بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

بمثل هذا الأمر محركا نحو إيجاد الصلاة ، إذ إنّ العلم بهذا الأمر سوف يكون كاشفا عن وجود معروض هذا الأمر في الخارج ، وعليه يكون العلم بهذا الأمر كعدم العلم به ، لأنّ متعلّق ما علمه حاصل ، فتعلق العلم بالأمر الواقعي ، إنما هو تحصيل للحاصل.

ومن الواضح أنّ ما يكون محركا إنما هو العلم بالأمر الفعلي ، لا العلم بالأمر التقديري. والأمر إنما يكون فعليا بعد تحقق الموجود خارجا ، ولا أقل من أنه بعد أن يرى العالم معروضه موجودا في الخارج ، وإلّا فلا يكون الأمر فعليا ، وعليه ، لا يكون هذا الأمر محركا.

إذن فالصحيح هو صحة هذا البرهان.

٣ ـ البرهان الثالث : هو ما أشرنا إليه مرارا.

وحاصله : إنّ الأحكام الشرعية من الصفات الإضافية ، فتكون الإضافة حينئذ مقوّمة لها ، لا تنفك عنها في أي مرتبة ، وهذا يعني أنّ الإضافة ذاتيّة لمثل هذه الصفات ، حيث لا يعقل افتراضها في أيّ مرتبة منفكّة عن تلك الإضافة حتى مرتبة ذاتها ، وإلّا فلو أمكن انفكاكها عن الإضافة في مرتبة من المراتب لأمكن تعقّل حبّ بدون محبوب ، أو علم بلا معلوم ، وهو غير معقول.

وهذا يبرهن ، على أنّ المضاف إليه بالذات ، يجب أن يكون موجودا بنفس وجود هذه الصفة ، وثابتا في مرتبة ذاتها ، لا بوجود آخر مغاير وزائد عليها ، وإلّا لكانت هذه الإضافة عرضيّة لهذه الصفة ، ولما كانت ثابتة لها في مرتبة ذاتها وذاتياتها ، وهو خلف ما برهنّا عليه.

وبهذا يثبت أنّ المعلوم بالذات ، والمحبوب بالذات ، والمبغوض بالذات ، إنما هو موجود بنفس وجود العلم والبغض والحب ، أي : إنّ المحبوب بالذات هو نفس الحب والبغض.

وبهذا يتبرهن أنّ الأحكام تعرض على الوجود الذهني لا الخارجي.

٣٤١

وحينئذ يكون تعدّد الوجود الذهني لمتعلق الأمر والنّهي رافعا لمحذور التّضاد ، فيجوز الاجتماع.

ولا يخفى أنّ هذه الدعوى لو تمّت لاقتضت جواز الاجتماع في صورة تعدّد الوجود الذهني لمتعلّق الأمر والنهي ، حتى ولو كان العنوان واحدا.

ومن هنا كانت هذه الدعوى. دعوى متطرفة في الجواز.

إلّا أنّ هذه الدعوى غير صحيحة ، فأنّ الأحكام ، وإن كانت متعلقة وعارضة على الوجودات الذهنية ، إلّا أنّه مع ذلك لا تتم هذه الدعوى.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ الوجودات الذهنية في نفس المولى لها اعتباران ولحاظان :

أحدهما : لحاظ بالحمل الأولي ، وهو لحاظ تصوري.

والثاني : لحاظ بالحمل الشائع ، وهو لحاظ تصديقي ، فمثلا العطشان حينما يحب الماء ، فإن حبّه هذا إنما يكون قائما بالصورة الذهنية للماء ، لا بالوجود الخارجي له ، إذ قد لا يكون له وجود خارجي أصلا.

وهذه الصورة الذهنية التي تعلق بها الحب :

تارة ينظر إليها بالنظر التصديقي فنحمل عليها محمولاتها بالحمل الشائع ، فيقال : هذه صورة ذهنية للماء لا تروي من العطش ولا تبرّد الغليل ، وبهذا النظر سوف لن يحب العطشان هذه الصورة الذهنية للماء.

وأخرى ينظر إلى هذه الصورة الذهنية بالنظر التصوري ، فنحمل عليها محمولاتها بالحمل الأوّلي فنقول : هذا ماء سائل بارد بالطبع. وبهذا المنظار سوف يحب العطشان هذه الصورة الذهنية ، إلّا أنّ هذا نظر تصوري لا حقيقة له في مرحلة التصديق ، لأنه لا يوجد في الذهن ماء سائل بارد بالطبع.

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا تحقّق في الذهن وجودان لماهيّة واحدة ، فبالنظر التصديقي نرى شيئين لا شيئا واحدا ، إذ إنّ النظر التصديقي لا ينظر

٣٤٢

إلى الماهيّة ، وإنما يتمحض نظره بالوجود الذهني ، والوجود الذهني متعدّد. إذن فهو في هذه الحالة يرى شيئين ، إلّا أنّ هذا المرئي ، المتعدّد لا يجدي في جواز الاجتماع ، لأنّ الحب إنما يتعلق بالصورة الذهنية بالنظر التصوري لا التصديقي. وبالنظر التصوري سوف نرى شيئا واحدا ، لأنّ الحب إنّما يتعلق بالوجود الذهني بما هو عين الموجود خارجا. والحال إنّ الموجود خارجا إنما هو ماهيّة واحدة. إذن فبالنظر التصديقي نرى شيئين ، لكن ذلك لا يجدي في جواز الاجتماع ، وذلك لعدم تعلق الحب بالصورة الذهنية المنظور إليها بالنظر التصديقي ، والصورة الذهنية بالنظر التصوري وإن تعلّق بها الحب ، إلّا أنه بهذا النظر نرى شيئا واحدا لا شيئين ، ومعه لا يجوز الاجتماع. وعليه فلا ينبغي أن يجعل ميزان جواز الاجتماع هو تعدد الوجود الذهني مطلقا ، بل الميزان هو تعدّده بالنظر التصوري ، وقد عرفت أنه غير متعدّد بهذا النظر ، وبذلك تبطل هذه الدعوى.

