بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

يتعلق بالطبيعة ابتداء ، فالشيء الثالث يكون هو الرابطة والواسطة التي ندسّها في الطبيعة ، وهو وجود ما هو مدلول الهيئة ، وهو الطبيعة.

وبعبارة أخرى : الهيئة تدل على وجود الطبيعة.

وهذا الكلام إنّما كان باعتبار الحاجة لمبرّر لدس المفهوم الثالث في مدلول مادة الأمر.

أو فقل : إنّ دسّ مفهوم الإيجاد ، أو الوجود ، في مدلول مادة الأمر ، بحاجة إلى مبرر ، والمبرّر هذا يقرب بتقريبات :

١ ـ التقريب الأول : هو إنّ الطبيعة بما هي هي ، ليست موردا لغرض الآمر ، لأنّها حاضرة في ذهنه ، بل طلبها لغو لأنّه تحصيل للحاصل ، والطبيعة الموجودة هي أيضا لا يتعلق بها الطلب ، لكونها موجودة ، فطلبها تحصيل للحاصل أيضا. إذن فلا بدّ من تعلق الطلب بوجود الماهيّة ، ومن هنا دسّ مفهوم الإيجاد في مدلول الهيئة.

وهذا المبرر باطل ، لما عرفت من أنّ الماهيّة بما هي هي ، وإن لم تكن موردا لغرض المولى ، لأنّها أمر اعتباري ، لكن عند ما تلحظ فانية في الخارج ، أي : الماهية بالحمل الأوّلي ، تصبح حينئذ موردا لغرض المولى ، ويتعلّق طلبه بها ، لأنّ المفهوم بالحمل الأوّلي ، لا يصدق إلّا على المصداق الخارجي ، دون الصورة الذهنية نفسها ، أي : الماهية بما هي هي ، لأنّ الماهية بما هي هي ، ليست إلّا هي ، لا تطلب ، ولا لا تطلب ، وبالتالي فهي ليست مصداقا لنفسها ، ولذلك يكون امتثال الطلب بإيجاد المصداق الخارجي.

وبهذا نستغني عن توسيط الوجود ودسّه في مفاد الأمر ، وإلّا لسرى الإشكال إلى الوجود المدسوس نفسه ، لأنّه إن أريد به مفهوم الوجود ، فحاله حال الماهيّة ، فما دام لم يلحظ فانيا في الخارج ، فلا يتعلّق به الطلب إذن فلا حاجة لتبعيد المسافة.

١٨١

وأمّا حقيقة الوجود ، فليست من مداليل الألفاظ ، وحينئذ لا موجب لدسّه في مفاد الأمر من هذه لناحية.

٢ ـ التقريب الثاني : هو أن يقال : بأنّ الماهيّة ، بما هي هي ، ليست إلّا هي ، لا موجودة ولا معدومة ، لا تطلب ، ولا لا تطلب ، كما ذكر في الحكمة ، وعليه فيستحيل تعلق الطلب بها ، وحينئذ تعلّقه بها يحتاج إلى وسيط ، وليس هذا الوسيط إلّا الوجود ، فندسّه في الطبيعة ليتعلق الطلب بها.

وهذا الكلام هو خلط بين مطلب ومصطلح في الحكمة ، وبين محل الكلام ، حيث أنّ الحكماء قالوا هذا عند ما تصوروا أنّ الماهيّة إذا لوحظت من حيث مرتبة ذاتها ، فلا يثبت لها إلّا ذاتها وذاتياتها ، وأيّ شيء يثبت لها في مرتبة ذاتها من جنس ، وفصل ، ونوع ، لا بدّ أن يكون ذاتيا لها ، فهي في مرتبة ذاتها وذاتياتها ، ليست إلّا هي ، وأيّ أمر أو عرض آخر خارج عن هذه الذات ، لا تكون متصفة به في هذه المرتبة ، وبالتالي فهو ليس من ذاتياتها.

إذن فالماهية بما هي هي ، في مرتبة ذاتها وذاتياتها ، ليست إلّا هي.

ولكن رغم هذا نقول : إنّ كلا النقيضين ، وهما أنها لا موجودة ولا معدومة ، غير ثابت لها ، لأنّ وجودها وعدمها ليسا جنسا ، ولا فصلا لها ، ولا غيره.

وفي محل الكلام ، لا نقول : إنّ الطلب يثبت لها من حيث كونها مطلوبة في مرتبة ذاتها حيث يصبح الطلب جزءا من ذاتها ، بل نقول : إنّ الطلب يثبت لها بحدّ ذاتها ، وبما هي هي. وعند ما يؤخذ قيد «بما هي هي» لتحديد الموضوع المعروض في نفسه ، وإنّه مرحلة الذات والذاتيات ، حينئذ يقال : بأنّها مطلوبة دون أن يعني عروض الطلب عليها ، أنّها في مرحلة ذاتها أصبحت مطلوبة ، وصار الطلب جزءا من ذاتها ، فمصطلح «بما هي هي» قيد لتحديد المعروض ، وأنّه مرحلة الذات والذاتيات ، وليس لبيان ظرف الحمل ، هو غير «بما هي هي» ، الأخرى ، التي تعني أنّ الطلب ليس من ذاتياتها.

١٨٢

وإن شئت قلت : إنّ الفلاسفة قالوا هذا وتصوروا أنّ الماهية إذا لوحظت في مرحلة ذاتها وذاتياتها فهي ليست إلّا هي ، وأيّ شيء يثبت لها في هذه المرتبة ، لا بدّ أن يكون ذاتيا لها ، سواء أكان جنسا ، أو نوعا ، أو فصلا.

