بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

خطابات الصلاة التي مفادها : أنّ الصلاة لا تسقط بحال. فإنّ مثل هذه الألسنة ناظرة الى الطوارئ والأحوال.

ومثل هذا الإطلاق في هذه الألسنة لا بأس باستفادة الأهميّة منه مهما زاحمته واجبات أخرى.

غايته أنّه لا يثبت به إلّا جامع الصلاة الأعم من الصلاة الاختيارية ، والجلوسيّة ، والخوف ، وغيرها من الصلوات الاضطرارية ، فإنّها أهم من غيرها ممّا لم يرد فيه مثل ما ورد فيها ، ومعنى كونها أهم ، هو أنّه لا يرفع اليد عنها بحال ما وذلك لاستظهار اهتمام المولى ، بملاكاتها فيستظهر منه كونها أهم قطعا ، ولا أقل من كونها أهم احتمالا ، وبالتالي فهو يرجع إلى استظهار الفقيه.

٥ ـ الطريق الخامس لإثبات الأهمية هو : أن يكون أحد الواجبين المتزاحمين ، ذا نكتة إلزامية مركوزة في الذهن العرفي ، بحيث أنّها تنسبق إلى الذهن من نفس الخطاب ، وتطبعه بطابعها ، ممّا يوجب انعقاد ظهور عرفي إلزامي للخطاب في هذه النكتة ، فتكون نكتة الحكم مدلولا التزاميا للخطاب ، تحدّد ملاكه وتشخّص فيه الأهم من الواجبين ، فيقدّم ذو النكتة على فاقدها كما ورد في خطاب وجوب حفظ النفس المحترمة ، وفي خطاب حرمة الغصب ، فيما إذا وقع بينهما التزاحم ، فإنّه حينئذ لا إشكال في تقديم خطاب حفظ النفس المحترمة باعتبار أنه أهم ملاكا ، ولو أدّى ذلك إلى التصرف ، وإتلاف شيء من مال الغير دون إذنه إذ لا إشكال عرفا وعقلائيا في ان ملاك حفظ مال الغير ، وعدم التصرف فيه من دون إذنه ، هو من شئون احترام الغير وتبعاته ، ولكن رغم هذا ، فإنه لا يعقل أن يكون مزاحما مع حفظ أصل وجود الغير.

والخلاصة هي : إنّ هذا الارتكاز العرفي لدليلي الحكمين المتزاحمين ، يطبع دليل وجوب حفظ النفس المحترمة بظهور عرفي في أهميّة ملاكه ، ومن ثمّ انحفاظ إطلاقه لحال الاشتغال بغصب مال الغير ، ممّا

٨١

يقتضي الورود وترجيح خطاب وجوب حفظ النفس المحترمة على خطاب حرمة الغصب ، والتصرف بمال الغير.

٦ ـ الطريق السادس لإثبات الأهميّة هو : كثرة التصدّي المستتبع لكثرة التنصيص على الحكم من قبل الشارع ، فإنّ مثل هذا يدل إمّا على أهميّة ملاك الحكم لاهتمام الشارع بملاكه ، إلّا إذا كان هناك نكتة أخرى تصلح أن تكون منشأ لهذا الاهتمام وكثرة النصوص حول هذا الحكم.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ منشأ كثرة النصوص على حكم ، لا تخلو من حالات ، فهي إمّا أن يكون منشؤها أهميّة ذلك الحكم ، وإمّا لكونه محلا للإبتلاء بدرجة كبيرة ، وإمّا لكونه بيانا لا محذور فيه ، لكونه متفقا مع رأي العامة ، وإمّا لكونه ممّا يغفل عنه عادة ، وإمّا لكونه موردا لسؤال الرواة غالبا.

وحينئذ ، فإن قطعنا بعدم كون واحد من هذه الاحتمالات منشأ لتراكم النص على الحكم سوى الأهميّة ، حينئذ ، تكون الأهميّة ذاتها ، برهانا إنّيا على كونها هي المنشأ ، وثبت الترجيح بها.

وأمّا إذا وجد احتمال آخر منشأ لكثرة التنصيص على الحكم في مقابل احتمال الأهميّة ، فإنّ هذا الاحتمال الثاني يقوى بمقدار ما يتعدد احتمال المناشئ الأخرى ، وفي قبال ذلك يضعف احتمال كون الأهميّة أنّها هي المنشأ ، وهكذا كلما تكثرت البدائل المحتملة للأهميّة ، كان احتمال نشوء كثرة التنصيص على الحكم من أحدها أكبر.

وكذلك يقوى الاحتمال الثاني بمقدار ما نحرز له من صغريات ، عند الشك في كونه سببا لكثرة التنصيص على الحكم ، كما لو أحرز كون الحكم أكثر وقوعا ومحلا للإبتلاء بسبب كثرة النصوص عليه ، فإنّ هذا يوجب أقوائية احتمال كون المنشأ هو وقوع هذا الحكم في محل الابتلاء ، أكثر ممّا يوجبه كونه أهم فقط مما ليس واقعا في محل الابتلاء.

٨٢

وبذلك يتضح أنّه كلّما قوي احتمال نشوء كثرة النصوص على الحكم من الحالات الأخرى المحتمل سببيتها بدلا عن سببية الأهميّة ، ضعف احتمال كون الأهميّة سببا لكثرة النصوص على الحكم ، وهكذا نجري هذا الحساب فيما بين هذه الحالات طردا وعكسا ، فإذا لم نحرز شيئا من خلال قانون الاحتمال فيما بين هذه الحالات ، تعيّن حينئذ احتمال كون الأهميّة هي المنشأ لكثرة النصوص دون سواها.

