بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وحينئذ إن بنينا على الأول ، فإنّه يتم ما ذكرناه ، من أنّه في موارد التضاد الدائمي ، لا تعارض ، لأنّ كلا من الخطابين مفاده وجوب مشروط بعدم الاشتغال بضد آخر مساو أو أهم ، وحينئذ لا محذور في الجمع بين الموردين : مورد التضاد الدائمي ، ومورد التضاد الاتفاقي ، فإنهما يكونان موردا للتزاحم.

وأمّا إذا بنينا على الثاني ، وقلنا : بأنّ عدم التمسك بالإطلاق ليس له نظر إلى المزاحمات ، وأنّ هذا يؤخّر أو يقدّم ، إذا كان هذا هو المدرك ، حينئذ يقال : بأنّ المولى لا يكون له نظر إلى ما كان من الواجبات ممّا يكون مزاحمته من باب الصدفة ، فإنّ هذا المزاحم ليس للمولى نظر إليه ، وأمّا ما يكون مزاحما دائميا ، فيكون للمولى نظر إليه.

فيفرّق عرفا بين المزاحم الدائمي ، والمزاحم الاتفاقي ، فحينما يقول المولى : «يجب عليك القيام لطلوع الفجر» ، والقيام مضاد مع الجلوس ، فهذا له نظر إلى أنّ القيام مزاحم مع الجلوس ، فالمزاحم الاتفاقي ليس للخطاب نظر للتفاضل من ناحيته بخلاف الدائمي.

والخلاصة هي : أنّه يفرّق بين ما إذا كانت المزاحمة اتفاقية ، فإنّه لا يقع التعارض ، بل يثبت الخطابان المشروطان ، وأمّا إذا كان الواجبان متضادّين دائما ، فهنا يقع التعارض بينهما ، لأنّ كلّا منهما له نظر في تقديم صاحبه على الآخر.

غايته أنّ التعارض يقع بين إطلاقيّ الخطابين : إطلاق «قم» ، لحال ما إذا «قعد» ، وإطلاق «أقعد» ، لحال ما إذا «قام» ، وحينئذ لا بدّ من تطبيق باب التعارض على إطلاقيّ الخطابين ، وبهذا يفترق مورد التضاد الدائمي عن مورد التضاد الاتفاقي.

وخلاصة هذا التنبيه الأول ، هو : إنّه هل يشترط في التزاحم بين

١٠١

الخطابين أن يكون التّضادّ بين متعلقيهما اتفاقيا لا دائميا ، أو إنّه لا يشترط ذلك؟.

الصحيح هو إنّه كذلك ، إذ إنّ موارد التضاد الدائمي ، تكون من موارد التعارض بين الخطابين ، ولكن على تفصيل هذا مجمله وهو :

إنّه في موارد التضاد الدائميّ بين المتعلقين. تارة يفترض عدم وجود ضد ثالث لهما ، وأخرى ، يفترض وجود ضد ثالث لهما ، فإذا كان المتعلقان ضدّين لا ثالث لهما ، كان وقوع التعارض بين دليلي الحكمين واضحا ، إذ لا يعقل التكليف بهما معا ، لا جمعا لاستلزامه الجمع بين الضدّين ، ولا بدلا بأن يشرط أحدهما أو كلاهما بعدم الآخر ، لاستلزامه تحصيل الحاصل ، إذ في فرض ترك أحدهما يتعين وقوع الآخر بالضرورة ، إذ لا ثالث لهما ، فوقوع الآخر قهريّ. إذن فطلبه تحصيل للحاصل ، فيستحيل تعلق التكليف به ، وحينئذ يكون أحد التكليفين ، أو كلاهما ، لغوا.

وأمّا إذا فرض كونهما من الضدّين الدائمين اللذين لهما ثالث ، كما إذا ورد «يجب عليك القيام لطلوع الفجر» ، وورد في دليل آخر ، «يجب الجلوس عند طلوع الفجر» ، فهنا ضدان ، القيام والجلوس ، غايته أنّ لهما ثالثا.