وإن شئت قلت : إنّ الوجودات الذهنية هي باللحاظ التصوري ـ الذي هو الحمل الأوّلي ـ هي عين الوجود الخارجي الملحوظ بها.

والوجودات الذهنية هي باللحاظ والنظر التصديقي ـ الذي هو الحمل الشائع الصناعي ـ تكون مباينة للوجود الخارجي الملحوظ بها ، وفاقدة لخصائصه وأحكامه ، كما في الماء الموجود في الذهن ، فإنّه بالنظر التصديقي صورة ذهنية للماء ، دون أن يروي عطشا ، أو يبرّد غليلا.

بينما هذا الوجود الذهني للماء بالنظر التصوري ، يمكن أن نحمل عليه محموله بالحمل الأولي فنقول : هذا ماء سائل بارد بالطبع ، وهو بهذا المنظار سوف يحب العطشان هذه الصورة الذهنية كما أنّ الحكم بمبادئه يتعلق بهذه الصورة الذهنية بحسب النظر التصوري ، لا بالنظر التصديقي ، لأنّه لا حقيقة له في مرحلة التصديق ، لأنّه لا يوجد في الذهن ماء ولا سائل بارد بالطبع ، ولذلك لا يكون مطلوبا ولا محبوبا في مرحلة التصديق ، وإنّما المطلوب والمحبوب والمحرك نحو الخارج هو المنظور التصوري.

٣٤٣

وعليه يكون الحكم والحب بحسب لحاظ المولى متعلقا بالصورة الذهنية بالنظر التصوري بالحمل الأولي ، وبالنظر التصوري هذا ، سوف لا يرى به إلّا شيئا واحدا ، لأنّ الحب بهذا النظر إنما يتعلّق بالوجود الذهني بما هو عين الموجود خارجا ، والموجود خارجا إنما هو ماهيّة واحدة.

إذن فالماهية والمنظور التصوري الذي تعلّق به الحب شيء واحد ـ ولو كان ضمن وجودين ذهنيّين ـ

وعليه ، فيستحيل اجتماع الأمر والنّهي على هذا المنظور التصوري الحاكي عن الماهية ، لأنهما شيء واحد.

وعليه فلا ينبغي أن تنحصر استحالة اجتماع الأمر والنّهي ، فيما إذا كان الوجود الذهني المعروض للأمر والنّهي ، وجودا ذهنيا بالحمل الشائع واحدا.

كما أنه لا ينبغي أن يجعل ميزان جواز اجتماع الأمر والنّهي هو تعدد الوجود الذهني مطلقا ، بل الميزان هو تعدد الوجود الذهني بالنظر التصوري ، أي : بالحمل الأوّلي.

وقد عرفت أنه في المقام غير متعدد بهذا النظر ، وبذلك تكون هذه الدعوى باطلة والبرهان مثلها.

٢ ـ الدعوى الثانية :

هي إنّه لا بدّ في رفع غائلة التّضاد من تعدّد الوجود الخارجي ، ولا يكفي تعدّد الوجود الذّهني وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة ، وإن كانت متعلّقة في بادئ النظر بالصور والعناوين الذهنية ، إلّا أنها أنّما تتعلق بها باعتبارها بما هي فانية في معنوناتها الخارجية ، إذ لو لا هذا الفناء لما أحبّ المولى هذه العناوين لأن المتعلّق المطلوب للمولى إنما هو المعنون الخارجي ، وعليه ، فيكون الميزان في رفع غائلة التّضاد ، هو تعدّد الوجود الخارجي

٣٤٤

لمتعلّق الأمر والنّهي ، وإلّا حصل التضاد ، حتى ولو كانت العناوين متعددة :

ومن هنا قيل : بأنّ الميزان في جواز الاجتماع والامتناع ، إنما هو تشخيص أنّ تعدّد العنوان بعدد المعنون وعدمه بمعنى أنّ التركيب بين معنون المأمور به مع معنون المنهي عنه هل هو اتحادي أو انضمامي؟

فإن كان اتحاديا ، بمعنى أنّ المعنون الموجود في الخارج واحد ، لكنّه بإزائه عنوانين ، فحينئذ امتنع الاجتماع لوحدة الوجود الخارجي.

وإن كان انضماميا ، بمعنى أنّ المعنون الموجود في الخارج متعدّد حيث يكون لكل من العنوانين محكي خارجي مستقل ، إلّا أنّ ما بإزاء أحدهما ينضم إلى ما بإزاء الآخر ، فحينئذ يصح الاجتماع. لتعدّد الوجود الخارجي.

وهذا المقدار من البيان ، يشترك فيه ، المحقق الخراساني «قده» والمحقق النائيني «قده» ، والمحقق الخوئي «قده» ، حيث يتفقون على دعوى أن الأحكام تتعلق بالعناوين ، إلّا أنهم يختلفون في تطبيقها على صغراها.

فالمحقق الخراساني «قده» (١) يقول : إنّه لا يصح الاجتماع ، لأنّ الخارج غير متعدّد ، باعتبار أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون.

وهذا غير أصل الدعوى ، وإنّما ذكر هذا في ضمن برهانه على الامتناع.

والمحقق النائيني «قده» يقول بالجواز لأنّ تعدّد العنوان عنده يوجب تعدّد المعنون فيما إذا كان بين العنوانين عموم وخصوص من وجه ، كعنواني الصلاة والغصب ، فيكون الخارج متعددا فيصح الاجتماع (٢). وقد استدل على أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدد المعنون في صورة ما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه ، كالصلاة والغصب بما حاصله :

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المشكيني : ج ١ ص ٢٤٠ ـ ٢٤١.

