بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

إنّ عدم صحة بيع الصبي ليست لما ذكر ، فإنّ ذلك لم يثبت ، وإنّما عدم صحة بيعه من جهة تخصيص أدلة الإمضاء بغيره ، ولو لا المخصّص لصحّحنا بيعه.

وعليه فلا دليل يثبت أنّ السلطنة بهذا المعنى الثالث مأخوذة في موضوع صحة المعاملة ، هذا أولا.

وأمّا ثانيا : فلو سلّم وجود مثل هذا الدليل على ركنيّة هذه السلطنة بهذا المعنى ، إلّا أنّنا نقول : إنّ تحريم المسبّب لا يوجب انهدام هذا الركن ، لأنّ اعتبار السلطنة وجعل الحرمة ، ليسا من باب النقيضين ليكون تعيّن أحدهما موجبا لزوال الآخر ، بل هما أمران وجوديان اعتباريان ، ولا تناف بينهما ، لأنّ الاعتبارات بما هي اعتبارات ، لا منافاة بينها ، كما أنّه لا منافاة بينهما بلحاظ آثارهما ، لأنّ أثر اعتبار الحرمة هو استحقاق العقاب على هذا التمليك ، وأثر اعتبار السلطنة هو ترتب الأثر ، وهو التمليك ، ولا منافاة بين هذين الأثرين ، بل لا منافاة بين هذين الاعتبارين ، حتى بلحاظ عالم التصور ، فضلا عن التّصديق ، لأنّه يمكن أن يتصور أنّ إنسانا مسلط على الفعل وعدمه ، لكن يطلب منه أن لا يفعل ، وعليه ، فاعتبار الحرمة لا ينفي اعتبار السلطنة ليقال : إنّ النهي عن المعاملة بمعنى المسبب ، يقتضي بطلانها ، لانتفاء اعتبار السلطنة الذي هو ركن في الصحة. هذا تمام الكلام في الاستشكال التفصيلي على الوجه الذي ذكره الميرزا «قده» لاقتضاء النّهي عن المعاملة بمعنى المسبّب ، للفساد.

* ـ الإشكال الثاني الإجمالي ، الذي يرد على ما ذكره الميرزا «قده» ، فإنّه يستفاد من تضاعيف كلامه «قده» حيث التفت إليه وأجاب هو عنه.

وحاصل هذا الإشكال هو : إنّه لو كان النّهي عن المعاملة بمعنى السبب يقتضي بطلانها ، للزم كون النّهي متعلقا بأمر غير مقدور ، وهذا مستحيل.

٥٦١

وبيان ذلك ، هو : إنّ النّهي متعلّق بالمسبّب ، وقد فرض أنّ النهي يهدم الركن الثاني من أركان صحة المعاملة ، ومعه يتعذر وجود المسبب ، وإذا تعذر وجود المسبّب فإنّه حينئذ يستحيل النّهي عنه ، لأنّه تكليف بغير المقدور وهذا الاستشكال منتزع من الإتجاه المعاكس القائل : بأنّ النّهي عن المعاملة يقتضي الصحة (١) ، وإلّا فلو اقتضى الفساد ، للزم هذا المحذور.

وقد أجاب الميرزا «قده» عن هذا الكلام : بأنّ المسبّب لو كان محصورا بخصوص المسبّب الشرعي ، لتمّ هذا الاستشكال بالنحو الذي عرفت ، إلّا أنّ المفروض أنّه غير منحصر بالمسبب الشرعي ، بل كما يوجد مسبب شرعي ، كذلك يوجد سبب عقلائي ، فحينئذ يفرض أنّ النّهي الشرعي متعلّق بالمسبّب العقلائي ، أو بالجامع بينه وبين الشرعي ، فحينئذ لا يرد هذا الإشكال ، لأنّ النّهي الشرعي المتعلّق بالمعاملة بمعنى المسبّب يوجب البطلان الشرعي للمعاملة ، لا البطلان العقلائي ، والبطلان الشرعي يوجب تعذر خصوص الحصة الشرعية ، أي : المسبّب الشرعي ، وأمّا المسبّب العقلائي أو الجامع ، فيبقى تحت القدرة ، فلا مانع من تعلّق النّهي الشرعي بأحدهما ، ولا يرد الإشكال حينئذ.

وهذا الكلام تام إذا فرضنا أنّ النّهي تعلّق بالجامع.

إلّا أنّ الميرزا «قده» فرضه متعلق بالمسبب العقلائي ، وهنا لا يكون جوابه تاما ، لأنّه يقال : إذا كان النّهي الشرعي متعلقا بالمسبّب العقلائي ، فما الموجب لبطلان المعاملة ، مع أنّه لا نهي عن المسبّب الشرعي؟.

ولأجل أن يكون جوابه تاما ، لا بدّ وأن نضيف إليه دعوى أخرى ، وهي أن يقال : بأنّ صحة المعاملة وإمضاء المسبّب الشرعي من قبل المولى ، منوط بالقدرة الشرعيّة على المسبّب العقلائي ، والمفروض أنّ المسبّب

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام ـ الآمدي : ج ٢ ص ١٧٩ ـ فوائد الأصول الكاظمي : ج ١ ص ٢٩٤.

٥٦٢

العقلائي غير مقدور شرعا بسبب النّهي الشرعي عنه ، فبإضافة هذه الدعوى ، يتم جوابه الذي فرض فيه تعلّق النّهي بخصوص المسبّب العقلائي.

وهذا الجواب الذي أفاده الميرزا «قده» يفي بحل الإشكال في صورة ما إذا فرض أنّ النّهي الذي يتعلّق بالمسبّب يكون نهيا شرعيا دائما.