فهنا في المقام ، هل يعامل معهما معاملة الخطابات المتزاحمة اتفاقا ، فيقال بعدم التعارض بينهما ، لأنّ كل واحد منهما مقيد لبّا بعدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم ، ولا يعقل أهميّة أحدهما من الآخر ، بل هما إمّا متساويان في الملاك ، فيكون الترتّب من الجانبين ، وإمّا أحدهما أهم ، فيكون الترتّب من جانب واحد ، أو يقع بينهما تعارض.؟.

ذهب المحقق النائيني «قده» (١) ومدرسته إلى الثاني.

__________________

(١) أجود التقريرات الخوئي : ج ١ ص ٣١٠ ـ ٣١١.

١٠٢

والصحيح وقوع التعارض بين إطلاق الخطابين لا بين أصلهما ، أمّا عدم التعارض بين أصل الخطابين ، فلأنّ ثبوت كل منهما مشروط بعدم الاشتغال بالآخر لا محذور فيه ، بعد البناء على إمكان الترتّب ، وأمّا وقوع التعارض بين إطلاقيهما ، فلأنّ المتفاهم عرفا ثبوت الإطلاق في كل منهما لحال الاشتغال بالآخر ، فيكون معارضا مع إطلاق الخطاب الآخر كما يشهد بذلك الوجدان العرفي.

وقد يخرّج هذا الوجدان العرفي فيقال : بأنّ ما ذكر فيما سبق للمنع عن التمسك بمثل هذا الإطلاق في أدلّة الأحكام ، باعتباره تمسكا بالعام في الشبهة المصداقيّة لمخصصه اللبّي المتصل غير جار في المقام ، لأنّ خصوصية كون التضاد بينهما دائميا بنفسها ، قرينة عرفية على أنّ المولى ينفي مانعيّة الاشتغال بالآخر عن الأمر بهذا.

وعليه ، فلا بدّ من تطبيق قواعد باب التعارض بين إطلاقيّ كلّ من الخطابين لحال الاشتغال بالآخر ، فإن ثبت ترجيح لأحدهما كان مطلقا ، والآخر مشروطا بعدم الإتيان به ، وإلّا فيتساقطان ، ويثبت بهما حكمان مشروطان بنحو الترتب من الطرفين ، لما عرفت من عدم التعارض بين أصل الخطابين ، فإنّ إطلاق كل منهما لحال ترك الاشتغال بالآخر لا معارض له ، كما هو واضح.

٢ ـ الملاحظة الثانية هي : إنّ القسم الثاني والأول من التضاد ، يمكن أن يعطيا عنوانا واحدا ، هو عنوان القسم الأول ، ويكون التزاحم في القسم الثاني ناشئا من التضاد اتفاقا ، كما لو وجب القيام والقعود صدفة في وقت واحد.

ولعلّ نظر الميرزا «قده» إلى جعله قسما ثانيا ، لكي يتمكن من التفصيل بين ما إذا فرض كون التزاحم بلحاظ التضاد ، فإنّه حينئذ لا يتصور أنهما في زمان واحد ، وبين ما إذا كان التزاحم من ناحية الجمع ، فإنّه حينئذ يتصور كونهما مترتبين زمانا ، وهو مع هذا يقول بعدم معقولية الترتّب.

١٠٣

ورغم أنّك عرفت من تعريف التزاحم أنّه يستبطن وجود جعلين مترتّبين ، إمّا من جانب واحد ، وإمّا من جانبين ، ولذلك قلنا : إنّ خروج التزاحم من باب التعارض الحقيقيّ ، موقوف على القول بإمكان الترتّب.

رغم هذا فإنّ المحقق النائيني «قده» استعرض عدة موارد ، حكم فيها بعدم معقولية الترتّب ، ومن ثمّ أخرجه من باب التزاحم ، رغم كون بعضها لا يختلف عن الأخر ، وبعضها يختص بالأقسام الخمسة.

وقبل استعراض ما أخرجه الميرزا «قده» عن باب التزاحم ، لعدم معقولية الترتب فيه ، نوجز الضابط العام لإمكان الترتّب.

وقد ذكرناه سابقا متمثلا في شرطين أساسين :

١ ـ الشرط الأول هو : أن لا يكون أحد الخطابين مشروطا بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث المتقدم ، وهو عدم الأمر بالخلاف.

