بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

طرف هذه النسبة هو ، القيد ، لا التقيّد ، أي وجوب «إكرام العالم المقيّد بالعدالة» ، وحينئذ ، لا تكون هذه النسبة تحليليّة ، بل هي عرفيّة أيضا ، لدلالة الهيئة الناقصة عليها بحسب الفرض ، ولكن مع هذا ، لا يمكن إجراء الإطلاق بلحاظها ، لأنها نسبة تقييديّة ناقصة بين ذات الموضوع أو الموضوع بما هو موضوع مع الوصف.

وقد عرفت في مفهوم الشرط ، انّ المحمول إنّما يمكن إجراء الإطلاق فيه فيما إذا فرض وقوعه طرفا للنسبة التامة ، وإلّا لم يجز فيه ذلك ، حتى في الشرطيّة في مثل قوله ، «اكرم زيدا عند مجيئه» ، لأنّ طرف النسبة الناقصة ليس شيئا مستقلا في مقابل الطرف الآخر كي يلحظ مطلقا في مقام الانتساب إليه تارة ، ومقيدا تارة أخرى ، بل مرجع ذلك إلى التحصيص ، وملاحظة حصة خاصة من المفهوم ، فينحل عقلا إلى طرفين ونسبة.

٢ ـ الإيراد الثاني : هو أن يقال : إنّ هذه النسبة ـ بحسب قواعد العربيّة ـ نسبة بين ذات الموضوع والوصف ، لا الموضوع والمحمول المنتسب إلى موضوعه ، هذا فيما إذا تعقّلنا أصل إمكان إيقاع النسبة الناقصة بين طرفين ، إحداهما نسبة تامة في نفسها.

والذي يجدي في إثبات كون المعلّق مطلق الحكم ، إنّما هو نسبة الحكم إلى القيد ، أي تقييد الحكم كما هو في الجملة الشرطية ، لا تقييد موضوع الحكم كما هو واضح.

٣ ـ الإيراد الثالث على المحقق العراقي «قده» هو أن يقال : إنّ دعوى وحدة النسبة في المقام ، قد ينافي ما تقدم منه من التسليم ، بدلالة الجملة الوصفيّة على العليّة الانحصاريّة للقيد أو الوصف ، لأنّ هذا ، يعني وجود نسبة توقفيّة بين الحكم المنتسب إلى موضوعه وبين الوصف ، تفيده الجملة ، سواء كانت وصفيّة أو شرطية.

إذن فإنكار وجود أكثر من نسبة واحدة في دعواه ينافي دعواه.

٧٢١

اللهم إلّا أن يقال : انّ دلالة الجملة الوصفيّة على العليّة ليست دلالة لفظيّة ليتم الإشكال المذكور ، بل هي بمعونة مقدمات الحكمة الراجعة إلى أصالة التطابق بين مرحلتي الإثبات والثبوت ، وحينئذ ، تكون القرينة على إثبات العليّة الانحصاريّة ، مرتبطة بمرحلة الدلالة التصديقية للكلام التي تتكون بواسطة مقدمات الحكمة ، لا بلحاظ الدلالة التصورية للكلام.

وعليه ، فلا يرد عليه الإشكال.

نعم ، يرد عليه ما ذكرناه مرارا ، من انّ أصالة التطابق المذكورة ، إنّما تثبت العليّة الانحصاريّة لشخص الحكم لا لطبيعيّه.

وإن شئت قلت : قد يكون مراد العراقي «قده» استفادة العليّة الانحصاريّة من الدلالة التصديقيّة الحاليّة ، بمقتضى أصالة التطابق بين ما أخذ إثباتا بأنّه مأخوذ ثبوتا ، لا من الدلالة التصورية المستفادة من هيئة التوصيف ، ولكن حينئذ ، هذا المقدار من الدلالة لا يقتضي أكثر من انتفاء شخص الحكم لا سنخه.

ورغم هذا فكلامه من أجود الكلام في المقام.

٢ ـ الكلمة الثانية :

هي للمحقق النائيني «قده» وقد أفاد في المقام كلاما مضطربا يظهر في أوله مطلبا ، ويظهر في نهايته مطلبا آخر ، بحيث يفهم من كلامه وجود ضابطين لإثبات المفهوم للوصف ، فإن تمّ أحدهما ثبت المفهوم ، وإلّا فلا مفهوم للجملة الوصفيّة.

أ ـ المطلب الأول : من كلامه «قده» ، هو انّ ثبوت المفهوم للوصف ، إمّا أن يكون منوطا بأخذ الوصف قيدا للموضوع والمتعلق ، وإمّا أن يكون منوطا بأخذه قيدا للحكم مباشرة ، وحينئذ يقال :

بأنه بناء على الأول ، لا مفهوم للجملة الوصفيّة ، لأنّ معنى ذلك ان

٧٢٢

الحكم يطرأ على المقيّد بما هو مقيّد ، وحينئذ يكون التقييد لمفهوم مفرد في المرتبة السابقة قد وقع موضوعا للحكم ، فيكون نظير اللقب ، الذي لا يدل على أكثر من ثبوت الحكم له لأن غاية ما تدل عليه الجملة الوصفية ان الحكم ثابت لهذا المقيّد وهذا لا يعني انتفاؤه عن غيره. وأمّا بناء على الثاني أي إذا كان الوصف قيدا للحكم ، كما حقّق في محله ـ فإنّه بناء على إمكان تقييد الحكم ومفاد الهيئة ـ فحينئذ يثبت المفهوم لا محالة ، لأنّ الحكم إذا كان مقيّدا ، فالمقيّد عدم عند عدم قيده ، وهو المفهوم (١).