ونكتة ذلك هي : إنّ مجموع هذه الحالات والاحتمالات أطراف لعلم إجمالي لا يخلو الواقع من واحدة منها ، وإن كان رقم اليقين يتوزع عليها بالتساوي حيث يزوّدها بقيم احتمالية متساوية في الابتداء ، ولكن واحدة من هذه القيم الاحتماليّة تنمو وتكبر وتشتد بسبب تراكم المناسبات والقرائن ، فتصب في صالح منشئيّة الأهميّة لكثرة النصوص ، بينما تبقى سائر القيم الاحتماليّة الأخرى ، واقفة على حجمها الأول ، وحياديّة بالنسبة إلى احتمال منشئيّة هذا أو ذاك وبهذا تتميّز هذه القيم الاحتمالية بعضها عن الآخر.

نعم إذا فرض احتمال قويّ لوجود مانع عن كثرة النصوص حول الحكم الآخر ، حينئذ لا تحدي كثرة النصوص حول الحكم الأول في تقوية احتمال كون الأهمية ، الأهميّة هي المنشأ لكثرة التنصيص عليه.

وأمّا إذا لم يحرز وجود مانع من هذا القبيل فإنّ حساب الاحتمالات يجري أيضا بالبيان السابق سواء شك في أصل وجود المانع عن كثرة التنصيص ، أو أنّ المانع موجود ، ولكن يحتمل مانعيّته ، أو كان يحتمل وجود المانع عن ذلك.

وهكذا كلما ضعف احتمال عدم المانع عن كثرة التنصيص على الحكم الآخر ، قوي احتمال كون الأهميّة هي منشأ كثرة التنصيص حول الحكم الأول ، فإذا انعدم احتمال المانع عن الحكم الثاني ، كان احتمال منشأ الأهميّة في الحكم الأول أوضح.

وهكذا كلّما ازدادت حياديّة الاحتمالات الأخرى تجاه كون الأهميّة

٨٣

هي المنشأ ، اتضح أكثر ، وقوي ، احتمال كون الأهميّة هي المنشأ في كثرة التنصيص ، لا سيّما مع إضافة احتمال وجود المانع عن إبراز الحكم الآخر.

والخلاصة هي : إنّ المقياس في ذلك هو ازدياد قيمة الاحتمال ، زيادة عرفيّة في طرف ، حيث لا تكون قيمة الاحتمال في الطرف الآخر مثلها ، فضلا عن ضعفها ، أو انعدامها.

وكلّ حساب الاحتمال هذا فيما إذا واجهنا نصوصا صادرة عن المعصوم «عليه‌السلام» واقعا ، فوجدنا أنها في أحد الحكمين أكثر من الآخر.

وأمّا إذا كنّا نواجه الروايات التي تنقل إلينا تلك النصوص ، فوجدنا أنّ ما ينقل أحد الحكمين منها ، أكثر ممّا ينقل الحكم الآخر ، بمعنى أنّ كثرة النصوص في مرحلة الوصول ، حينئذ لا بدّ من إجراء حساب الاحتمالات ، مرة أخرى ، في النقل والرواية ، لنفي احتمال كون قلّة الرواية في أحد الحكمين ، ناشئة عن خصوصيّة فيها ، من قبيل توافر الدواعي لنقل الآخر دون الأول ، أو وجود موانع تقتضي عدم نقل الحكم الثاني ، وذلك بنفس البيان المزبور أيضا.

المرجح الرابع والأخير من مرجحات باب التزاحم هو : ترجيح الأسبق زمانا.

فقد ذكروا بأنّ الواجبين المتزاحمين إذا كانا مترتّبين زمانا ، وكان المكلّف لا يتمكن من الإتيان بالثاني على تقدير الإتيان بالأول ، فيقدّم الأسبق زمانا على نحو لا يكون معذورا في تركه ، فيرفع اليد عن المتأخر حفاظا على المتقدم ، باعتبار فعليّة القدرة عليه في وقته وظرفه.

وتوضيحه هو : إنّ الواجبين المتزاحمين ، تارة يكونا مشروطين بالقدرة العقليّة ، وتارة أخرى يكونا مشروطين بالقدرة الشرعيّة ، فهنا افتراضان :

٨٤

١ ـ الافتراض الأول هو : أن تكون القدرة في كل من المتزاحمين غير دخيلة في ملاك التكليف ، وإنّما هي قيد عقلي في الخطاب.

وفي مثل هذا ، لا موجب للترجيح بالأسبقيّة الزمانيّة ، لأنّ إهمال المتأخر زمانا ـ المفروض أنّ ملاكه محفوظ ، حتى لو اشتغل بالسابق وعجز عن اللاحق ـ يؤدّي إلى دوران الأمر بين خسارتين ، إذ إنّه إذا استوفى الأسبق زمانا ، فقد خسر المتأخر رغم كون ملاكه فعليا ، بحسب برهان القيد اللبّي الواحد لكلا الخطابين ، حيث يقيّد كلا منهما لبّا بعدم الاشتغال بضد واجب فعلي الملاك ، سواء أكان هذا الضدّ مساويا أو أهم ، مقارنا أو متقدما زمانا ، فكما يكون الاشتغال بالأسبق زمانا رافعا لفعليّة الخطاب المتأخر ، كذلك ترك المتقدم والاشتغال بالمتأخر في وقته ، يكون رافعا لفعليّة الخطاب المتقدم على حد سواء ، وهو يعني خسارة المتقدم زمانا.

