بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وأمّا بناء على هذا القول ، فتكون واجبة بالدليل اللفظي ، هو نفس خطاب «أقيموا الصلاة».

والوجه في ذلك هو : إنّ الخروج واجب حسب الفرض ، وليس في الصلاة الإيمائية ما يزيد على الخروج شيئا من المكث ، لتكون محرمة ، وعليه : فلا موجب لسقوط خطاب «أقيموا الصلاة» وعدم شموله لهذه الصلاة ، بل يبقى شاملا لها.

ومن خلال ما ذكر ، يمكن التفريق حينئذ في النتيجة ، بين القول المختار ، والقول الآخر.

هذا هو تمام الكلام في الشق الأول ، وهو أن يفرض إنّ المكلف لا يتمكن من أداء الصلاة بعد خروجه من الغصب.

وأمّا الكلام في الشق الثاني : وهو ما لو فرض أنّه يتمكن من الصلاة بعد خروجه من الغصب ، فحينئذ : ففي المورد الذي حكمنا بوجوب الصلاة الإيمائية عليه في الشق السابق ، إن كان يتمكن خارج الغصب من أداء الصلاة الاختيارية ، أو ما هو أحسن حالا من الإيمائية ، فحينئذ لا يجوز له الصلاة داخل الغصب.

وإن لم يتمكن من ذلك ، بل كان حال الصلاة خارجه كحالها داخله ، فحينئذ ، بناء على أنّ وجوب الإيمائيّة ثابت بالدليل اللفظي ، فله أن يصلي داخل الغصب أيضا.

وأمّا بناء على أنّه ثابت بالإجماع كما هو الحال على القول المختار ، فحينئذ ، ليس له أن يصلي داخل الغصب ، لأنّ الإجماع دليل لبّي ، يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وهذا المورد ليس منه.

هذا هو تمام الكلام في التنبيه الأخير من تنبيهات اجتماع الأمر والنّهي وبه تمّ الكلام في مسألة اجتماع الأمر والنّهي ثم بعد هذا ندخل في بحث اقتضاء النّهي الفساد :

٥٢١
٥٢٢

في اقتضاء النّهي الفساد

والكلام فيه يقع في مسألتين :

أ ـ المسألة الأولى : في العبادات.

ب ـ المسألة الثانية : في المعاملات.

أمّا الكلام في المسألة الأولى ، وهي اقتضاء النّهي الفساد في العبادات ، فيستدعي بيان أمور :

١ ـ الأمر الأول ، هو : إنّ المقصود بالفساد هنا ، هو : عدم الصحة ، بالمعنى الذي يهم المكلف ، أي : عدم كون ما أتى به مجزيا في مقام الامتثال ، وكونه موجبا للإعادة أو القضاء.

ولا فرق بين كون اقتضاء النّهي لفساد العبادة ، بلحاظ عجز المكلّف عن الإتيان بالعبادة ، بسبب عدم إمكان التقرّب بها من جهة مبغوضيتها ، وإن لم تفقد ملاكها ، وبين كون اقتضائه للفساد بلحاظ قصور العبادة الذاتي ، باعتبار أنّ النّهي يوجب زوال ملاكها. فالبحث عن الاقتضاء للفساد لا يفرّق فيه من هذه الجهة ، بل المهم إثبات الفساد بأحد هذين اللحاظين.

٢ ـ الأمر الثاني : هو : إنّ النّهي على أقسام خمسة :

١ ـ القسم الأول ، هو : النّهي الذي يكون نفسيا ، خطابا وملاكا ، كالنّهي عن الشّرك بالله ، فإنّه نفسي ملاكا ، باعتبار أنّ نفس متعلّق النّهي ، ـ وهو الشرك ـ هو مفسدة بذاته. فالملاك ، وهو المفسدة ، هو نفس

٥٢٣

المتعلق ، كما أنّه نفسي خطابا ، لأنّه نفسي ملاكا ، والمولى قد جعل نفس ترك الشرك في عهدة المكلف.

٢ ـ القسم الثاني ، هو : النّهي الذي يكون نفسيا خطابا ، وغيريا ملاكا ، وذلك كالنّهي عن شرب الخمر ، فإنّه نفسي خطابا ، لأنّ نفس ترك شرب الخمر ، قد جعل على عهدة المكلّف ، إلّا أنّه غيريّ ملاكا ، لأنّ ملاك حرمة شرب الخمر ، ليس قائما بنفس الشرب من حيث هو ، بل قائم بآثاره ، ومن هنا كان الملاك غيريّا.

٣ ـ القسم الثالث ، هو : النّهي الذي يكون غيريا ملاكا وخطابا ، كالنّهي عن الصلاة باعتبار مضادّتها للإزالة ، بناء على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النّهي عن ضده ، فإنّ النّهي عن الصلاة هنا غيريّ ملاكا ، لأنّ هذا النّهي ، كان بلحاظ محبوبيّة الإزالة ، لا لمفسدة في نفس الصلاة ، كما أنّه غيريّ خطابا ، لأنّ النّهي قد استفيد تبعا ، من الأمر بالضّد ، فالمولى لم يدخل ترك الصلاة مباشرة في عهدة المكلّف ، بل استفيد ذلك تبعا ، كما عرفت.

٤ ـ القسم الرابع ، هو : النّهي الذي يكون ناشئا من مصلحة في نفس جعله ، بمعنى أنّ نفس المتعلق لا مفسدة فيه ، كما في القسم الأول ، ولا يترتّب عليه مفسدة لو خلّي وطبعه ، كما في القسمين الثاني ، والثالث ، وإنّما المصلحة في نفس جعله ، بناء على معقوليّة هذا النحو ، وقد عرفت عدم معقوليته سابقا.