(٢) أجود التقريرات ـ الخوئي : هامش ص ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٣٤٥

إنّ كلا من العنوانين لا بدّ وأن يكون منتزعا من جهة مشتركة محفوظة في موارد الاجتماع والافتراق. فعنوان الغصب لا بدّ وأن يكون منتزعا من جهة محفوظة في موارد الصلاة في الغصب ، وفي موارد اللعب في الغصب ، وعنوان الصلاة لا بدّ وأن يكون منتزعا من جهة محفوظة في موارد الصلاة في الغصب ، وفي موارد الصلاة في المسجد. وبناء على ذلك لا بدّ من الالتزام بوجود جهتين في موارد الاجتماع ، وإلّا استحال انتزاع عنوانين بينهما عموم من وجه ، بل صحّ حينئذ انتزاع عنوان الغصب من الصلاة في المسجد ، وصحّ انتزاع عنوان الصلاة من الغصب ، حتى ولو لم يكن في البين صلاة.

إذن فالجهة الأولى هي : التي ينتزع منها عنوان الغصب في موارد الافتراق عن الصلاة ، وهذه الجهة هي غير الجهة التي ينتزع منها عنوان للصلاة ، لأنّ هذه الجهة الأولى محفوظة في موارد افتراق الغصب عن الصلاة. فلو كانت عينها لانتزع عنوان الصلاة من اللعب في الغصب ، وهذا غير معقول.

والجهة الثانية هي : التي ينتزع منها عنوان الصلاة في موارد الافتراق عن الغصب ، وهي غير الجهة الأولى ، لأنّ هذه الجهة الثانية محفوظة في مورد افتراق الصلاة عن الغصب ، فلو كانت عين الأولى ، يصحّ انتزاع عنوان الغصب عن الصلاة في المسجد ، وهو غير معقول.

وبهذا يتبرهن أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون في مادة الاجتماع ، ومعه يكون التركيب انضماميا ، لأنّ المعنون متعدد خارجا ، وعليه فيجوز الاجتماع.

وأمّا المحقق الخوئي «قده» (١) ، فوقف موقفا وسطا بين المحقق

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ هامش صفحة ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

ـ محاضرات فياض ج ٤ ص ١٦٩ ـ ١٧٠.

٣٤٦

الخراساني «قده» والمحقق النائيني «قده» حيث ذكر أنّ العنوانين إن كانا من الماهيّات الحقيقية والمقولات الأوليّة ، فحينئذ تعدّدهما يوجب تعدد المعنون لأنه يستحيل أن يكون للشيء الواحد ماهيّتان حقيقيتان.

وأمّا إذا كان هذان العنوانان من العناوين العرضية الانتزاعيّة التي تكون نسبتها إلى الخارج نسبة العنوان الانتزاعي إلى منشأ انتزاعه ، لا نسبة الماهيّة إلى مصداقها ، فحينئذ لا يكون تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون ، حتى ولو كان بين العنوانين عموم من وجه ، فإنّ العنوان إذا كان انتزاعيا ، فلا يلزم أن يكون منشأ انتزاعه جهة واحدة مشتركة ليتمّ ما ذكره المحقق النائيني «قده» ، بل يمكن انتزاعه من ماهيّات مختلفة.

وعليه فلعلّهما في مادة الاجتماع منتزعان من ماهيّة واحدة ، وإن كان في مادة الافتراق كل واحد منهما انتزع من ماهيّة أخرى. وعليه فلا بدّ وأن يلحظ أنّه هل انتزعا من ماهية واحدة أو من ماهيتين؟

فعلى الأول : يكون تعدّد العنوان موجبا لتعدد المعنون ، فيصح الاجتماع.

وعلى الثاني : لا يكون تعدّده موجبا لتعدده ، فلا يصح الاجتماع.

وإن شئت قلت : إنّ المحقق الخوئي «قده» سلك مسلكا وسطا بين ، الآخوند «قده» والميرزا «قده» فرفض الإطلاق في دعوى عدم إيجاب تعدّد العنوان لتعدد المعنون ، وكذلك رفض الإطلاق في دعوى إيجاب تعدّد العنوان لتعدّد المعنون في العامّين من وجه ، وذهب إلى التفصيل بين كون العناوين من المقولات الحقيقية والماهيّات الخارجية ، وبين كونها من العناوين الانتزاعيّة الاعتبارية.

فإن كان العنوانان من الأولى ، فلا بدّ من تعدّد المعنون بتعدد عنوانه ، لأنّه يستحيل كون ماهيتين لموجود واحد في الخارج ، إذ الوجود الواحد ليس له إلّا ماهية واحدة.

٣٤٧

وإن كان العنوانان من الثانية ، فلا يوجب تعدّد العنوان لتعدد المعنون ، حتى ولو كانا عامّين من وجه.

وعليه ، فما ذكره المحقق النائيني «قده» من البرهان على مدّعاه غير تام ، إذ لا يلزم أن يكون منشأ العنوان الانتزاعي ماهيّة واحدة ، إذ قد ينتزع في مورد الاجتماع من ماهيّة ، وينتزع في مورد الافتراق من ماهيّة أخرى.

هذا زبدة مسالك هؤلاء الأعلام في مقام تطبيق القاعدة الكليّة التي اتفقوا عليها ، وهي كون الميزان في دفع غائلة الاجتماع تعدد الوجود الخارجي وعدمه ، وإن كانوا قد اختلفوا في تطبيقها ، كما عرفت.

وقبل أن نتعرض لما ذكروه من التطبيقات وبراهينها ، نتكلم الآن في أصل الدعوى والقاعدة التي اتفقوا عليها ، وهي كون الأحكام متعلقة بالصور والعناوين الذهنية بما هي فانية في معنوناتها الخارجية ، حيث يكون الحكم بحسب الحقيقة متعلّقا بالخارج ، ومعه لا بدّ من تعدّد الخارج كي يصح الاجتماع.

