بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وفي مثل هذا المقام يدّعى ويقال : بأنّ خطاب «أزل» ، يكون موضوعه عدم الاشتغال بضد واجب ليس له بدل. وعليه ، فلا يشمل إطلاقه خطاب ، «صلّ» ، لأنه ضد واجب ، له بدل ، وذلك لأنّ تضييق دائرة هذا القيد معناه أنّ الأمر بالإزالة موجود حتى مع الاشتغال بالصلاة ، وهذا معناه ، أنّ المولى يريد أن يصرفنا عن الصلاة إلى الإزالة ، وحينئذ سوف يحصل على ملاك الإزالة ، وكذلك يحصل على ملاك الصلاة عن طريق البدل ، وبذلك يتوفر للمولى كلا الملاكين.

وهذا بخلاف ما لو اشتغلنا بالصلاة ، وتركنا الإزالة ، فإطلاق خطاب ما ليس له بدل لحال الاشتغال بما له بدل معقول.

وما تقدّم من براهين وإشكالات على ما نقول لا تتأتى هنا ، إذ إنّه هناك كان يفوّت أحد الخطابين ، بينما هنا يحصل على كلا الملاكين.

إذن فالبرهان قائم على أنّ الخطاب مقيّد بالضد الواجب الذي ليس له بدل.

إلّا أنّ مرجحية هذا المرجّح حولها ملاحظتان :

١ ـ الملاحظة الأولى : وحاصلها ، هو : إنّ تماميّة هذا المرجح موقوفة على أن يكون للصلاة بدل فعلي حال الاشتغال بالإزالة ، وإلّا لو لم يكن للصلاة بدل كذلك في هذه الحال ، للزم من الاشتغال بالإزالة تفويت ملاك الصلاة وبدلها ، وحينئذ لا يتم ما ذكر.

وعليه ، فلا بدّ في تمامية هذا التقريب من وجود ملاك فعلي للصلاة حال الاشتغال بالإزالة.

ووجود بدل فعلي للصلاة حال الاشتغال بالإزالة ، إنما يثبت بدليل البدلية القائل : «إذا عجزت عن الصلاة فتصدق» ، كما في مثالنا.

ودليل البدلية هذا إنّما يثبت بدليّة «الصدقة» عن «الصلاة» في حال

٤١

العجز عن الصلاة ، كما هو لسان الخطاب المذكور ، والعجز عن الصلاة ، إمّا أن يكون عجزا تكوينيا ، كما في المغمى عليه ، وإمّا أن يكون مولويا ، والأول لا كلام فيه ، والثاني إنما يكون في حال الاشتغال بالأهم لو كانت الإزالة أهم ، إذ في حال وجود واجب أهم من الصلاة ، فإنّ المولى حينئذ يصرف المكلّف عن الصلاة إلى الاشتغال بالواجب الأهم ، وهو الإزالة ، فيثبت بذلك ، إنّ تماميّة هذا المرجح ، موقوفة على كون الإزالة أهم ، والأهميّة مرجح مستقل كما ستعرف.

وعليه ، فتكون مرجحيّة هذا المرجّح فرع ثبوت مرجحيّة الترجيح بالأهم ، وهو أول الكلام.

إذن فلا يكون هذا المرجح مرجّحا مستقلا حينئذ ، إذن فلا يثبت المدّعى ، وهو كونه مرجحا بالأصالة في عرض بقية المرجحات.

ويجاب عن هذه الملاحظة الأولى بأن يقال : بأنّا نسلم ما ذكر في هذه الملاحظة من باب الأصول الموضوعيّة.

ولكن نقول : بأنّ المعجّز المولوي عن الصلاة ، لا ينحصر بكون الإزالة أهم كما ذكر ، بل يتم المعجّز حتى ولو كانت الإزالة مساوية ، فإنه في هذا الحال لو اشتغل بالإزالة يكون عاجزا مولويا عن الصلاة ، وعليه ، فلا تكون تماميّة هذا المرجح في طول كون الإزالة أهم من الصلاة ، ليلزم ما ذكر ، بل تماميّته في طول أن لا تكون الصلاة أهم فيشمل ما إذا كانت مساوية.

والحاصل : إنّ مرجّحية هذا المرجح ، لا تتوقف على تماميّة الترجيح بالأهم الذي هو مرجح مستقل ، كما سيأتي ، لأنّ هذا المرجح أيضا يتم إذا كانت الصلاة مساوية للإزالة ، كما عرفت.

والخلاصة ، هي : إنّ هذه الصياغة لهذا المرجح ، وإن كانت في نفسها ، ولكنها تتوقف على إثبات كون البدل في فرض العجز عن المبدل يكون وافيا بتمام ملاك المبدل أو بجلّه.

وأمّا إذا لم يثبت ذلك ، وفرض أنّ مقدارا مهمّا من ملاك المبدل ، لا

٤٢

يستوفى بالبدل ، فقد يكون هذا المقدار مساويا في الأهمّية لملاك ما ليس له بدل ، أو أهم منه ، في مثل ذلك لا بدّ وأن يكون وجوب ما ليس له بدل مقيّدا بعدم الاشتغال باستيفاء هذا المقدار ، وعلى هذا الأساس.

إذن ينحصر وجه الترجيح بالأهمّية ، ويخرج عنوان ما ليس له بدل ، عن المرجحيّة ، حيث لم يبق له أثر في ذلك ، إذ إثبات وفاء البدل بتمام ملاك المبدل ، يتوقف على وجود قرينة خاصّة. وإلّا فنفس دليل البدليّة المتقدم لا يفي بذلك.

٢ ـ الملاحظة الثانية وهي : مبنيّة على كون هذا المرجح غير مستقل ، وإنّما يرجع إلى الترجيح بالأهمية ، وحينئذ يقال : بأنّ الملاكين الموجودين في الإزالة والصلاة ، لا يخلو حالهما من ثلاثة فروض :

أ ـ الفرض الأول هو : أن يفرض بأنّا نعلم بتساوي هذين الملاكين.