لكن إذا تعلّق نهي عقلائي بالمعاملة ، بمعنى المسبّب ، فإنه أيضا يرجع الإشكال حينئذ ، فإنّه كما كان النّهي الشرعي يوجب تعذّر المسبّب الشرعي ، فكذلك النّهي العقلائي ، يوجب تعذّر المسبّب العقلائي بنفس البيان ، ومع تعذّر المسبّب الشرعي والعقلائي ، لا يبقى هناك ما يمكن تعلّق النّهي به ، وإذا فرض أنّ النّهي متعلّق بهما ، فيرجع الإشكال ، باعتبارهما غير مقدورين كما عرفت.

وعليه فالمتعيّن في مقام الجواب عن هذا الإشكال ، هو أن يقال : بأنّ النّهي المتعلّق بالمسبّب يكون متعلقا بما يكون تمليكا لو لا النّهي ، أي : متعلقا بوجوده اللولائي الفعلي ، ومن المعلوم ، أنّه حتى لو كان النّهي مقتضيا للبطلان ، وأوجب ذلك تعذر المسبّب الشرعي والعقلائي ، إلّا أنّ التمليك اللولائي الذي هو متعلق النّهي مقدور ، لأنّه يصدق عليه حتى مع البطلان أنّه تمليك لو لا النّهي.

وممّا ذكرنا ، ظهر أنّ الوجه الثاني الذي ذكره الميرزا «قده» في مقام بيان اقتضاء النّهي عن المسبّب للبطلان ، غير تام ، لما يرد عليه من الإشكال التفصيلي ، وإن لم يرد عليه الإشكال الإجمالي.

ومن هنا ظهر أيضا ، أنّ النّهي عن المسبّب لا يقتضي البطلان.

هذا تمام الكلام في القسم الثاني من النّهي.

٣ ـ القسم الثالث ، وهو : النّهي الذي يكون متعلقا بالأثر المترتب على المسبّب كقوله ، «ثمن العذرة سحت» ، ونحوه من التحريمات المتعلقة بالآثار ، حيث أنّ هذه النواهي تدل على حرمة التصرف بهذا الثمن ، والتصرف من آثار المسبّب ، وهو التمليك.

٥٦٣

واستلزام مثل هذا النّهي لبطلان المعاملة يكون بأحد ثلاثة طرق :

١ ـ الطريق الأول ، هو : أن يفرض أنّ الحرمة التي يوجبها النهي في المقام ، توجب عدم ترتب أيّ أثر من الآثار التي يترقب ترتبها على المسبب بحيث لو حكم بصحة المعاملة ، لكان هناك مسبب بلا أيّ أثر شرعي عملي ، بمعنى أنّه لو حصل التمليك ، لما ترتب عليه أيّ أثر من آثاره كجواز بيعه ، وهبته ، ونحو ذلك.

وعليه : فيكون نفس الدليل الذي تكفل نفي هذه الآثار دالا على بطلان هذه المعاملة ، لأنّه إن كانت الأحكام الوضعية تابعة للأحكام التكليفية في الجعل ، فالمفروض هنا أنّ الأحكام التكليفية قد نفيت جميعها ، فلا مجال لانتزاع الحكم الوضعي ، وهو الصحة.

وإن كانت الأحكام الوضعية مستقلة بالجعل ، فكذلك لا معنى لجعل الصحة ، لأنّ جعل هذا الحكم مع عدم ترتب أيّ أثر عليه ، يكون لغوا. فمن هنا يظهر أنّ الشارع لم يجعل الصحة بمعنى أنّه لم يمض مثل هذه المعاملة ، وبذلك يثبت البطلان.

٢ ـ الطريق الثاني ، هو : أن يفرض أنّ دليل الحرمة لا ينفي تمام الآثار ، وإنّما ينفي الأثر الركني الذي يكون بينه وبين سائر الآثار ملازمة عرفية ، وحينئذ فيكون هذا الدليل النافي لذلك الركن نافيا لسائر الآثار بالدلالة الالتزامية العرفية ، ومعه يكون هذا الدليل مقتضيا للبطلان.

٣ ـ الطريق الثالث ، هو : أن يفرض أنّ دليل الحرمة ينفي بعض الآثار ، لا تمامها ، ولا الركن منها ، كما لو دلّ الدليل على عدم جواز بيع المشتري هذه السلعة التي تملّكها بتملك منهي عنه ، حينئذ يقال : إنّ الدليل الذي دلّ على ترتب هذا الأثر ، وهو جواز بيع ما يشتريه ، على كل بيع صحيح ، يكون دالا على بطلان هذه المعاملة.

وبيان ذلك هو : إنّ الدليل دلّ على ترتب هذا الأثر ، وهو جواز البيع ،

٥٦٤

على كل بيع صحيح ، كما أنّ دليل الحرمة قد نفى ترتب هذا الأثر ، وحينئذ ، فإن فرض أنّ هذا البيع كان صحيحا ، فيكون الدليل الذي دلّ على نفي الأثر ، مخصصا للدليل الدال على ترتب الأثر ، وإن كان البيع باطلا ، فيرجع نفي الأثر إلى تخصيص في دليل ترتب الأثر ، وكلّما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص فيرجع إلى أصالة عدم التخصيص ، وبذلك يثبت التخصّص ، وهذا يثبت بطلان المعاملة ، لأنّه لو كانت صحيحة ، لرجع نفي الأثر إلى تخصيص في دليل ترتب الأثر ، لا إلى تخصص فيه ، كما عرفت.

إلّا أنّ تماميّة هذا الطريق مبنية على أمرين :

١ ـ الأمر الأول : على تماميّة ما ذكر من كبرى أصالة عدم التخصيص في مقام هذا الدوران ، وإن شئت قلت : إنّ المقام من دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ، فلو كانت المعاملة صحيحة ، ومع هذا لا يترتب عليه الأثر ، فهذا معناه التخصيص في دليل الأثر ، ولو كانت المعاملة باطلة فهي خارجة عن موضوع دليل الأثر ، وهو معنى التخصص.

والصحيح في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصص عدم جريان أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص.

