، لأنه يقال : بأنّ فرض المجيء وتقديره إنّما وقع شرطا للجزاء ، بما هو مرآة وفان في المفروض وإلّا ، للزم من عدم هذا القول ، أن يصبح التكليف فعليا على المكلف ـ فيما إذا كان الجزاء متضمنا لتكليف إلزامي ، كما في قوله ، «إن جاء زيد فأكرمه» ـ حتى ولو لم يتحقّق الشرط في الخارج ، على أساس ، أنّ شرط الحكم ، إنّما هو الفرض والتقدير ، والحال ، أنّ الفرض فعليّ على كل حال ، فلا بدّ وأن يكون الحكم فعليا ، مع أنّ هذا أمر لا يلتزم به أحد فقهيا.

وبناء على كون الشرط هو فرض المجيء بما هو مرآة وفان في المجيء ، يعود الإشكال حينئذ على المحقق الأصفهاني «قده» ، لأنّه يقال له حينئذ ، انّه كيف يصبح الاستفهام فعليا ، مع كون المجيء غير فعلي في الخارج.

وحلّ هذا الإشكال على كلا المسلكين ، هو أن يقال ، إنّ هذا النحو من الاستفهام الذي وقع بنفسه جزاء ، يرجع إلى النحو الأول من الاستفهام ، لأنّ مرجع قولنا ، «إذا جاءك زيد فهل تكرمه»؟ إلى قولنا ، «هل إذا جاءك زيد تكرمه»؟ ففي الحقيقة ، النحو الثاني من الاستفهام ، يرجع إلى النحو الأول.

وقد عرفت انّ فعليّة النحو الأول واضحة ، فحينئذ ، تكون فعليّة النحو الثاني أيضا مثلها لرجوعها إليها.

والتحقيق في المقام ، هو انّ ما ذهب إليه المشهور ، من كون أداة الشرط موضوعة للربط بين الشرط والجزاء ، هو الصحيح ، والوجدان يقضي

٥٩٦

بذلك ، كما أنّه يمكن إقامة الدليل ، على بطلان ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني «قده» ، وصحة ما ذهب إليه المشهور.

وحاصل هذا الدليل هو ، انّ مدخول أداة الشرط ، دائما يكون حملة تامة ، إلّا انّ أداة الشرط ، تحوّل هذه الجملة ، من كونها تامة ، إلى كونها ، ناقصة ، كما في قولنا ، «إذا جاء زيد».

وهذا التحول يمكن تفسيره على مذهب المشهور ، فيقال : إنّ أداة الشرط موضوعة للربط بين الشرط وشيء آخر ، وحينئذ ، فإذا أتي بجملة الشرط ، ولم يؤت بالشيء الآخر ، تكون الجملة ناقصة ، كما في قولنا ، «إذا جاء زيد» ، باعتبار انّ كلمة «إذا» ، لا تكون مستوفية لمعناها.

وأمّا على مسلك المحقق الأصفهاني «قده» ، فلا يمكن تفسير هذا التحول ، لأنّ أداة الشرط عنده ، تعطي للشرط طابع الفرض والتقدير ، وحينئذ ، يكون حالها ، حال أداة الاستفهام التي تعطي طابع الاستفهام لمدخولها ، فكما انّ مفاد قولنا ، «هل جاء زيد»؟ نسبة تامة ، لكن ملحوظة بما هي جملة مستفهمة ، فكذلك مفاد قولنا ، «إذا جاء زيد» ، يكون نسبة تامة ، لكن ملحوظة بما هي مفترضة ومقدرة ، فلا تكون أداة الشرط على هذا المبنى ، مخرجة للجملة من التمام إلى النقصان ، مع انّه لا إشكال في انّ أداة الشرط أخرجتها ، فهذا يكون دليلا على بطلان مبنى الأصفهاني «قده» وصحة ما ذهب إليه المشهور ، حيث أمكن تفسير هذا التحول بناء على ما ذهب إليه.

إذن فالصحيح ، انّ أداة الشرط ، موضوعة للربط ما بين الشرط والجزاء ، وأمّا ماهيّة هذا الربط ، فسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

ثم انّه يمكن تحقيق هذه المرحلة ببيان آخر ، وفيه عدول عن بعض ما جاء في البيان الأول ، حيث نستعرض دليلين في تفسير هذا الخروج للجملة من صحة السكوت والتمام ، إلى عدم صحة السكوت والنقصان.

٥٩٧

أو قل ، إنّه في مقام تحقيق هذه المرحلة ببيان آخر ، يوجد عندنا دليلان ، أحدهما يثبت كلام المشهور ، والثاني ، يثبت كلام المحقق الأصفهاني «قده».

أمّا الدليل الأول ، الذي يثبت كلام المشهور ويبطل به كلام الأصفهاني «قده» فحاصله : انّه لا إشكال في انّ قولنا «جاء زيد» ، جملة تامة يصح السكوت عليها ، كما انّه لا إشكال في انّ دخول أداة الشرط عليها ، يحولها من جملة يصح السكوت عليها إلى جملة لا يصح السكوت عليها ، وهذا التحول يفسّر بأحد تفسيرين.

١ ـ التفسير الأول : هو ان أداة الشرط ، حوّلت النسبة الموجودة في هذه الجملة ، من نسبة تامة ، إلى نسبة ناقصة ، ولهذا لا يصح السكوت عليها.