٢ ـ الشرط الثاني هو : أن لا يكون ترك أحدهما مساوقا مع تحقق الآخر ، كما في الضدّين اللّذين لا ثالث لهما.

التنبيه الثالث : وفيه نستعرض الموارد التي ادّعي فيها استحالة الترتب ، ومن ثمّ خروجها عن باب التزاحم :

* ـ المورد الأول من الموارد التي يمتنع فيها الترتّب ، ومن ثمّ خروجها عن باب التزاحم هو : ما إذا كان المرجوح مشروطا بالقدرة الشرعية ، بخلاف ما كان مشروطا بالقدرة العقلية ، وذلك لأنّه لا ملاك في المرجوح ، والمفروض أنّ الترتب فرع الملاك ، والمفروض أنّ هذا المرجوح مشروط ملاكا بالقدرة الشرعية ، ومع وجود الأمر بالضد لا قدرة في المقام ، إذن لا ملاك في المرجوح ، ومع عدم الملاك لا يعقل الأمر به.

وإن شئت قلت : إذا كان أحذ التكليفين مشروطا بالقدرة الشرعية ،

١٠٤

يمتنع الترتب ، إذ لا يكون فيه حينئذ ملاك لكي يعقل الأمر به على نحو الترتّب.

وقد استشكل السيد الخوئي «قده» على هذا الكلام ، بأنّه يلزم منه الدور (١) ، وذلك لأنّ إثبات الأمر في مورد لا يتوقف على إحراز الملاك ، بل إحراز الملاك يتوقف على إحراز الأمر ، فلو توقف إثبات الأمر على إحراز الملاك ، والمفروض أنّ إحراز الملاك يتوقف على إحراز الأمر ، إذن يتوقف إحراز الأمر ، على إحراز الأمر وهو دور.

وبتعبير آخر : إذا كان الملاك يستكشف بالخطاب دائما ، فهو موقوف عليه في مقام الإثبات ، فلو كان الخطاب الترتّبي يستكشف بالملاك ، وموقوفا على إحرازه لزم الدور ، ومن ثمّ لزم بطلان الترتّب في جميع الموارد ، حيث لا علم لنا فيها جميعا بالملاك إلّا من ناحية الخطاب.

والصحيح هو : إنّ الترتّب يجري في المشروط بالقدرة الشرعية أيضا ، إذ لا يشترط في جريان الترتّب إحراز الملاك قبل الأمر ، وإلّا لتعذّر الترتّب في جميع الموارد.

وبعبارة أخرى : إنّ قلنا إنّه يشترط في الترتّب إحراز الملاك ، بقطع النظر عن الأمر الترتّبي ، إذن فلا ترتّب في مورد أصلا ، إذ لا طريق حينئذ إلى إحراز الملاك ، وإن قلنا : إنّه لا يشترط إحراز الملاك ، إذن فلا يضر في المقام عدم إحراز الملاك في الترتّب.

وأما ما أفاده السيد الخوئي «قده» فلا محصّل له ، وما ذكره الميرزا «قده» ليس على إطلاقه ، وما يقتضيه فنّ الصناعة ، هو أنّ القدرة الشرعية إن كانت بالمعنى الثاني المتقدم ـ ولعلّ نظر الميرزا «قده» إليها ـ.

__________________

(١) محاضرات فياض ـ ج ٣ ـ ص ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

١٠٥

إذن فكلام الميرزا «قده» في غاية الوضوح ، إذ لا يعقل الترتّب حينئذ في المشروط بالقدرة الشرعية ، لا من ناحية أنّه يجب إحراز الملاك قبل الأمر ، كي يقال ، بالدّور ، لأنّ كلا من الملاك والأمر يتوقف على الآخر ، ولكن لأنّ الخطاب الترتّبي يحتاج إلى دليل ، ودليل «صلّ» ، المرجوح أخذ في موضوعه عدم الاشتغال بآخر ، إذن فإطلاق دليل «صلّ» لا يشمل محل الكلام ، إذن فالترتّب هنا غير وارد لأنّه لا دليل عليه.