وهذا ينتج عدم ترجيح أحدهما على الآخر ، وعليه ، لا بدّ من إعمال المرجحات السابقة ، فإن فرض أنّ أحدهما أهم قدّم ، وإلّا يحكم بالتخيير ، ولا موجب لإعمال الأسبقيّة في الزمان ، إذ من الواضح أنّ التوارد في مثل هذا الفرض ، يكون من الجانبين إن لم يكن أهم في البين ، ونسبة القيد اللّبّي إلى كل منهما على حد سواء ، كما عرفت ، ومعه لا معنى للترجيح بالأسبقيّة الزمانية في هذا الفرض.

٢ ـ الافتراض الثاني هو : أن تكون القدرة المأخوذة في الواجبين شرعية. بمعنى دخلها في فعلية الملاك حينئذ قد يتصور الترجيح بالأسبقية في صورتين :

الصورة الأولى هي : أن يقال : إنّ القدرة الشرعية فعليّة في حق الخطاب الأسبق ، دون المتأخر ، وحينئذ يكون الإتيان بالأسبق رافعا للقدرة على الواجب المتأخر في ظرفه.

٨٥

وهذا بخلاف الإتيان بالمتأخر ، فإنّه لا يرفع القدرة على الإتيان بالأسبق في الزمان المتقدم.

وهذا التقريب غير تام ، لأنّ الواجب المتأخر لا يخلو اشتراط ملاكه بالقدرة الشرعية من افتراضين :

فإمّا أن يكون ملاكه مشروطا بالقدرة الشرعية على الواجب في ظرف امتثاله بالخصوص ، ومعنى هذا أنّ ما ذكر من ارتفاع فعليّة الخطاب المتأخر بسبب الاشتغال بالمتقدم ، وإن كان هذا أمرا ثابتا ، ولكن ليس هذا من جهة ترجيح أحد المتزاحمين على الآخر بما هما واجبان ، وإنما كان هذا باعتبار أخذ قيد خاص في أحد الخطابين بنحو ترتفع فعليّة ملاك الآخر بالاشتغال بفعل متقدم ولو لم يكن واجبا. وهذا خارج عن محل الكلام.

وإمّا أن يكون معنى اشتراط ملاكه بالقدرة الشرعية ، بمعنى أنّه مشروط بمطلق القدرة بحيث يكون هذا الملاك محفوظا حتى مع الاشتغال بالضد ، كما هو الحال في موارد التزاحم ، إذا كان هكذا فمعناه : إنّ هذه القدرة كما تكون فعليّة في جانب الواجب الأسبق زمانا ، فهي أيضا فعليّة في جانب المتأخر زمانا ، إذ يمكن للمكلّف أن يحفظ قدرته للواجب المتأخر ، وذلك بترك الواجب المتقدم ، كما عرفت سابقا.

١ ـ الصورة الثانية هي : فيما لو دل الدليل على أنّ القدرة الشرعية دخيلة في الملاك بمعنى عدم الاشتغال بضد واجب مقارن أو متقدم في الملاك دون الواجب المتأخر.

وفي هذه الصورة المفروضة يكون الاشتغال بالواجب الأسبق زمانا ، رافعا لإطلاق الخطاب المتأخر دون العكس ، بمقتضى هذا التقييد. فيصح حينئذ تقديم الأسبق زمانا على المتأخر ، لأنّ المكلّف إن استوفى الأسبق سوف يعجز عن المتأخر في ظرفه ، دون العكس.

وهذا معقول ، لأنّ دخالة الضد الواجب في الملاك بيد المولى ، وهذا

٨٦

بخلاف ما تقدم إذ قلنا هناك : إنه فيهما على حد سواء.

ولكن هذا مجرد افتراض في الدليل الشرعي ، وإلّا فقد يمكن العكس ، وذلك لأنه يمكن ثبوتا أن يفترض تقييد الخطاب بعدم الاشتغال بواجب متأخر.

ولكن ظاهر إطلاق القيد يتناسب مع الافتراض المذكور في جملة من الموارد.

وكذلك يمكن إضافة صورة أخرى لتقديم الأسبق زمانا ، وهي : فيما إذا كانت القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي الذي يحصل بنفس خطاب الأمر بالخلاف ، فإنّه حينئذ سوف يكون الواجب المتقدم فعلي الملاك ، وذلك لعدم المنافي المولوي في زمانه ، كما لو كان الواجب الآخر متأخرا وجوبا وامتثالا كما في الواجب المعلق إذ يكون امتثال المتقدم حينئذ رافعا لموضوع الخطاب المتأخر.

ولكن هذا أيضا غير تام ، لأنّه مجرد افتراض أولا ، ولأنّ الترجيح لم يكن بسبب الأسبقية الزمانية ، وإنما كان باعتبار التقييد الزائد في الخطاب ، وحينئذ يتّبع في ذلك لسان الدليل ، فإن كان مقيّدا بعدم الأمر الفعلي بالخلاف ، المقارن أو المتقدم دون المتأخر ، ثمّ الترجيح ، وأمّا إذا كان مقيدا بعدم تكليف مولوي آخر منجّز على المكلف من هذه الناحية ، ولو لم يكن خطابه فعليا ، وكنا نقول بوجوب حفظ المقدمات المفوتة ، إذن فالمنافي المولوي يكون موجودا لا محالة ، ويكون التوارد من الطرفين.

وهكذا يتبرهن أنّ هذا الترجيح بالأسبقية الزمانية لا يمكن تخريجه على أساس قوانين التزاحم ، وإنّما لا بد فيه من دليل خاص يثبت به تقييد أحد المتزاحمين بعدم وجود مزاحم آخر أسبق منه زمانا ، فيتقدم الأسبق حينئذ بالورود.