إذن فيثبت المفهوم.

وحيث أنّ الظاهر عرفا من القضايا الوصفيّة ، رجوع القيد إلى الموضوع أو المتعلق ، فلا مجال حينئذ لتوهم المفهوم فيها.

وقد مرّ معنا مناقشة هذا البيان لمدرسة النائيني «قده» في نفي المفهوم عن الجملة الوصفية ، عند تحقيقنا لضابط المفهوم ، حيث ذكرنا هناك ، انّه لا بدّ من إثبات كون المعلّق هو سنخ الحكم ، ولا يكفي مجرد تقييد شخص الحكم في تحقيق المفهوم ، فقوله «أكرم العالم العادل» ، تكون العدالة قيدا للعالم ، فتحصّصه ، ثم يطرأ الوجوب بعد ذلك ، وليست قيدا للحكم ، لأنّه لا يفهم من هذه القضيّة وجوب إكرام العالم حين عدالته حتى لو كان القيد راجعا إلى الحكم فيها.

وعليه ، فيتعيّن القول بعدم المفهوم حينئذ ، لأنّ كون القيد قيدا للحكم لا يكفي وحده في إثبات المفهوم ، بل لا بدّ من إثبات الركن الثاني ، وهو كون المقيّد طبيعي الحكم لا شخصه.

وإثبات كون المقيّد هو طبيعي الحكم ، متوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه.

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ـ ج ١ ـ ص ـ ٣١٤ ـ ٣١٥.

٧٢٣

وقد ذكرنا في بحث مفهوم الشرط ، انّ إجراء مقدمات الحكمة ، يتوقف على تماميّة النسبة القائمة بين الحكم والقيد ، وهي غير متوفرة هنا ، إذ النسبة القائمة بين الحكم والوصف في مقامنا ، نسبة ناقصة تقييديّة ، لأنّ العلاقة بين الحكم والوصف ، بما هو إفرادي ، علاقة خارجيّة ، موطنها الأصلي هو الخارج ، فتكون نسبة ناقصة ، وكنّا قد ذكرنا سابقا انّ كل نسبة موطنها الأصلي هو الخارج ، تكون نسبة ناقصة.

وعليه ، فلا يعقل إجراء مقدمات الحكمة فيها ، وحينئذ لا يمكن إثبات كون المقيّد طبيعي الحكم.

ومن الواضح حينئذ عدم إمكان إثبات المفهوم ، حتى لو فرض كون القيد قيدا للحكم.

إذن فهذا الضابط الأول غير تام.

ب ـ المطلب الثاني : من بيانه الذي ذكره في ذيل كلامه هو ، انّه لو قامت قرينة على انّ الوصف علة للحكم ، فيثبت المفهوم حتى لو لم يكن علة انحصارية ، مع أنّه قيّدها في بحث مفهوم الشرط بالانحصاريّة ، ولذا استدرك عليه السيد الخوئي «قده» بقوله ، بأنّ كون القيد علة لثبوت الحكم وإن كان أمرا ممكنا في نفسه وقابلا لقيام القرينة عليه من الخارج ، إلّا انّ مجرد ذلك لا يكفي في دلالة القضيّة على المفهوم ، ما لم تقم قرينة على كون العلة منحصرة كما هو الظاهر (١) ، وحينئذ يثبت المفهوم للقضية الوصفية.

وهذا البيان غير تام ، لا من المحقق النائيني «قده» ولا من السيد الخوئي «قده» إذ مجرد إثبات كون الوصف علة منحصرة للحكم وكذلك إثبات كونه علة للحكم بواسطة القرينة ، كل ذلك لا يكفي في إثبات المفهوم ، ما لم يثبت كونه علة منحصرة لطبيعي الحكم.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ٢ ـ هامش ص ـ ٤٣٥.

٧٢٤

وقد عرفت انّ إثبات ذلك ، يتوقف على إجراء مقدمات الحكمة في مفاد «أكرم» ـ النسبة الإرسالية ـ وقد عرفت انّ إجرائها متعذر ، لأنّ هذه النسبة متقومة بطرفين ، «مادة الفعل» ، الإكرام ، و «فاعله» ، والمادة متحصصة بواسطة إضافة الفعل إلى المفعول.

وعليه ، فهذه النسبة بحسب تكوينها الذاتي متقيّدة ومتحصصة ، ومعه يستحيل إجراء مقدمات الحكمة لإثبات الإطلاق فيها ، لما عرفت تفصيله سابقا.

وبناء عليه ، فالمفهوم لا يثبت حتى لو فرض كون الوصف علة منحصرة للحكم إذن فهذا الضابط الذي ذكره المحقق «قده» غير تام أيضا.

٣ ـ الكلمة الثالثة :

هي للمحقق الأصفهاني «قده» ، وقد ذكر فيها بيانا قلقا ، نستعرضه ونوضحه عبر كلامين.

١ ـ الكلام الأول : هو انّه كلّما أمكن استفادة كون الوصف علة للحكم من القضية الوصفية ولو بمساعدة قرينة خاصة ، أمكن حينئذ استفادة انحصارها بنحو يفيد المفهوم (١).