وأمّا بقية الأمور والعوارض الخارجة عن ذاتها ، فهي ليست من ذاتياتها ، إذ الماهية في مرحلة ذاتها وذاتياتها ، ليست إلّا هي.

وهذا مطلب معقول خلاصته : تحديد مرحلة ذات وذاتيات الماهية ، ولكن الأصوليين استعملوا هذا المصطلح ، وطبّقوه بشكل خاطئ ، حيث تصوروا أنّ الماهيّة «بما هي هي» وفي مرحلة ذاتها ، لا يمكن أن يتعلّق أو يعرض عليها طلب ، لأنّها «بما هي هي» ليست مطلوبة ، ولا غير مطلوبة.

وقد غفل الأصوليون أنّ قيد «بما هي هي» إنما قاله الفلاسفة لتحديد المعروض ، ولبيان أنّ المعروض والموضوع ، إنّما هو مرحلة الذات والذاتيات ، وأنّ الطلب ليس جزءا من ذاتها في هذه المرحلة ، وإنما يثبت لها بحدّ ذاتها ، وبما «هي هي» ، فيقال حينئذ : إنّها مطلوبة ، دون أن يعني عروض الطلب عليها ، أنّها في مرحلة ذاتها مطلوبة ، وصار الطلب جزءا من ذاتها.

٣ ـ التقريب الثالث : هو إنّ مدلول الأمر في ، «صلّ» ، هو طلب الصلاة ، ومدلول النهي في ، «لا تصلّ» ، هو طلب ترك الصلاة.

وحينئذ يقال : بأنّه لو لم يكن كل من الوجود والعدم مأخوذا في مدلول الأمر والنهي في «صلّ» ، ولا ، «تصلّ» ، أي : في طلب الصلاة وتركها ، لما أمكن التفريق بين مدلول المادة ومدلول الهيئة فيهما ، مع أنّ نفس المادة ونفس الهيئة موجودة فيهما ، وكلاهما يدلان على طلب الطبيعة.

إذن لا بدّ من أخذ الوجود والعدم في طلب الصلاة والنهي عنها.

١٨٣

وهذا الكلام غير صحيح مبنىّ ، وذلك لأنّه مبنيّ على أنّ النهي مفاده الطلب ، بينما النهي كما تقدم ، وسوف يأتي ، أنّ مفاده الزجر والمنع وهو يتعلق بالطبيعة ابتداء ، كما أنّه مدلول للمادة ، ويتعلق بها ابتداء ، من دون حاجة لدسّ مفهوم ثالث كمفهوم الوجود والعدم بين الطلب والماهية ، للتفريق بينهما ، لأنّ مدلول مادة «صلّ» ، هو النسبة الإرسالية ، ومدلول هيئة ، «لا تصلّ» ، هو النسبة الزّجريّة.

وهذا البحث ، وهو تعلّق الحكم بالطبيعة أو بالأفراد ، أغلق فهمه على المتأخرين من علماء الأصول ، فاختلفت تفسيراتهم وتصوراتهم في صياغته وتخريجه ، وسوف نذكر تقريباتهم هذه تباعا بعد ذكر القسم السادس من هذه الأعراض.

٦ ـ القسم السادس : وحاصله ، هو : إنّ العرض فيه من العناوين التي يخترعها العقل في مقام الإشارة إلى الخارج ، من قبيل عنوان ، «أحد الفردين أو مجموعهما أو كلّ واحد منهما».

وهذا العرض ، ليس ذهنيا ، لوضوح أنّ «زيدا» الخارجي هو أحد الشخصين والفردين ، لا الصورة الذهنية «لزيد» ، كما أنّ هذا العرض ليس من العوارض الخارجية ، لوضوح أنّ عنوان أحد الفردين ليس موجودا في الخارج ، وإنّما الموجود هو نفس شخص «زيد وعمرو».

إذن فهذا العرض ، هو كيفيّة من كيفيّات ملاحظة الخارج ، والعقل ينتزع من هذه الكيفية مفهوما ، وهذا المفهوم يجعل محمولا في القضية.

وبتعبير آخر يقال : إنّ العرض في هذا القسم ، هو حالة لكيفية لحاظ الشيء الخارجي من قبيل عنوان «أحد الفردين أو مجموعهما» ، وهذا العرض ليس من قبيل الأعراض الذهنية ، إذن هو ليس من قبيل المعقولات الثانوية في الحكمة ، كما في القسم الأول ، وليس من العوارض الخارجية ، لوضوح أنّ عنوان أحد الفردين ليس موجودا في الخارج ، وإنما الموجود هو نفس

١٨٤

«زيد وعمرو» ، إذ إنّ «زيدا» المتّصف بأنه «أحدهما» لم يضف إليه شيء زائد على نفسه ، حتى في عالم الذهن والاعتبار ، فضلا عن الخارج ، وإنّما عنوان أحدهما ، تعبير عن كيفية لحاظ الذهن وتصوّره للموضوع ، وإنّه ملحوظ بشكل مجمل ، وغامض ، وغيره.

إذن فهذه العناوين هي عبارة عن حدود للحاظ العقل وتصوره ، كي يتمكن من التعبير عن الخارج والإشارة إليه.

إذا عرفت ذلك ، ندخل فيما هو المقصود من تعلق الأوامر بالطبائع ، أو بالأفراد ، بعد أن أشكل الأمر على متأخري الأصوليين في مقصود المتقدمين من هذا العنوان ، فذهبوا فيه مذاهب شتى ، وقرّبوه بتقريبات مختلفة نستعرضها تباعا :

التقريب الأول : هو إنّ النزاع في تعلق الأوامر بالطبائع ، أو بالأفراد ، على سبيل التخيير ، هو في كون هذا التخيير عقليا ، أو شرعيا؟.