نعم يمكن دعوى ترجيح الأسبق زمانا ، فيما لو كان يحتمل فوات الواجب المتأخر في ظرفه ، بسبب الموت أو العجز عنه ، فإنّه حينئذ يمكن أن

٨٧

يقال بلزوم تقديم الأسبق زمانا ، وذلك تمسكا بإطلاق خطابه لإثبات فعليّته وتنجزه ، لأنّ المقيّد اللّبّي الذي تقدم معنا ، لا يقتضي التقييد بأكثر من الاشتغال بواجب مساو أو أهم عرضيا كان أو طوليا ، وحينئذ هذا المقيّد لا ترفع اليد عنه إلّا بمقدار انحفاظ القدرة عليه في ظرفه ، وذلك كما يقال في الترجيح بالأهميّة الاحتمالية ، إذ لا يكون الإطلاق في الخطاب الأسبق ، لغوا حينئذ ، وانّما هو من أجل الاحتياط والتحفظ على أحد الملاكين في كل حال.

هذا تمام الكلام في المرجحات في باب التزاحم ، وقد اتّضح بهذا ، رجوعها كلها الى باب الورود.

وعليه ، فإن تمّ شيء من هذه المرجحات في مورده ، تعيّن تقديم ذي المرجّح بقانون الورود على فاقد المرجّح.

وإلّا كان المتعيّن ـ بناء على إمكان الترتب ـ هو العمل بالتخيير ، لتساوي الواجبين المتزاحمين في مقام الامتثال.

ـ الجهة الثانية هي : إنّه ما هو التكليف؟

وبعبارة أخرى ، يقال : إنّه بعد أن عرفنا مرجّحات باب التزاحم في الجهة الأولى نتكلم في الجهة الثانية ـ على فرض انعدام المرجحات ـ على حكم التزاحم ، أو التكليف في هذه الحالة.

أو فقل : إنّنا نبحث في هذه الجهة ، عن حكم التزاحم ، أو التكليف ، عند انعدام المرجح.

وممّا لا إشكال فيه عندهم ، عدم التساقط حين فقد المرجحات ، كما في باب التعارض ، باعتبار فعليّة كلا الملاكين ، إذ ما دام الملاكان موجودين في الجملة ، فلا داعي للتساقط. وإنما وقع الكلام بعد الفراغ ، عن عدم إمكان التساقط والحكم بالتخيير. وقع الكلام في أنّ هذا التخيير ، هل هو عقليّ أو شرعيّ؟ ويقصدون بالتخيير الشرعي : وجود خطاب واحد متعلق

٨٨

بالجامع بين الصلاة والإزالة بدلا من خطابين مشروطين ، ويقصدون بالتخيير العقلي وجود خطابين شرعيّين تعيينيّين ، كل منهما مشروط بعدم امتثال الآخر وإنما يتخيّر بينهما في مقام الامتثال بحكم العقل.

وقد التزم المحقق النائيني «قده» (١) بأنّ التكليفين المشروطين بالقدرة العقلية يكون التخيير فيهما شرعيا وأن التكليفين المشروطين بالقدرة الشرعيّة يكون التخيير فيهما عقليا. بتقريب أنه وإن سقط إطلاق خطاب المشروط بالقدرة العقلية لحال الاشتغال بالآخر ، إلّا أنّه لا وجه لسقوط أصل الخطاب ، وحينئذ يثبت خطابان مشروطان يتخيّر بينهما عقلا.

وأمّا المشروط بالقدرة الشرعية ، فالثابت فيه هو التخيير الشرعي الكاشف عنه العقل ، إذ إنّ كلّا من الواجبين إذا كان واجدا لملاك إلزامي في ظرف القدرة عليه ـ كما هو المفروض ـ ففي فرض التزاحم يكون أحدهما لا بعينه ذا ملاك إلزامي لا محالة ، إذن فلا بدّ للمولى من إيجابه ، ضرورة أنّه لا يجوز للحكيم أن يرفع يده عن تكليفه بالواحد لا بعينه مع فرض وجدانه للملاك الإلزامي بمجرد عجز المكلف عن امتثال كلا الفعلين لا بعينه.

وتحقيق الكلام هو أن يقال : إنّ الواجبين المتساويين المتزاحمين ، إذا كانت القدرة فيهما عقليّة ، فمقتضى القاعدة هو التخيير.

ومعنى ذلك : الالتزام بوجود خطابين شرعيين ، ولا موجب لطرح الخطابين ، والالتزام بخطاب واحد ، وقد بيّن في أول باب التزاحم ، بأنّ كل خطاب مشروط بالقدرة لبّا ، وحينئذ إذا افترضنا انّ كلا من الواجبين متساو مع الآخر دون مرجح ، إذن فعدم كل واحد مأخوذ في موضوع الآخر ، وبامتثاله يكون رافعا لموضوع الآخر ولا موجب لطرح الخطابين ، والالتزام بخطاب واحد ، إذ يوجد دليلان ، وكل منهما متكفل بخطاب ، فنأخذ بالخطابين معا ، دون أن نرفع اليد عن أحدهما.

__________________

(١) أجود التقريرات الخوئي ج ١ ص ٢٧٧ ـ ٢٧٩.

٨٩

نعم لو قلنا بامتناع الترتب ، لما أمكننا الالتزام بالخطابين ، لأنّ الالتزام بهما نتيجة الترتّب ، بل لوقع التعارض حينئذ ، وخرج باب التزاحم عن كونه مستقلا ، ودخل في باب التعارض ، وحيث أنّنا نقول بإمكان الترتّب ، فإنّنا نلتزم بوجود خطابين نتخيّر أحدهما ترتبيا وهو التخيير العقلي هذا في المشروطين بالقدرة العقلية.

وإن شئت قلت : إنّه تارة يكون البحث في عالم الإثبات ، وما يستفاد من دليلي الخطابين المتزاحمين ، وأخرى يكون البحث في عالم الثبوت ، وما يترتب على كون التخيير عقليا أو شرعيا.