وحينئذ نقول : إنّ هذه القاعدة الكلية غير تامة ، وتوضيح ذلك ، هو : إنّ الأحكام وإن كان صحيحا أنّها تتعلق بالعناوين بما هي فانية في معنوناتها الخارجية ، لا بما هي هي ، وعلى نحو المعنى الاسمي ، إلّا أنّه ليس معنى ذلك أنّ الحكم يسري حقيقة إلى المعنون الخارجي ، فإنّ هذا السريان مستحيل سواء قيل بأنه سريان تلقائي للحكم من الصورة الذهنية إلى المعنون الخارجي ، أو قيل بأنه سريان حيث تكون العناوين الذهنية وسيلة وسببا في إدراك المولى للمعنونات الخارجية فيلقي عليها الحكم.

أمّا بطلان الأول : فلما تقدم من الأدلة على استحالة تقوّم الحكم بالوجود الخارجي.

وأمّا بطلان الثاني : فلأنّ الصورة الذهنية لا يمكن أن تحضر نفس الخارج لدى المولى الإنسان الذي تصور هذه الصورة ، لأنّ الإدراك لا

٣٤٨

ينصب إلّا على الصورة القائمة في الذّهن ، كما برهنّا عليه سابقا.

فالتعبير بالفناء ، وتوهم أنّ لدى المولى شيئين ، أحدهما الفاني ، والآخر المفنيّ فيه ، مجرد توهم ، وبالتالي هو مستحيل ، كما عرفت.

وإنّما معنى الفناء هو أنّ الصورة الذهنية الحاضرة لدى المولى ، تارة ينظر إليها بالنظر التصوري ، أي : بنظر الحمل الأولي. وأخرى ينظر إليها بالنظر التصديقي ، أي : بنظر الحمل الشائع الصناعي ، كما عرفت تفصيل ذلك سابقا أنّ مصبّ هذين النظرين هو هذه الصورة الذهنية الواحدة.

فإذا نظر إليها بالنظر التصديقي ، فمعنى ذلك ، أنّنا لاحظنا هذه الصورة الذهنية بحقيقتها ، وهي كونها صورة ذهنية فقط.

وإذا نظر إليها بالنظر التصوري ، فمعنى ذلك أننا لم نلحظ هذه الصورة بحقيقتها ، وإنما لاحظناها بما هي ماهية خارجية ، ولذا حكمنا على الصورة الذهنية للماء بهذا النظر ، بأنّه ، سائل بارد بالطبع ، كما تقدم تفصيله. فتكون الصورة الدهنية حينئذ مرآة وفانية في الخارج. فالفناء هو عبارة عن لحاظ الصورة الذهنية بالنظر التصوري ، لا بالنظر التصديقي ، هذا هو معنى حقيقة الفناء.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الأحكام ، وإن كانت متعلقة بالصور والعناوين الذهنية بما هي فانية في معنوناتها ، إلّا أنّه ليس معنى الفناء أنّه سريان الأحكام إلى المعنونات الخارجية ، كي يمتنع الاجتماع باعتبار أن الخارج حقيقة واحدة ، ولا يتبعّض ، بل معنى الفناء ، هو أنّ الأحكام ترى من خلال هذه العناوين الذهنية بالنظر التصوري عين الخارج ، ولا يعني كون هذه الأحكام أنّها ترى عين الخارج هكذا ، أنّها تعرض على الخارج ، وتتعلق به حقيقة ، لأنّه يوجد عندنا عنوانين ذهنيّين قد لوحظا فانيين في الخارج ، وحينئذ يكون عندنا شيئين مرئيّين في الخارج ، فإنّ عالم الذهن هو عالم التحليل ، فيحلّل الشيء الواحد إلى أشياء متعددة بعدد المفاهيم التي يراها

٣٤٩

عنوانا لذلك الشيء. وعليه فيتعلق الأمر بأحدهما والنّهي بالآخر ، وإن كان الخارج حقيقة هو شيء واحد.

وعليه : يتضح جواز تعلّق الأمر والنّهي بالعنوانين ، وإن كان المعنون والوجود الخارجي لهما شيئا واحدا لما عرفت ، من أنّ متعلق الأمر والنّهي ، إنما هو الصورة الذهنية بالنظر التصوري ، فيتعدد المعنون بنفس تعدّد العنوان بالنظر التصوري ، لأنّه بحسب النظر التصوري يكون عندنا أمران مرئيّان في الخارج ، إذ ليس معنى كونهما مرئيين في الخارج يعني لحاظ وجودهما الشخصي في الخارج ، بل لحاظ نفس الطبيعة والعنوان في الخارج ، والحال أنهما متعددان بعدد المفاهيم الملحوظة عنوانا لذلك الشيء ، فيتعلق الأمر بأحدهما والنّهي بالآخر وإن كان الخارج حقيقة واحدا.

فالنتيجة إذن ، هي أنّ تعدّد العنوان بحسب النظر التصوري ـ الذي هو ظرف عروض الحكم ـ يكون كافيا لدفع محذور التّضاد بالذات بين الأمر والنّهي في هذا القسم ، كما كان كذلك في القسم الأول ، وهو ما إذا كان بين العنوانين عموم مطلق.

ثم إنّه كنا قد ذكرنا في النحو الأول ـ وهو ما إذا كان الاختلاف بين متعلقي الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد ـ بيانين لتقريب استحالة الاجتماع.

وقلنا هناك : إنّه إن تمّ أحدهما نلتزم بالامتناع هناك.

وأمّا هنا في هذا النحو الثاني فنقول : بأنّه لا يمتنع الاجتماع حتى لو تمّ البيانان السابقان.

وتوضيح ذلك هو : إنّ البيان الأول الذي نقلناه هناك عن النائيني «قده» كان حاصله هو : إنّ الأمر بالصلاة ينافي النّهي عن الصلاة في الحمّام ، لأنّ معنى الأمر بمطلق الصلاة ، هو ترخيص المولى بتطبيقها على أي فرد من

٣٥٠

أفرادها التي منها الصلاة في الحمّام ، وهذا ينافي مع النّهي عن الصلاة في الحمّام.