وقد برهن على ذلك : بأنّه لو فرض وجود علة أخرى للحكم ، للزم من ذلك محذور ثبوتي ، أو إثباتي ، لأنّه لو كان الجامع بينهما هو العلة ، كان ذلك خلاف ظهور الجملة الوصفيّة في كون الوصف بخصوصه دخيلا في الحكم ، وهذا يعني ، انه خلاف أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت ، ولو كان كل منهما بخصوصه علة للحكم ، للزم من ذلك صدور الواحد بالنوع من المتعدد بالنوع وهو مستحيل كما هو المشهور.

ثم انه «قده» نبّه على بطلان صدور الواحد بالنوع من المتعدد.

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني ج ٢ ـ ص ١٧٥ ـ ١٧٦ ـ ١٧٧.

٧٢٥

وإن شئت قلت :

إنّ الكلام الأول مركب من نقطتين.

أ ـ النقطة الأولى : هي أن نفرض قيام قرينة على كون الوصف علة لطبيعي الحكم.

ب ـ النقطة الثانية : هي أن نستخرج انحصار هذه العليّة من دليل عام.

وبتماميّة هاتين النقطتين يثبت المفهوم.

أمّا النقطة الأولى فنقول : إنّه لا معنى لإثباتها لأنها مفترضة افتراضا.

وأمّا الثانية : فغاية ما يقال في إثباتها : إنه لو كان هناك علة أخرى غير «العدالة» لطبيعي الحكم ـ في قولنا أكرم الفقير العادل ـ فلا يخلو الأمر فإمّا أن تكون كل من العلّتين بخصوصها علة ، وإمّا أن يكون الجامع بينهما هو العلة.

والأول لازمه صدور الواحد بالنوع ، وهو طبيعي الوجوب ، من المتعدد بالنوع. لأنّ العدالة مباينة للهاشمية نوعا ، وهذا مستحيل بناء على مسلك المشهور في استحالة صدور الواحد من الكثير.

والثاني : لازمه أن لا تكون العدالة بخصوصها دخيلة في وجوب الإكرام ، وهو خلاف أصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، لأنّ قيد العدالة أخذ بعنوانه في مقام الإثبات ، ففرض عدم دخالته بعنوانه في مقام الثبوت ، خلاف أصالة التطابق بين المقامين.

وبهذا : يثبت بطلان فرض وجود علة أخرى لطبيعي الحكم غير العدالة ، فيثبت بذلك ، الانحصار ، وبتبعه يثبت المفهوم.

إلّا ان هذا الكلام غير تام ، ونحن وإن كنّا قد استعرضنا مثله في بحث مفهوم الشرط.

إلّا اننا هنا نزيد المقام توضيحا فنقول : إننا هنا نختار الفرض الأول ، ولا يلزم منه صدور الواحد بالنوع من المتكثر بالنوع أي انّه لا يلزم محذور

٧٢٦

ثبوتي ، لأنّ تطبيق هذه القاعدة ، إن كان بلحاظ طبيعي الحكم ، فلا يلزم هذا المحذور ، لا في مرتبة الجعل ، ولا في مرتبة المجعول.

أمّا بالنسبة إلى مرتبة الجعل ، فباعتبار انّ الحكم معلول للحاكم لا للقيود المأخوذة فيه ، ليلزم المحذور.

وقد عرفت انّ القيود ، دورها دور المحصّص.

وأمّا بالنسبة إلى مرتبة المجعول ، فإنّها مرتبة وهمية تصورية وليس وجودا فلسفيا حقيقيا كما تقدم ، إذن فهي غير خاضعة للنظر الفلسفي ، كي تخضع لقانون انّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد.

وإن كان تطبيق هذه القاعدة ، على روح الحكم ومبادئه ـ أي الملاك ـ الذي يكون للموضوع وقيوده ، فجوابه : انّه لا يلزم ان يكون الملاك من سنخ واحد ليلزم المحذور ، بل يمكن افتراض سنخين من الملاك متباينين ، أحدهما معلول للعدالة ، والآخر معلول للهاشميّة ، ولكنّهما مع ذلك ، مطلوبين لزوميين للمولى ، وحينئذ لا يلزم المحذور ، كما مرّ ذلك مفصلا في بحث مفهوم الشرط.

٢ ـ الكلام الثاني : هو : انّه كأنه «قده» أراد فيه التعويض بشيء عمّا افترضه في النقطتين السابقتين ليتوصل إلى المفهوم. فبالنسبة إلى النقطة الأولى ، أراد أن يعوض بقرينة عامة مستفادة من الظهور العرفي تثبت العلّيّة.

وحاصل هذه القرينة هو ، انّ الأصل في القيود أن تكون احترازية ، ويثبت ذلك بأصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات ، حيث يقال : ان قيد العدالة أي الوصف قد أخذ في طرف النسبة الإرسالية ـ أي في موضوع الحكم ثبوتا ـ أي في مرحلة المدلول التصوري للكلام ـ وعليه ، فالأصل أن يكون مأخوذا في مرحلة المدلول التصديقي إثباتا ـ أي في مرحلة الجعل والوجوب.