٥ ـ القسم الخامس ، هو : النّهي الذي يكون ناشئا عن ملاك في متعلقه ، إلّا أنّ هذا الملاك في المتعلق ، متولّد من جعل نفس النّهي ، وذلك كالنواهي الامتحانية. وهذا هو النحو المعقول فيه ، نشوء احكام من مصالح في نفس جعلها.

والآن ، يبحث في أنّ اقتضاء النّهي الفساد ، هل يشمل جميع هذه

٥٢٤

الأقسام ، أو أنّه يختص ببعضها ، إنّما هذا مرهون بتشخيص الملاكات المذكورة للاقتضاء.

وعليه : فلا بدّ من البحث عن هذه الملاكات التي يدّعى كونها ملاكات للاقتضاء ، وهذا ما سوف نذكره في الأمر الثالث.

٣ ـ الأمر الثالث : في بيان الملاكات التي ذكرت ، وتحقيق حالها :

١ ـ الملاك الأول ، وحاصله هو : إنّ النواهي تابعة للمفاسد ، فإذا تعلّق النّهي بعبادة ، فيكون كاشفا ، «إنّا» ، عن ثبوت مفسدة في تلك العبادة ، وبما أنّ المفسدة والمصلحة من الأوصاف المتنافية التي لا يمكن اجتماعها ، فحينئذ ، يكون النّهي الكاشف عن وجود مفسدة ، كاشفا عن عدم وجود مصلحة في العبادة المنهي عنها ، وإذا لم يكن في العبادة مصلحة ، فلا تكون واجدة للملاك ، ومعه لا تقع مجزية ، وهذا هو المطلوب.

وبهذا يثبت ، إنّ النّهي يقتضي عدم الإجزاء ، وهذا هو مقصودنا بالفساد في عنوان المسألة.

ولا يخفى أنّ هذا الملاك يثبت بطلان العبادة باللحاظ الثاني الذي أشير إليه ، أي : بسبب قصور العبادة الذاتي عن الإجزاء ، باعتبار أنّها فقدت ملاكها بالنّهي عنها.

ويتفرع على ذلك ، إنّ المانع من الصحة والإجزاء ، إنّما هو النّهي بوجوده الواقعي ، وإن لم يكن واصلا للمكلف ، لأنّ ملاك عدم الإجزاء ، هو استكشاف عدم المصلحة ، وعدم المصلحة تابع لثبوت النّهي واقعا.

وعليه : ففي صورة الشك في وجود الحرمة ، إن قام دليل اجتهاديّ على ثبوتها ، فيكون هذا الدليل دالا بالالتزام على بطلان تلك العبادة المحرمة ، وأمّا مع عدم الدليل ، فتجري البراءة.

وبذلك تثبت صحة العبادة لكن ظاهرا ، وأمّا واقعا ، فإنّ الصحة والفساد تابعان لعدم ثبوت الحرمة وثبوتها واقعا.

٥٢٥

ثمّ إنّ هذا الملاك لو تمّ ، فلا يختص بالعبادات ، بل يشمل الواجبات التوصّليّة إذا نهي عن بعض أفرادها ، «كردّ السلام» ، لو فرض أن نهي عنه بكيفيّة خاصة ، فحينئذ ، إذا ردّ المكلف السلام بهذه الكيفية المنهيّ عنها ، لا يكون ردّه مجزيا ، لنفس البيان السابق. والصحيح في المقام عدم تمامية هذا الملاك إلّا في القسم الأول من أقسام النّهي الذي لا مثال عملي له في الفقه.

وتوضيح ذلك ، يتوقف على بيان مقدمة ، وحاصلها : إنّ الأوصاف المتنافية على قسمين :

١ ـ القسم الأول : الأوصاف التي تكون متنافية ، بحمل «هو هو» ، وبحمل «ذو هو» ، وذلك كالعلم والجهل ، فهما وصفان متنافيان بكلا الحملين ، فلا يصح حملهما على موضوع واحد ، بحمل «هو هو» ، فلا يقال : «هذا الشيء علم» ، وهو بعينه جهل ، كما لا يصح حملهما على موضوع واحد بحمل «ذو هو» ، فلا يقال : «زيد ذو علم بتلك القضية ، وذو جهل بنفس تلك القضية».

٢ ـ القسم الثاني : الأوصاف المتنافية بحمل «هو هو» دون حمل «ذو هو» ، وذلك كالبياض والرائحة ، فلا يحملان على موضوع واحد بحمل «هو هو» فلا يقال : «هذا بياض» ، وهو بعينه رائحة ، لأنّ البياض كيف مبصر ، والرائحة كيف مشموم ، وهما متنافيان ، لكن هما غير متنافيين بحمل «ذو هو» ، فلا مانع أن يقال : «هذا الشيء ذو بياض» ثمّ يشار إلى نفس ذلك الشيء ويقال : إنّه «ذو رائحة».

وبعد هذه المقدمة ، نأتي إلى محل الكلام فنقول : إنّ الأحكام التي تكون من قبيل القسم الأول من الأقسام الخمسة ، بأن يكون النّهي نفسيا ، خطابا وملاكا ، كالنّهي عن الشرك بالله تعالى ، كما أنّ الأمر نفسي ، خطابا وملاكا ، كالأمر بمعرفة الله تعالى ، ففي مثل ذلك ، نفس متعلق النّهي ، هو مفسدة ، ونفس متعلق الأمر هو مصلحة ، فتكون المصلحة والمفسدة محمولتين على المتعلق بحمل «هو هو» ، لأنّه يقال : الشرك بالله مفسدة ،

٥٢٦

ومعرفة الله تعالى مصلحة ، ومن المعلوم إنّ المصلحة والمفسدة متنافيتان بحمل «هو هو» ، فلا يقال : هذا «مصلحة» ثم يشار إليه بعينه ، ويقال : «إنّه مفسدة» ، فإنّ ذلك مستحيل.