ب ـ الفرض الثاني هو : أن لا نعلم حالهما أصلا.

ج ـ الفرض الثالث هو : أنّا نعلم بأنّ ملاك الصلاة أهم من ملاك الإزالة.

أما في الفرض الأول ، وهو : ما لو علم بتساوي الملاكين : فإنّه في مثل ذلك يتم هذا المرجح ، وذلك لأنّ تمامية هذا المرجح فرع فعلّية بدليّة «الصدقة» للصلاة ، حين الاشتغال بالإزالة ، كما عرفت ، وهذه الفعلية فرع أن يكون المكلّف حين اشتغاله بالإزالة معذورا مولويا عن الصلاة ، وهذه المعذورية موجودة ، لأنّ الصلاة ليست أهم من الإزالة حسب الفرض ، بل هي مساوية لها ، وإذا عذر مولويا عن الصلاة ، فيتحقق العجز المولوي بالنسبة لها ، وبتحقق العجز المولوي عنها ، يتم بدلها ، وهو الصدقة ، وحينئذ فيكون للصلاة بدل دون الإزالة حيث لا بدل لها.

وعليه ، فيتم هذا المرجح في طول الترجيح بالأهم ، وذلك لأنّ ملاك الإزالة في هذا الفرض ، يكون أهم من ملاك الصلاة ، لأنّ ملاك الإزالة والصلاة ، وإن فرضناهما متساويين ، إلّا أنّ المفروض أنّ أحد هذين

٤٣

الملاكين قائم بالإزالة وحدها ، والملاك الثاني قائم في «الصلاة ، والصدقة» التي هي بدل الصلاة ، فيكون نصف الملاك حينئذ قائما بالصلاة ، وعليه ، فيكون الأمر دائرا بين ملاك تام قائم بالإزالة ، وبين نصف ملاك قائم في الصلاة.

ولا شك أنّ ملاك الإزالة حينئذ يكون أهم من ملاك الصلاة.

وبذلك يكون هذا المرجح قد رجع إلى الترجيح بالأهمية ، ولا يكون مرجحا بالأصالة كما هو المدّعى.

وأما الفرض الثاني ، وهو : ما لو جهلنا حالهما ولم نعلم بأهمية أحدهما : فهنا لا مقتض لتقديم أحدهما على الآخر ، فيكون حكمهما حكم المتساويين.

وحينئذ ، فيجري في هذا الفرض ما جرى في الفرض الأول من الكلام ، وهو ما لو علم بتساويهما ، فيكون هذا المرجح ، بناء على هذا الفرض الثاني ، راجعا إلى الترجيح بالأهميّة كما تقدم في الفرض الأول.

وأما الفرض الثالث ، وهو : ما لو علم أن ملاك الصلاة أهم : ففي مثل ذلك لا يتم هذا المرجح أصلا ، حتى لو فرض وجود إطلاق في دليل البدلية لمورد الاشتغال بالإزالة ، إذ على كل حال سوف يفوت شيء من الملاك ، لأنّه لو اشتغل بالإزالة فسوف يفوّت شيئا من الملاك ، لأنّا فرضنا أنّ الصلاة أهم ، وكذلك لو اشتغل بالصلاة ، سوف يفوّت شيئا من الملاك ، لأنّ نصف الملاك قائم بالصدقة التي هي بدل الصلاة ، والنصف الآخر من الملاك قائم بالصلاة ، إذن على كل تقدير ، سوف يفوته شيء من الملاك.

وعليه ، فلا يتصور في المقام ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل ، إذن فهذا المرجح غير تام.

ومن ذلك يظهر ، أنّ الترجيح بالبدلية :

٤٤

إمّا أن يكون راجعا إلى الترجيح بالأهميّة كما في الفرضين الأول والثاني.

وإما أنّه غير تام أصلا كما في الفرض الثالث.

وعليه فلا يكون الترجيح بالبدلية مرجحا مستقلا كما أدعي ، في قبال بقيّة المرجحات.

المقام الثاني : في ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل ، عن طريق إرجاعه إلى برهان ومرجح آخر يكون صغرى لمرجح مفروغ عن مرجحيته.

وبعبارة أخرى : تخريج هذا الترجيح يكون على أساس تطبيق كبرى أخرى عليه ، ويتمثل هذا في محاولتين :

* المحاولة الأولى هي : إن يقال : إنّه تبيّن من خلال مناقشة المقام الأول أنّ نكتة ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل ، مرتبطة دائما بترجيح محتمل الأهمية على غير محتمل الأهمّية ، أو ما كان محتمل الأهمّية فيه أكبر على ما كان محتمل الأهمية فيه أصغر ، وقد انتهينا إلى نتيجة ، هي : كون ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل ، يمكن تخريجه كمصداق من مصاديق كبرى الترجيح بالأهمّية كما سيأتي.

وعليه ، يكون هذا المقام صغرى لهذه الكبرى ، ولا يكون مرجحا بنفسه.

نعم عقد عنوان ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل ، تكون فائدته التنبيه على نكتة وجود رابط كلي يلازم دائما الترجيح بالأهمية ، وهي نكتة إنّ أحد الواجبين المتزاحمين ، «ما له بدل وما ليس له بدل». هذه النكتة تكون مستوجبة لاحتمال الأهمّية ، وهي تؤدي إلى أن يكون احتمال الأهمية في ما ليس له بدل أكبر من احتمال الأهمية في ما له بدل.

ووجه هذا البرهان مبني على نكتة أنّ كل كميتين في حساب الاحتمال ، لا علم لنا عن حدود كل واحدة منهما ، بحيث كان أيّ احتمال يصدق على إحدى

٤٥

الكميتين يمكن أن يصدق على الأخرى ، وذلك كما لو كان عندنا حقيبتان ، لا نعلم مقدار ما فيهما من النقود ، حينئذ كل احتمال يرد على واحدة منهما ، يكون واردا على الأخرى. فإحتمال أن يكون في إحداهما نصف ما في الحقيبة الأخرى يوازيه احتمال أن يكون في الأخرى نصف ما في الأولى ، لكن إذا وجد عامل احتمال في إحدى الحقيبتين أو الكميتين ، لا يوازيه عامل احتمال في الكمية الأخرى ، حينئذ يكون الاحتمال فيما وجد فيه العامل ، أكبر من الاحتمال فيما لم يوجد فيه العامل.