وبهذا يثبت انّ قيد العدالة قيد احترازي ، ونثبت عليّته ، فإنّا لا نريد في العليّة إلّا كون هذا القيد مأخوذا في موضوع جعل الحكم ، وهذا قد ثبت ،

٧٢٧

فتثبت العليّة ، ولا نريد بالعليّة أكثر من هذا المعنى (١) ، وبالنسبة للنقطة الثانية أراد أن يعوّض بواسطة ظهورين يضمّان إلى الأول ، أحدهما ظهور الخطاب في كون الوصف بخصوصه علة ، وثانيهما ، ظهور المعلول في كونه طبيعي الحكم لا شخصه ، وبذلك تتم الدلالة على المفهوم ، لأنّ ثبوت علتين وموضوعين عرضيّين للجعل الواحد مستحيل ، لعدم تحمّل كل جعل لأكثر من موضوع واحد ، وثبوت موضوعين كذلك لطبيعي الحكم بلحاظ حصتين منه هو خلاف الظهور الثاني ، وثبوت موضوع واحد ، وهو الجامع بين العلّتين لطبيعي الحكم ، خلاف الظهور الأول ، وهذا يعني انّ أيّ حصة تفترض للحكم لا بدّ وأن تكون علته منحصرة في الوصف المأخوذ في الجملة ، وهو المطلوب.

وإن شئت قلت : انّه يمكن أن نثبت الانحصار بواسطة ظهورين موجودين في قول المولى : «اكرم العالم العادل».

أ ـ الظهور الأول : هو ظهور العدالة في انها بعنوانها علة لوجوب الإكرام.

ب ـ الظهور الثاني : هو ظهور المعلول ، في انّ المعلول هو طبيعي الحكم.

وحينئذ ، إذا ضممنا الظهور الثاني إلى الأول ، فيثبت الانحصار ، لأنّه يقال : انّ العدالة لو كانت علة لبعض أشخاص وجوب الإكرام ، ولم يكن جعل آخر لوجوب آخر ، فقد ثبت المطلوب ، وإن فرض وجود جعل آخر ، فإن كانت علته هي العدالة فقد ثبت المطلوب أيضا ، وإن فرض أنّ علته شيء آخر غير العدالة ، فهو خلاف الظهور الثاني ، القائل ، بأنّ المعلول للعدالة هو طبيعي وجوب الإكرام ، لأنّ معنى هذا الفرض هو ، كون العدالة علة لبعض الوجوب ، وإن فرض انّ لهذا الجعل الآخر علتين متبادلتين ـ كالعدالة

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني ـ ج ٢ ، ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

٧٢٨

والهاشميّة ـ فحينئذ ، لا بدّ وأن يفرض الجعل على الجامع بينهما ، لعدم معقوليّة تحمّل جعل واحد لموضوعين مستقلين ، وبما انّ الجعل قد أنشئ ولم يقيّد إلّا بالعدالة ، فيثبت كونها علة منحصرة ، وبهذا يثبت المطلوب.

وهذا الكلام غير تام ، ولنا عليه تعليقات ثلاث :

١ ـ التعليق الأول : هو انّ الجمع بين إثبات العليّة للوصف بمقتضى ظهور القيد في الاحترازيّة ، وبين إثبات كون المترتب طبيعي الحكم لا شخصه ، متهافت ، لأنّ الأول ظهور تصديقي غير مأخوذ في مرحلة المدلول التصوري للكلام ، أي اكتشاف كون المدلول التصديقي قد أخذ في موضوعه الوصف أيضا.

ومن الواضح ، انّ المدلول التصديقي يكون الحكم فيه جزئيا ، لأنّه جعل واحد لا جعلين ، فلا معنى لإجراء الإطلاق فيه.

نعم لو كانت العليّة مستفادة بحسب المدلول التصوري للكلام ، أمكن حينئذ أن يقال : انّ مدلول الأمر هو طبيعي النسبة الإرسالية بالنحو المناسب مع المعاني الحرفية ، ولكن الأمر ليس كذلك.

وإن شئت قلت : إنّ هذا الكلام غير تام ، لأنه حاول فيه إثبات عليّة الوصف للحكم في النقطة الأولى ، كما انّه حاول إثبات عليّة الوصف لطبيعي الحكم في النقطة الثانية ، وبين هذين الأمرين نحو تهافت ، لأنّ قولنا «أكرم العالم العادل» ، تارة ننظر إليه في مرحلة مدلوله التصوري ، وأخرى ننظر إليه في مرحلة مدلوله التصديقي.

ففي النظر الأول ، يكون مفاد «أكرم» ، هو طبيعي الطلب ، بنحو المعنى الحرفي ـ أي النسبة الإرساليّة ، إلّا انّه بهذا اللحاظ لا عليّة أصلا ، لأنّ العليّة إنما تثبت بواسطة أصالة التطابق ، إذ انّ أيّ قيد يكون قد أخذ في مرحلة المدلول التصوري لا بدّ وأن يكون مأخوذا في مرحلة مدلوله التصديقي.

وعليه ، فإثبات العليّة كان في مرحلة المدلول التصديقي لا التصوري.

٧٢٩

وعلى النظر الثاني ، فالعليّة حينئذ موجودة ، لكنّها تثبت لشخص الحكم ، وذلك لأنّ المدلول التصديقي ، عبارة عن جعل شخص الحكم ، قائم في نفس المتكلم ، وهذا الجعل موجود جزئي كما هو واضح.

والخلاصة هي : انّه في مرحلة المدلول التصوري ، يستفاد طبيعي الحكم ، لكنّه لا عليّة ، وفي مرحلة المدلول التصديقي الأمر بالعكس ، إذن فكلامه متهافت.