٢ ـ الأمر الثاني ، هو : أن لا تقع المعارضة بين دليل ذلك الأثر المنفي ، ودليل صحة المعاملة لأنّه قد يفرض وجود إطلاق في دليل المعاملة ، وهذا الإطلاق يقتضي صحتها ، وحينئذ يقع التعارض بين الدليلين ، ومعه يرجع إلى قواعد التعارض.

وحينئذ لا يكون هذا الطريق تاما ، فلا بدّ في تماميته من تماميّة هذين الأمرين. وعليه : فالعمدة في إثبات البطلان في المقام هو الطريقين : الأول والثاني.

وإن شئت قلت : إنّه لو سلّمنا جريان أصالة عدم التخصيص في أمثال المقام ، فيكون دليل الأثر دالا لا محالة بإطلاقه على بطلان المعاملة ،

٥٦٥

وحينئذ لو كان هناك دليل يدل على صحة هذه المعاملة ، ولو بالإطلاق ـ كما هو الحال في مطلقات أدلة الصحة ـ وقع التعارض لا محالة بين إطلاق دليل الصحة ، وبين إطلاق دليل الأثر. إذن فلا بدّ من ملاحظة هذا التعارض ، إذ قد يتقدم دليل الصحة على إطلاق دليل الأثر.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى ، وهي اقتضاء النهي الفساد في المعاملات بلحاظ مقتضى القاعدة.

٢ ـ الجهة الثانية ، وهي : في اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد ، بلحاظ الدليل الخاص. وهنا قد يدّعى وجود مثل هذا الدليل على الاقتضاء ، وهو الروايات الواردة في نكاح العبد ، بدون إذن مولاه.

ففي هذا المقام نقل زرارة عن جملة من الفقهاء الموجودين في ذلك الزمان بأنهم يذهبون إلى أنّ نكاح العبد فاسد من أصله على نحو لا ينفع معه تعقب الإجازة بعد ذلك. فهم يرون أنّ هذا النكاح كالنكاح في العدّة الذي هو فاسد من أصله ، ولا يصح بوجه ، فقد روى زرارة عن أبي جعفر «ع» قال : سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده ، فقال : «ذاك إلى سيّده ، إن شاء أجازه ، وإن شاء فرّق بينهما» ، قلت : أصلحك الله ، إنّ الحكم بن عيينة ، وابراهيم النخعي ، وأصحابهما ، يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيّد له.

وهنا قال الإمام «ع» في مقام الجواب عن هذا التوهم : «إنّ العبد لم يعص الله ، وإنّما عصى مولاه ، فإذا أجازه ، فهو له جائز» (١).

فبيّن عليه‌السلام أنّ نكاح العبد هذا ، ليس باطلا من أصله ، بحيث لا

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ الحر العاملي : ج ١٤ ب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ص : ٥٢٣.

٥٦٦

ينفع معه تعقّب الإجازة ، وإنّما هو باطل ، إذا لم تتعقبه الإجازة ، كما هو مفهوم الكلام.

وبتعبير آخر يقال : إنّ ظاهر جواب الإمام «ع» أنّه لو كان عاصيا لله ، لكان النكاح باطلا من أصله.

وظاهر العصيان هنا ، هو العصيان التكليفي ، وليس العصيان الوضعي ، بمعنى الإتيان بالمعاملة الفاسدة ، إذ إنّ العصيان الوضعي ، ليس في الحقيقة عصيانا وتمردا على المولى ، إذن لا بدّ وأن يكون المقصود ، أنّ العصيان التكليفي هو الذي يوجب فساد النكاح ، وهذا يعني ، أنّ النكاح لو كان منهيا عنه لوقع باطلا ، وهذا هو معنى أنّ النهي عن المعاملة يوجب الفساد.

أو فقل : إنّه من جواب الإمام «ع» يستدل على أنّ النهي المولوي يقتضي الفساد في المعاملة ، بدعوى وجود ظهورين ، ومن مجموعها يستفاد اقتضاء النهي للبطلان :

١ ـ الظهور الأول : هو : إنّ مفهوم قول الإمام «ع» ، إنّ هذا العبد لم يعص الله ، هو إنّ عصيان الله يوجب الفساد ، حيث علّل عدم الفساد بأنّه لم يعص الله ، فهذا الظهور يقتضي كون عصيان الله موجبا للفساد.

٢ ـ الظهور الثاني ، هو : إنّ العصيان الوارد في كلام الإمام «ع» ظاهر في المعصية التكليفية ، لا الوضعية ، لأنّ العصيان التكليفي هو الذي يكون فيه تمرد حقيقي على المولى ، وأمّا العصيان الوضعي فهو مجرد اصطلاح أصولي ، وإلّا فهو لا يتضمن تمردا على المولى ، فإنّ من يأتي بمعاملة فاسدة غير قاصد لترتب الأثر ، لا يكون متمردا ، وأمّا إذا قصد ترتب الأثر ، فترجع المعصية إلى المعصية التكليفية ، وحينئذ ، فمن مجموع هذين الظهورين ، يثبت أنّ العصيان التكليفي يوجب فساد المعاملة ، والعصيان التكليفي نتيجة للنّهي المولوي التحريمي ، فيثبت أنّ النهي المولوي التحريمي عن المعاملة يقتضي فسادها ، وهو المطلوب.

٥٦٧

إلّا أنّ الصحيح عدم تماميّة هذا الكلام ، لعدم تماميّة الظهور الثاني.

ولتوضيح ذلك نقدم مقدمة ، وحاصلها ، هو : إنّه يوجد عندنا إذن تكليفي ، وفي مقابله ، منع تكليفي ، كما أنّه يوجد عندنا إذن وضعي ، وفي مقابله منع وضعي.