وعليه ، فإذا ثبت إنّ هذا الشيء مفسدة ، فيدل ذلك بالملازمة على عدم وجود مصلحة فيه ، ومعه ، لا يكون ملاكه تاما ، وعليه فلا يقع مجزيا ، وبذلك يتم هذا الملاك الأول للقول بعدم الإجزاء.

هذا إذا لاحظنا القسم الأول من الأقسام الخمسة. وأمّا إذا لاحظنا بقيّة الأقسام ، ففي تلك الأقسام ، لا يكون المتعلّق بنفسه مفسدة في النواهي ، وبنفسه مصلحة في الأوامر ، بل يترتّب عليه مفسدة أو مصلحة ، فحينئذ ، المصلحة والمفسدة في هذه الأقسام ، تكون محمولة على المتعلق بحمل «ذو هو» لا بحمل «هو هو» لأنّه ليس بنفسه مصلحة أو مفسدة ، بل هو ذو مصلحة أو ذو مفسدة.

ومن المعلوم ، إنّ المصلحة والمفسدة غير متنافيتين بحمل «ذو هو» ، فلا مانع أن يقال : «هذا الشيء ذو مصلحة» ، وهو بعينه ذو مفسدة ، لاحتمال أن يكون ذا مصلحة من جهة ، وذا مفسدة من جهة أخرى ، وحينئذ ، فثبوت المفسدة فيه ، لا يكون دالا بالالتزام على انتفاء المصلحة ، ليتم ما ذكر في الملاك الأول.

وبهذا يثبت ، إنّ الملاك الأول لا يتم ، إلّا في القسم الأول فقط ، وعليه فلا فائدة منه ، لأنّ الكلام في النواهي ، إنّما هو بلحاظ الأقسام الأربعة الأخيرة.

وأمّا القسم الأول : فهو غير عملي فقهيا ، لأنّ العبادات المنهي عنها ، ليس نفس المتعلّق فيها مفسدة ، كما هو حال القسم الأول ، بل المتعلّق فيها ممّا يترتب عليه المفسدة ، فهو من قبيل أحد الأقسام الأربعة الأخرى.

وبهذا يثبت ، أن لا فائدة عمليّة في تماميّة هذا الملاك.

٥٢٧

٢ ـ الملاك الثاني ، وهو : يتنزّل عمّا ذكر في الملاك الأول ، من أنّ النّهي يكشف عن نفي المصلحة رأسا ، إلّا أنّه يدّعى فيه ، بأنّ النّهي يكشف عن أنّ المصلحة في الفعل مغلوبة للمفسدة ، وذلك لأنّ النّهي الفعلي يكشف عن مفسدة فعلية ، ومع فعليّة المفسدة تكون المصلحة مغلوبة ، ومعه لا يمكن للعبد أن يتقرب بهذا الفعل ، لا من ناحية الأمر ، لأنّه لا أمر في ظرف فعليّة النهي بعد البناء على امتناع اجتماع الأمر والنّهي ، ولا من ناحية الملاك ، لأنّه مغلوب.

وعليه ، فيقع هذا الفعل باطلا ، وغير مجز ، وهو المطلوب.

وهذا الملاك ، إن تمّ ، فهو ينتج : إنّ بطلان الفعل لا لقصور ذاتي فيه ، كما كان في الأول ، لأنّ المفروض هنا ، أنّ الفعل لم يفقد ملاكه ، غايته أنّه مغلوب ، وإنّما يكون البطلان من جهة عدم إمكان التقرب ، ويترتّب على ذلك ، إنّ هذا الملاك ، إن تمّ ، فهو يختص بالعبادات ، لأنّ البطلان بسبب عدم إمكان قصد القربة ، إنّما يكون بالنسبة للعبادات ، حيث يشترط فيها هذا القصد ، وأمّا غيرها فلا يشترط فيه.

ومن هذه الناحية أيضا ، افترق هذا الملاك في النتيجة عن سابقه.

نعم ، يتفق هذا الملاك مع السابق ، في أنّ البطلان مستند إلى وجود النّهي واقعا ، لأنّ نكتة البطلان ، هي مغلوبية المصلحة ، وهذا تابع لوجود النّهي واقعا ، ويترتّب على ذلك ، أنّه في فرض الشك يحكم بالصحة ظاهرا.

ثمّ إنّه بناء على فرض تماميّة هذا الملاك ، فإنّه يتم في جميع أقسام النّهي المتقدمة ، عدا القسم الرابع ، وهو الذي يكون النّهي فيه ناشئا عن مصلحة في نفس جعله ، ففي هذا القسم ، النّهي لا يكشف عن مفسدة في المتعلّق ، وعليه ، فلا يكون كاشفا عن مغلوبية في المصلحة ، لأنّ المصلحة لم تندكّ ضمن مفسدة أقوى لتكون مغلوبة ، حيث أنّه لا مفسدة في المتعلق أصلا ، كما عرفت.

٥٢٨

والصحيح ، عدم تمامية هذا الملاك أيضا ، فإنّ مجرد مغلوبيّة المصلحة والملاك ، لا يمنع من التقرب بالفعل ، ما لم يكن هناك مانع آخر ، كتنجز الحرمة ، ونحو ذلك ممّا يأتي الإشارة إليه ، وإلّا فلو فرض أنّ الفعل محرّم واقعا ، إلّا أنّ الحرمة لم تصل إلى المكلّف ، فأيّ مانع حينئذ من التقرّب بهذا الفعل ، ولو كان ملاكه مغلوبا بحسب الواقع؟.

وبعبارة أخرى : إنّ صاحب هذا الملاك اشتبه بين معنيين من القرب والبعد.

وتوضيح ذلك : إنّ للقرب والبعد معنيين :

١ ـ المعنى الأول ، هو : القرب والبعد بلحاظ الأغراض النفسية للمولى.