٢ ـ التعليق الثاني : هو انّ الإطلاق المنتج للمفهوم فيما إذا كان الوصف علة منحصرة ، بالمعنى المتقدم للعليّة ـ أي مجرد كونه مأخوذا في الموضوع ثبوتا ـ إنّما هو الإطلاق ، بمعنى تمام الحصص ، لا الطبيعة بما هي.

وقد تقدم ، انّ هذا مئونة زائدة لا تثبتها مقدمات الحكمة.

٣ ـ التعليق الثالث : هو انّه لو تنزّلنا وفرضنا انّ العليّة كانت سنخ نسبة دخلت في المدلول التصوري للكلام ، بحيث انّه في هذه المرحلة ، وجدت هيئة تدل على نسبة قائمة بين مفاد «اكرم» في مرحلة المدلول التصوري ، وبين الوصف ، وهذه النسبة هي العليّة بنحو المعنى الحرفي ، فيثبت انّ الوصف علة لطبيعي الحكم في مرحلة المدلول التصوري ، وفرضنا انّ إثبات كون العلة علة لطبيعي الحكم موقوف على إجراء مقدمات الحكمة كما تقدم فإننا مع ذلك نقول : إن إجراء مقدمات الحكمة متعذر في المقام ، لأنّ هذه النسبة ، نسبة ناقصة ، كما عرفت ذلك في مناقشة كلام النائيني «قده» عند ما أفاد ، انه لو كان الوصف مقيّدا للحكم تمّ المفهوم في الجملة.

وقد قلنا فيما سبق ، بأنّ هذا ممنوع كبرى وصغرى ، إذ ليس الوصف قيدا للحكم بحسب المدلول التصوري ، وليس يكفي ذلك في إثبات المفهوم على تقدير ثبوته.

وعليه فلا مفهوم للجملة الوصفية ، وبهذا ينتهي الكلام في مفهوم الوصف.

٧٣٠

مفهوم الغاية

الغاية تارة : تكون غاية لمفهوم إفرادي ، هو موضوع الحكم ، كما في قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ،) فالمرفق هو ، غاية للموضوع ، وهو اليد.

وتارة أخرى : تكون الغاية ، غاية لمتعلق الحكم الذي هو مفهوم إفرادي في نفسه ، كما في قوله ، (صم إلى الليل ،) فالليل ، غاية للصوم الذي هو متعلق الحكم.

وتارة ثالثة : تكون الغاية غاية للنسبة ـ أي لنفس الحكم ـ التي هي مدلول هيئة الجملة كما في قوله : (صم حتى تصبح شيخا ،) أو فقل : تكون غاية لنفس الحكم المستفاد من مدلول الهيئة والنسبة التامة ، وليست غاية للمتعلق ـ الصوم ـ وإلّا لوجب الصوم مستمرا إلى الشيخوخة ، وإنّما هي غاية للحكم ، وهو الوجوب المستفاد من هيئة «صم».

فالمقصود هو ، انّ وجوب الصوم ثابت في حق الإنسان حتى يصبح شيخا.

وتارة رابعة : تكون غاية للحكم المستفاد من مادة الكلام ، كما في قوله. الصوم واجب إلى الليل ، فإنّ الوجوب هنا استفيد من كلمة «واجب» ، والليل هنا ، غاية لكلمة واجب ، فالغاية هنا غاية للحكم المستفاد

٧٣١

من مفهوم اسمي إفرادي ، فقوله : الصوم واجب إلى الليل ـ أي وجوبا مستمرا إلى الليل.

وميزان ثبوت المفهوم للجملة الغائيّة عند المحقق النائيني «قده» ، يختلف من جملة إلى جملة ، حيث انّ الظاهر من كلامه ، انّ الغاية متى ما كانت غاية لمفهوم إفرادي فلا يثبت المفهوم ، ومتى ما كانت غاية لمدلول الهيئة التامة في الجملة الإنشائية ـ وهو النحو الثالث ـ فالمفهوم ثابت ، ومعنى ذلك ، انّ بقيّة الأقسام لا يثبت فيها المفهوم عنده لأنّ الغاية فيها ترجع إلى مفهوم إفرادي كما تقدم.

وأمّا السيد الخوئي «قده» فقد جعل الميزان في ثبوت المفهوم ، كون الغاية غاية للحكم ، فيثبت المفهوم سواء كان الحكم مفادا بنحو المعنى الاسمي أو مفادا للنسبة ، وإن كانت غاية لغيره فلا يثبت.

ويقع الخلاف بين السيد الخوئي «قده» والميرزا «قده» في القسم الرابع ، حيث انّه لا مفهوم له عند النائيني «قده» ، وله مفهوم عند السيد الخوئي (١) «قده» ، إذن ، فهما متفقان على ثبوت المفهوم فيما إذا كانت الغاية غاية للحكم ، لكن النائيني «قده» قيّده بما إذا كانت الغاية غاية لمدلول الهيئة التامة في الجملة الإنشائية.