والمقصود بالإذن الوضعي ، هو : أن يقر الشارع والمولى مضمون المعاملة ، من دون نظر إلى السبب والإنشاء. والمقصود بالمنع الوضعي هو : عدم إقرار مضمون المعاملة ، وهذان النحوان من الإذن والمنع يختلفان في أمرين :

١ ـ الأمر الأول : هو : إنّ الإذن والمنع التكليفيين لا يتصوران إلّا قبل إيقاع الفعل ، لأنّه بعد وقوع الفعل لا يترقّب من المولى شيء آخر ليؤذن فيه أو يمنع عنه ، وأمّا الإذن والمنع الوضعيين ، فكما يتصوران قبل إيقاع الفعل ، كذلك يتصوران بعد إيقاعه ، وذلك لأنّ الحكم الوضعي ، مربوط بمضمون المعاملة ، فحتى بعد إيقاعها يترقب من المكلف صدور شيء ، وهو ترتيب آثار هذه المعاملة ، ومعه فيعقل الإذن والمنع ، حتى بعد إيقاع المعاملة.

٢ ـ الأمر الثاني ، وهو : متفرّع على الفرق الأول ، وحاصله : إنّ المنع التكليفي إذا وجد قبل إيقاع الفعل ، فلا معنى لتبدّله بالإذن التكليفي بعد وقوع الفعل كما هو واضح.

وأمّا المنع الوضعي ، فإذا حدث قبل إيقاع المعاملة ، فيعقل تبدّله بالإذن بعد إيقاعها ، لأنّ ذلك ينتج إمكان ترتيب الآثار على هذه المعاملة ، هذه هي المقدمة.

وحينئذ نأتي إلى محل الكلام فنقول : إنّ المستظهر من العصيان الوارد في كلام الإمام «ع» ، هو العصيان الوضعي ، لا التكليفي ، لوجود عدة قرائن كما ستعرف ، وبناء عليه فلا يتم الاستدلال ، لاختلال الظهور الثاني.

٥٦٨

وغاية ما يدل عليه كلام الإمام «ع» حينئذ ، هو : إنّ المنع الوضعي عن النكاح يقتضي فساده ، وهذا خارج عن محل الكلام ، لأنّ محل الكلام هو اقتضاء النّهي التكليفي للفساد ، لا النّهي الوضعي.

وأمّا القرائن التي توجب ظهور العصيان في كلام الإمام «ع» في العصيان الوضعي فهي أربعة :

١ ـ القرينة الأولى ، هي : إنّ عصيان الله وعصيان السيد الواردين في الرواية ينبغي أن يحملا على معنى واحد ، إمّا العصيان التكليفي ، وإمّا العصيان الوضعي.

وحينئذ ، فإذا حمل عصيان الله على التكليفي ، فينبغي أن يحمل عصيان السيد على التكليفي أيضا ، وحمل عصيان السيد على التكليفي يستدعي أن يكون السيد قد صدر منه نهي عن هذا النكاح قبل إيقاعه ، لما عرفت في المقدمة ، من أنّ النّهي التكليفي يكون قبل إيقاع الفعل ، مع أنّ هذا المعنى لم يفرض في السؤال الموجه للإمام «ع» ، وغاية ما يقتضيه السؤال هو : إنّ نكاح العبد كان بغير إذن سيده ، لا إنّه منعه عنه قبل إيقاعه.

وعليه ، فلا بدّ من حمل عصيان السيّد على العصيان الوضعي ، ومعه يتعيّن حمل عصيان الله على الوضعي أيضا ، لما عرفت من لزوم حملهما على معنى واحد ، وبذلك يختل الظهور الثاني المدّعى ، لأنّ عصيان الله ليس ظاهرا في العصيان التكليفي.

وبعد حمل العصيان في كلام الإمام «ع» على العصيان الوضعي ، يكون حاصل المعنى ، إنّ هذا العبد ، لم يعص الله ، بمعنى أنّ الله أقرّ هذا النكاح ، إلّا أنّ المولى لم يقرّه ، وإقرار كل منهما بحسبه ، فإقرار الله له ، بمعنى أنّ الله قد أحلّ الزواج على وجه كلّي ، وعدم إقرار المولى ، بمعنى ، أنّ هذا المولى لا يرضى بأن تكون هذه المرأة زوجة لعبده ، وبهذا يستقيم معنى الرواية بلا مخالفة لأيّ ظاهر.

٥٦٩

بينما لو حملنا عصيان الله على العصيان الوضعي لوجب حمل عصيان المولى عليه أيضا ، وهذا يقتضي أن يكون المولى قد نهى عبده عن هذا النكاح قبل إيقاعه ، كما عرفت. وظاهر السؤال الموجه للإمام «ع» لا يثبت ذلك.

وعليه ، فلا بدّ من حمل عصيان الله الوارد في الرواية على الوضعي ، ومعه لا يتم الاستدلال ، لاختلال الظهور الثاني المدّعى.

٢ ـ القرينة الثانية ، هي : إنّ قول الإمام «ع» ، فإن أجاز فهو له جائز ، فإنّ هذا نص في أنّ الإجازة في هذا الفعل بعد إيقاعه ، ترفع المحذور والمنع ، وإنّ المنع الذي يرتفع بالإجازة بعد إيقاع الفعل ، إنّما هو المنع الوضعي لا التكليفي ، كما عرفت في المقدمة.

وعليه فالعصيان بالنسبة للسيد لا بدّ وأن يحمل على الوضعي ، وحينئذ ، لا بدّ وأن يحمل عصيان الله على الوضعي أيضا ، كما عرفت ، فيختل الظهور الثاني المدّعى ، ولا يتم الاستدلال.

٣ ـ القرينة الثالثة ، هي : إنّه : قد فرض في كلام الإمام «ع» أنّ هذا العبد لم يعص الله ، وإنّما عصى سيّده ، وحينئذ ، فإذا حملنا العصيان على العصيان الوضعي ، فيلتئم معنى الرواية ، فإنّه لم يعص الله باعتبار أنّ الله أقرّ هذا الفعل على وجه كلّي. وأمّا عصيان السيد ، فلأنّ سيّده لم يقرّ هذا الفعل كما عرفت.