فمن يرى أنّ الأوامر تتعلق بالطبائع ، يرى أنّ التخيير فيها يكون عقليا ، لأنّه يرى أنّ الأمر متعلّق بالجامع ، ويكون تطبيق هذا الجامع على كل فرد من أفراده ، جائز بحكم العقل من دون أن يكون للمولى نظر إلى هذا التطبيق ، حيث لا يكون كل فرد من أفراد الجامع مأمورا به بعنوانه ، بل يوجد حكم واحد متعلّق بالجامع ، ونسبته إلى أفراده على حد سواء ، فالترديد فيما بينها عقلي وهذا هو مرادهم من التخيير العقلي.

ومن يرى أنّ الأوامر تتعلق بالأفراد يرى أنّ المقصود من التخيير هو التخيير الشرعي ، لأنّه يرى أنّ هناك أحكاما عديدة بعدد أفراد الجامع ، لكن على سبيل البدل ، حيث يكون للمولى حينئذ نظر إلى تطبيق هذا الجامع على أفراده ، فيطلب هذا الفرد ، أو ذاك الفرد.

فيكون مرجعه إلى أمرين مشروطين ، فيأمر بكل عدل على تقدير ترك الآخر.

١٨٥

إذن من يقول بتعلّق الأوامر بالطبائع ، يرى أنّ التخيير العقلي ثابت ، وكثيرا ما يقع ، يكون الأمر متعلّقا بالطبيعة أي : بالجامع ، ويكون تطبيقه على أفراده بحكم العقل.

ومن ينكر التخيير العقلي ، ويقول بثبوت التخيير الشرعي فقط ، يقول : بأنّ الأوامر متعلقة بالأفراد على نحو البدل على ما عرفت تفصيله.

إلّا أنّ الميرزا «قده» (١) لم يرتض هذا التقريب ، لأنّه استبعد أن ينكر الأصوليون القدماء التخيير العقلي رأسا ، وهو في محلّه.

ونحن نضيف على ما ذكره الميرزا «قده» ، فنقول : إنّه حتى لو قلنا بتعلّق الأوامر بالأفراد على نحو البدل ، فلا بدّ من الالتزام بالتخيير العقلي.

وذلك لأنّ كل مفهوم ، إمّا أن يلحظ مشيرا إلى فرد خارجي مفروغ عنه ، وفي مثل ذلك يستحيل طلبه ، لما تقدم وعرفت أنّ طلبه تحصيل للحاصل كما عرفت أنّ متعلق الأمر ، إنما هو المفهوم ، بما هو هو ، لا بما هو مشير إلى واقع خارجي مفروغ عنه.

وإمّا أن لا يلحظ المفهوم كذلك ، وفي مثل ذلك يبقى «المفهوم» ، متعلّق الأمر ، مفهوما كليا ، وإن حدّد بحدود ، وقيّد بقيود ، ما لم يفرغ عن وجوده المشخّص له حقيقة ، لأنّ الكلّي لا يخرج عن كونه كليا بإضافة قيد كليّ له ، وإن كانت تتضيّق دائرته بذلك.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ القائل بتعلق الأمر بالأفراد ، إن أراد بالأفراد ، العناوين المشيرة إلى الأفراد الخارجية المفروغ عنها ، حينئذ يكون طلبها تحصيلا للحاصل.

وإن أراد بالأفراد الحصص المفهوميّة ، بمعنى أنّه بدل أن يكون هناك أمر واحد متعلق بالصلاة ، يكون هناك أوامر متعددة متعلقة بالصلاة

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٢١٠.

١٨٦

المتحصّصة والمحددة بحدود مختلفة ، كالصلاة في البيت ، أو المسجد ، ونحو ذلك.

ففي مثل ذلك لا بدّ من الالتزام بالتخيير العقلي ، لأنّ تطبيق هذا المفهوم الكلّي على أحد حصصه يكون بحكم العقل.

وعليه ، فحتى بناء على أنّ الأوامر تتعلق بالأفراد ، لا بدّ من الالتزام بالتخيير العقلي.

وبهذا يظهر عدم تمامية هذا التقريب.

٢ ـ التقريب الثاني : هو ما ذكره الميرزا «قده» (١) ، وحاصله ، هو : إنّ النزاع في تعلق الأوامر بالطبائع ، أو بالأفراد ، مربوط ببحث فلسفي ، وهو إنّ الوجود هل يعرض على الماهية المشخّصة ، أو إنّه يعرض على ذات الماهية والطبيعة ، والتشخص إنما يكون بالوجود نفسه.؟.

فإن قيل بالثاني ، وهو عروض الوجود على ذات الماهيّة ، فهذا معناه أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج ، وأنّ ما هو معروض أو موضوع الوجود ، هو الكلّي الطبيعي ، وهذا يستتبع أن تكون الإرادة التكوينيّة للعبد في إيجاد الفعل ، متعلقة بذات الطبيعة ، لأنّ الوجود حسب الفرض ، ينصب على ذات الطبيعة ، وهذا يستتبع أن تكون الإرادة التشريعيّة من قبل المولى ، منصبة على ذات الطبيعة ، لأنّ إرادة المولى بمثابة العلة لإرادة العبد ، فينتج حينئذ أنّ الأوامر تتعلّق بالطبائع.

وأمّا إذا قيل بالأول ، وهو أنّ الوجود يطرأ على الماهيّة المتشخصة ، بحيث يكون التشخص داخلا فيما له الوجود ، فهذا يستتبع أن تكون الإرادة التكوينية للعبد في إيجاد الفعل ، متعلقة بالماهية المتشخصة ، وهذا يستتبع أن تكون الإرادة التشريعية متعلقة بها كذلك ، لأنّها تتعلق بما يتعلق به

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٢١٠.