وهذا يوجب امتياز ما وجد فيه العامل على ما لم يوجد فيه ، وبالتالي امتياز إحدى الكمّيتين على الأخرى ، وتفصيل هذا القانون بتمامه موكول إلى كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) (١).

وهذه النكتة وهذا القانون نفترضه أصلا موضوعيا عاما ، نطبّقه على محل الكلام هنا ، فإنّه في محل الكلام هنا يوجد عندنا واجبان متزاحمان هما : «الإزالة» ، وليس لها بدل ، و «الصلاة» ، ولها بدل هو الصدقة.

إذن فكمّية من الملاك قائمة «بالإزالة» ، وكميّة منه قائمة «بالصلاة» ، وكل منهما كميته توازي الكميّة الأخرى.

لكن يوجد عامل احتمالي واحد في جانب ما ليس له بدل :

وهذا العامل لا يقابله شيء فيما له بدل ، وبهذا تكون قيمة احتمال الأهمية في ملاك ما ليس له بدل ، كالإزالة ، أكبر من قيمة احتمال الأهمية في ملاك ما له بدل ، «كالصلاة» ، لأنّ كلا من الملاكين فيه ثلاث احتمالات :

أ ـ احتمال كون هذا الاحتمال أقوى من ذاك ، ويقابله في الآخر احتمال مثله.

__________________

(١) الأسس المنطقية للاستقراء ـ الشهيد الصدر ـ ص ١٥٧.

٤٦

ب ـ احتمال كون هذا الاحتمال أضعف من ذاك ، ويقابله في الآخر احتمال مثله.

ج ـ احتمال كون هذا الاحتمال مساويا لذاك ، ويقابله في الآخر احتمال مثله. وهذا الاحتمال الأخير ، أي : احتمال التساوي بينهما في الملاك ، يصبّ في صالح ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل ، لأنّهما في فرض التساوي ، يكون جزءا من الملاك الذي له بدل ، مستوفى في الصدقة ، لحصول العجز الشرعي عن الصلاة في صورة الاشتغال بالإزالة ، أي : بما ليس له بدل ، والذي لا يقل أهمّية عمّا له بدل.

بينما لا يكون قد استوفي من ملاك الإزالة شيء ، لأنّ الإزالة لا بدل لها حسب الفرض.

وهذا معناه : إنّ احتمال الأهميّة في الملاك الذي سوف يفوت كله لو «صلّى ولم يزل» أكبر من احتمال الأهميّة في الملاك الذي سوف يفوت ، لو «صلّى ولم يزل».

وهذا يعني زيادة القيمة الاحتمالية لملاك ما ليس له بدل ، فيكون احتمال الأهميّة فيما ليس له بدل ، أكبر من احتمال الأهمية فيما له بدل ، فيقدّم عليه باعتبار مرجّحية الأهمية.

وإن شئت قلت : إنّ احتمال التساوي بينهما في أهميّة الملاك يصب في صالح ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل ، لأنّه في فرض التساوي تكون بدلية البدل ثابتة فيستوفى بها جزء من ملاك ما له بدل في صورة الاشتغال ، بما ليس له بدل الذي لا يقل عنه أهميّة.

وهذا يعني : أنّ التزاحم ، بحسب الحقيقة ، واقع بين تمام الملاك فيما ليس له بدل ، وبين جزء من ملاك ما له بدل ، وهو الجزء الذي فات بترك الصلاة واستعيض عنه بالصّدقة.

وبهذا يكون ما ليس له بدل أهم ملاكا ، وهذا معنى وجود عامل

٤٧

احتمالي لامتياز كميّة الاحتمال في الملاك الذي ليس له بدل غير موجود في ملاك ما له بدل.

وحينئذ ، بمقتضى حساب الاحتمالات ، تزداد القيمة الاحتمالية لملاك ما ليس له بدل ، فيقدم ويترجح على ما له بدل في مقام التزاحم.

* المحاولة الثانية ، هي : إنّ المقام من صغريات المرجح الأول ، وهو كون المشروط بالقدرة العقليّة ، مقدّما على ما اشترط فيه القدرة الشرعية.

وحينئذ يقال : إنّه يستظهر أنّ ما ليس له بدل أخذ فيه القدرة العقلية ، ويستظهر أنّ ما له بدل أخذ فيه القدرة الشرعية ، والعقلية مقدّمة على الشرعية ، فهذه كبرى ، وصغرى.

وقد تقدم الكلام عن الكبرى ، ومدى صحتها سابقا ، عند الكلام عن المرجّح السابق.

وأما الكلام عن الصغرى ، وهي كون ما ليس له بدل مشروطا بالقدرة العقلية ، بمعنى أنّ القدرة لا تكون دخيلة في ملاكه ، فيقال في توجيه ذلك :

إنّ القدرة لم تؤخذ في لسان دليل ما ليس له بدل ، لا تصريحا ولا تلميحا ، فتكون القدرة بالنسبة إليه عقلية ، وإنّما غاية ما يقتضيه ذلك ، هو كون القدرة فيه مأخوذة في مقام الحكم والباعثية دون الملاك.

وأما بالنسبة إلى الخطاب الذي جعل فيه بدل ، فقد أخذت القدرة قيدا في لسان دليله ، فهي قدرة شرعية ، لأنّ دليل البدلية أخذ في موضوعه عدم القدرة على المبدل ، «الصلاة» وحيث أنّ موضوع الأمر بالبدل «الصدقة» نقيض موضوع الأمر بالمبدل ، إذن لا بدّ أن يكون دليل البدليّة مساوقا أو هو مقتضيا لتقييد إطلاق دليل المبدل ، «الصلاة» ، وذلك بأخذ القدرة في موضوعه ، لئلا يلزم اجتماع خطاب البدل ، وخطاب المبدل على المكلف الواحد.