وأمّا إذا حملنا العصيان على العصيان التكليفي ، فلا يلتئم معنى الرواية حينئذ ، لأنّ هذا العبد إذا عصى السيد تكليفا ، فلا بدّ وأن يكون عاصيا لله تكليفا ، لأنّ عصيان السيد محرّم بحكم الله تعالى.

٤ ـ القرينة الرابعة ، هي : إنّك قد عرفت في القرينة الأولى ، أنّه إذا حمل عصيان الله على التكليفي ، فينبغي حمل عصيان السيد عليه أيضا ، وحمل عصيان السيد على ذلك ، يستدعي صدور نهي من السيد قبل إيقاع

٥٧٠

هذا الفعل ، وحينئذ نسأل : بأنّ السيد قبل إيقاع الفعل ، عن أيّ شيء ينهى؟

فإن قيل : إنّه ينهى عن المسبّب ، فالمفروض أنّه لم يقع المسبّب ليتحقق عصيان السيد ، مع أنّه قد فرض تحقّقه في الرواية.

وإن قيل : أنّ السيد ينهاه عن أصل إنشاء العقد ، بمعنى أنّه يحجّر عليه التلفظ بإنشاء هذا العقد ، ففي مثله لو أنشأ العبد ذلك لا يكون عاصيا ، لأنّه لا دليل على تسلّط المولى على عبده إلى هذا الحد.

فبهذا يثبت أنّ فرض كون العبد عاصيا لسيّده ، يعني كون المراد من العصيان ، هو العصيان الوضعي لا التكليفي ، وإلّا لما التأم المعنى كما عرفت.

وإذا حمل عصيان السيد على الوضعي تعيّن حمل عصيان الله تعالى عليه أيضا ، فيختل الظهور الثاني المدّعى ، وبذلك يبطل الاستدلال بهذه الرواية وأمثالها ، على أنّ النّهي المولوي عن المعاملة يقتضي الفساد.

والحاصل ، هو : إنّ هذه القرائن تعيّن كون المراد من العصيان إنّما هو العصيان الوضعي ، ولو تنزّلنا ، فلا أقلّ من كونه موجبا لإجمال الرواية ، ومعناه أنّه لا يمكن الاستدلال بها.

هذا هو تمام الكلام في الجهة الثانية ، وبها تم الكلام في مسألة اقتضاء النهي للفساد في العبادات والمعاملات ، وبذلك يتم الكلام في بحث النواهي.

والحمد لله رب العالمين.

٥٧١

بحوث المفاهيم

ولتحديد موضوع البحث في المقام ، لا بدّ من تعريف المفهوم ، فنقول : انّه لا إشكال في أنّ المفهوم مدلول التزامي للكلام ، في مقابل المنطوق ، الذي هو مدلول مطابقي له ، كما أنه لا إشكال في انّه ليس كل مدلول التزامي للكلام ، مفهوما ، كما في وجوب المقدمة ، فإنّه مدلول التزامي لوجوب ذيها ، مع انّه ليس من المفاهيم.

وعليه ، فالمفهوم ، هو حصة خاصة من المدلول الالتزامي.

وقد وقع البحث في تمييز هذه الحصة عن غيرها ، وفي مقام توضيح ذلك ، ذكرت عدّة وجوه.

١ ـ الوجه الأول : وهو مستفاد من كلام الميرزا «قده» في تقريرات بحثه (١) : وحاصله : هو ان المفهوم عبارة عن المدلول الالتزامي الذي يكون لازما بينا بالمعنى الأخص ، بمعنى انه بمجرد تصور الملزوم ينتقل منه إلى اللازم بلا توسط شيء آخر ، ومن هنا لم يكن وجوب المقدمة من المفاهيم ، لأن تصور وجوب الصلاة لا يستدعي الانتقال إلى تصور وجوب الوضوء ، كما هو واضح.

الّا انّ هذا الوجه غير تام ، لأن الميرزا «قده» وغيره قد ذكروا في مقام إثبات مفهوم الشرط وجوها لإثبات المفهوم ، وهذه الوجوه لو تمّت فهي تثبت المفهوم ، لكن لا يكون هذا المفهوم لازما بيّنا بالمعنى الأخص ، بل قد يكون لازما غير بيّن أصلا ، وإنما هو لازم خفي يحتاج إلى توسط برهان

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ـ ج ١ ص ٢٩٦ ـ المطبعة العلمية ١٣٦٨ ه‍.

٥٧٢

وإعمال عناية ، فمثلا من جملة الوجوه التي ذكرت لإثبات مفهوم الشرط ، وجها يعتمد على استحالة صدور الواحد عن متعدد ، إمّا ببيان انّ مقتضى إطلاق الشرط انّه مؤثر في الجزاء على كل حال ، سواء قارنه أو سبقه شيء آخر أم لا ، وحينئذ لو كان هناك شيء آخر علة لنفس الحكم في الجزاء أيضا ، فلو تحقّق ذاك الشيء الآخر قبل تحقق الشرط في الخارج ، لكان ذاك الشيء الآخر هو الموجد للجزاء دون الشرط ، ولو تحقّق ذاك الشيء مع الشرط معا ومتقارنين ، كان المجموع علة ، لا الشرط بخصوصه.

فالنتيجة انّه لا يكون الشرط بما هو هو ، علة للجزاء عند سبق ذلك الشيء الآخر ، أو عند تقارنه معه ، وإلّا لزم صدور الواحد بالشخص ـ الذي هو الحكم بالجزاء ـ من الاثنين ، وهو مستحيل.

وإما ببيان انّه لو كان هناك علة أخرى في جانب الشرط ، فلو كان المؤثّر هو الشرط بعنوانه ، وذاك البديل بعنوانه ، لزم صدور الواحد بالنوع وهو طبيعي الحكم في الجزاء ـ من الاثنين ، وهو مستحيل ، ولو كان المؤثر هو الجامع بين الشرط وذاك البديل ، فهذا خلاف ظهور الشرط في كونه مؤثرا بعنوانه.