١٨٧

الإيجاد والإرادة التكوينية ، وهذا ينتج حينئذ ، أنّ الأوامر تكون متعلقة بالأفراد.

ثمّ إنّهم فرّعوا على هذا ثمرة حاصلها : إنّه بناء على تعلّق الأوامر بالماهيّة المتشخصة ، فإنّه لا يمكن اجتماع الأمر والنهي ، ذلك لأنّ العنوانين وإن كانا متغايرين بحسب عنوانيهما ومفهوميهما ، إلّا أنّه لا إشكال في أنّ كل واحد منهما من مشخصات الآخر ، وحينئذ يتحد متعلّق الأمر مع متعلق النهي ، فيستحيل اجتماعهما. وهذا بخلافه فيما إذا قيل بعروض الوجود على ذات الماهيّة والطبيعة حيث تكون المشخصات خارجة عن متعلق التكليف فإنّه حينئذ ، يكون متعلق الأمر طبيعة ، ومتعلق النهي طبيعة أخرى ، وإن تصادقا في مورد واحد ؛ فإنّ كلا منهما يكون بمثابة المشخص للكلّي الآخر.

وهذا التقريب فيه مواقع للنظر ، نكتفي بذكر واحد منها ، وحاصله ، هو : إنّه لا ترتّب بين مسألة تعلّق الأوامر بالأفراد ، أو الطبائع ، وبين المسألة الفلسفية هذه ، إذ لا يلزم القائل في المسألة الفلسفية بأنّ الوجود يطرأ على الماهيّة المتشخّصة ، وكون التشخص مأخوذا في معروض الوجود ، لا يلزمه أن يقول في محل كلامنا : بأنّ الإرادة التشريعية للمولى تكون متعلقة بالماهية المتشخصة ، وبنفس متعلق الوجود أيضا ، بل يمكن للقائل بطروّ الوجود على الماهية المتشخصة ، أن يقول في محل الكلام بطروّ الإرادة التشريعية على ذات الماهيّة.

ودعوى لزوم أن يكون متعلّق الإرادة التشريعية هو نفسه تمام متعلق الإرادة التكوينية فهو ممّا لا دليل عليه ، وذلك ، لأنّ البرهان إنّما قام على أنّ الإرادة التشريعية للمولى يجب أن تكون متعلقة بشيء يعقل أن يدخل تحت الإرادة التكوينية للعبد ، حيث يمكن صدوره منه خارجا ، كي لا يلزم التكليف بغير المقدور.

وعليه ، فيعقل أن تكون الإرادة التكوينيّة للعبد متعلقة بالماهيّة

١٨٨

المتشخصة ، في ظرف تكون الإرادة التشريعية متعلقة بالماهيّة بلا مشخّصات لأنها تحت قدرة المكلف ولا محذور في ذلك ، حيث لا يلزم منه التكليف بغير المقدور ، وعليه فهذا التقريب غير تام.

٣ ـ التقريب الثالث : وهو ما أفاده المحقق الأصفهاني «قده» (١) ، وحاصله ، هو : إنّ النزاع في تعلق الأوامر بالطبائع ، أو بالأفراد ، مربوط ببحث فلسفيّ ، وهو : إنّ الكلّي الطبيعي ، هل هو موجود في الخارج ، أو غير موجود؟ فعلى القول بوجوده ، يقال حينئذ : بأنّ الأوامر تتعلق بالطبائع ، لأنّه يمكن وجودها خارجا.

وعلى القول بعدم وجوده في الخارج ، يقال حينئذ : بأنّ الأوامر تتعلق بالأفراد ، لعدم إمكان إيجاد الطبيعة خارجا ، وإلّا لزم التكليف بغير المقدور.

وهذا التقريب غير صحيح ، وذلك لأنّ النزاع في وجوه الكلّي الطّبيعي في الخارج ، وعدم وجوده ، إنّما هو بالنسبة للوجود بالذات ، لا للوجود ولو بالعرض والانتزاع.

وتوضيحه ، هو : إنّه لا إشكال في وجود الكلي الطبيعي خارجا ولو بالعرض بنحو من أنحاء الوجود المصحح لحمله بالحمل الشائع على الخارج ، فيقال : «زيد إنسان» فلو لم يكن للكلي الطبيعي ، «إنسان» نحو من أنحاء الوجود مع «زيد» لما صحّ هذا الحمل ، مع أنّه صحيح بلا إشكال.

فهذا يبرهن على وجود نحو اتحاد في الوجود بين الكلّي الطّبيعي والفرد الخارجي.

غاية الأمر هي أنّه وقع الكلام في هذا النحو من الوجود ، وأنّه هل هو وجود بالذات ، لنفس الماهية؟.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٥٦ ـ ٥٧.

١٨٩

أو إنّ هذا ، مفاده وجود الكلي الطبيعي في الخارج ، وإنّ هذا الوجود هو وجود بالذات لماهية «زيد» ، ويكون مفهوم الإنسان منتزعا من هذا الوجود؟.

وهذا معناه ، إنّ الكلي الطبيعي موجود في الخارج بالعرض والانتزاع لا ذاتا ، إذن ، فعلى كلا التقديرين يتعيّن أن يكون للكلي الطبيعي نحو من الوجود الخارجي ، وهذا النحو من الوجود يصحح تعلّق الأمر والإرادة التشريعية به ، لطلب إيجاده في الخارج كيفما كان هذا النحو من الوجود ، ومعه لا يلزم التكليف بغير المقدور.