٢ ـ التفسير الثاني : هو انّ النسبة تبقى تامة على حالها حتى بعد دخول أداة الشرط ، فعدم صحة السكوت على هذه الجملة ، لم ينشأ من جهة نقصان النسبة ، وإنّما نشأ من نقصان في أداة الشرط ، باعتبار انّ أداة الشرط ، «إذا» لها سنخ معنى ، وهذا المعنى ينتظر لحوق شيء بجملة الشرط ، فمع عدم اللحوق لا يكتمل معنى أداة الشرط ، وهذا يوجب عدم صحة السكوت على الجملة ، هذان تفسيران لعدم صحة السكوت على هذه الجملة.

وعلى ضوء التفسير الأول ، لا يمكن أن نرجّح قول المشهور ، أو قول المحقق الأصفهاني «قده» ، لأنّ القولين يتلائمان مع هذا التفسير.

أمّا ملائمة قول المشهور ، فقد عرفته فيما سبق ، وانّ النسبة تتغير وتتبدّل إلى النسبة الناقصة ، بمجرد دخول أداة الشرط عليها.

وأمّا ملائمته لقول المحقق الأصفهاني «قده» ، فلأنه يمكن للأصفهاني «قده» أن يدّعي بأنّ دخول «إذا» يوجب خروج النسبة من التمام إلى النقصان.

٥٩٨

وأمّا على ضوء التفسير الثاني ، فيتم كلام المشهور ، ولا يتم كلام الأصفهاني «قده».

أمّا تماميّة كلام المشهور فباعتبار انّ «إذا» ، حينئذ ، موضوعة للربط بين الشرط والجزاء ، فإذا لم يوجد الجزاء ، لا يكون المعنى الذي وضعت له أداة الشرط مكتملا ، ومن هنا لا يصح السكوت على الجملة.

وأمّا عدم تماميّة كلام الأصفهاني «قده» فلأنّ أداة الشرط عنده ، موضوعة لإفادة كون مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير ، وهذا المعنى لا يستوجب شيئا وراء وجود المدخول ، وحينئذ ففي قولنا ، «إذا جاء زيد» تكون «إذا» ، مستكملة لمعناها ، فينبغي ان يصح السكوت عليها ، مع انّه لا إشكال في عدم صحة السكوت عليها ، ومن هنا يبطل كلام الأصفهاني «قده» ، وحينئذ ، فلا بدّ أن نثبت انّ التفسير الثاني لعدم صحة السكوت هو المتعيّن ، وانّ التفسير الأول غير صحيح.

وبهذا نثبت صحة كلام المشهور ، وبطلان الكلام المحقق الأصفهاني «قده».

وإثبات بطلان التفسير الأول ، يكون ببيان أمرين.

١ ـ الأمر الأول : هو ان جملة الشرط لها مدلول تصديقي باعتراف الأصفهاني «قده» لأنه قال بأن الأداة موضوعة لإفادة كون مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير ، فتكون دالة على ان هذا المعنى موجود في نفس المتكلم ، وهذا معنى الدلالة التصديقية.

٢ ـ الأمر الثاني : هو ان الجملة لا يعقل أن يكون لها مدلول تصديقي ، إلّا إذا كانت جملة تامة. وقد حقق ذلك في بحث المعنى الحرفي ، وحاصل ما ذكرنا هناك في مقام بيان الفرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة ، هو انه في مقام التفريق بينهما يوجد نظريتان.

النظرية الأولى هي : انّ النسبة التامة هي ما كان على طبقها مدلول تصديقي ، والنسبة الناقصة هي التي لا يكون على طبقها مدلول تصديقي.

٥٩٩

النظرية الثانية هي : انّ النسبة الناقصة ترجع الشيئين إلى واحد كما في قولنا قلم زيد ، فهذه الجملة ترجع إلى معنى إفرادي كما هو واضح.

وأمّا النسبة التامة ، فهي أن يكون شيئان ، والنسبة تربط بينهما.

وهذه النظرية هي الصحيحة كما عرفت في محله ، وقد ذكرنا هناك ، انّ المدلول التصديقي فرع النسبة التامة.

وسواء لاحظنا ، النظرية الأولى ، أو الثانية ، فيثبت كون الجملة الشرطية ذات المدلول التصديقي ، تكون نسبتها تامة.

أمّا بناء على النظرية الأولى ، فواضح ، لأنّ تماميّة النسبة إنّما تكون بالمدلول التصديقي.

وأمّا بناء على النظرية الثانية ، فلأنّ وجود المدلول التصديقي ، فرع تماميّة النسبة كما عرفت ، فيثبت انّ الجملة التي يكون لها مدلول تصديقي تكون النسبة فيها تامة.

وقد ثبت بالأمر الأول ، انّ الجملة الشرطيّة كقولنا ، «إذا جاء زيد» لها مدلول تصديقي ، فينتج انّ النسبة فيها تامة ، وحينئذ ، فعدم صحة السكوت عليها ليس لنقصان النسبة ، وبهذا يبطل التفسير الأول لعدم صحة السكوت ، ويتعيّن التفسير الثاني ، وهو انّ عدم صحة السكوت إنّما هو لنقصان في نفس أداة الشرط.

وعليه فيتم كلام المشهور ، ويبطل كلام الأصفهاني «قده» لما عرفت من انّ التفسير الثاني إنّما يتلائم مع كلام المشهور ولا يتلائم مع مذهب الأصفهاني «قده».

وبهذا يثبت ، انّ أداة الشرط موضوعة للربط بين الشرط والجزاء.

هذا كله مضافا للوجدان القاضي بذلك ، كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

٦٠٠