ولو تمّ هذا الوجه ، فهو لا يثبت الانتقال من المدلول المطابقي إلى المفهوم ، إلّا بعد إثبات استحالة صدور الواحد عن متعدد ، وحتى لو فرض انهم أثبتوا المفهوم في الجملة الشرطية بهذا القانون الفلسفي الذي لا يدركه إلّا الفلاسفة ، فكيف يكون المفهوم المستكشف والمثبت بهذا القانون الفلسفي ، لازما بيّنا بالمعنى الأخص.

بل هو على هذا الأساس لا يكون إلّا لازما خفيا وغير بيّن أصلا ، وعليه فما ذكره الميرزا «قده» غير تام.

٢ ـ الوجه الثاني : كما أفاده صاحب الكفاية «قده» (١) ، وهو انّ

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ص ـ ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٥٧٣

المفهوم ، حكم إنشائي أو إخباري ، لازم لخصوصيّة في المدلول المطابقي ، وليس لازما لأصل المدلول المطابقي وكأنّه يريد بذلك ، تمييز المفهوم عن سائر المداليل الالتزامية ، حيث انّه في سائر المداليل الالتزامية عدا المفهوم ، تكون هذه المداليل ، لوازم لأصل المدلول المطابقي ، بخلاف المفهوم ، فإنّه لازم لخصوصيّة فيه ، لا لأصل المدلول المطابقي.

ومن هنا لم يكن وجوب الوضوء مفهوما ، لأنّه لازم لأصل وجوب الصلاة الذي هو المدلول المطابقي للدليل ، لا لخصوصية فيه.

ثم ذكر «قده» ، انّ هذه الخصوصية ، قد تثبت بمقدمات الحكمة ، كما تثبت بالوضع.

ثم بعد هذا قال : سواء وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه ، وبهذه العبارة الأخيرة عمّم المفهوم إلى مفهوم المخالفة ومفهوم الموافقة. ولنا حول هذا الكلام تعليقان.

١ ـ التعليق الأول : هو انه «قده» قد اعتبر مفهوم الموافقة مفهوما ، مع ان تعريفه لا ينطبق عليه ، فمثلا قوله تعالى ، (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) ، يدل بالأولوية على حرمة الضرب وهذا هو مفهوم الموافقة ، مع ان حرمة الضرب لازم لأصل المدلول المطابقي ، وليس لخصوصية فيه ، وعليه فتعريفه لا يكون جامعا.

٢ ـ التعليق الثاني ، : هو انّ هذا التعريف غير مانع.

وبيان ذلك هو : انّ المفهوم كما عرّفه ، انّه هو اللازم لخصوصيّة في المدلول المطابقي ، وهذه الخصوصيّة ، قد تثبت بمقدمات الحكمة كما ذكره «قده» ، وحينئذ ، يمكن أن نفرض لازما ينطبق عليه هذا التعريف ، مع انّه لا إشكال في انّه ليس مفهوما.

فمثلا لو قيل ، «صلّ» ، فبناء على بعض المسالك في استفادة الوجوب من صيغة «افعل» ، وهو كون المدلول المطابقي للصيغة إنّما هو الطلب

٥٧٤

بينما الوجوب مستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة على أساس كونه خصوصيّة زائدة في الطلب ، وحينئذ يقال : بأنّ وجوب المقدمة ، يصبح لازما لخصوصيّة في المدلول المطابقي لقوله «صلّ» ، فينطبق تعريف المفهوم على وجوب المقدمة أي الوضوء مع انه لا إشكال في انه ليس من المفاهيم ، حتى لو بني على انّ استفادة الوجوب كانت بمقدمات الحكمة. وبهذا يثبت ان هذا التعريف للمفهوم غير مانع ، كما لم يكن جامعا كما عرفت في التعليق الأول.

٣ ـ الوجه الثالث : وهو ما يقتضيه التحقيق ، وحاصله : انّ القضيّة التي يربط فيها بين جزءين ، تارة يفرض ان اللازم لهما لازما بلحاظ الحكم بحيث لو غيّر الحكم لزال هذا اللازم. فمثلا حينما يقال : صلّ ، فإن لازمه وجوب الوضوء ، لكن لو غيّر هذا الحكم وهو وجوب الصلاة فقيل ، تباح الصلاة ، ففي مثله ينتفي وجوب الوضوء.

وتارة أخرى ، يفرض انّ اللازم فيها لازم بلحاظ الموضوع ، بحيث لو تغيّر الموضوع لزال هذا اللازم ، فمثلا لو قيل ، أكرم ابن الهاشمي ، فيستفاد منه إكرام الهاشمي بطريق أولى ، فهنا لو تغيّر الموضوع ، فقيل أكرم اليتيم ، فلا يكون دالا على وجوب إكرام الهاشمي.

وتارة ثالثة : يفرض انّ اللازم ، لازم بلحاظ ربط الحكم بالموضوع ، وليس لازما للحكم بخصوصه ، ولا للموضوع بخصوصه ، بل للربط بينهما ، كما لو قيل : إذا جاءك زيد فأكرمه ، فيستفاد منه ، الانتفاء عند الانتفاء ، فهذا اللازم ، لازم للربط بين الحكم والموضوع ، لا لأحدهما بخصوصه ، ولذا لو بدّلنا الحكم فقلنا ، إذا جاءك زيد فلا تكرمه ، أو بدّلنا الموضوع فقلنا : إذا جاءك عمرو فأكرمه ، فإنه في هاتين الصورتين يبقى اللازم وهو الانتفاء عند الانتفاء ، لأنه لازم للربط ، وهو موجود .. ومن هنا يصح أن نعرف المفهوم ، بأنه عبارة عن المدلول الالتزامي الذي تكون نكتة اللزوم فيه قائمة

٥٧٥

بربط الحكم بموضوعه لا بالحكم بخصوصه ، ولا بالموضوع بخصوصه ، هذا هو الصحيح في تعريف المفهوم.