٢ ـ المعنى الثاني ، هو : القرب والبعد بلحاظ موازين المولويّة والعبوديّة ، فمثلا لو أنقذ شخص ابن المولى بتخيّل أنّه عدوّه ، فهنا ، يحصل قرب من المولى بلحاظ المعنى الأول ، لأنّ هذا الإنقاذ يوافق غرضه النفسي ، إلّا أنّه لا يحصل قرب بالمعنى الثاني ، لأنّ هذا الإنقاذ ، لا يمثل العبودية.

وينعكس الحال ، فيما لو أنقذ عدوّ المولى ، يتخيل أنّه ابنه ، كما هو واضح.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ قصد القربة المعتبر في العبادة ، إن قصد به المعنى الأول ، للقرب ، فحينئذ ، لا يمكن التقرب بالملاك المغلوب واقعا ، وإن لم يعلم المكلّف بمغلوبيته ، لأنّ هذا لا يوافق غرض المولى النفسي ، ويتم ما ذكر في هذا الملاك حينئذ.

إلّا أنّ الصحيح ، أنّ قصد التقرب المعتبر ، هو التقرب بالمعنى الثاني ، أي : بحسب موازين المولويّة والعبوديّة.

٥٢٩

ومعه ، لا مانع من التقرب بالملاك المغلوب واقعا ، إذا لم يكن المكلّف عالما بمغلوبيته ، وحينئذ ، فلا يتم ما ذكر في هذا الملاك.

٣ ـ الملاك الثالث : وحاصله : هو إنّ النّهي إذا تعلق بالعبادة ، فذلك يستوجب انتفاء الأمر عنها ـ بناء على امتناع الاجتماع ـ.

وعليه ، فلا يمكن التقرب بالأمر لعدم وجوده ، وأمّا الملاك ، فهو وإن كان موجودا ، إلّا أنّه لا يمكن التقرب به ، لا لأنّه مغلوب ، كما كان الحال في الملاك الثاني ، بل من جهة أنّ الملاك بما هو ملاك ، لا يصلح لأن يتقرب به ، سواء أكان غالبا ، أو مغلوبا.

ويمكن أن يقرب هذا بوجهين :

١ ـ الوجه الأول ، هو : إنّ الملاكات التي هي عبارة عن المصالح ، تارة ، ترجع إلى نفس المولى ، كما هو الحال في المولى العرفي ، وأخرى ، ترجع إلى نفس العبد دون المولى ، كما في أوامر الله تعالى.

فإذا كانت من قبيل الأول : فحينئذ ، يمكن للعبد أن يتقرب بالملاك ، كما لو علم العبد بأنّ مولاه عطشان ، فهنا ، يمكن أن يتقرب لمولاه ، بالإتيان له بالماء ، ليسدّ عطشه ، وإن لم يأمره مولاه.

وأمّا إذا كانت من قبيل الثاني : فحينئذ ، لا يمكن التقرب بالملاك ، فإنّ الفعل إذا لم يكن فيه أمر من المولى ـ وقد فرضنا أنّ مصلحة هذا الفعل تعود على العبد محضا ـ فإنّه حينئذ لا يمكن أن يأتي العبد بهذا الفعل متقربا إلى مولاه ، لأنّ هذا الفعل غير مضاف للمولى أصلا.

نعم ، إنّما يمكن التقرب به إذا كان فيه أمر ، ومقامنا من هذا القبيل ، فإذا أتى المكلف بالعبادة ، ولم يكن فيها أمر ، فتقع باطلة ، لعدم إمكان التقرب بالملاك ، وبذلك يثبت البطلان.

٢ ـ الوجه الثاني ، هو أن يقال : بأنّه ثبت فقهيا وجوب قصد القربة ،

٥٣٠

بمعنى قصد امتثال الأمر ، وعليه ، فالتقرب بالملاك وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه لا يجزي ، فتقع العبادة باطلة ، إذا لم يكن هناك أمر.

ولا يخفى أنّ هذا الملاك لو تمّ ، فهو يثبت بطلان العبادة ، لا من جهة القصور الذاتي فيها ، بل من جهة عجز المكلّف عن قصد القربة ، ومن هنا كان هذا الملاك مختصا بالعبادات.

يبقى الكلام ، في أنّ هذا البطلان ، هل هو تابع لوجود النّهي الواقعي ، وإن لم يصل ، أو إنّه تابع لوجوده الواصل؟.

والصحيح ، هو : إنّ الحال يختلف باختلاف هذين الوجهين المذكورين.

فبناء على الوجه الأول ، وهو : عدم إمكان التقرب بالملاك أصلا : فإنّه حينئذ ، لا يكون البطلان تابعا للنّهي بوجوده الواقعي ، بل يكون تابعا له بوجوده الواصل ، وذلك لأنّه إذا فرض ثبوت النّهي واقعا ، إلّا أنّه لم يصل ، ووصل عدمه ، بمعنى أنّه وصل أمر بذلك الفعل ، ففي مثله ، لا مانع من التقرب بهذا الأمر ، ويحكم بالصحة ، ولا إشكال ، مع أنّ النّهي ثابت واقعا.

وأمّا إذا بني على الوجه الثاني ، وهو : إنّه قام الدليل فقهيا على وجوب قصد القربة ، بمعنى قصد امتثال الأمر ، فحينئذ ، قد يفرض أنّ هذا الدليل اشترط وجوب قصد الأمر الشرعي الواقعي ، وبما أنّه لا أمر شرعي واقعي في كل مورد كان فيه نهي واقعي ، فحينئذ ، يكون البطلان منوطا بوجود النّهي الواقعي ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ هذا الملاك ، لو تمّ ، فإنّه يتمّ في جميع أقسام النّهي المتقدمة ، لأنّ النّهي في تمام الأقسام الخمسة ، يقتضي سقوط الأمر ، ومعه ، لا يمكن قصد امتثال الأمر ، والمفروض أنّ الملاك غير قابل للتقرب ، فتبطل العبادة حينئذ ، وهو المطلوب إثباته.