٤٨

وهذا ، كما ترى ، مساوق لتقييد دليل وجوب المبدل بالقدرة عليه ، وهذه هي القدرة الشرعية.

والحاصل : إنّ دليل البدليّة يدل بالمطابقة على أخذ العجز عن المبدل في موضوع خطاب البدل ، ويدل بالملازمة على تقييد دليل المبدل بأخذ القدرة في موضوعه ، فتكون القدرة المأخوذة في موضوع ما له بدل قدرة شرعيّة ، وقد عرفت أنّ القدرة المأخوذة في موضوع ما لا بدل له عقلية.

وعليه ، فيقدّم ما لا بدل له ، على ما له بدل ، لأنّ المشروط بالقدرة العقلية يقدّم على المشروط بالقدرة الشرعية ، كما عرفت ذلك في المرجح الأول.

وبهذا يكون المقام من صغريات المرجح الأول.

إلّا أنّ هذه المحاولة غير تامة لورود عدة أمور عليها :

١ ـ الأمر الأول هو : ما تقدم سابقا ، من أنّ خطاب ما لا بدل له ، مقيّد بالقدرة ولو بحكم العقل ، وبعد تقييده ، لا مجال لإثبات ملاكه في صورة العجز ، كما عرفت ، وإذا لم يمكن إثبات ملاكه ، فلا يتم ما ذكر من أنّ القدرة فيه عقلية ، وغير دخيلة في ملاكه ، كي يكون ذلك موجبا لتقديمه على ما له بدل.

٢ ـ الأمر الثاني وهو المهم ، وحاصله هو : إنّه لو أغمضنا عن الأول ، وسلّمنا بأنّ القدرة المأخوذة في موضوع خطاب ما لا بدل له ، عقلية ، وغير دخيلة في ملاكه ، إلّا أنّنا نقول : إنّ دليل البدليّة لا يفيد في جعل خطاب ما له بدل مقيّدا بالقدرة الشرعية.

وما ذكروه في وجه ذلك غير تام ، وذلك لأنّ المولى ، إن أخذ في موضوع هذا الخطاب ، القدرة بلسان المخصّص المتصل ، فحينئذ يتم ما ذكر ، إلّا أنّ المفروض أنها أخذت بلسان المخصص المنفصل ، فإنّ خطاب الصلاة مطلق في نفسه ، والمقيّد الذي وجد ، وهو دليل البدلية ، مقيّد

٤٩

منفصل ، وهذا المقيد يقتضي التقييد بمقدار يرتفع به اجتماع خطاب البدل والمبدل على مكلّف واحد ، ويكفي في رفع ذلك تقييد خطاب المبدل بلحاظ مرحلة الحكم ، ولا موجب لرفع اليد عن إطلاقه بلحاظ مرحلة الملاك ، فإنّه قد استقرّ إطلاقه فيه بنفسه ، فيكون حجة فيه بأحد التقريبين السابقين ، أي إنّنا نثبت الملاك إمّا بالدلالة الالتزامية ، أو بإطلاق المادة ، كما عرفت سابقا.

وعليه ، فلا موجب لكون خطاب ما له بدل ، مشروطا بالقدرة الشرعية ، بمعنى دخالة القدرة في ملاكه.

وبهذا تبطل هذه المحاولة ، ولا يكون هذا المقام من صغريات المرجح الأول ، بل يكون من صغريات الترجيح بالأهمّية الآتي كما ادّعي في المحاولة الأولى.

وقبل أن ننتقل إلى المرجح الثالث لا بدّ من التعرض إلى بحثين مربوطين بالمرجح الأول :

١ ـ البحث الأول هو : إنّه بعد الفراغ عن كبرى هذا المرجح ، لكن حيث أنّ أحد الخطابين المزاحمين يكون مشروطا بالقدرة الشرعية تارة والآخر مشروطا بالقدرة العقلية أخرى ، فتارة يكون الاشتراط بإحدى القدرتين معلوما في كلا الطرفين ، وأخرى يكون مشكوكا في كلا الطرفين ، وثالثه يكون معلوما في أحدهما دون الآخر.

فهنا صور لا بدّ من استعراضها لمعرفة أنّ هذا ، هل يقتضي الترجيح في كل الصور ، أو لا؟.

١ ـ الصورة الأولى هي : أن تحرز بطريق «ما» أنّ خطاب «أزل» مشروط بالقدرة العقلية ، وخطاب «صلّ» مشروط بالقدرة الشرعية ، وهذه الصورة هي القدر المتيقن لتطبيق كبرى هذا المرجح ، فيقدّم ما شرط بالقدرة العقلية على ما شرط بالقدرة الشرعية.

٥٠

٢ ـ الصورة الثانية هي : أن لا نحرز هذا ولا ذاك ، أي : إننا لا نحرز كون هذا الخطاب مشروطا بالقدرة الشرعية ، ولا نحرز كون ذاك الخطاب مشروطا بالقدرة العقلية.

ومثل هذا ، يكون القدر المتيقن لعدم انطباق هذا المرجح ، فلا معنى لإعماله ، وتقديم أحدهما على الآخر.

٣ ـ الصورة الثالثة هي : أن نحرز أنّ خطاب «صلّ» مشروط بالقدرة الشرعية ، ولكن لا نحرز أنّ خطاب «أزل» ما حاله ، أشرعية القدرة فيه ، أو عقلية؟

في مثل هذه الصورة ، لا موجب للتقديم ، لأنّه لو فرض أنّه «أزال» ولم «يصلّ» إذن ، فقد أحرز أنّه لم يفوت ملاكا ، لأنّه استوفى الإزالة ، وخطاب «صلّ» مشروط بالقدرة الشرعية.