فالصحيح في عالم الإثبات هو : إنّ التخيير عقليّ في كل حال ، سواء أكان الخطاب مشروطا بالقدرة الشرعية أي : كان الاشتغال بالضد الواجب رافعا للملاك والخطاب معا ، أم كان مشروطا بالقدرة العقلية ، وذلك لأنّ ظاهر دليل كل من المتزاحمين هو الخطاب التعييني به ، غاية الأمر أنّه قد فرض تقييده بالمقيد اللّبي عقلا ، أو بأخذ القدرة فيه شرعا.

ومن الواضح أنّ كل واحد منهما في فرض عدم الاشتغال بالآخر يكون مقدورا ، فيكون إطلاقه لفرض عدم الاشتغال بالآخر ثابتا ومقتضيا ، لكونه تعيينيا ، ملاكا وخطابا. إذن فلا موجب لرفع اليد عنه ، وافتراض وجود ملاك واحد بالجامع بينهما ، كما ذكر المحقق الميرزا «قده».

وعليه ، فلو أنّ المكلف ترك امتثال كلا الخطابين معا ، فإنّه يكون بذلك مخالفا لتكليفين فعليين في حقه ، ومفوتا لملاكين ثابتين للمولى. وأمّا إذا امتثل أحدهما ، فيكون ممتثلا لتكليف ، ورافعا لموضوع تكليف آخر كما عرفت.

نعم بناء على امتناع الترتّب يقع التعارض بين الخطابين الظاهرين في التعيينية ، بلحاظ مورد التزاحم ، وخرج باب التزاحم عن كونه مستقلا ، ودخل في باب التعارض. فلو أنّه فرض العلم بثبوت التكليف إجمالا في مورد التزاحم ، وعدم سقوطه رأسا ، اندرج المقام في الشبهة الحكميّة التي

٩٠

يحتمل فيها وجود تكليف بالجامع ، أو بهذا تعيينا ، أو بذاك تعيينا ، وحينئذ يحكم فيها بما تقتضيه الأصول العمليّة.

وأمّا إذا اشترط كلا الواجبين المتزاحمين بالقدرة الشرعية. فهما على قسمين ، لأنّنا قلنا :

إنّ القدرة الشرعية تارة تكون دخيلة في ملاك كل منهما ، بمعنى توقف الملاك على عدم الاشتغال بضد واجب مساو ، أو أهم ، فيكون عدم الاشتغال مأخوذا في موضوع الخطاب.

وأخرى تكون بمعنى عدم وجود مانع من قبل المولى ، أو أمر بالخلاف.

فهنا تارة نفرض أنّ الدليل دلّ على أنّ القدرة الشرعية المأخوذة في الواجبين المتزاحمين ، دخيلة في ملاكهما بمعنى عدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، وأخرى نفرض أنّ الدليل دلّ على أنّ القدرة الشرعية المأخوذة فيهما هي بمعنى عدم وجود مانع ، أو أمر بالخلاف.

أمّا القسم الأول : فمقتضى القاعدة هو التخيير العقلي ، وإن ذهب الميرزا «قده» (١) إلى التخيير الشرعي ، بتقريب أنّ القدرة هنا دخيلة في الملاك ، وحيث لا قدرة على الجمع ، إذن فلا ملاك في المجموع بما هو مجموع ، وحيث أنّ القدرة قائمة بأحدهما ، لا بعينه ، إذن فالملاك كذلك ، والخطاب كذلك ، وهو التخيير الشرعي. إلّا أنّ هذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه ، ذلك أنّه يوجد ملاكان مشروطان ، كل منهما في ظرف تحقق شرطه تام ، فخطاب الصلاة في ظرف عدم الإزالة ، يكون ملاكه تاما ، وهكذا خطاب الإزالة في ظرف عدم الصلاة ملاكه تام. إذن فكل منهما واجب على تقدير ، لا على كل تقدير. إذن فالتخيير بينهما عقلي.

__________________

(١) المصدر السابق.

٩١

وأمّا القسم الثاني وهو : ما إذا كان الواجبان مشروطين بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، أي : بمعنى عدم وجود مانع من قبل المولى ، أو عدم وجود أمر بالخلاف ، فهنا إن فرض أنّ الدليل الذي شرط كل واحد بعدم المانع ، أراد عدم المانع لو لا هذا الخطاب ، وبالنسبة له ، حينئذ يكون كل من الخطابين غير تام الموضوع بالنسبة الى الآخر ، فلا موضوع هذا الخطاب تام ، ولا موضوع ذاك الخطاب تام ، إلّا إذا قام إجماع من الخارج على تماميّة أحدهما ، فنحكم بالتخيير ، وإلّا فلا.

وأما إذا فرض أنّ مفاد الدليل هو عدم المانع بالفعل ، ففي المقام يكون كل من الخطابين فعليّته دوريّة ، لأنّ فعليّة كل منهما فرع عدم فعليّة الآخر ، وعدم فعليّة الآخر فرع فعليّة الآخر ، وبهذا ينتج توقف الشيء على نفسه إذن فلا يعقل مثل هذين الجعلين ، فيدخلان في باب التعارض.

وإن شئت قلت : إنّ الصحيح في عالم الثبوت ، فيما إذا فرضنا أنّ القدرة عقلية ، بمعنى أنّها غير دخيلة في الملاك ، أو إنّ الدخيل في الملاك هو القدرة الشرعية بالمعنى الأول.

وعليه ، يكون ملاك التكليفين معا فعليا ، إلّا أنّ المكلّف عاجز عن استيفائهما.