فهذا البيان ، لو تمّ ، لجرى هناك ، إلّا أنّه لا يجري هنا في النحو الثاني ، وهو فيما إذا كان الاختلاف بين متعلقي الأمر والنّهي بالعنوان ، ذلك ، لأنّ الأمر بمطلق الصلاة وإن كان معناه ترخيص المولى في تطبيقها على أيّ فرد من أفرادها بما فيها الصلاة في المغصوب ، إلّا أنّ هذا لا يتنافى مع النّهي عن أصل الغصب كما هو مفروض البحث ، حيث أنّ الأمر تعلّق بالصلاة ، والنّهي تعلّق بالغصب ، وهو عنوان آخر غير الجامع المعروض للأمر ، وليس حصة منه إذ إنّ الصلاة في المغصوب شيء ، وأصل الغصب شيء آخر.

وأمّا البيان الثاني ، والذي كان حاصله ، أنّ الأمر بصرف وجود الصلاة يلزمه محبوبيّة حصصها بنحو التخيير الشرعي ، بمعنى أنّ هذا الحب يكون متعلقا بحصصها بدلا ، فيحب المولى هذا الفرد بناء على عدم الأفراد الأخرى ، وحينئذ يكون المولى محبا للصلاة في الحمّام على بعض التقادير ، وهذا ينافي بغضها على كل تقدير كما هو مقتضى النّهي عنها.

وهذا البيان لو تمّ لجرى هناك ، كما عرفت ، إلّا أنّه لا يجري هنا ، لأنّ حبّ الصلاة في المغصوب على بعض التقادير ـ كما هو مقتضى الأمر بصرف وجود الصلاة ـ لا ينافي مع مبغوضيّة الغصب على كل تقدير ، إذ إنّ حبّ الحصة ، وهي الصلاة في الغصب ، لا يتنافى مع بغض قيدهما وهو الغصب ، فإنّ معنى التحصّص ، هو أن يكون التقييد داخلا ، والقيد خارجا ، كما عرفت سابقا.

وعليه : فالأمر بمطلق الصلاة ، وإن لزمه حبّ حصصها بنحو التخيير الشرعي ـ ومن جملة حصصها الصلاة في الغصب ، فيكون محبا لها على تقدير عدم بقية الحصص ـ.

٣٥١

إلّا أن هذا لا يتنافى مع بغض الغصب على كل تقدير ، لأنّ الغصب الذي هو قيد هذه الحصة خارج عنها.

ومن هنا كان المختار في النحو الثاني جواز اجتماع الأمر والنّهي.

والخلاصة هي : إنّ متعلق النّهي هنا هو عنوان آخر ، وهو الغصب ، وهو غير الجامع المتعلق للأمر ، بل ليس حصة منه ، إذ إنّ الحصة المقيدة للصلاة بالغصب تعني الصلاة مع تقيّدها بالمكان المغصوب بنحو دخول التقيّد وخروج القيد ، ومعنى هذا أنّ عنوان الغصب الذي هو القيد يبقى خارجا عن معروض الأمر ، أو الحب ، المتعلقين بالصلاة حتى لو لزم منهما الترخيص في تطبيقه على الحصص الأخرى ، أو تعلّق الحب بها بنحو التخيير الشرعي.

وبهذا يتضح أنّ معروض الحب والأمر إنّما هو ذات الحصة والتقيّد ، بينما معروض النّهي والبغض هو القيد ، وهو الغصبية ، ولا محذور في ذلك لأنّ هذا لا يتنافى مع بغض القيد ، وهو الغصب على كل تقدير ، لأنّ الغصب الذي هو قيد هذه الحصة ، خارج عن معروض الأمر والحب المتعلّق بالصلاة.

وعليه : فالمختار في النحو الثاني هو جواز اجتماع الأمر والنّهي ، وعلى ضوء هذا النحو تعرف امتناع الاجتماع في النحو السابق ، وهو فيما إذا تعلّق النّهي بالحصة المقيّدة كالصلاة في المكان الغصوب ، لأنّه حينئذ ، يلزم من الأمر بالجامع المنطبق على هذه الحصة المقيدة ، اجتماع المتضادّين في مركز واحد.

إلى هنا نكون قد استعرضنا ثلاثة ملاكات وأنحاء ، لجواز اجتماع الأمر والنّهي في موضوع واحد بحيث لو تمّ شيء منها في مورد جاز اجتماع الأمر والنّهي :

١ ـ النحو الأول ، هو : ما إذا كان الأمر قد تعلّق بصرف وجود الطبيعة

٣٥٢

في الخارج ، وتعلّق النّهي بحصة أو فرد من أفرادها ، فإنّه هنا لا تضاد بينهما فيجوز الاجتماع ، إذ لا محذور في إرادة المولى صرف الوجود الجامع ونهيه عن فرد من أفراده.

٢ ـ النحو الثاني ، هو : ما لو كان عنوان متعلّق الأمر غير عنوان متعلّق النّهي ، فإنّه يجوز حينئذ الاجتماع حتى لو انطبق العنوانان على وجود واحد خارجا ، ذلك لأنّ تعدّد العنوان يؤدي إلى تعدّد المعنون معروض الأمر والنّهي والحب والبغض حقيقة ، كما تقدّم.

٣ ـ النحو الثالث ، هو : ما لو كان التركيب بين عنوان المأمور به وعنوان المنهي ، تركيبا انضماميا ، لا اتحاديا ، بمعنى أن يكون تعدد العنوان مستلزما لتعدد المعنون خارجا.

هذه أنحاء وملاكات ثلاثة لجواز اجتماع الأمر والنّهي.