ولو فرض أنّه «صلّى» ولم «يزل» ، فهنا يحتمل أن يكون قد فوّت ملاكا ، إذن فيقع في المحذور دون الشقّ الأول ، فيكون الشقّ الأول خاليا من المحذور ، دون الشق الثاني.

وحينئذ يقدّم الخالي من المحذور على الواجد للمحذور.

إلّا أنّ هذا التقريب غير صحيح ، وإنّما الصحيح هو عدم تطبيق هذا المرجح بالنسبة لهذه الصورة ، وذلك لأنّ ما ذكرناه من أنّه لو «أزال ولم يصلّ» فلا محذور ، بينما لو «صلّى ولم يزل» فهو يحتمل المحذور ، فهذا صحيح ، إلّا أنّ احتمال المحذور المذكور غير منجّز ، لأنّ مرجعه إلى الشك في سعة دائرة ملاك الإزالة ، وأنه هل هو ثابت حتى حال الاشتغال بواجب آخر ، أو أنّه غير ثابت في هذا الحال؟.

وهذا كالشك في سعة دائرة التكليف ، يكون مجرى لأصالة البراءة ، ومع جريان البراءة لا يبقى محذور ليقال : بأنّ الأمر يدور بين ما لا محذور

٥١

فيه ، وبين ما يحتمل وجود المحذور فيه ، فإنّ احتمال وجوده موجود وجدانا ، إلّا أنّه منفي تعبدا بأصالة البراءة.

فالصحيح عدم تطبيق هذا المرجح في هذه الصورة.

٤ ـ الصورة الرابعة هي : أن نحرز أنّ القدرة في خطاب «أزل» عقلية ، لكن لا ندري نوع القدرة في خطاب «صلّ».

وفي مثل ذلك يطبّق هذا المرجح ، فيقدم خطاب «أزل» ، على خطاب «صلّ».

والوجه في ذلك هو أنه لو «أزال ولم يصلّ» فلا يعلم بتفويت ملاك على المولى ، لأنّ ملاك الإزالة قد استوفاه ، وأمّا ملاك «الصلاة» فلم يجزم بأنّه فعلي حتى لحال الاشتغال بالإزالة ، لاحتمال كون القدرة في الصلاة شرعية ، بينما إذا «صلّى» ولم «يزل» ، فهنا يجزم بأنّه فوّت ملاكا على المولى ، وهو ملاك الإزالة ، لأنّ ملاكها تام ، وحيث أنّ القدرة فيها عقلية ، فملاكها فعلي ، حتى في حال الاشتغال بالصلاة.

إذن فأصل ملاك الإزالة معلوم ، فلا يكون مجرى للبراءة كما في الصورة السابقة.

فمرجع الشك في هذه الصورة الرابعة ، إلى أنّ الاشتغال «بالصلاة» هل يكون معذّرا عن تفويت ملاك «الإزالة» المعلوم ، أو لا يكون معذرا؟ وهذا مورد لأصالة الاشتغال كما هو واضح.

وبهذا يتحصّل : إنّ ميزان تطبيق المرجح الأول ، هو أن نحرز أنّ أحد الخطابين مشروط بالقدرة العقلية ، سواء أحرزنا أنّ الخطاب الآخر مشروط بالقدرة الشرعية حتى يكون من الصورة الأولى ، أو لم نحرز ذلك حتى يكون من الصورة الرابعة.

٢ ـ البحث الثاني هو : في كيفية إحراز نوع القدرة في كل خطاب ، وإنّها عقلية أو شرعية فيقال :

٥٢

تارة يدل دليل الخطاب ولسانه على أنّ القدرة المأخوذة في الخطاب شرعيّة ، كما لو قال المولى : «صلّ إن لم يوجد أمر بالخلاف» ، فهذا الدليل يستنتج منه أنّ القدرة المأخوذة في الصلاة شرعية بالمعنى الثالث للقدرة الشرعية ، كما تقدّم ، لأنّ طبع التكليف لا يستدعي عقلا عدم وجود أمر بالخلاف ، فتقييد المولى لخطاب «صلّ» ، بعدم وجود أمر بالخلاف ، ليس له أيّ وجه إلّا دخالة ذلك التقييد في ملاكه ، وهذا معنى القدرة الشرعية ، وحينئذ فإذا لم يكن مثل هذا القيد مأخوذا في خطاب «أزل» فلا تكون القدرة المأخوذة فيه شرعيّة ، بل تكون عقلية فيكون هذا من الصورة الأولى لأنّا علمنا أنّ القدرة في خطاب «أزل» عقلية ، وفي خطاب «صلّ» شرعية ، وحينئذ فيقدم خطاب «أزل» على خطاب «صلّ».

وتارة أخرى ، يفرض أنّ القدرة الشرعية لم تؤخذ في خطاب «صلّ» بالمعنى الذي تقدم ، فهنا صورتان :

١ ـ الصورة الأولى هي : أن يفرض أنّ القيد اللبّي ، وهو عدم الاشتغال بالضد الواجب المساوي أو الأهم ، قد أخذ في لسان الشارع في أحد الخطابين دون الآخر.

٢ ـ الصورة الثانية هي : أن يفرض أنّه لم يؤخذ هذا القيد في لسان الشارع في كلا الخطابين ، أو أنّه أخذ فيهما على نحو واحد.

وفي هذه الصورة الثانية لا يمكن تطبيق هذا المرجح ، لأنّ كلا الخطابين على نحو واحد.

وأمّا في الصورة الأولى ، وهي ما لو أخذ هذا القيد في أحد الخطابين دون الآخر ، كما لو فرض أن أخذ في خطاب «صلّ» دون خطاب «أزل». فهنا ، يمكن أن يقال : بأنّ هذا يصير من الصورة الأولى السابقة ، وهي ما لو علمنا بأنّ أحد الخطابين مقيّد بالقدرة الشرعية ، والخطاب الثاني مقيّد بالقدرة العقلية ، باعتبار أنّ خطاب «صلّ» الذي فرض تقييده بهذا القيد ، تكون القدرة فيه شرعية.