وحينئذ كما يمكن للمولى أن يجعل خطابين تعيينيّين لكل من الواجبين مشروطا بترك الآخر ـ كما في التخيير العقلى ـ فإنّه كذلك يمكنه أن يجعل خطابا واحدا بالجامع بينهما ـ كما في التخيير الشرعي ، ولا يكون الفرق بينهما إلّا مجرد كيفيّة صياغة التشريع.

وما قيل من تعدد العقاب على التارك لهما معا ، فيما إذا كان التخيير عقليا ، ووحدة العقاب فيما إذا كان التخيير شرعيا ، غير تام على هذا التقدير ، لأنّ كون التخيير عقليا ، وإن كان يستلزم فعليّة الخطابين معا على التارك لهما ، إلّا أنّه لا يستلزم تعدد العقاب عليه لما ذكرناه في أبحاث

٩٢

الترتّب من تشخيص ما هو الميزان في تحقق العصيان ، وصحة العقوبة.

حيث كانت النتيجة أنّه في موارد كون المأخوذ شرطا هو القدرة العقليّة سواء أكان هناك خطاب واحد بالجامع ، أو خطابين مشروطين ، إذ إنّ أحد الملاكين في المقام فواته قهري على كل حال ، وليس بتفويت من المكلف.

وأما إذا كانت القدرة المأخوذة شرطا في الواجبين المتساويين المتزاحمين ، قدرة شرعية ، بمعنى أنّها دخيلة في الملاك ، فإن كانت بمعنى وجود الملاك بمقدار وجود القدرة ، بحيث أنّه كما لا يوجد إلّا قدرة واحدة على أحدهما ، فكذلك لا يوجد ملاك إلّا في أحدهما ، فأيضا لا يكون إلّا عقوبة واحدة سواء جعل الخطاب بنحو التخيير العقلي ، أو الشرعي.

وإن كانت القدرة الشرعيّة بمعنى توقف الملاك على عدم الاشتغال بضد واجب آخر مساء ، أو أهم ، فهناك ملاكان فعليّان على تقدير تركهما معا ، وهذا يعني أنّ المكلف كان يمكنه أن لا يفوّت على المولى شيئا من ملاكيه ، فيما إذا أتى بأحدهما.

وبهذا يتعدّد العقاب لا محالة ، ويكون التخيير عقليا.

والخلاصة هي : إن المقياس في تعدّد العقوبة ووحدتها ، ليس مربوطا بكون التخيير عقليا ، أو شرعيا ، وإنّما هو مربوط بدخل عدم الاشتغال بضد مزاحم في الملاك ، هذا فيما إذا لم يكن الواجبين المتزاحمين مشروطين بالقدرة الشرعية ، بمعنى عدم الأمر بالخلاف.

وأمّا فيما إذا اشترطا بالقدرة الشرعية ؛ بمعنى عدم الأمر بالخلاف ، فإن أريد به عدم المنافي اللّولائي ، ففي فرض تساوي الخطابين ، لا يمكن التمسك بإطلاق شيء من الدليلين ، وذلك لعدم تحقق الشرط المذكور ، إذن فلا يثبت شيء من الحكمين ، ما لم يضم العلم من الخارج بانحفاظ حكم في الجملة ، كما لو كان هناك إجماع على ذلك ، وحينئذ تكون شبهة حكمية يدور الأمر فيها بين التخيير والتعيين.

٩٣

وإن أريد بالشرط «عدم المنافي» الفعلي ، ففي هذه الحالة يحصل التعارض بين الدليلين ، إذ جعل وجوبين من هذا القبيل أمر غير معقول لاستلزامه الدور كما عرفت ، إذ تكون فعليّة كل من الخطابين فرع عدم فعليّة الآخر ، ويكون كل منهما بجعله رافعا لموضوع الآخر ، فيدخل في باب التعارض. هذا تمام الكلام في الجهة الثانية.

٩٤

تنبيهات باب التزاحم

بعد أن تمّ الكلام في التزاحم في مرحلتين ، يقع الكلام في عدة تنبيهات :

التنبيه الأول :

هو إنّه في مورد التزاحم ، إذا فرض وجود مرجح ، وجب تقديم أحد المتزاحمين على الآخر بموجب قوانين الترجيح التى تقدمت ، حينئذ بعد الفراغ عن إمكان الترتّب في نفسه ، نتكلّم في أنّه متى يمكن أن نلتزم بالترتّب ، ومتى لا يمكن ، يعني متى يمكن أن نلتزم في الطرف الآخر المرجوح بنكتة الترتّب ومتى لا يمكن؟.

وبعد أن عرفنا أنّ الترتب في نفسه معقول ، نبحث هنا في أنّه متى ما فرضنا ترجيح أحد الخطابين على الآخر بمرجح من مرجحات التزاحم فهل يمكن أن نلتزم بالترتب أحيانا ، أو إنّه أحيانا لا يمكن الالتزام بالترتّب لنكتة خاصة؟.

وقبل أن ندخل في التفصيلات لا بدّ من ذكر ضابط كلّي لهذا ، وبعده نستعرض كلام الميرزا «قده» : والضابط هو إنّه متى ما وقع التزاحم ، وثبت بمرجح «ما» ترجيح أحد الخطابين على الآخر ، وتقديمه ، فإنّ الالتزام بالترتّب في الطرف الآخر ، متعين دائما ، ولكن بشرطين :

الشرط الأول هو : أن لا تكون القدرة المأخوذة في جانب الخطاب المرجوح ، قدرة شرعيّة بأحد معنيي القدرة الشرعية.

٩٥

وتوضيحه ، هو : إنّ القدرة الشرعيّة لها معنيان :

المعنى الأول هو : أن يكون الملاك موقوفا على عدم الاشتغال بالضد الواجب ، وإلّا فمع الاشتغال به لا ملاك ، وإنما يتم الملاك مع عدم الاشتغال ، كما إذا قال المولى : «إذا لم يكن لديك شغل فتوضأ».