والتحقيق ، هو عدم تماميّة هذا الملاك أيضا ، بكلا وجهيه :

٥٣١

أمّا الوجه الأول ، ففيه : إنّ المصلحة وإن كانت راجعة للعبد محضا ، كما في محل كلامنا ، إلّا أنّ هذه المصلحة ، تارة ، ينظر لها بما هي راجعة للعبد محضا ، ومعه لا معنى للتقرّب بها نحو المولى ، وأخرى ينظر لها بما هي مصلحة مؤثرة في نفس المولى ولو اقتضاء ، وفي مثله ، لا مانع من التقرب بها.

وهذا كثيرا ما يتفق للإنسان ، فإنّنا نرى أنّ الصغير يحافظ على نفسه لأجل أنّ ذلك يرضي والده ، لا لأجل نفسه ، مع أنّ مصلحة المحافظة ترجع إلى الصغير محضا ، إلّا أنّها لوحظت بما هي مؤثرة في نفس الوالد ، وبذلك أمكن التقرب بها نحوه.

ومقامنا من هذا القبيل.

وأمّا الوجه الثاني ، ففيه : إنّه لم يقم عندنا دليل لفظي على عباديّة جل العبادات ، إن لم يكن كلها ، وإنّما تثبت عباديّتها بالإجماع والارتكاز من جهة المتشرعة ، وهذا الإجماع لا يقتضي أكثر من الإتيان بالفعل على وجه قربيّ ، مهما كان هذا الوجه القربيّ ، فتقييده بخصوص قصد امتثال الأمر ، لا وجه له.

وعليه ، فالصحيح ، إنّ هذا الملاك الثالث غير تام.

٤ ـ الملاك الرابع : وحاصله ، هو : إنّ النّهي يوجب سقوط إطلاق دليل الأمر بناء على امتناع الاجتماع ، ومع سقوط إطلاق دليل الأمر ، لا يكون هناك كاشف عن الملاك ، وحينئذ ، ففي مقام الامتثال ، لا يمكن للمكلّف الاكتفاء بهذا الفعل ، فإنّ مقتضى أصالة الاشتغال بالملاك المعلوم ، هو لزوم الخروج عن عهدته ، ولا يمكن الخروج عن العهدة بمثل هذا الفعل ، لأنّه ليس مصداقا للواجب يقينا ، حيث أنّ المفروض أنّ إطلاق دليل الأمر سقط كما أنّه لم يحرز وفاؤه بالملاك ليتقرب به ، حيث لا كاشف عن الملاك بعد سقوط الأمر ، وحينئذ فبمقتضى أصالة الاشتغال يحكم بعدم وفاء هذا الفعل ، وهذا معنى البطلان.

٥٣٢

وبذلك يثبت المطلوب ، وهذا الملاك يثبت البطلان بدعوى القصور الذاتي في الفعل ، لأنّه يدّعي أنّ هذا الفعل لا دليل على وفائه بالملاك.

ويترتب على ذلك ، أنّه لو تمّ ، لما اختص بالعبادات كما عرفت في الملاك الأول.

ومن جملة خصوصياته ، أنّه لو تمّ لكان البطلان ظاهريا ، لأنّه ثابت بأصالة الاشتغال ، ويتفرع على ذلك ، أنّ البطلان يكون تابعا لوصول النّهي ، لا لواقعه ، لأنّ النّهي بوجوده الواقعي ، لو لم يصل ، لما سقط إطلاق دليل الأمر ، بل كنّا نتمسك بالإطلاق ، ونثبت بذلك المصلحة ، ومعه لا تجري أصالة الاشتغال ، ويحكم حينئذ بالصحة.

ومن جملة خصوصياته ، أنّه إذا بنينا على امتناع اجتماع أيّ أمر مع أيّ نهي ، فحينئذ ، يكون هذا الملاك تاما في أقسام النّهي الخمسة ، لأنّ أيّ واحد من هذه النواهي ، لا يمكن اجتماعه مع الأمر ، فورود النّهي معناه ، سقوط إطلاق دليل الأمر ، ومعه لا كاشف عن الملاك.

وعليه ، فبمقتضى أصالة الاشتغال ، يثبت بطلان هذا الفعل كما عرفت ، وبذلك يكون هذا الملاك تاما في جميع أقسام النّهي.

وأمّا إذا قلنا بأنّ النهي الذي لا يجتمع مع الأمر ، إنما هو خصوص النّهي الناشئ عن مفسدة في متعلقه ، فحينئذ ، يكون هذا الملاك تاما في أقسام النّهي المتقدمة عدا القسم الرابع ، لأنّ النّهي فيه ليس ناشئا عن مفسدة في متعلقه ، بل هو ناشئ عن مصلحة في نفس جعله ، كما عرفت.

ومثل هذا النّهي لا يسقط إطلاق دليل الأمر ، بل يبقي إطلاقه ، ومعه يكون الفعل وافيا به ، ولا تجري أصالة الاشتغال ، ولا يتم هذا الملاك ، وأمّا في بقيّة الأقسام ، فيتم لما عرفت.

والصحيح إنّ هذا الملاك ، غير تام أيضا ، والوجه في ذلك هو : إنّه بناء على الامتناع ، فإنّه لا إشكال في أنّه لا إطلاق في مادة دليل ، «صلّ» ،

٥٣٣

للفرد المحرّم ، فمادة الصلاة ، وهي الواجب ، لا تشمل الفرد المحرم ، وإلّا لزم تصادق الواجب والحرام على فرد واحد ، وهو محال ، بل الواجب مختص بالفرد غير المحرم ، فكأنّه قال : «الصلاة الواجبة هي غير الفرد المحرّم» ، وهذا لا كلام فيه.