وإن شئت قلت : ان القضية التي تربط بين جزءين ، لا محالة يكون اللازم لهما ، إمّا لازما لنفس هذين الجزءين بنحو لو بدلنا أحد الجزءين بشيء آخر فلا يثبت اللازم ، وإمّا ان يكون لازما للربط بين الجزءين بنحو يكون اللازم ثابتا ما دام ان الربط الخاص ثابت وان تغيّر طرفاه ، وحينئذ ، فالقسم الثاني من اللازم هو المفهوم دون الأول ، ومثال القسم الأول هو أن يقال : صلّ ، فإنه يدل بالملازمة على وجوب مقدمة الصلاة التي هي الوضوء ، ان وجوب المقدمة يكون لازما للحكم في صلّ بنحو لو غيرنا هذا الحكم وافترضنا ان الصلاة مباحة غير واجبة لا يثبت وجوبها. وكذلك لو قيل أكرم ابن الهاشمي ، وافترض ان اللازم له ، وجوب إكرام نفس الهاشمي أيضا بالأولوية ، فإنّ هذا لا يكون لازما للربط بين الحكم والموضوع ، وإنما يكون لازما لنفس الموضوع ، ولعلّ ما يدل على هذا انه لو غيرنا الموضوع بموضوع آخر وقلنا ، أكرم اليتيم ، فلا يثبت هذا اللازم ولا يدل على وجوب إكرام أم اليتيم مع ان نفس الربط السابق بين الحكم والموضوع محفوظ.

ومثال الثاني ، الجمل الشرطية ، كما لو قيل ، «إن جاءك زيد فاكرمه» ، فإنه يدل بالملازمة على الانتفاء عند الانتفاء ، لأنّ اللازم. هنا ، لازم لنفس الربط الخاص بين الشرط والجزاء ، ولا يكون لازما لذات الشرط ولا لذات الجزاء ، بدليل انّه لو بدّلنا الشرط والجزاء معا ، أيضا دلت الجملة على الانتفاء عند الانتفاء ، لو كان نفس الربط السابق محفوظا ، كما إذا قيل بدلا عن المثال السابق ، إن جاءك عمرو فأكرمه ، فإنها تدل أيضا على الانتفاء عند الانتفاء ، غايته انّه مع تبديل أطراف منطوق الجملة ، يتبدل أطراف المفهوم.

٥٧٦

ضابط استفادة المفهوم من الجملة

وبعد أن عرفت تعريف المفهوم ، يقع الكلام في تحقيق ما هو الضابط لاستفادة المفهوم من الجملة الشرطية أو الوصفية أو الغائية وغيرهم ، بمعنى انه ما هي النكتة التي إذا ثبت دلالة الجملة عليها ، تكون هذه الجملة حينئذ دالة على المفهوم.

وفي هذا المقام ذكر المشهور انّ الضابط في دلالة الجملة على المفهوم ، يتركّب من ركنين ، ولنأخذ الجملة الشرطيّة كمثال على ذلك.

١ ـ الركن الأول : هو أنّ تكون الجملة الشرطية ، دالة بهيئتها ، أو بأداتها ، على انّ الجزاء مربوط بالشرط ربطا لزوميا ، وعلى أنّ الشرط ، علة تامة ومنحصرة بالنسبة للجزاء حيث لا علة سواه ، ولا هما معلولين لعلة أخرى ، فإذا تمّ ذلك ، يثبت حينئذ ، انّ الحكم المجعول في الجزاء ، سوف ينتفي بانتفاء الشرط.

٢ ـ الركن الثاني : هو أن يكون المعلق على الشرط ، هو طبيعي الحكم لا شخصه ، وإلّا فإذا كان المعلق شخصه ، فغاية ما تدل عليه الجملة حينئذ ، هو انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الشرط ، وهذا لا يمنع حينئذ من ثبوت نوع الحكم في ضمن شخص آخر وبملاك آخر ، ومعه ، فلا تكون الجملة دالة على المفهوم الذي هو عبارة عن انتفاء نوع الحكم.

فإذا تمّ هذان الركنان ، تكون الجملة الشرطية دالة على انتفاء الجزاء الذي هو نوع الحكم ، عند انتفاء الشرط.

٥٧٧

إلّا ان هذا الكلام غير تام :

أمّا بالنسبة للركن الأول ، فعليه تعليقان : أحدهما مجمل ، والآخر مفصّل.

أمّا التعليق المجمل ، فحاصله : هو انّه يمكن أن نتوصل إلى النتيجة ، وهي الانتفاء عند الانتفاء ، بلا حاجة لإثبات دلالة الجملة على جميع الأمور الأربعة المذكورة ، فمثلا ، لا يجب أن يكون الشرط علة ، تامة ، لأنّه لو فرض انّه جزء العلة المنحصرة للجزاء ، فحينئذ ، يتعيّن انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، كما هو واضح ، مع انّ هذا الشرط ليس علة تامة ، بل لا يجب أن يكون الشرط علة للجزاء أصلا. لأنّه لو فرض انّ الشرط والجزاء ، كانا معلولين لعلة ثالثة منحصرة ، فبانتفاء الشرط ينتفي الجزاء ، لأنّ انتفاء الشرط ، معناه ، انتفاء علته المنحصرة ، وإذا انتفت علته المنحصرة ، لا بدّ وأن ينتفي الجزاء أيضا ، لأنّه قد فرض انّ هذه العلّة علة تامة لهما معا.

والحاصل هو ، انّ المهمّ من هذه الأمور الأربعة ، هو إثبات انحصار الجزاء بالشرط ، سواء كان الشرط ، علة تامة ، أو ناقصة ، أو لم يكن علة أصلا ، فما دام الجزاء منحصرا بالشرط ، فيتعيّن انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، ولو لم تثبت العليّة مطلقا.