بل الصحيح إنّه لا يعقل أن تتعلّق الأوامر بالأفراد ، لأنّ شخصيّة كل حصة إنّما تكون بخارجيّتها ووجودها لا محالة.

إذن فكل مفهوم نأخذه ، إذا لم نطعّمه بالمشيريّة إلى فرد خارجي فهو كلّي ، فلو كان متعلّق الأمر هو الطبيعة المشار بها إلى وجود حقيقي مفروغ عنه ، كان هذا تحصيلا للحاصل ، وإلّا كان متعلّقه كليا لا محالة.

إذن فهذا النزاع ، وهو كون الكلي الطبيعي موجودا أو غير موجود في الخارج ، غير مربوط بمسألة كون الأوامر متعلقة بالطبائع أو بالأفراد ، إذ يمكن أن نقول بأنّ الكلّي الطبيعي غير موجود في الخارج ، بمعنى أنّه ليس هذا الوجود وجودا له بالذات ، ولكن مع هذا نقول بتعلّق الأمر به ، لأنّ له نحوا من الوجود.

٤ ـ التقريب الرابع : ولعلّه أفضل صورة معقولة للقائلين بتعلّق الأوامر بالطبائع ، وللقائلين بتعلقها بالأفراد :

ولكن قبل عرضه ، نقدّم له بهذه المقدمة ، وهي : إنّ المشخص الحقيقي هو الوجود ، بناء على أصالة الوجود ، إلّا أنّه يوجد مشخّصات عرضيّة وعرفيّة زائدة على وجود ذات الشيء ، تشكل ضمائم له ، وهذه

١٩٠

الضمائم وإن كان يسبقها التشخّص الحقيقي للشيء ، إلّا أنّها هي التي تعيّن الشيء المشخّص بالنظر العرفي.

فمثلا الإنسان الموجود في ضمن «زيد» ، يشخّصه هذا النحو من الوجود الكائن في «زيد» ، إلّا أنّ هذا النحو من الوجود له ضمائم وأحوال ، وهي أعراض لا تنفك بحال عن الإنسان ، كحاله في زمان ، ومكان ، وذي لون ، وهكذا تكون مشخّصات عرضيّة لزيد ، رغم كونها بالدقة ، ضمائم عرضيّة ، ومصاديق لماهيّات أخرى كليّة ، وهذه الأعراض والمشخّصات العرضيّة ، يستعان بها في مقام تفهيم من هو «زيد» حينما نسأل : من هو زيد ، فيستعان بهذه المشخّصات لتعيين الماهيّة ، ولهذا كانت مشخصات عرفية وعرضيّة.

وبضم هذه المشخّصات العرضيّة والعرفيّة إلى الوجود المحور لهذه المشخصات ، يكوّن ويتحقق ما نطلق عليه اسم الفرد من الإنسان ، بينما نطلق على ذات الوجود المشخّص اسم الحصة من الإنسان القابل للافتراق عن بقية الأفراد.

فالحصة هي ذات الوجود المتشخّص الذي يكون مصداقا بالذات للماهيّة مع غض النظر عن مشخصاته العرفية ، والفرد عبارة عن تلك الحصة ، مع انضمام تلك المشخّصات العرضيّة والعرفية الخارجيّة المشخّصة له إلى الوجود المحور لهذه المشخصات.

وبعبارة أخرى : فإنّ الفرد هو عبارة عن تلك المشخصات العرفيّة والعرضيّة منضمّة إلى الوجود والمحور لهذه المشخّصات ، أو إنّه هو ذاك الوجود المحور لتلك المشخصات مع ضميمة تلك المشخصات العرفيّة إليه ، بينما الحصة عبارة عن ذات ذاك الوجود ، مجرّد عن مشخّصاته العرفيّة ، وهذه الحصص هي بدورها تشكل محورا ، فيقال فرد ويقصد به المتعيّن. وبهذا اختلفت الحصة عن الفرد.

فإذا ميّزنا وفرّقنا بين المشخّص بالذات ، والمشخّص بالعرض ، حينئذ

١٩١

يقال : بأنّ القائل بتعلق الأوامر بالأفراد يقصد به أنّ الأمر يسري إلى تلك الحالات العرضيّة المشخّصة ، والتي بها يتحقق ويتكوّن الفرد.

وسريان الأوامر إلى هذه الضمائم والخصوصيات ، إمّا بمعنى أنّ الأمر المتعلق بالطبيعة ، بحسب عالم الجعل ، لم يؤخذ في وجهه إلّا الطبيعة ، لكن هذه الطبيعة في مقام التطبيق على مصداقها ، تنطبق على الفرد ، يعني هذه الحصة بما لها من الخصوصيات والشئون تكون مصداق الواجب ، وإمّا بمعنى أنّ السريان بحسب عالم الجعل ، ولا أقل من كونه بحسب عالم الحب ، فيقال : بأنّ الحب لا يقف على الطبيعة ، بل يسري إلى لوازمها المشخصة لها ، كما في كونها في مكان ما ، أو زمان ، وبذلك يجامعها ، فلئن كان لا يعقل السريان بحسب عالم التكليف باعتبار أنّ هذه المشخصات قهرية الوقوع ، فلا أقل من السريان بحسب عالم الحب الذي يعقل تعلقه حتى بما هو قهري.