وقد ذكر النائيني «قده» في بيان مدّعاه ما حاصله : انّ معنى الغاية هو الانتهاء والعليّة للعدم ، وحينئذ ، فإذا كانت الغاية غاية للحكم ، كان معنى ذلك ، انتهاء الحكم المغيّا وانعدامه ، بحصول الغاية ، ولا نريد بالمفهوم أكثر من ذلك المعنى ، وأمّا إذا كانت الغاية غاية للموضوع أو للمتعلق ، فغاية ما تقتضيه هو ، تحديد دائرة الموضوع أو المتعلق في رتبة سابقة على طرو الحكم ، فيكون حال الجملة الغائيّة حينئذ ، حال الجملة الوصفيّة التي يكون الوصف وغيره فيها قيدا للموضوع ، وقد تقدم عدم ثبوت المفهوم

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ١ ـ هامش ص ٤٣٦ ـ ٤٣٧.

٧٣٢

فيها ، لأنّ ثبوت الحكم للمقيّد لا ينافي ثبوته لشيء آخر غير مقيد.

والتحقيق في المقام ، عدم تماميّة ما ذكره النائيني ، والخوئي «قدس‌سرهما» ، حيث تقدّم انّ ثبوت المفهوم ، متوقف على تماميّة ركنين.

الأول : إثبات كون القيد علة منحصرة للحكم.

الثاني : إثبات كون المعلق على القيد هو طبيعي الحكم لا شخصه.

والأول تام في المقام ، لما ذكره النائيني «قده» في سبب ثبوت المفهوم ، فإنّ الغاية سنخ مفهوم يؤدّي نفس دور العلة المنحصرة ، من ناحية العدم لا الوجود.

إلّا انّ الركن الثاني غير تام ، لأنّ طريق إثباته هو ، إجراء مقدمات الحكمة في المعلق الذي هو الحكم ، وإجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة فيه مستحيل كما في الوصف ، لأنّ النسبة الغائيّة التي هي مفاد أداة الغاية ، هي نسبة ناقصة ، وقد عرفت عدم إمكان إجراء مقدمات الحكمة فيها ، وإنه إنما تجري فيما لو كانت النسبة تامة.

وتوضيح كون النسبة الغائيّة ناقصة ، يمكن إثباته ، «إنّيا ، ولميّا» ، أي انّه يمكن إثباته تارة ، بعد تحصيل ميزان كون النسبة تامة أو ناقصة ، وهذا عبارة عن الإثبات اللمّي.

وتارة أخرى ، يمكن إثباته بحسب نتائج النسبة التامة أو الناقصة ، وهذا عبارة عن الإثبات «الإنّي».

أمّا إثبات كون النسبة الغائيّة ناقصة ، «إنّيا» ، فلوضوح نقصان الجملة الغائيّة وحدها ، كما في قوله : (الصوم إلى الليل) فإنّه لا يصح السكوت عليها ، وهي لا تختلف في النقصان عن الجملة الوصفيّة أو الإضافة كما في قولهم ، «متاع زيد».

٧٣٣

نعم تصلح أن تكون منبّها في المقام لا أكثر.

وأمّا إثبات كونها ناقصة ، «لميّا» ، فلأنّ النسبة الغائية تربط بين الغاية والمغيّا في عالم الواقع والخارج ، بقطع النظر عن ذهن المتكلم ، وقد عرفت انّ كل نسبة يكون موطنها الأصلي هو الخارج ، تكون نسبة ناقصة ، وحينئذ ، يتعذر إجراء مقدمات الحكمة لإثبات كون المعلّق على الغاية والمغيّا بها هو طبيعي الحكم ، كما عرفت تفصيله سابقا.

نعم لو قال : (صم إلى الليل) ونصب قرينة على انّه يريد معنى قولنا ، «وجوب الصوم مغيا إلى الليل» ، لكان لتلك الجملة مفهوم.

وعليه : فالصحيح انّ الغاية ، وإن كانت غاية للحكم ، لا يثبت لها مفهوم ، إلّا ببذل مئونة وعناية زائدة كما تقدم.

نعم يكون للغاية مفهوم بلحاظ المدلول التصديقي بالمقدار الذي قلنا به في مفهوم الوصف ، وهو نفي الموجبة الكليّة التي تكون عين مدلول الخطاب في مورد الخطاب ، حيث يفهم من قوله (صم إلى الليل) ، انّه لا يجب صوم الليل في جميع الأحوال ، وإلّا لو فرض انّه يجب في جميع الأحوال ولو بجعل آخر ، لكان أخذ قيد «الليل» لغوا كما عرفت.

٧٣٤

مفهوم الاستثناء

الاستثناء ، تارة يعبّر عنه بمفهوم اسمي ، وأخرى يعبّر عنه بمفهوم حرفي ، فإن عبّر عنه بمفهوم اسمي ، فيكون الاستثناء حينئذ قيدا من قيود الموضوع أو المتعلق ، سواء كان الاستثناء من إيجاب ، كما في قولنا : «اكرم العالم غير الفاسق» ، أو كان من سلب كما في قولنا : «لا يجب إكرام العالم غير العادل» ، فإنّ الاستثناء فيهما قيد من قيود موضوع الحكم أو المتعلق.

ولا إشكال ، في عدم المفهوم لهذا النوع من الاستثناء ، لأنّه بحسب الحقيقة يرجع إلى الوصف ، بل هو هو حقيقة حيث يدل على توصيف المفهوم الإفرادي وتحصيصه بقسم خاص ، فيلحقه حينئذ الحكم الذي ذكرناه لمفهوم الوصف.