وإنما الكلام في إطلاق الهيئة ، وإنّ هيئة ، «صلّ» ، التي مفادها الوجوب ، هل لها إطلاق لما لو أتي بالفرد المحرّم ، بمعنى أنّ وجوب الصلاة هل يبقى ثابتا حتى لو أتي بالفرد المحرم ، أو إنّه لا إطلاق لها ،؟ بمعنى أنّه لا وجوب بعد الإتيان بالفرد المحرّم؟.

فإن فرض ثبوت الإطلاق في الهيئة ، فنفس هذا الإطلاق الذي هو دليل اجتهادي ، يكون كاشفا عن بطلان هذا الفرد المحرم ، وإلّا لو كان هذا الفرد وافيا بالمصلحة ، وغير باطل ، لمّا ثبت الوجوب حتى بعد الإتيان به.

إذن ، فهذا الإطلاق بنفسه يكشف عن بطلانه ، ولا حاجة لإثبات البطلان بأصالة الاشتغال كما ذكر.

وبعبارة أخرى ، هي : إنّه لو فرض وجود إطلاق في دليل الوجوب ، أي : في هيئة «صلّ» ، فالنتيجة وإن كانت بطلان العبادة وعدم الإجتزاء بها ، إلّا أنّ البطلان هنا ، ليس على أساس قاعدة الاشتغال ، بل على أساس أنّ نفس إطلاق دليل الوجوب ، يكون دليلا اجتهاديا على عدم جواز الاكتفاء بذاك الفرد المنهي عنه ، وعدم وجدانه للملاك والمصلحة ، سواء أكان هذا الواجب توصليا ، أو تعبديا ، وسواء أكان النّهي واصلا ، أم لا.

وإن فرض عدم الإطلاق في الهيئة ، فيكون المورد من موارد الشك في الوجوب ، لأنّه يرجع إلى أنّه ، هل تجب الصلاة على من أتى بالفرد المحرم منها أو لا؟. وهذا مجرى لأصالة البراءة ، لا الاشتغال.

وعليه ، فهذا الملاك غير تام بصيغته المذكورة.

نعم يمكن تتميمه بحيث يكون صحيحا بهذا النحو الذي ذكرناه الآن ،

٥٣٤

أي : بحيث يثبت البطلان بإطلاق الهيئة لا بأصالة الاشتغال كما عرفت.

وهذا إنما يتم ، فيما لو كان للهيئة ـ التي هي دليل الوجوب ـ إطلاق.

وأمّا إذا لم يكن لها إطلاق ـ كما إذا افترض أنّ الوجوب ثبت بدليل لبّي ـ ويكون القدر المتيقن منه ثبوت الوجوب على المكلّف ، لو لم يأت بالفرد المنهي عنه ، فإنّه حينئذ مع الإتيان بالفرد المنهي عنه ، لا يكون الشك في تفريغ الذمة كي تجري أصالة الاشتغال ، وإنّما يكون الشك في أصل التكليف بالوجوب ، فتجري أصالة البراءة ، فلا تجب الإعادة ، وعلى هذا الأساس ، لا يتم هذا الملاك أصلا.

٥ ـ الملاك الخامس ، هو : إنّ النّهي ، يكشف عن مبغوضيّة الفعل في نظر المولى ، ومعه ، فلا يمكن التقرب بهذا الفعل ، لأنّه إنّما يعقل التقرب بالفعل نحو المولى ـ أيّ مولى كان ـ فيما إذا كان حال المولى مع هذا الفعل أحسن من حاله مع تركه. وأمّا إذا كان حاله مع تركه أحسن من حاله مع فعله ، كما في محل الكلام ، فلا يمكن التقرب به حينئذ ، ومع عدم إمكان التقرب به يقع باطلا وغير مجز.

هذا حاصل ما يقال في تقريب هذا الملاك ، ولا يحتاج فيه إلى إبراز آثار النّهي ، من كونه مبعدا لا يمكن التقرب به ، وأنّه يقبح معصية النهي وأمثال ذلك ، لأنّ ما ذكرناه في هذا الملاك من مناط المقربية ، قضيّة صادقة ، حتى ولو فرض أنّه لا قبح في معصية المولى الناهي ، كما لو كان المولى من الموالي الذين لا تقبح مخالفتهم ، فحتى في مثل ذلك ، لا يمكن أن يتقرب لهذا المولى بما نهى عنه لما ذكرناه.

وإن شئت ، قلت : إنّ المكلّف بعد توجه النّهي إليه ، يكون عاجزا عن الإتيان بالفعل العبادي بقصد قربي إلهي ، لأنّ وصول النّهي إليه يكشف عن تماميّة مبادئ النّهي ، ويكشف بالتالي عن كون العبادة مبغوضة بالفعل ، وكون تركها أرجح عند المولى من فعلها ، إذ لو لا ذلك لما تعلق النّهي الفعلي بها ، ومع إحراز المبغوضية الفعلية يستحيل أن يؤتى بالفعل لأجله

٥٣٥

تعالى ، فإنّ الإتيان بفعل لأجل المولى ، إنّما يعقل فيما لو فرض أنّ حال المولى مع الفعل أحسن من حاله مع تركه ، وأمّا لو فرض أنّ حاله مع تركه أحسن من حاله مع فعله ، بحيث كان الترك هو الأفضل كما في محل الكلام ، حينئذ ، لا يمكن التقرب به إلى المولى ، ومع عدم إمكان التقرب به يقع باطلا وغير مجز ، لأنّنا قد فرضنا أنّ الفعل العبادي قد أصبح مبغوضا بالفعل للمولى ، فيكون حال المولى مع تركه أحسن من حاله مع فعله.