وإن شئت قلت : إذ اتضح الفارق بين المشخص بالذات ، والمشخص بالعرض ، حينئذ يقال : بأنّه يمكن أن يكون المقصود من تعلّق الأوامر بالطبائع ، أو الأفراد ، هو إنّ الأوامر هل تسري بحسب جعلها ، أو بحسب التطبيق إلى الأفراد ، أي : إلى الوجود ومشخّصاته أولا؟ فيقال حينئذ : بأنّ مقصود القائل بتعلق الأوامر بالأفراد هل هو السريان والتوسع بحسب عالم التطبيق ، حيث يشمل تلك الضمائم المشخّصة كلها ، أو هو السريان والشمول لهذه الضمائم بحسب عالم الجعل ، أو على الأقل بحسب عالم الحب ، حيث لا يبقى الحب واقفا على ذات الطبيعة ، «الصلاة» ، مثلا بل يسري إلى ضمائمها ولوازمها المشخّصة لها ، ككونها في زمان ما ، أو مكان ما ، لاحتياج الطبيعة إليها ، ولئن كان لا يعقل السريان بحسب عالم التكليف ، باعتبار وقوع هذه المشخّصات قهرا وحتما ، فلا أقلّ من السريان بحسب عالم الحب الذي هو روح التكليف ، فإنّه يعقل تعلقه حتى بما هو قهري.

إذن ، فيرجع القول بتعلق الأوامر بالأفراد إلى سريان الأمر إلى الطبيعة

١٩٢

وضمائمها المشخّصة لها ، بحسب روح التكليف وهو الحب.

وقد عرفت أنّ هذا السريان للأمر ، تارة يدّعى بحسب مرحلة التطبيق ، وأخرى بحسب عالم الجعل.

وفي مقابل ذلك القول ، يقال : بتعلق الأوامر بالطبيعة ، فإنّ الأمر لا يسري إلى تلك الضمائم والمشخّصات ، لا بحسب عالم الجعل ، ولا بحسب عالم التطبيق ، ولا بحسب عالم الحب الذي هو روح التكليف.

أمّا عدم السراية بحسب عالم الجعل : فلأنّ الجعل تابع لملاكه والملاك إنّما هو في ذات الطبيعة ولا ملاك في المشخصات ، ولو كانت ملازمة للطبيعة ، إلّا بناء على أنّ المتلازمين لا يختلفان في الحكم.

وأمّا عدم السراية بحسب عالم التطبيق : فلأنّ الماهية إنمّا تنطبق على الحصة ، بينما العوارض كل واحد منها مطبق لماهية أخرى ، ومعه فلا معنى للسريان إليها.

والأثر العملي لذلك ، هو : إنّه لو بني في بحث اجتماع الأمر والنهي على أنّ الكون في المكان المغصوب ، ليس موجودا بعين وجود الصلاة ، بل كل منهما له كون ، وإنّما الحرام هو الكون الغصبي أي : في المكان المغصوب ، وحينئذ لو قلنا بتعلق الأمر بالطبيعة ، وقلنا : إنّ هذا الكون من العوارض لماهيّة «الصلاة» ، حينئذ لا بأس من اجتماع الأمر والنهي أي : إنه يلزم جواز اجتماع الأمر بالصلاة مع حرمة الغصب ولا يلزم من ذلك اجتماع الضدّين على أمر واحد.

أمّا لو قلنا بتعلق الأمر بالأفراد فإنه حينئذ يسري الأمر إلى مشخّصات الصلاة ومنها المكان ، فالكون في المكان يصير مصداقا للواجب ، أو للمحبوب ، وكذلك هو مصداق للحرام ، فيلزم من ذلك امتناع اجتماع الأمر والنهي.

وقد تبيّن من خلال استعراضنا أنّ الحق هو تعلّق الأوامر بالطبائع لا بالأفراد ..

١٩٣
١٩٤

بحث النسخ

وهو إنّه إذا نسخ الوجوب ، فهل يبقى دلالة على الجواز أولا؟

فالكلام يقع في مقامين :

١ ـ المقام الأول : هو في تحصيل هذه الدلالة ، بالدليل الناسخ أو المنسوخ.

٢ ـ المقام الثاني : في تحقيق ما هو الأصل العملي في ذلك.

أمّا المقام الأول :

فإنّه لا إشكال في أنّ دليل الناسخ ، لا يمكن أن يستفاد منه بقاء الجواز ـ لمجرد نسخ الوجوب ـ إلّا بطرز لسان ليس له ضابط كلّي إلّا شاذا ، كما لو قال : «خفّفت عنكم» فإنّه واضح حينئذ ، أنّ المولى لم يرفع يده مطلقا ، وإنما رفعها عن الوجوب فقط.

وحينئذ فإن اتّفق هذا اللسان أخذ به ، وإلّا فلا.

وأمّا من ناحية دليل المنسوخ ، فإنّهم لم يستشكلوا في الاستفادة منه بقاء الجواز ، وذلك بتقريب ، أنّ دليل الوجوب المنسوخ مفاده معلوم ارتفاعه ، وما هو محتمل الثبوت ليس هو مفاده.

والتحقيق هو التفصيل بحسب المباني ، إذ إنّه على بعضها يستفاد بقاء الجواز ، وهذا يكون توضيحه بتقريبات :

١٩٥

١ ـ التقريب الأول : وهو مبني على القول ، بأنّ الدلالة الالتزامية غير تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة ، وعليه يقال : بأنّ دليل «تصدّق» له دلالتان : دلالة مطابقيّة ، وهي وجوب الصدقة دائما ، ودلالة التزامية على نفي حرمة الصدقة في كل زمان. ولكن بدليل النسخ المنفصل ، سقطت الدلالة المطابقيّة عن الحجيّة ، وبقيت الدلالة الالتزاميّة على نفي الحرمة ، وحينئذ فبناء على استقلالها في الحجيّة عند المشهور ، يقال : حينئذ نتمسك بالدلالة الالتزاميّة لإثبات نفي الحرمة ، وهو الجواز.