وإن عبّر عنه بمفهوم حرفي وبما هو نسبة اقتطاعية ، كما لو عبر عنه «بإلّا» ، فإنّه حينئذ ، إمّا أن يكون الاستثناء من السلب ، وإمّا أن يكون من الإثبات ، فإن كان من الأول ، كما في قوله : «لا يجب تصديق المخبر إلّا الثقة» ، فلا إشكال في ثبوت المفهوم فيه ، فإنّ هذا هو معنى قولهم ، الاستثناء من السلب إثبات ، فيدل حينئذ على وجوب تصديق المخبر الثقة ، وإن كان من الثاني ، كقوله : «أكرم العلماء إلّا الفساق» ، فإنه حينئذ ، هل يكون الاستثناء من الإيجاب سلبا ليثبت المفهوم فيه أيضا ، أم انّه لا يكون كذلك ، فلا يثبت له مفهوم؟.

٧٣٥

والتحقيق هو ، انّ الاستثناء من الإيجاب سلب ، فيثبت المفهوم فيه أيضا.

وبيان ذلك ، يكون على ضوء الموازين التي ذكرناها في إثبات المفهوم ، حيث ذكرنا انّ ثبوت المفهوم في المقام ، متوقف على ثبوت ركنين.

الأول : هو إثبات كون العليّة انحصارية.

الثاني : هو إثبات كون المعلّق طبيعي الحكم.

أمّا الأول ، فهو ثابت ، لأنّ أداة الاستثناء تثبت انّ مناط الحكم وما هو موضوع له ، هو المستثنى منه فقط ، وانّ المستثنى ليس علة ولا موضوعا له ، وهذا هو معنى العليّة الانحصاريّة.

وأمّا الثاني : فهو ثابت أيضا ، لأنّ النسبة الاستثنائيّة في المقام ، نسبة قائمة بين المستثنى منه والمستثنى في عالم الذهن ، لأنّه في مرحلة الواقع لا معنى للاستثناء والاقتطاع ، لأنّ كل عرضي في هذه المرحلة قائم على موضوعه من الأزل إلى الأبد ، «فوجوب الإكرام» ثابت على العلماء من الأول إلى الأخير ، «وعدم وجوب الإكرام» ثابت لغيرهم كذلك ، وإنّما يكون الاستثناء والاقتطاع في عالم الذهن ، إذ فيه ينسب ثمّ يقتطع.

وعليه ، فالنسبة الاستثنائية نسبة تامة ، لأنّ موطنها الأصلي هو الذهن ، وإذا كانت النسبة الاستثنائية تامة ، فإنّه يعقل حينئذ إجراء مقدمات الحكمة لإثبات انّ المستثنى قد أخرج من طبيعي الحكم لا من شخصه ، وبذلك يثبت المفهوم.

وقد مرّ معك ، تفصيل الأصول الموضوعية لهذا الكلام مرارا.

وإن شئت قلت : إنّه على ضوء الموازين المتقدمة في إثبات المفهوم ، وهو ان الاستثناء يعني الاقتطاع ، وهو لا يكون الّا من شئون النسب التامة الحقيقية في الذهن ، وأمّا في الخارج ، فلا اقتطاع ولا حكم ، فهي كالعطف

٧٣٦

والإضراب ونحوهما في اللغة ، فهي نسب ثانوية ذهنية وليست أوّليّة خارجية كي تكون ناقصة ، وحينئذ يعقل إجراء مقدمات الحكمة والإطلاق في طرفها ، وهو الحكم ، لإثبات ان طرفها الذي أخرج منه المستثنى ، هو طبيعي الحكم لا شخصه ، والمفروض دلالته وضعا على الحصر ، وبذلك يتم كلا ركني المفهوم.

فإن قيل : لو كانت النسبة الاستثنائية تامة ، لكانت الجملة المشتملة على المستثنى والمستثنى منه فقط جملة تامة ، كما في قوله : «العلماء إلّا الفساق» ، فإنّ هذه الجملة مشتملة على النسبة الاستثنائية ، ولو كانت تامة ، لكانت هذه الجملة تامة ، مع انّه لا إشكال في كونها جملة غير تامة ، لعدم صحة السكوت عليها.

قلنا : إنّ النسبة الاستثنائية تامة ، إلا انّ أطرافها ثلاثة ، المستثنى منه ، والمستثنى ، ومستثنى بلحاظه ، فإنّ استثناء الفسّاق من العلماء ، ليس المقصود به استثناء الفسّاق من العلماء بما هم علماء ، وإلّا لكان ذلك دالا على انّ الفساق ليسوا بعلماء ، بل المقصود استثناؤهم من العلماء بلحاظ الحكم ، وهو ، «وجوب الإكرام» ، وعليه ، فوجوب الإكرام طرف للنسبة الاستثنائية أيضا ، فما لم يؤت به لا تكون النسبة مستوفية لأطرافها ، فنقصانها من هذه الجهة ، لا من جهة عدم كون النسبة الاستثنائية نسبة تامة.

وإن شئت قلت : انّ عدم التماميّة هنا ، ليس باعتبار نقصان النسبة نفسها ، بل باعتبار عدم ذكر أطرافها ، فإنّ الاستثناء والاقتطاع فرع وجود حكم مسبق ، فلا معنى له من دون سبق حكم في الجملة.

وإن شئت قلت : إنّ مجرد تماميّة النسبة لا يكفي لإجراء مقدمات الحكمة وإثبات الركن الثاني ، بل لا بدّ من أن نثبت ، انّ هذه النسبة ذات مدلول تصديقي ، لأنّ الإطلاق الحكمي مرجعه إلى اصالة التطابق بين ما هو موضوع للمدلول التصوري وما هو موضوع للمدلول التصديقي ، وعليه : فلا بدّ من إثبات كون هذه النسبة ذات مدلول تصديقي.