٥٣

وحينئذ ، فيقدم خطاب «أزل» على خطاب «صلّ.

إلا أنّ تماميّة هذا القول تتوقف على التسليم بأمرين :

أ ـ الأمر الأول هو : أن نستظهر من تصدّي المولى لتقييد خطاب «صلّ». بهذا القيد ، إنّه قيد للملاك كي تكون القدرة شرعية.

ب ـ الأمر الثاني هو : أن تقول : بأنّ إطلاق الخطاب الآخر ، وهو خطاب «أزل». إطلاقه لحال العجز باعتبار عدم تقييده بالقدرة ساقطا في مرحلة الجعل ، إلّا أنّه ثابت في مرحلة الملاك بأحد التقريبين السابقين ، أعني ، إثباته بالدلالة الالتزامية ، أو إثباته بواسطة إطلاق المادة ، وبهذا نحرز أنّ خطاب «أزل» تكون القدرة فيه عقلية ، باعتبار عدم دخالة القدرة في ملاكه.

فإذا تمّ هذان الأمران ، يصير المقام من الصورة الأولى السابقة ، فيقدم خطاب «أزل» ، لأنّ القدرة فيه عقلية ، على خطاب «صلّ» لأنّ القدرة فيه شرعية.

وأمّا إذا لم نسلّم بهذين الأمرين ، فهذا تحته شقوق ثلاثة :

أ ـ الشق الأول هو : أن لا نسلم بالأمر الأول بينما نسلم بالأمر الثاني ، يعني لا نسلم بأنّ تصدّي المولى لأخذ القيد ، دليل على دخالة القيد في الملاك ، لتكون القدرة شرعية ، بينما نسلّم بأنّه يمكن إثبات الملاك بعد سقوط الخطاب ، إمّا بإطلاق المادة ، أو بالدلالة الالتزامية.

ففي مثل ذلك يكون المقام من مصاديق الصورة الرابعة ، لأنّا نحرز حينئذ أنّ القدرة في خطاب «أزل» ، عقليّة ، لثبوت الملاك حتى لحال العجز ، ونشك في أنّ القدرة في خطاب «صلّ» شرعية أو عقلية. وفي مثل ذلك يقدم خطاب «أزل» ، كما عرفت.

ب ـ الشق الثاني هو : أن نسلم بالأمر الأول ، وننكر الثاني ، وهذا

٥٤

معناه أننا نحرز أنّ القدرة في خطاب «صلّ» شرعية ، ولا نحرز كون القدرة عقلية في خطاب «أزل» ، لعدم إحراز الملاك حتى في حال العجز ، فيكون المقام حينئذ من مصاديق الصورة الثالثة ، ولا يطبق هذا المرجح فيها ، كما عرفت.

ج ـ الشق الثالث هو : أن لا نسلّم بكلا الأمرين ، فيكون المقام من مصاديق الصورة الثانية ، لأنّنا نجهل حينئذ نوع القدرة في كل منهما.

وهذا هو القدر المتيقن لعدم تطبيق هذا المرجح ، كما عرفت.

ثمّ إنّ ما ذكرناه مبني على أنّ المولى ، حينما يبرز القيد ، فهو يبرزه بالصيغة التي فرضناها ، كما لو قال : «صلّ» بشرط عدم الاشتغال بضد واجب أو أهم ، مع أنّ هذا مجرد فرض ، لأنّ العادة الخارجية هي إنّه حينما يبرز المولى هذا القيد ، يبرزه بأسلوب آخر ، كأن يقول : «صلّ إذا لم يكن لديك شغل وواجب آخر ، مساو ، أو أهم».

ولا إشكال أنّ هذا الأسلوب في التقييد ، يقتضي تقديم خطاب «أزل» على خطاب «صلّ» لأنّ خطاب «أزل» يكون رافعا لموضوع خطاب «صلّ» ، حيث أنّ خطاب «صلّ» مقيّد بعدم الاشتغال بواجب آخر ، وحينئذ فالاشتغال بالإزالة أو بأيّ واجب آخر مساو أو أهم ، يرفع موضوع خطاب «صلّ».

إذن ، إذا أخذت القدرة الشرعية ، بحسب المعتاد الخارجي ، يتعين تقديم خطاب «أزل» ، على خطاب «صلّ».

ولكن قد يستشكل بذلك ، فيقال : بأنّه لا ملزم لتقديم خطاب «أزل» ، على خطاب «صلّ» ، حتى لو أبرز القيد بما جرت عليه العادة الخارجيّة كما لو قال : «صلّ إذا لم يكن لديك شغل ، وواجب آخر» ، إذ بناء على هذا الأسلوب من التقييد ، وإن كانت الإزالة رافعة لموضوع الصلاة ، كما ذكر ، إلّا أنّه كذلك يمكن أن تكون الصلاة رافعة لموضوع الإزالة ، وذلك لأنّ خطاب «أزل» ، قد أخذ في موضوعه ، ولو بواسطة المخصّص اللبّي العقلى ،

٥٥

عدم الاشتغال بضد واجب آخر مساو أو أهم ، وهذا القيد يحتمل انطباقه على الصلاة لاحتمال كونها مساوية للإزالة.

وبناء عليه يحتمل أن يكون الاشتغال بالصلاة رافعا لموضوع وجوب الإزالة أيضا ، لأنّه قد أخذ في موضوع وجوب الإزالة عدم الاشتغال بضد واجب أهم أو مساو ، وقد فرضنا احتمال تساوي الصلاة مع الإزالة ، وحينئذ فيشك في وجوب الإزالة ، حتى في حال الاشتغال بالصلاة ، فتجري البراءة عنه.

ولا يقال هنا بأنّ خطاب الإزالة ساقط حكما ، إلّا أنّه ثابت ملاكا في هذه الصورة.