٢ ـ المعنى الثاني هو : أن يكون الملاك منوطا بعدم وجود أمر بالخلاف ، بحيث أنّ مجرّد وجود أمر يرفع الخلاف ، سواء اشتغل به المكلّف ، أو لم يشتغل ، وحينئذ هنا إذا فرض وقوع التزاحم ، وفرض تقديم أحد الخطابين على الآخر ، حينئذ فالمرجوح ، إن كان مأخوذا فيه القدرة الشرعيّة بالمعنى الثاني ، فمن الواضح أنّ هذا الخطاب لا يكون فعليا أصلا ، سواء امتثلنا أولا ، إذ إنّ الخطاب الراجح بنفس وجوده ، يرفع ملاك الخطاب المرجوح ، ومع عدم الملاك لا معنى للالتزام بالخطاب الترتّبي حينئذ.

وهذا بخلاف ما إذا لم يكن الخطاب المرجوح مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، أو لأنّه غير مشروط بالقدرة الشرعية أصلا ، أو إنّه مشروط بالقدرة الشرعية ، ولكن بالمعنى الأول ، فإنّه حينئذ في فرض عدم امتثال وإعمال الترجيح ، يكون المرجوح تاما لأنّ المقتضي للترجيح موجود والمانع مفقود. أمّا تمامية المقتضي فلتماميّة الملاك ، وأمّا عدم المانع فلأنّ الأمر بالأهم ليس بمانع مع القول بالترتّب. وبهذا تبيّن أنّ أخذ القدرة الشرعية بالمعنى الثاني في ملاك الخطاب المرجوح ، يوجب تعذر الترتب فيه ، إذ لا ملاك فيه حتى مع العصيان.

إذن فالشرط الأول لجريان الترتّب في جانب المرجوح ، هو أن لا يكون الشرط فيه هو القدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، وأمّا إذا كانت القدرة الشرعيّة فيه بالمعنى الأول ، فلا بأس بجريان الترتب بلحاظه.

٢ ـ الشرط الثاني هو : أن يكون فرض عصيان الراجح ملائما مع فرض

٩٦

امتثال المرجوح وعصيانه ، وأمّا إذا كان فرض عصيان الراجح ملازما دائما مع امتثال المرجوح ، فلا يعقل الترتّب حينئذ.

وتوضيحه هو : إنّه إذا فرضنا التزاحم بين ضدّين لهما ثالث : فهنا إذا فرضنا أنّ الإزالة أهم من الصلاة ، وقدمنا خطاب «أزل» على خطاب «صلّ» ، فيقال : إنّ فرض عصيان خطاب «أزل» يناسب مع «صلّ» ومع «لا تصلّ» ، إذ فرض عصيان خطاب «أزل» لا يستلزم وجود الصلاة ، ولا لا وجودها.

وبعبارة أخرى يقال : إنّ فرض عصيان «أزل» ، يناسب مع الصلاة وعدمها ، إذ يمكن للمولى أن يعمل مولويته ، فيقول : «لو عصيت «أزل» ، فصلّ على الأقل» ، ولكن إذا فرض أنّ الضدّين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون ، حينئذ إذا قدمنا أحد الخطابين على الآخر ، فمن الواضح أنّ فرض عدم الإتيان بالراجح ، ملازم لفرض وقوع الضدّ الآخر فلا ترتّب.

وبعبارة أخرى يقال : إنّ الشرط الثاني للالتزام بالترتّب في الطرف الآخر ، هو أن لا يكون ترك أحد الخطابين مساوقا مع تحقق الخطاب الآخر كما في الضدّين اللّذين لا ثالث لهما ، وإلّا كان الأمر به ، ولو مشروطا بعدم الآخر ، مستحيلا ، لأنّه يكون من باب طلب الحاصل.

التنبيه الثاني هو :

إنّه بعد هذا البيان العام في ضابط الترتب وإمكانه ، نستعرض الأقسام التي ذكرها المحقق النائيني «قده» (١) ، لنرى في أيّ قسم يجري الترتّب لأجل انوجاد الشرطين المذكورين ، وفي أيّ قسم لا يجري لعدم انوجاد الشرطين المذكورين ، وإن كان المحقق النائيني «قده» (٢) ادّعى استحالة الترتّب في هذه الأقسام الخمسة ، وبالتالي خروجها عن باب التزاحم :

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٣٠٩ ـ ٣١٠.

(٢) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ـ ص ١٩٧ ـ ١٩٨ ـ ١٩٩ ـ ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٩٧

١ ـ القسم الأول هو : أن يكون التزاحم بين الخطابين ناشئا من عجز المكلّف عن الجمع بين الواجبين المتزاحمين.

أو فقل : إنّ التزاحم ناشئ من تضاد المتعلقين لاجتماعهما في زمان واحد كالغريقين.

٢ ـ القسم الثاني هو : أن يقع التزاحم لأجل التضاد بين المتعلقين ، كما لو قال : «إذا أمطرت السماء فقم ، وإذا حدث الخسوف فاجلس» ، فحدث المطر والخسوف صدفة ، فحينئذ بمقتضى الخطاب الأول يجب القيام ، وبمقتضى الخطاب الثاني يجب الجلوس.

والفرق بين القسم الأول والثاني اصطلاحي ، إذ في القسم الأول ليس الواجبان من حيث هما ضدان ، وأما في الثاني فالجلوس والقيام ضدان ، إذن ففي الثاني يكون التضاد بين الواجبين.