وقد أوضحنا فيما تقدم أنّ الملاك والنحو الأول وإن كان صحيحا في نفسه بلحاظ نفس الأمر والنّهي ، إلّا أنّه يلزم وقوع التضاد بين الأمر بالجامع والنّهي عن أحد أفراده في عالم الحب والبغض الذي هو عالم المبادئ وروح الحكم ، إذ سبق أن ادّعينا أنّ الأمر بالجامع بنحو صرف الوجود يلزم منه وجدانا ، التخيير الشرعي في عالم الحب والإرادة المستلزم بدوره لتعلّق الحب بالفرد عند ترك سائر الأفراد ، وبهذا يقع التضاد بينهما ، كما عرفت.

وأمّا النحو والملاك الثاني : فقد عرفت أننا أثبتنا جواز الاجتماع على أساسه حتى مع وحدة المعنون.

وأمّا الملاك والنحو الثالث : فقد عرفت أنّ المحققين بنوا عليه جواز الاجتماع كبرويا ، وإن اختلفوا صغرويا في تشخيص موارده كما ستعرف مزيد تفصيل عن ذلك. ثم إنّه بعد الفراغ عمّا تقدم ، بقي بعض التحفظات ـ على القول بالجواز ـ لا بدّ من التنبيه عليها.

٣٥٣

١ ـ التحفظ الأول :

هو : إنّ القول بجواز الاجتماع ، إنما هو فيما إذا لم يكن الواجب عباديا.

وأمّا إذا كان الواجب عباديا ـ كما لو فرض أنّ الحركة الصلاتيّة صارت معنونة بعنوانين : عنوان الصلاة ، وعنوان الغصب ، بحيث كان كلا العنوانين منطبقين على شيء واحد خارجا ، ـ ففي مثل ذلك لا نقول بجواز الاجتماع ، لا لغائلة التضاد ، إذ لا تضاد مع تعدّد العنوان ، كما عرفت ، بل لأنّ الواجب العبادي يتقوّم بقصد القربة ، ومع حرمة الحركة الصلاتيّة لأجل الغصب ، يستقل العقل بقبحها ، ومعه لا يمكن التقرب بها ، فإذا أتى بها حينئذ ، تكون فاسدة ، إذن فهذه الحركة الصلاتيّة امتنع كونها مجمعا للأمر والنّهي لما ذكرناه ، لا من جهة التضاد.

وممّا يذكر من ثمرات لهذا التحفظ ، هو كون النّهي واصلا ، وإلّا فمع الجهل به يمكن التقرب بالواجب ، ويقع المجمع مصداقا له.

بينما على القول بالامتناع ، يقع الواجب العبادي باطلا حتى مع الجهل بالنّهي. وهنا ثمرات عملية تترتب على هذين المسلكين ، سوف نتعرض لها في تنبيهات مسألة الاجتماع إن شاء الله تعالى.

٢ ـ التحفظ الثاني :

هو إنّ تغاير العنوانين ، إنّما يكون موجبا لرفع غائلة التضاد بين اجتماع الأمر والنّهي ، فيما إذا كان العنوانان حقيقيّين ، سواء أكانا ماهويّين أو انتزاعيّين.

وأمّا إذا كانا عنوانين رمزيّين ، ومن العناوين التي يخترعها العقل وينشئها ، كعنوان أحدهما ، أو واحد منهما ، فإنّ هذه العناوين إن هي إلّا رموز يشير بها الذهن إلى الخارج ، وفي مثلها لا ترتفع غائلة التضاد ، لأنّ

٣٥٤

نسبة العنوان الرمزي إلى ذي الرمز ، هي نسبة اللفظ إلى معناه ، لا نسبة الكلّي إلى مصاديقه ، وفي مثله يكون الأمر والنّهي في الحقيقة متعلّقين بذي الرمز ، وذو الرمز واحد ، فيلزم اجتماع الضدّين في واحد ، وهو مستحيل ، كما لو أمر بإحدى خصال ثلاث ، فإنه لا يمكنه أن ينهى عن أحدها بالخصوص ، لأنّ معروض الأمر والحب سيكون واقع هذه الخصال بنحو التخيير الشرعي ، لأنّ الذهن يرى من خلال هذا العنوان الانتزاعي ، واقع العناوين المنطبق عليها ، وفي مثله يقع التضاد والتهافت.

٣ ـ التحفظ الثالث :

هو إنّه إذا كان العنوانان المتغايران مشتركين في ركن أساسي لهما ولكنهما مختلفان بالحيثية ، كما في القيام تعظيما للعادل ، والقيام تعظيما للفاسق ، فلو أمر المولى بالأول فوجب ، ونهى عن الثاني فحرم ، وانطبق كلا هذين العنوانين على قيام واحد في الخارج ، كما لو قام المكلّف للعادل والفاسق في مورد ينطبق على قيامه كلا العنوانين. ففي مثله لا يكون تعدد العنوان مجديا في رفع غائلة التضاد ، لأن هذا القيام الذي اجتمع فيه العنوانان يكون محبوبا ومأمورا به ولو ضمنا ، وباعتبار لزوم التخيير الشرعي منه سوف يتعلّق الحب بهذا الفرد المبغوض ، فيكون هذا من قبيل اجتماع محبوبية مطلق الصلاة مع مبغوضية الصلاة في الحمّام الذي ذكرنا أنه مستحيل. فمقامنا يكون من قبيل النحو الأول ، وهو ما لو اختلف متعلق الأمر بالإطلاق والتقييد ، لا من قبيل النحو الثاني. وهو الاختلاف في العنوان.

والخلاصة هي : إنّ تعدد العنوان ، أنّما يوجب جواز الاجتماع فيما إذا كان العنوانان متغايرين ومتمايزين بتمام حقيقتهما.

وأمّا إذا كانا متغايرين في الخصوصية مع الاشتراك في ذي الخصوصية ، فإنّه يكون من قبيل النحو الأول وهو اختلاف العنوانين بالإطلاق والتقييد. ثمّ إنّه كما تحفّظنا حول الملاك الثاني للجواز ، وهو

٣٥٥

كفاية تعدّد العنوان لدفع غائلة التضاد ، وبحثناه بحثا تطبيقيا صغرويا ، فأيضا نبحث بحثا تطبيقيا صغرويا الملاك الثالث لجواز الاجتماع وهو ثبوت كون المجمع متعددا والتقرب بالمجمع حتى لو كان منضما إلى مصداق الحرام كما تقدّم.