٧٣٧

والصحيح : انّ هذه النسبة الاستثنائية ، يوجد بإزائها مدلول تصديقي.

وتوضيحه : انّه في قولنا «أكرم العلماء الّا الفسّاق» ، توجد نسبتان.

أ ـ النسبة الأولى : هي مفاد هيئة أكرم.

ب ـ النسبة الثانية : هي مفاد إلّا ، ولا شك انّ هذه الجملة الاستثنائية تشتمل على مدلول تصديقي ، وحينئذ فإمّا أن يدّعى انّ هذا المدلول التصديقي بإزاء النسبة المستفادة من «هيئة أكرم» ، وانّ النسبة المستفادة من هيئة أداة الاستثناء لا مدلول تصديقي بإزائها ، وإمّا أن يدّعى العكس ، وإمّا أن يدّعى انّه بإزاء كل من النسبتين مدلول تصديقي.

وهذه الدعوى الأخيرة هي الصحيحة والمتعينة ، لأنّ الإنسان لو خالف الواقع في المستثنى والمستثنى منه لكان قد كذب كذبتين ، كما لو قال : «كل إنسان أسود إلّا الزنجي» ، فهنا كذبتان : الأولى : هي الحكم على كل إنسان بأنّه زنجي ، الثانية : هي استثناء الزنجي ، فالكذبة قد تعدّدت ، وتعدّدها دليل على تعدّد المدلول التصديقي.

فالصحيح إذن ، انّ هناك مدلولا تصديقيا بإزاء النسبة الاستثنائية ، ومعه يتم جريان الإطلاق ويثبت المفهوم.

ثمّ انه قد عرفت سابقا ، انّه إذا كان الاستثناء من السلب ، كما في قوله : «لا يجب تصديق المخبر إلّا الثقة» فإنّه لا إشكال في ثبوت المفهوم ، ولم نحاول إثبات الركن الثاني كما حاولنا في الاستثناء من الإثبات.

والوجه في ذلك : انه في الاستثناء من السلب سواء أثبت الركن الثاني ، أو لم يثبت ، فعلى أيّ حال يثبت المفهوم الذي هو وجوب تصديق الثقة ، لأنّ المستثنى منه ، سواء كان شخص الحكم أو طبيعيّة ، فإنّه لا محالة في انّ تحقّق الإثبات الذي هو وجوب تصديق خبر الثقة ثابت ، ومن هنا ، كان المفهوم في هذا النحو ، أوضح منه في النحو الآخر.

٧٣٨

وإذا عرفت ثبوت المفهوم للاستثناء ، فإذا ورد «أكرم العلماء إلّا الفسّاق» ، وورد ، «إذا زارك العالم الفاسق فأكرمه» ، فحينئذ ، يقع التعارض بين مفهوم الدليل الأول ، ومنطوق الدليل الثاني ، ولا بدّ حينئذ ، إمّا من الجمع العرفي إن أمكن ، وإلّا ، فتطبيق قواعد التعارض.

وأمّا لو فرض انّه ورد ، «أكرم كل عالم إلّا الفسّاق» ، وورد «أكرم الفاسق الفقير» ، وفرضنا وجود إنسان عالم فقير فاسق ، ففي مثله ، لا يتعارض الدليلان ، والوجه فيه واضح ، فإنّ طبيعي وجوب الإكرام الذي نفيناه عن الفسّاق في الجملة الأولى بمقتضى المفهوم ، إنّما هو طبيعي وجوب الإكرام الثابت للعالم والذي يكون للعلم مدخليّة فيه ، وأمّا الوجوب الذي ليس للعلم مدخليّة فيه ، فلا ينفى عن الفاسق ، والمفروض انّ الوجوب الذي ثبت في الدليل الثاني ، إنّما ثبت لعنوان الفقير ، ومثله لا مانع من شموله للفاسق الفقير ، لأنّ مثل هذا الوجوب لم يكن داخلا في المستثنى منه لينفى بمفهوم الاستثناء.

وإن شئت قلت : ان المفهوم المدّعى في الاستثناء إنما هو انتفاء طبيعي الحكم الثابت لعنوان المستثنى منه في المستثنى فلا ينافي مع ثبوت حكم مماثل له بعنوان آخر غير عنوان المستثنى منه ، كما لو قال : «أكرم الفاسق الفقير» ، فإنه لا يتعارض مع مفهوم اكرم كلّ العلماء إلّا الفسّاق ، لأنّ طرف النسبة الاستثنائية التامة إنّما هو وجوب إكرام العالم ، وهو لا يصدق على وجوب إكرام الفقير.

والخلاصة : هي ، انّ المستثنى منه هو ، عنوان العلماء بما هو موضوع للحكم بوجوب الإكرام ، وأمّا الفقير الذي هو موضوع آخر لوجوب الإكرام ، فلم يستثن منه شيء.

نعم لو ثبت حكم بوجوب الإكرام على فاسق عالم مع دخل علمه في الموضوعيّة ولو بنحو جزء الموضوع ، حينئذ يكون معارضا مع مفهوم الاستثناء ، لأنّه خلف الاستثناء من العلماء بما هو موضوع لوجوب الإكرام.

٧٣٩
٧٤٠