القسم الثالث هو : أن ينشأ التزاحم من توقف واجب على فعل المقدمة المحرّمة وكان الواجب هو الأهم ملاكا فيقع التزاحم بين وجوب ذي المقدمة ، وحرمة نفس المقدمة ، وفي مثله لا يعقل جعل خطاب تحريمي على المقدمة المحرمة بنحو الترتب.

٤ ـ القسم الرابع هو : أن يقع التزاحم باعتبار تلازم اتفاقي بين الواجب والحرام عرضيا ، لا بمعنى توقف أحدهما على الآخر من قبيل استقبال القبلة ، واستدبار الجدي ، وقد اتفق صدفة ملازمة استقبال أحدهما لاستدبار الآخر.

٥ ـ القسم الخامس هو : مورد اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة فيما لو فرض أنّ الإنسان واجه فعلا له عنوانان ، وكان بعنوان كونه صلاة واجبا وبعنوان كونه غصبا يكون حراما من قبيل الصلاة في الأرض المغصوبة ، وحينئذ ، إن قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، فقد دخل في باب التعارض وخرج عن التزاحم ، ولكن إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنّهي ، وفرضنا عدم المندوحة ، فهنا يقع التزاحم بينهما ، وقد نشأ من مادة الاجتماع

٩٨

بناء على جواز الاجتماع وعدم المندوحة وحينئذ يبحث ، بأنّه مع كون النهي أهم ملاكا ، لم يعقل إطلاق الأمر في مورد النهي ، لأنّه يلزم من ذلك التكليف بغير المقدور.

ولكن هل يمكن بقاؤه بنحو الترتب كما لو قال : «إذا غصبت فصلّ» أم إنّه لا يمكن ذلك؟.

ولنا حول هذا التقسيم ملاحظتان عامتان :

١ ـ الملاحظة الأولى هي : إنّ الميرزا «قده» ، قيّد التزاحم في هذا التقسيم بأن يكون التضاد بين متعلقيهما اتفاقيا ، كما ذكر ذلك في القسم الأول (١) والثاني والثالث ، حيث قال في الأول : العجز عن الواجبين الحاصل اتفاقا.

وقال في الثاني : فيما إذا وقع التزاحم اتفاقا. وقال في الثالث : إذا وقع التلازم بين المتضادّين اتفاقا.

وهذا يعني إخراج ما لو وقع التزاحم دائميا كما لو فرض أن كان التضاد بين الواجبين دائميا ، فإنّه يخرج عند الميرزا «قده» عن التزاحم ، ويدخل في التعارض ، وإنّما يدخل في التزاحم فيما لو كان التضاد اتفاقيا.

وتحقيق الحال في هذا هو أن يقال : إنّ التضاد المفروض كونه دائميا ، إمّا أن يفرض أنّ الضدّين فيه لا ثالث لهما ، وحينئذ لا إشكال في وقوع التعارض بين دليلي وجوبيّ هذين الضدّين ، إذ لا يعقل اجتماعهما ، لا على الإطلاق ، ولا مشروطا.

أمّا عدم معقولية اجتماعهما على الإطلاق فواضح ، لأنّ إطلاقهما معا يوجب الجمع بين الضدّين اللّذين لا ثالث لهما ، وهو باطل ، كما أنّ وجوبهما ولو مشروطا غير معقول ، إذ في فرض ترك ذاك يتعيّن الآخر

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ١٨٦ ـ ١٨٧.

٩٩

بالضرورة والعكس صحيح أيضا ، إذ لا ثالث لهما ، إذن فوقوع أحدهما قهريّ.

وعليه ، فيستحيل تعلّق التكليف به.

وأمّا إذا كان التضاد بين الضدّين دائميا ، ولكن كان لهما ثالث ، حينئذ ، مثل هذا يدخل في باب التزاحم دون التعارض ، بناء على ما تقدم من فصل باب التعارض عن باب التزاحم ، فإنّ كل خطاب شرعي أخذ في موضوعه قيدا لبّيا مستترا ، وهو عدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، ثم لم يبتل به ، كما في (زيارة كربلاء في يوم الجمعة) إذا لم يكن مشغولا بضد واجب مساو أو أهم آخر (كزيارة سامرّاء) وكذلك العكس ، فإنّه لا يقع التنافي بينهما أصلا ، لأنّه متى ما زار أحدهما ارتفع موضوع الآخر ، فلا موجب حينئذ لافتراض وقوع أيّ تعارض بين الخطابين ، ذلك باعتبار نكتة القيد اللبّي الذي به فصلنا التزاحم عن التعارض ، إذن فالقيد اللبّي لا يمنع من جعل هذين الخطابين ، إذ لا منافاة بينهما حينئذ.

إلا أنّ واقع الحال في هذا الفرض ، يتوقف على الالتفات إلى نكتة ، وهي : إنّه بنفس إطلاق كل خطاب ، لا يمكن إثبات أهميّة أحد الخطابين على الآخر ، وتقديمه عليه ، وقد توضح هذا المطلب بتقريبين :

التقريب الأول ، هو : إنّ كل خطاب مخصّص لبّا بالقيد المستتر ، وهو عدم الاشتغال بضد واجب آخر مساو أو أهم ، فإنّه عند الشك في شيء «ما» إنّه ضد واجب مساو أو أهم ، حينئذ لا يمكن في مثله نفي كونه كذلك بالإطلاق (١) ، لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

٢ ـ التقريب الثاني هو : إنّه لا يمكن التمسك بإطلاق كلام المولى لإثبات التفاضل بين خطاباته وأنّ هذا مقدّم وهذا مؤخّر ، لأنّ المولى أساسا ، ليس في مقام البيان من هذه الناحية.

__________________

(١) وكذلك لا يمكن إثبات كونه كذلك للزوم نفس اللازم. (المقرر).

١٠٠