وإنما سلك المحققون من الأصوليين هذا المسلك لتصوير الجواز ـ ولم يكتفوا بتعدّد العنوان شافعا في جواز الاجتماع ـ لما اشتهر من أنّ الأحكام إنّما تتعلق بالعناوين ، لا بما هي هي ، بل تتعلق بها بما هي فانية في الخارج وحاكية عنه ، وبهذا احتملوا كون المعروض إنّما هو الخارج. وعليه ، بنوا كون الخارج متعددا لتعدد العنوان الحاكي عنه ، وبهذا جوّزوا الاجتماع ، كما ذهب إليه الخراساني ، والنائيني ، والخوئي ، من تفسير فناء العنوان في المعنون ، بمعنى أنّ الحكم المنصب على العنوان يسري ويقف على المعنون خارجا.

وقد أوضحنا هذه المغالطة عند عرض كلمات هؤلاء الأعاظم ، حيث قلنا هناك : بأننا حتى لو سلّمنا بهذا التفسير للفناء والإفناء بما ذهب إليه هؤلاء الأعاظم ـ من كون الحكم المنصب على العنوان يقف على المعنون خارجا ـ فمع هذا لا يلزم أن يكون الميزان في رفع غائلة التّضاد ، وجواز الاجتماع هو تعدّد الوجود خارجا ، لأنّ تفسير الفناء والإفناء كما ذكروه ، ليس معناه أنه يوجد شيئان : العنوان والمعنون. وأن الحكم يسري من الأوّل إلى الثاني ، بل ليس هنالك إلّا معروض واحد للحكم وهو العنوان.

وهذا العنوان : تارة نلحظه بالحمل الأوّلي فيكون معروضا للحكم.

وأخرى نلحظه بالحمل الشائع الصناعي فلا يكون معروضا للحكم.

إذن فالفناء في الخارج عبارة عن لحظ العنوان بالحمل الأولي في مقام جعل الحكم ، فيرى العنوان كأنه شيء في الخارج ، فإذا تعدّد هذا العنوان تعدّد لا محاله مرئيّة وخارجيته دون أن يكون هناك أيّ ربط لذلك بالمعنون ، أو الوجود الخارجي.

٣٥٦

بل نصعّد هذا النقض فنقول : بأننا حتى لو سلّمنا بأنّ الحكم يعبر من العنوان إلى المعنون الخارجي ـ وقطعنا النظر عمّا يلزم من محاذير ولوازم باطلة ـ فإنّ غاية معناه : أنّ الذهن يجعل العنوان وسيلة لصب الحكم على المعنون بمقدار ما يرى المعنون بالعنوان.

وحينئذ يقال : إنّ جواز الاجتماع على هذا ، لا يحتاج إلى فرض تعدد المعنون في وجوده الخارجي ، وإنّما يكفي تعدّد المقدار المرئي من المعنون بكل من العنوانين سواء أكان وجوده متحدا مع المرئي بالعنوان الآخر ، أم لم يكن كذلك ، لأنّ الذهن إنّما يرى المعنون بمقدار ما يحكي عنه العنوان لا بمقدار ما هو موجود من المعنون خارجا ، وذلك لأنّ المرآة إنما تكشف ذا المرآة بقدر المرآة ، لا بقدر ذي المرآة الخارجي ، ولذا لو كان ذو المرآة خارجا أكبر حجما من المرآة ، فلا يرى ذو المرآة بتمام حجمه الخارجي. هذا من دون فرق بين هذه العناوين الذاتية ـ نوعية كانت أم جنسية أم فصلية ـ والعناوين الانتزاعيّة ، كالفوقيّة ، والتحتية لأنها هي أيضا حيثيات واقعية في خارج الذهن ، وإن لم تكن من سنخ الوجود كما ستعرف تفصيله.

والخلاصة هي : إنّ الذهن يرى المعنون بواسطة العنوان ، إذن فلا محالة يرى المعنون حينئذ بقدر ما يحكي عنه العنوان ، ولا يراه بتمام حجمه الخارجي.

ومهما كان ، فقد ذهب المحقق الخراساني «قده» إلى أنّ المجمع واحد مهما تعدّد العنوان ، لأنّه يمكن انطباق عناوين متعددة على وجود واحد ، وقد يكون هذا الوجود الواحد بسيطا من كل الجهات كالواجب تعالى. إذن فمجرد تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون. وعليه : ذهب هذا المحقق العظيم إلى عدم جواز الاجتماع.

إذا اتضح ذلك فنقول : إنّ العناوين تنقسم الى قسمين :

١ ـ القسم الأول ، هو : العناوين الذاتية.

٣٥٧

٢ ـ القسم الثاني ، هو : العناوين الانتزاعيّة العرضيّة كالفوقية والتحتية والقسم الأول له شقان :

١ ـ الشق الأول : العناوين الذاتيّة النوعيّة ، وهو ما يسمّى بالنوع كالإنسان.

٢ ـ الشق الثاني : العناوين الذاتيّة الجنسيّة والفصليّة كالحيوان والناطق.

أمّا الشق الأول ، وهو العنوان النوعي : فإنّه إذا جعل مرآة لمعنون ، كالإنسان إذا جعل مرآة لزيد ، فيكون محكيّه هو تمام الوجود الخارجي لزيد.

وأمّا الشق الثاني ، وهو العنوان الجنسي أو الفصلي : فإنّه إذا جعل مرآة لمعنون ، كالحيوان أو الناطق إذا جعل مرآة لزيد ، فحينئذ لا يكون محكيّه تمام الوجود الخارجي لمعنونه ، «زيد» ، لأنّ تمام الوجود الخارجي لزيد لا يرى بالحيوانية أو بالناطقية ، وإنما يرى بالإنسانية.