وقد أشكل على هذا التقريب بما حاصله ، هو إنّ الدليل المنسوخ ، «أي دليل وجوب الصدقة» له أربع دلالات التزاميّة ، لا دلالة واحدة ، وهذه الدلالات الأربعة هي : دلالة التزاميّة على نفي الحرمة ، ودلالة التزاميّة على نفي الكراهة ، ودلالة التزاميّة على نفي الاستحباب ، ودلالة التزامية على نفي الإباحة بالمعنى الأخص.

وبعد نسخ الوجوب وانتفائه بالدليل الناسخ ، يقع التعارض بين هذه الدلالات الالتزاميّة الأربعة ، إذ لا يمكن التمسك بها ، أو بكل واحدة منها ، فتسقط جميعها بالمعارضة (١) ، كما أنه لا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات ، على تعيين واحد من هذه الأحكام ، إذ لا بدّ لتعيين واحد منها من دليل آخر.

وجواب هذا الإشكال ، هو أن يقال : بأنّ الإباحة بالمعنى الأخص ليست مدلولا التزاميا لدليل الوجوب ، لأنّها ليست إلّا سلب الأحكام الاقتضائية الأربعة التي هي : الوجوب ، والحرمة ، والاستحباب ، والكراهة ، وليست الإباحة أمرا وجوديا ، إذن نفس الإباحة معناه أنّها نقيض هذه الأحكام الأربعة ، إذن فدليل الوجوب المنسوخ يدل بالمطابقة على ذلك ، وينفي الإباحة بنفسه ، إذن ليست الإباحة مدلولا التزاميا لدليل الوجوب ، إذ

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٢٤.

١٩٦

دلالات الوجوب الالتزامية لا يحصل بينهما تعارض ، إذن فالإباحة بالمعنى الأخصّ لها معنى مركّب من أعدام أربعة ، ودليل الوجوب المنسوخ ينفي واحدا منها ، وهو عدم الوجوب ، ويكون نفيه هذا بالدلالة المطابقيّة ، لا بالدلالة الالتزاميّة.

وإن شئت قلت : إنّ نفي الإباحة بالمعنى الأخصّ إنّما هو بالدلالة المطابقية لدليل الوجوب المنسوخ ، وليس بالدلالة الالتزامية لهذا الدليل ، وذلك لأنّ الإباحة بمعناها الأخصّ تثبت بانتفاء الأحكام الأربعة ، عند ما لا يكون لها مقتض ، ودليل الوجوب المنسوخ يدل على انتفاء الاستحباب والكراهة والحرمة بالالتزام ، ولا يدل على نفي الإباحة إلّا بنفس إثبات الوجوب ، ومقتضي الإلزام ، حيث أنّ نفي النفي إثبات ، إذن فارتفاع انتفاء الأحكام الأربعة ـ غير الإباحة ـ إنّما يكون بنفس ثبوت أحدها الذي هو المدلول المطابقي للخطاب ، والذي قد نفي بالدليل الناسخ.

إذن فيكون نفيه هذا ، منضما إلى الدلالات الالتزامية الثلاثة في الدليل المنسوخ على نفي الاستحباب والكراهة والحرمة ، منتجا للإباحة بالمعنى الأخصّ.

والخلاصة ، هي : إنّ استفادة عدم الحرمة ـ التي هي الجواز بعد نسخ الوجوب ـ لا يمكن إثباتها بالتمسك بالدلالة الالتزاميّة لدليل المنسوخ ، بعد أن سقطت دلالته المطابقيّة عن الحجيّة ، بناء على كون الدلالة الالتزامية غير تابعة في الحجيّة للدلالة المطابقية.

وقد يتوهم أنّ كونه مباحا بالمعنى الأخصّ ، هو أيضا منفي بدليل الوجوب المنسوخ ، لكون دليل الوجوب قد سقط عن الحجيّة بسقوط الدلالة المطابقيّة ، فيتبعه مدلوله الالتزاميّ في السقوط بناء على تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجيّة ، وقد تقدم بطلانه في محله.

٢ ـ التقريب الثاني : وهو مبني على أصل موضوعي مفاده : إنّ الدلالة التضمنية غير تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة ، فإذا سقطت الدلالة

١٩٧

المطابقيّة عن الحجيّة ، بقيت حجيّة الدلالة التضمنيّة.

فبناء على هذا يدّعى ، بأنّ دليل الوجوب المنسوخ مركّب من جزءين : من طلب الفعل ، والمنع من الترك ، ودليل النسخ يكشف عن ارتفاع المجموع بما هو مجوع ، ولا يدل على ارتفاع كلا الجزءين معا ، أي : لا يدل على نفي الجميع ، ونفي المجموع يكفي فيه نفي الجزء الأخسّ ، وهو المنع من الترك ، ويبقى الجزء الآخر ـ وهو طلب الفعل ثابتا ـ ، لأنّه لا داعي لنفيه ، وهو معنى الجواز بالمعنى الأعم ، وتبقى الدلالة التضمنية بهذا محتفظة بحجيّتها ، والجواز بالمعنى الأعم متضمنا لطلب الفعل.

والفرق بين التقريب الأول ، وهذا التقريب ، هو : إنّ الأول يثبت الجواز بالمعنى الأعم في ضمن الإباحة ، وهذا التقريب الثاني يثبت الجواز بالمعنى الأعم في ضمن الاستحباب ، بتقريب أنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل والمنع من الترك ، والدليل الناسخ إنّما ينفي مجموعهما لا جميعهما ، فيكون المتيقن منه انتفاء الثاني ، وتبقى دلالة الدليل المنسوخ على أصل الطلب ، فيثبت الجواز بالمعنى الأعم ، في ضمن الاستحباب ، لأنّنا نعلم بالطلب ، ولا نعلم بعدم المنع ، وليس معنى الجواز بالمعنى الأعم في ضمن الاستحباب إلّا هذا.