وعليه ، لا يعقل أن يؤتى به للتقرب من المولى ، ومعناه ، عدم التمكن من قصد القربة ، فلا تقع العبادة صحيحة.

ثم إنّ هذا الملاك يثبت البطلان من باب عجز المكلف عن قصد التقرب ، لا من جهة القصور الذاتي في نفس الفعل ، لأنّه لا يثبت ذلك كما هو واضح.

ويترتب على ذلك أن يكون هذا الملاك مختصا بالعبادات ، ولا يشمل التوصليات.

ومن خصائص هذا الملاك ، أنّه إن تمّ ، فهو يثبت البطلان الواقعي ، إلّا أنّ هذا البطلان ليس تابعا للنّهي بوجوده الواقعي ، بل هو تابع للنهي بوجوده الواصل ، لأنّ النّهي الواصل هو الذي يمنع عن قصد التقرب.

ومن جملة خصوصيات هذا الملاك ، أنّه إن تمّ ، فهو يسري في تمام أقسام النّهي ، عدا القسم الرابع ، لأنّ النّهي في القسم الرابع ، لا يكشف عن مبغوضيّة في متعلقة ، ليكون ذلك مانعا من التقرب ، بل لعلّ متعلقه ذو مصلحة ، فيتقرب به رجاء واحتمالا ، ولو كان هناك نهي في الواقع ، ويترتب على ذلك ، أنّه مع عدم وصول النّهي ، حينئذ ، يقطع بالصحة ، لا أنّ الصحة تكون ظاهرية.

وإن شئت قلت : إنّ هذا الملاك إن تمّ ، فهو يسري في تمام أقسام النّهي ، عدا القسم الرابع ، فإنّ النّهي فيه ، لا يكشف عن مبغوضيّة متعلقه

٥٣٦

وإنّما يكشف عن مصلحة في جعل هذا النّهي ، فقد يكون حال المولى مع فعل المتعلق أحسن من حاله مع عدم فعله.

وكذلك يتم هذا الملاك حتى لو بنينا على جواز اجتماع الأمر والنّهي على أساس الملاك الأول ، أو الثاني لجواز الاجتماع ، فإنّه مع تقديم جانب النّهي ، وافتراض أنّ الفعل الخارجي مبغوض للمولى ، لا يمكن التقرب به.

نعم لو بنينا على جواز الاجتماع على أساس الملاك الثالث لجواز الاجتماع ، فلا يتم هذا الملاك الخامس ، فإنّه بناء على هذا الملاك يكون هناك وجودان في الخارج : أحدهما مبغوض للمولى ، والآخر محبوب له ، ومعه يمكن التقرب بالوجود المحبوب ، بينما الملاكات السابقة لو تمّت ، فهي مختصة بخصوص فرض امتناع الاجتماع ، ولا تتم بناء على جواز الاجتماع ، سواء أكان على أساس الملاك الأول ، أو الثاني ، أو الثالث من ملاكات جواز الاجتماع ، فإنّ مقتضى القول بجواز الاجتماع هو فعليّة الأمر ووقوع الفعل ، مصداقا للواجب ، وهذا يعني ، ثبوت المصلحة فيه ، فينتفي الملاك الأول ، ولا بدّ أن تكون هذه المصلحة غير مندكّة ، وغير مغلوبة في دائرتها ، كي يمكن نشوء الأمر منها ، فينتفي الملاك الثاني ، ومع وجود الأمر وفعليته يمكن التقرب ، فينتفي الملاك الثالث ، وكذلك تستكشف المصلحة من وجود الأمر ، فينتفي الملاك الرابع.

والتحقيق في حال هذا الملاك ، يتوقف على بيان مقدمة :

وحاصلها هو : إنّ المقربيّة والمبعديّة من شئون الداعي النفساني للعبد ، وليستا من الصفات القائمة بحيثيات الأفعال الخارجية ، فلا تنشأ منها.

ومن هنا ، لو شرب شخصان من إناء واحد ، إلّا أنّ أحدهما شرب بداعي كون هذا الماء من ماء «زمزم» تبركا ، بينما شرب الآخر بداعي كون هذا السائل خمرا ، ففعل الأول يكون مقربا ، بينما يكون فعل الآخر مبعّدا ،

٥٣٧

مع أنّ الفعل الخارجي كان واحدا ، إذن فالمقربية والمبعديّة من شئون الداعي النفساني المحرّك نحو الفعل.

وهذا الداعي ، يخلق في طول وجوده عنوانا ثانويا ، إمّا حسنا أو قبيحا في هذا الفعل ، وهذا العنوان الثانوي ، يكون مقربا تارة بتبع مقربيّة الداعي ، ومبعدا أخرى بتبع مبعديّة الداعي.

وعلى هذا ، فلو أمكن وجود فعل واحد بداعيين : أحدهما إلهي ، والآخر شيطاني معا ، فقد ثبت الاقتراب والابتعاد معا ، لأنّ السبب للقرب والبعد ليس هو الفعل ، حتى يقال : كيف يعقل أنّ شيئا واحدا يوجب القرب والبعد إلى المولى في نفس الوقت ، وذلك لأنّ السبب هو الداعي والقصد ، فإنّه مع تعدده ، يعقل التقرب والابتعاد معا.

وعلى ضوء هذه المقدمة ، نقول : إنّه تارة يفترض أنّ مصلحة العبادة قائمة بخصوص الحصة المنهيّ عنها ، وأخرى ، يفترض أنّ المصلحة قائمة بالجامع بين الحصة المنهي عنها ، وبقيّة الحصص المباحة.

فلو افترضنا أنّ المولى نهى عن الصلاة في الحمّام ، وكان الأمر متعلقا بخصوص الصلاة في الحمّام ، بمعنى أنّ المصلحة كانت قائمة بخصوص هذه الحصة من الصلاة ، ففي مثله ، لا يمكن التقرب بالصلاة في الحمّام ، لما ذكر في هذا الملاك ، فإنّ النّهي الفعلي يعجز المكلّف عن قصد التقرب بها.