وأمّا التعليق المفصل ، والذي به تتضح حقيقة الأمر ، فتوضيحه هو : انّ للجملة الشرطيّة مدلولان : تصوري ، وتصديقي ، كسائر الجمل ، وحينئذ ، فتارة يدّعى استفادة المفهوم من مدلولها التصوري ، وأخرى ، يدّعى استفادة المفهوم من مدلولها التصديقي ، وعليه ، فلا بدّ وأن نبيّن كيفيّة استفادة المفهوم بلحاظ كل واحد من المدلولين.

أمّا استفادته بلحاظ المدلول التصوري ، فنقول : إنّ مفاد هيئة الجملة الشرطيّة التصوري أو مفاد أداتها التصوري ، هو الربط بين الجزاء والشرط ، بنحو المعنى الحرفي للربط ، لا المعنى الاسمي ، فإنّ مدلول الهيئة أو الأداة

٥٧٨

هو واقع الربط لا مفهومه ، غاية الأمر ، انّ هذا الربط الذي هو معنى حرفي ، يوازيه معنى اسمي للربط ، وهو عبارة عن مفهوم الربط ، ولذا قد نعبّر عن المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي له لأنه يوازيه ، ثم انّ هذا الربط بالمعنى الحرفي ، يتصوّر على أحد نحوين :

أ ـ النحو الأول : هو أن يكون هذا الربط بمعنى توقف الجزاء على الشرط ، بمعنى انّ النسبة بين الجزاء والشرط ، تكون نسبة المتوقف إلى المتوقف عليه ، ونسمّي هذه النسبة ، بالنسبة التوقفيّة ، فالجملة الشرطيّة الدالة بهيئتها ، أو بأداتها على الربط ، تكون دالة على هذه النسبة التوقفيّة ، لأنّ هذه النسبة ، هي معنى الربط حسب الغرض ، فإذا قيل ، إذا جاءك زيد فأكرمه ، تكون هذه الجملة دالة على النسبة التوقفيّة ، وهذه النسبة التوقفيّة لها معنى اسمي يوازيها ، فإذا أردنا أن نحقّق هذه النسبة في مفهوم اسمي ، وجب أن نقول ، بدل قولنا ، إن جاءك زيد فأكرمه ، نقول ـ وجوب إكرام زيد موقوف على مجيئه ، فنأتي بلفظ موقوف ، الذي هو المعنى الاسمي الموازي للنسبة التوقفيّة.

إذا عرفت ذلك فنقول ، إذا كانت الجملة الشرطيّة دالة على هذه النسبة التوقفيّة ، فلا إشكال حينئذ ، في استفادة المفهوم منها ، لأنّا لو بدّلناها إلى موازيها الاسمي وقلنا ، وجوب إكرامه موقوف على مجيئه ، لما شكّ أحد في انتفاء وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء ، وهو معنى المفهوم ، وهذا المفهوم يثبت ، سواء ثبت انّ الشرط هنا علة للجزاء أو لم يثبت ، وسواء ثبت انحصار الجزاء في الشرط ، أو لم يثبت ، بل حتى لو فرض أنّهما تقارنا بمحض الصدفة ، فإنّ لمثل هذه الجملة مفهوم ، لأنها تثبت خصوصيّة التوقّف ، وحينئذ فلا يكون الركن الأول تاما.

ب ـ النحو الثاني : هو أن يكون هذا الربط بين الجزاء والشرط ، بمعنى ربط الموجود بالموجود ، والمستلزم للمستلزم ، ونعبّر عنه ، بالنسبة الإيجاديّة ، فتكون الجملة الشرطيّة ، دالة على هذه النسبة الإيجاديّة ، وهذه

٥٧٩

النسبة يوازيها معنى اسمي ، لو أردنا أن نعبّر عنه ، لقلنا ، بدل قولنا ، إن جاءك زيد فأكرمه ، نقول ، مجيء زيد يستلزم وجوب إكرامه.

إذا عرفت ذلك نقول : انّ الجملة الشرطيّة ، لو كانت دالة على النسبة الإيجادية ، لما كان لها مفهوم لأنّا لو لاحظنا موازيها الاسمي المتقدم ، لما كان دالا على المفهوم ، لأنّ مجيء زيد وإن استلزم وجوب إكرامه ، إلّا انّ هذا لا ينافي وجوب إكرامه وإن انتفى مجيئه ، كما لو كان هناك سبب آخر لوجوب الإكرام.

فإن قيل : إنّا نقيّد هذه النسبة الإيجاديّة بالانحصار ، بحيث يكون هذا المجيء وحده هو الموجب لوجوب الإكرام ، وحينئذ فلا بدّ ، بناء على ذلك ، من انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط.

قلنا : بأنّ أخذ خصوصيّة الانحصار على مستوى المدلول التصوري للجملة ، يتوقف على أن تكون النسبة الإيجاديّة القائمة بين الشرط والجزاء ، متحصّصة إلى حصتين.

إحداهما ، انحصارية ، والأخرى ، غير انحصارية ، وإلّا فلا معنى لإدخال الانحصار كمفهوم اسمي في مدلول الأداة أو الهيئة ، مع انّه ليس عندنا معنى حرفي من هذا القبيل ، أي انّه متحصّص إلى حصتين ، بحيث يكون حال النسبة ، مع إحدى الحصتين ، غير حالها ، مع الحصة الأخرى ، بل حقيقة النسبة واحدة لا تتبدل.

وعليه ، فبناء على هذا النحو الثاني للربط ، لا تكون الجملة دالة على المفهوم ، فاستفادة المفهوم من الجملة الشرطية ، بلحاظ مدلولها التصوري ، موقوف على إثبات كون الربط الذي هو مدلول لها ، بمعنى النسبة التوقفيّة ، وبذلك يثبت للجملة مفهوم ، حتى ولو لم تتوفر الأمور الأربعة التي ذكرت في الركن الأول.

فالمهم أن نثبت خصوصيّة التوقف ، ولا دخالة لحيثيّة التوقف ، من

٥٨٠