لأنّنا نقول : إنّ المفروض هو إنكار الأمرين المتقدمين الذي يمكن بثانيهما إثبات ملاك الخطاب في صورة سقوطه حكما ، كما عرفت.

وبهذا نثبت إنّه لا ملزم لترجيح وتقديم خطاب «أزل» على خطاب «صلّ» حتى ولو قيّد خطاب «صلّ» بالأسلوب المتعارف ، والذي جرت العادة الخارجية عليه ، لأنّه كما يرتفع موضوع وجوب الصلاة بالاشتغال بالإزالة ، فإنّه كذلك يحتمل ارتفاع موضوع وجوب «الإزالة» بالاشتغال «بالصلاة».

إلّا أنّ هذا الاستشكال في تقديم خطاب «أزل» على خطاب «صلّ» ، حتى ولو كان خطاب «صلّ» مقيدا بالنحو المتعارف خارجا ، غير تام.

وإنّما الصحيح أنّ خطاب «أزل» يقدّم على خطاب «صلّ» ، ويقرّب ذلك بتقريبين :

١ ـ التقريب الأول هو : إنّ خطاب «صلّ» قد قيّد بعدم الاشتغال بمطلق واجب ، وأمّا خطاب «أزل» فقد قيّد بعدم الاشتغال بواجب مساو أو أهم ، كما عرفت.

وبناء عليه ، فلا يحتمل أن تكون الصلاة أهمّ من الإزالة ، بل يحتمل

٥٦

أن تكون الإزالة أهم من الصلاة باعتبار أنّ خطاب الصلاة قد قيّد بلسان المولى بعدم الاشتغال بمطلق واجب ، ومعنى هذا أنّ الصلاة إمّا أن تكون أقل أهميّة من جميع الواجبات الأخرى ، أو مساوية لها ، ولا يحتمل أهميّة الصلاة ، وإلّا لما قيّد خطابها بعدم الاشتغال بمطلق واجب ، إذن فإحتمال أهميّة الصلاة بالنسبة للإزالة ، غير موجود ، بينما احتمال أهميّة الإزالة بالنسبة للصلاة موجود ، لأنّ خطاب «أزل» لم يقيّد بعدم الاشتغال بمطلق واجب بل قيّد بعدم الاشتغال بواجب مساو أو أهم ، وهذا لا ينافي أن تكون الإزالة أهم من غيرها كالصلاة.

وعليه ، فيقدّم خطاب «أزل» على خطاب «صلّ» لاحتمال أهميّة خطاب «أزل» وعدم احتمال أهميّة خطاب «صلّ».

٢ ـ التقريب الثاني هو : إنّ دليل الصلاة وهو قوله «صلّ» ، إذا لم تشتغل بواجب آخر ، يكشف عن أنّ القدرة المأخوذة في هذا الدليل ، قدرة شرعيّة ، بمعنى أنّ الاشتغال بمطلق واجب يكون رافعا لموضوع ملاك الصلاة ، لأنّ مقتضى إطلاق القيد في قوله «صلّ» إذا لم تشتغل بواجب آخر ، هو إنّ أيّ شغل بواجب ، يكفي لرفع اليد عن الصلاة ، ولو كان ملاك ذاك الواجب الآخر ضعيفا ، وأقل أهميّة من ملاك الصلاة.

وهذا معناه إنّ عدم الاشتغال بأيّ واجب يكون من متممات ملاك الصلاة ، وتكون تماميّة ملاك الصلاة في طول عدم تماميّة ملاك بقيّة الواجبات.

وبهذا يثبت أنّ القدرة المأخوذة في الصلاة ، قدرة شرعيّة ، وحينئذ فإن أثبتنا أنّ القدرة المأخوذة في خطاب «أزل» عقليّة ، يتم ترجيح خطاب «أزل» على خطاب «صلّ» كما هو مقتضى المرجح الأول.

فإن قيل : بأنّ دليل الصلاة المذكور ، لا يستكشف منه كون القدرة المأخوذة في الصلاة ، قدرة شرعية ، وذلك فيما لو فرض أنّ المولى قد أحرز بنفسه أنّه لا يوجد واجب في الشريعة أقل مصلحة من الصلاة ، وحينئذ فلا يكون عدم الاشتغال بأيّ واجب ـ ولو كان أقل وأضعف ملاكا من الصلاة ـ

٥٧

دخيل في تماميّة ملاك الصلاة ، حيث أنه لا يوجد واجب أضعف ملاكا منها.

وعليه فلا يثبت أنّ القدرة المأخوذة في الصلاة قدرة شرعيّة ، لعدم تماميّة الإطلاق المدّعى في القيد المأخوذ في خطاب الصلاة.

قلنا : إنّ هذا احتمال ، إلّا أنّه خلاف ظاهر القيد ، لأنّ ظاهره هو القضية الحقيقية ، لا القضية الخارجية ، ومرجع هذا الاحتمال المذكور إلى القضية الخارجية ، وأنّ المولى استقرأ جميع الواجبات ، وعلم أنّه لا يوجد فيها ما هو أقل وأضعف ملاكا من ملاك الصلاة ، وحينئذ يكون قوله : «إذا لم تشتغل بواجب آخر» عنوانا مشيرا إلى تلك الواجبات الخارجية التي استقرأها ، مع أنّ ظاهر هذا القيد هو القضية الحقيقية ، وأنّ مجرد وجود عنوان الاشتغال بواجب يكون رافعا لموضوع الصلاة من دون التفات إلى مقدار المصلحة والملاك في ذلك الواجب.

وهذا المعنى لا يتلاءم إلّا مع فرض كون هذا العنوان دخيلا في تتميم ملاك الصلاة ، فيثبت أنّ القدرة المأخوذة فيها قدرة شرعية وهو المطلوب.