ويستحيل في هذا الفرض أن يوجد داعي النّهي عند المكلف ، ما يقربه من المولى ، لأنّ هذا الداعي المفروض ، إن فرض أنّه داع نحو الصلاة في الحمّام ، فالمفروض أنّه لا يمكنه التقرب بها لما عرفت.

وإن فرض أنّه داع نحو الجامع بين الصلاة في الحمام ، والصلاة خارجه ، فهذا باطل ، لأنّ المفروض أنّ المصلحة قائمة في خصوص الصلاة في الحمّام ، ولا ملاك ، ولا مصلحة في الجامع.

٥٣٨

وعليه : ففي هذا الفرض ، يستحيل أن ينقدح داعي النّهي في نفس العبد نحو هذا الفعل ، وإذا لم يوجد مثل هذا الداعي ، فيقع الفعل باطلا ، وبذلك يتم هذا الملاك.

وبتعبير آخر ، يقال : إنّه له افترضنا قيام المصلحة بخصوص الحصة المنهي عنها ، فإنّه يستحيل قصد التقرب بها حينئذ ، بمعنى أنّه لا يمكن أن يكون في نفس العبد داع إلهي ، لأنّ هذا الداعي الإلهي ، إن دعاه إلى الجامع بين هذه الحصة وبين الحصص الأخرى المباحة ، فهو غير معقول ، لأنّ المصلحة غير قائمة بالجامع ، وإنّما هي قائمة بخصوص الحصة.

وإن دعاه إلى إيجاد خصوص هذه الحصة ، فهو أيضا غير معقول ، لأنّ ترك الحصة أحسن عند المولى من فعلها ، فكيف يمكنه أن يأتي بها بقصد التقرب منه تعالى ، إذن فثبت أنّه لا يعقل أن يقع الفعل عباديا ، إذن فهذا الملاك الخامس يتم في هذه الفرضية.

وأمّا لو فرض أنّ المصلحة كانت قائمة بالجامع بين الحصة المحرمة ، والحصة المباحة ، أي : إنّها قائمة في الجامع بين الصلاة في الحمّام ، والصلاة خارجه ، فإنّه في مثله ، يعقل انقداح الداعي الإلهي في نفس العبد نحو هذا الجامع ، وذلك لوجود المقتضي ، وعدم المانع ، أمّا المقتضي ، فهو قيام الملاك فيه ، وأمّا عدم المانع ، فلأنّ المفروض أنّ حال المولى مع هذا الجامع ، أحسن من حاله مع عدمه.

نعم حال المولى مع الحصة المحلّلة منه ، أحسن من حاله مع الحصة المحرمة منه ، لكن المفروض إنّ الحصة المحلّلة ليست مركزا للملاك ، وإنّما المركز ، هو الجامع ، وحال المولى معه ، أفضل من حاله مع تركه مطلقا ، وعليه فهناك مجال لانقداح الداعي في نفس العبد نحو هذا الجامع ، وحينئذ فإن انقدح في نفسه داع إلهي آخر نحو الحصة المحلّلة منه ، فيكون قد امتثل الأمر والنّهي ، وأمّا إذا لم ينقدح داع إلهي آخر عنده نحو الحصة المحلّلة ، بل انقدح عنده داع شيطاني نحو الحصة المحرمة ، فصلّى في

٥٣٩

الحمّام ، ففي مثل ذلك ، بمقدار ما تكون هذه الصلاة ناشئة من الداعي الإلهي ، تكون مقربة.

وهذا أمر معقول ، لأنّ الداعي الذي دعاه لإيجاد جامع الصلاة ، ولو بفرد محرم ، هو داع إلهي ، حيث أنّ الملاك قائم بالجامع كما عرفت ، غايته ، أنّ هذا الفرد من الصلاة ، من جهة أخرى هو غير مقرب ، بل هو مبعّد ، وحينئذ ، فإن اكتفينا في العبادات بوجود داع قربي مؤثر في العبادة ، سواء وجد فيه داع آخر مؤثر في المبعديّة ، أو لم يوجد ، فحينئذ تكون هذه الصلاة مقربة ، ومعه تقع صحيحة ، ولا يكون هذا الملاك تاما.

وأمّا إذا لم نكتف في العبادات بمثل ذلك ، واشترطنا عدم وجود داع آخر فيها مبعّد ، فتقع حينئذ هذه الصلاة باطلة ، ويكون هذا الملاك صحيحا.

ثمّ إنّ هناك فرقا أساسيا ، بين الملاك الخامس ، والملاكات الأربعة المتقدمة.

وحاصله ، هو : إنّ الملاكات الأربعة المتقدمة ، كانت مبنيّة على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي.

وأمّا إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنّهي بأيّ ملاك من ملاكات الجواز ، فإنّها لا تتم حينئذ ، وذلك لأنّه بناء على جواز الاجتماع ، يكون الأمر بالفعل الذي فرض النّهي عنه ، أيضا فعليا ، ومع فعليّة الأمر تكون المصلحة فعليّة.

وبذلك يبطل الملاك الأول ، لأنّ هذا الملاك قد أثبت بطلان الفعل من طريق نفي المصلحة ، كما أنّه مع فعليّة الأمر لا تكون المصلحة مغلوبة كما هو مبنى الملاك الثاني ، فيبطل الملاك الثاني حينئذ ، كما أنّه مع فعليّة الأمر ، يمكن التقرب به ، وبذلك يبطل الملاك الثالث ، كما أنّ الرابع يبطل ، لأنّه مع فعليّة الأمر ، يكون الأمر كاشفا عن فعلية المصلحة والملاك ، كما عرفت سابقا.

٥٤٠