ولعلّه يمكن تطبيق الفكرة نفسها ، فيما لو قيل ، بأنّ دليل الوجوب ليس مفاده طلب الفعل مع المنع من الترك ، بل مفاده ، الطلب الشديد والإرادة الشديدة ، فالمدلول التصديقي لدليل الوجوب المنسوخ هو الإرادة الشديدة ، والمدلول التصديقي للاستحباب هو الإرادة الضعيفة ، وحينئذ دليل النسخ ينفي الإرادة الشديدة ، لا مطلق الإرادة ، أي : إنّه ينفي مرتبة الشدة مع بقاء أصل الإرادة.

وبعبارة أخرى يقال : إنّ دليل الوجوب له دلالتان : دلالة تضمنيّة على أصل الإرادة ، ودلالة مطابقيّة على شدة الإرادة ، وقد أسقط دليل الناسخ مدلول الدلالة التصديقيّة عن الحجيّة ، ولا موجب لسقوط الدلالة التضمنية ،

١٩٨

فتبقى الدلالة التضمنيّة حجة في أصل الإرادة ، وهو الطلب ، وهو معنى الجواز بالمعنى الأعم ، المتمثل في الاستحباب.

٣ ـ التقريب الثالث : وهو مبني على المسلك المعروف لمدرسة المحقق النائيني «قده» في باب الوجوب والاستحباب ، وهو : إنّ الوجوب ليس مدلولا للّفظ (١) ، وكذلك الاستحباب ، فإنّ مدلول «صلّ الصبح» ، «وصلّ الليل» ، مفادهما واحد ، وهو الطلب ، وإنّ الوجوب في «صلّ الصبح» إنّما يلزم به العقل ، بعد أن ينتزعه من طلب الفعل ، وعدم الترخيص في الترك ، فإنّ المولى كلما تصدّى لطلب فعل دون أن يرخّص في تركه ، يحكم العقل حينئذ بوجوبه.

إذن ، فالوجوب يحصل بضم مطلبين : أحدهما : مدلول اللفظ الذي هو الطلب ، والآخر : عدم ورود ترخيص بالترك من قبل المولى ، كما أنّ الحكم باستحباب «صلاة الليل» أيضا عقلي مبني على أمرين : أحدهما : صدور طلب من المولى ، والآخر : هو الترخيص بالمخالفة.

وبناء على هذا المبنى لا ندري لما ذا لم ينتبه أصحاب هذه المدرسة إلى إمكان إثبات الجواز بالمعنى الأعم ، بعد نسخ الوجوب ، إذ لا يبقى لدليل الوجوب المنسوخ مفاد ، إذا ارتفع الوجوب ، فإنّ الدليل الذي دلّ على نسخ الوجوب يكون بمثابة الدليل على الترخيص لا أكثر ، ويبقى دليل الطلب ، غايته أنّه إلى ما قبل النسخ لم يرد ترخيص ، ومن حين النسخ فصاعدا ورد ترخيص ، والعقل هنا ينتزع الاستحباب.

وإذا تمّ هذا المبنى ، فلا نبقى بحاجة إلى شيء من تبعية الدلالة التضمنيّة ، أو الالتزامية للدلالة المطابقيّة في الحجيّة وعدم التبعيّة ، فلو فرض أن قلنا بتبعية الدلالة الالتزاميّة والتضمنيّة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة ، فإنّه على هذا المبنى تسقط جميع الدلالات عن الحجيّة ، وسوف

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٧٠ ـ ٧١.

١٩٩

يتعطّل بالتالي التقريب الأول والتقريب الثاني ، دون هذا الثالث ، لأنّنا هنا ، نتمسك بالدلالة المطابقيّة ، وغاية ما يثبته الدليل الناسخ هو الترخيص في الفعل ، ولا ينفي الطلب ، فيكون مدلول الوجوب غير منسوخ أصلا.

نعم ، لو كان لدليل النسخ (١) نظر إلى مدلول دليل المنسوخ ونفيه ، فإنّه حينئذ يرتفع الطلب فعلا عن الوجوب وغيره.

إلّا أنّ هذه عناية زائدة.

وهذا التقريب مع التقريبين السابقين. لا يمكن المساعدة على شيء منها لعدم تماميّة مبانيها.

أمّا الأول : فلأنّ الأصل الموضوعي القائل بعدم تبعية الدلالة الالتزاميّة في الحجيّة للدلالة المطابقيّة غير معقول ، بينما نحن نقول بالتبعيّة ، فإذا سقطت الدلالة المطابقيّة عن الحجيّة تبعتها الدلالة الالتزامية والتضمنية في السقوط عن الحجيّة أيضا ، كما سيأتي تفصيل ذلك في بحث العام والخاص.

وأمّا الثاني : فهو باطل أيضا ، لأنّ بقاء التضمنيّة على الحجيّة دون المطابقيّة ، وإن كنّا نقبله في الجملة ، لكن لا نقبل أن يكون الوجوب مركّبا من طلب الفعل مع المنع من الترك كما هو مذهب الميرزا «قده» (٢) في مدلول الأمر ، كي يطبّق عليه قاعدة عدم تبعيّة الدلالة التضمنيّة في الحجيّة للدلالة المطابقيّة.

وقد أوضحنا ذلك في بحث دلالة الأمر على الوجوب ، وأثبتنا أنّ الوجوب مدلول لفظي ، وليس عقليا.

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ الآملي : ج ١ ص ٤١٣.

(٢) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٧٠ ـ ٧١.

٢٠٠