نعم إنما يرى بالحيوانية حيثيّة ضمنيّة من الوجود الخارجي لزيد ، وكذا يرى بالنطقية حيثيّة ضمنيّة منه مغايرة للحيثيّة الأولى ، فإنّ الوجود الخارجي وإن لم يكن قابلا للتبعض خارجا ، إلّا أنّه يتبعّض في عالم رؤية الذهن.

وعليه فلا مانع من أنّ يتعلق الأمر بالحيثيّة الأولى ، والنّهي بالحيثية الثانية وإن كان ما بإزاء الحيثيّتين في الخارج شيئا واحدا ، إذ إنّه لا محذور في ذلك ؛ بعد أن عرفت أنّ الوجود الخارجي لم ير بتمامه بواسطة عنوانه ، وإنما الذي رئي منه هو الحيثيّتان المذكورتان ، فالحكم يسري من العنوان إلى هاتين الحيثيّتين فيتعلق الأمر بالأولى ، والنّهي بالثانية ، ولا محذور.

وأمّا القسم الثاني ، وهو العناوين الانتزاعيّة العرضية : فأيضا لا يشترط في جواز الاجتماع فيها تعدد الوجود خارجا ، فمثلا ، عنوان التقدم عنوان

٣٥٨

عرضي انتزاعي ، فإذا تعلّق الأمر بتقدم الصلاة على التسبيح ، وتعلّق النّهي بتقدم الصلاة على الأكل ، فأوقع المكلّف الصلاة ، ثم أوقع بعدها التسبيح والأكل ، فهنا يوجد تقدمان للصلاة :

أحدهما : تقدم على التسبيح ، وهذا مأمور به.

والثاني : تقدم على الأكل ، وهذا تقدم منهي عنه.

وهذان التقدمان حيثيّتان عرضيّتان انتزاعيّتان فلا مانع من أن يتعلق الأمر بإحداهما ، والنّهي بالأخرى ، وإن كان ما بإزائهما في الخارج وجودا واحدا ، وهو تقدم ذات الصلاة ، وذلك لما عرفت من أنّ معنى الإفناء ، هو أنّ الحكم لا يقف على العنوان ، بل يسري إلى المعنون ، والمعنون في مقامنا جهة واقعية ثابتة في لوح الواقع بناء على ما بيناه سابقا من أنّ العناوين العرضية الانتزاعيّة ما بإزائهما في الخارج حيثيات واقعية ، وبنفسها خارجية لا بوجودها.

إذن فمعنون كل عنوان عرضي انتزاعي حيثية واقعية مغايرة للحيثية الأخرى ، وعليه فلا مانع من أن يتعلق الأمر بإحدى الحيثيتين ، ويتعلق النهي بالحيثية الأخرى وإن كان ما بإزاء الحيثيتين في الخارج شيئا واحدا ، كما ألمحنا إليه سابقا ، لأنّ المرئي بالعنوان هو تلك الحيثية ، لا ذلك الوجود الخارجي ، حتى تكون وحدته مانعة من جواز الاجتماع.

وبهذا نثبت ، أنّه حتى لو تنزّلنا وفسّرنا الإفناء بمعنى سراية الحكم من العنوان إلى المعنون ، فلا يكون ميزان رفع غائلة التّضاد ما ذكره الخراساني والنائيني والخوئي «قدست أسرارهم» من تعدد الوجود خارجا.

بل الميزان ، هو : أن يكون المقدار المحكي لكل عنوان مغايرا للمقدار المحكي للعنوان الآخر ، بحسب رؤية الذهن لهذه المعنونات ، كما عرفت تفصيله.

ومجمل القول إلى الآن ، هو : إنّك قد عرفت أنّ المختار ـ فيما لو كان

٣٥٩

الاختلاف بين مركزيّ الأمر والنّهي بالإطلاق والتقييد الذي هو النحو الثاني ـ هو جواز اجتماع الأمر والنّهي ، ثم ذكرنا للقول بجواز الاجتماع تحفظات ، وقد ذكرنا في التحفظ الأول : إنّ القول بالجواز إنما هو إذا لم يكن الواجب عباديا.

وأمّا إذا كان عباديا فلا نقول بجواز الاجتماع ، وعدم قولنا بجواز الاجتماع ليس لغائلة التضاد ، إذ إنّها مرتفعة بتعدد العنوان ، كما عرفت.

وإنّما لا نقول بالجواز لأنّ مثل هذه العبادة لا يمكن التقرب بها للمولى ، كما عرفت تحقيقه ، وهذا إنما يتم فيما لو كان متعلق الأمر والنّهي هو نفس الحركة الصلاتية ، بحيث لم يكن تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون.

وأمّا إذا كان تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون ، فحينئذ يكون متعلق الأمر غير متعلق النّهي ، وحينئذ لا تكون الصلاة المأتي بها في الغصب مبغوضة للمولى فتقع صحيحة.

ومن هنا كان لا بدّ أن نبحث في أنّ تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون خارجا ، أو لا يوجبه؟.

وقد عرفت أنّ المحققين الأعاظم : الخراساني والنائيني والخوئي قد بنوا القول بجواز الاجتماع على كون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون. وهنا يقع بحث آخر حيث يقال : بأنه لو سلّمنا بأن تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون ، فهل أنّ هذا المسلك هو أوسع في النتيجة من المسلك الذي بنينا عليه جواز الاجتماع ، أو لا؟.

ومن أجل ذلك وغيره ، كان لا بدّ وأن نبحث في أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدد المعنون ، أو لا؟ حيث يتضح من خلال هذا البحث ، حقيقة الخلاف الذي وقع بينهم في تطبيق ما ذكروه من القاعدة الكليّة التي اتفقوا عليها ، والتي قد عرفت عدم تماميّتها.

٣٦٠