٣ ـ وهنا بحث ثالث لا بدّ من إلحاقه بالبحثين السابقين ، وهذا البحث هو : انّه بعد أن ثبت أنّ الخطاب المشروط بالقدرة العقلية ، يقدم على الخطاب المشروط بالقدرة الشرعية ، يقع الكلام في أنّ المشروط بالقدرة العقلية هل يقدم على المشروط بالقدرة الشرعية ، حتى ولو كان الخطاب المشروط بالقدرة الشرعية أهمّ ملاكا لو تمّ ملاكه ، أو إنّه لا يقدّم في هذه الصورة؟.

وتحقيق ذلك مربوط بما تقدم ، من أنّ صياغة الخطاب إن كانت على النحو المتعارف الخارجي كقوله : «صلّ إذ لم تكن مشغولا بواجب آخر» ، بحيث يكون مطلق الشغل بالواجب ملغيا لملاك الصلاة ، فحينئذ يقدّم المشروط بالقدرة العقلية ، وهو خطاب «أزل» على خطاب «صلّ» المشروط بالقدرة الشرعية ، والذي لو تمّ ملاكه لكان أهم من ملاك خطاب «أزل».

والوجه في هذا التقديم ، هو : إنّ أهميّة ملاك الصلاة ، إنّما هي أهميّة

٥٨

تعليقيّة ، لا تنجيزيّة ، لأنّ المفروض إنّه أهم لو تمّ ملاكه ، والمفروض إنّ ملاكه لم يتم لارتفاع موضوعه ، كما عرفت.

وأمّا إذا كانت صياغة خطاب «صلّ» بحسب ما يقتضيه ذلك القيد اللبّي ، كأن يقال : «إن لم تشتغل بواجب مساو أو أهم فصلّ» ، فحينئذ ، لا يتم هذا المرجّح ، ولا يطبّق في المقام ، وذلك لأنّ الذي يرفع ملاك الصلاة ، حسب هذا الخطاب ، هو الاشتغال بضد واجب له ملاك لو قيس إلى ملاك الصلاة حين يتم ملاكها ، لكان إمّا مساويا له ، أو أهم ، والمفروض أنّ ملاك الصلاة ، لو تمّ ، لكان هو الأهم ، فلا يكون الاشتغال بذلك الضد رافعا لملاك خطاب «الصلاة وموضوعه» ، حينئذ فلا يتم ترجيح خطاب «أزل» المشروط بالقدرة العقلية ، على خطاب «صلّ» المشروط بالقدرة الشرعية.

وبهذا يتم الكلام في البحثين الاستدراكيّين مع البحث الأخير الملحق بهما.

المرجح الثالث : من مرجحات باب التزاحم وهو الترجيح بالأهمية.

والكلام فيه يقع في ثلاثة موارد :

* المورد الأول هو : ما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين ، معلوم الأهمّية بالنسبة للواجب الآخر ، كما لو علمنا بأنّ الإزالة أهم من الصلاة ، فحينئذ لا بدّ من تقديم الإزالة عليها. ويقرب ذلك بتقريبين :

١ ـ التقريب الأول هو : أن يقال : بأنّ الإزالة بامتثالها تكون رافعة لموضوع دليل وجوب الصلاة ، وحينئذ ، نقدم خطاب الإزالة على خطاب الصلاة ، من باب الورود.

وبيان ذلك هو : إنّك قد عرفت أنّ كل خطاب مقيد لبا بقيد عقلي ، وهو عدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، وحينئذ يكون الاشتغال بالإزالة رافعا لموضوع دليل وجوب الصلاة دون العكس.

٥٩

بمعنى أنّ هذا القيد ينطبق على الاشتغال بالأهم ، بالنسبة إلى المهم فيكون رافعا لموضوع وجوب المهم ، وهو معنى الورود ، ولكنه لا ينطبق على الاشتغال بالمهم ، إذ الاشتغال بالمهم اشتغال بواجب أقل أهميّة بحسب الفرض ، وهو بالتالي لا يرفع موضوع وجوب الإزالة ، لأنّ الاشتغال بالصلاة اشتغال بواجب أقل أهميّة بحسب الفرض ، وعليه : فيكون في المقام ترتب من أحد الجانبين ، ويكون الأمر بالإزالة مطلقا لحال الاشتغال «بالصلاة» الواجب الأقل أهميّة ، فيكون الأمر بالصلاة مقيدا ، والمفروض أنّه لا برهان على سقوط إطلاق دليل الأهم ، وبهذا يتعيّن تقديم وامتثال ما هو مطلق ، وهو الإزالة.

٢ ـ التقريب الثاني هو : أن يقال : إنّه بقطع النظر عن ورود خطاب «أزل» على خطاب «صلّ» ، وإطلاق الخطاب الأهم لحال الاشتغال بالمهم ، فإنّه ، مع ذلك ، يحكم العقل بلزوم تقديم الإزالة ، لكون خطابها معلوم الأهميّة على الصلاة ، فإنّه إذا كانت زيادة أحد الملاكين على الآخر بمرتبة ملزمة ، تعيّن بحكم العقل ، تقديم ما كان ملاكه زائدا على الآخر ، كما في المقام ، لأنّ العقل يحكم بعدم جوار تفويت الزائد ، وعلى هذا ، فنقدم خطاب الإزالة لأنّه معلوم الأهميّة على خطاب الصلاة ، بحكم العقل.

وإن شئت قلت : إنّ تحصيل ملاك المهم ليس عذرا لتفويت الزيادة الموجودة في ملاك الأهم ، وهذا بخلاف العكس فإنّ ترك ملاك الأهم فيه تفويت لملاك مولوي منجّز من دون عذر.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر هنا ، دائر بين تحصيل الملاك الأقل ، وتحصيل الملاك الأكثر ، في مقام الامتثال.

ومن الواضح أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل الملاك الأكثر ، وعدم تفويته بعد أن تنجزّ بالعلم حسب الفرض ، والمقصود بالملاك هنا ، هو كون المصلحة الموجودة في أحد الخطابين ، موردا لاهتمام المولى ، فإنّها هي التي تدخل في العهدة ، وتتنجّز بحكم العقل لا مجرد المصلحة الواقعيّة.

٦٠