وأمّا إذا كانت القدرة الشرعية بالمعنى الأول ، فإنّه حينئذ من الواضح إنّ الترتب معقول ، إذ في فرض عدم الاشتغال بضد آخر ، حينئذ يتم موضوع دليل «صلّ» ، إذن فيلتزم بوجوب الصلاة في هذا الفرض لوجود المقتضي وعدم المانع.

إذن فالصحيح هو التفصيل ؛ وقد يكون ذلك الكلام منشأ للصلح بين الميرزا «قده» والسيد الخوئي «قده» ويكون هذا الكلام بالجملة صحيحا ، وبالجملة غير صحيح.

وإن شئت قلت : إنّ الصحيح هو إنّ القدرة الشرعية الدخيلة في الملاك ، إن أريد بها دخل عدم وجود المانع الشرعي ، والأمر بالخلاف في الملاك ، فلا يعقل الترتّب ، وليس عدم معقوليّة الترتب لعدم إحراز الملاك في المرتبة السابقة كي يلزم الدور ، كما ذكر السيد الخوئي «قده» بل لانتفاء التكليف ملاكا وخطابا بانتفاء شرطه ، وهو القدرة بالمعنى المذكور.

وإن أريد بها دخل عدم الاشتغال بالواجب الآخر في الملاك ، كان الترتّب معقولا ، وذلك لتحقق الشرط ، بترك الاشتغال بالواجب الآخر.

وقد ذكر لهذا المطلب مثال فقهي كتطبيق لمورد عدم إمكان الترتّب ، ومن ثم خروجه عن باب التزاحم ، كما في ماء الوضوء ، إذا تزاحم مع واجب آخر أهم يقتضي حفظ الماء لإرواء نفس محترمة ، فيقع الكلام في أنّه لو توضأ المكلّف في هذه الحالة ، وعصى إرواء النّفس المحترمة ، فهل

١٠٦

يمكن تصحيح وضوئه بالترتّب ، حيث يقال : إنّه هنا موجه إليه خطابان : خطاب «اسق العطشان» ـ وهذا أهم ـ وخطاب ثان ترتبي ، هو : «إن لم تسق العطشان فتوضّأ»؟ فيصح الوضوء للأمر الترتّبي به.

وهنا ذهب الميرزا «قده» (١) تطبيقا لما تقدم والمشهور إلى سقوط وجوب الوضوء ، والانتقال إلى التيمم ، بحيث أنّه لو صرف الماء بالوضوء ، كان وضوؤه باطلا ، لكون وجوب الوضوء قد أخذ في القدرة الشرعيّة ، والمفروض أنّها منتفية في المقام إذن ، فلا يتم فيه الترتب وبالتالي يخرج عن باب التزاحم.

إلّا أن السيد الخوئي «قده» (٢) لم يقبل هذا ، وذهب هنا إلى أنّ الترتّب لا يفرق الحال فيه بين أن يكون المرجوح مشروطا بالقدرة الشرعية ، أو العقلية.

ونحن نعترض على المشهور ، ونقول : أولا : لم يثبت أنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعية لكونه مما له بدل ، ولكون ما له بدل يكون مشروطا بالقدرة الشرعية دائما ، ولذلك يرجح عليه ما ليس له بدل.

إذ تقدم معنا مفصلا ، عدم إمكان استفادة ذلك من مجرد وجود البدل للواجب ، ولهذا كان هذا المشهور ، مشهورا لا أصل له.

ونقول ثانيا : بأنّ ما استدل به على أخذ القدرة الشرعية في وجوب الوضوء ، دليل مركب من مقدمتين :

أ ـ المقدمة الأولى هي : إنّه أخذ في موضوع التيمم ، في قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) أخذ عدم وجدان الماء ، وبمقتضى كون التفصيل قاطعا للشركة ، يفهم منه أنّ موضوع وجوب الوضوء هو

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٢) محاضرات فياض : ج ٣ ـ ص ٢٦٧.

١٠٧

الواجد للماء ، وإن لم يذكر ذلك في الآية الموجبة للوضوء.

إذن فحيث أنّ موضوع الثاني مأخوذ فيه عدم الوجدان ، فلا بدّ من أن يكون قد أخذ في موضوع الأول ـ وهو وجوب الوضوء ـ الوجدان.

ب ـ المقدمة الثانية هي : إنّ الوجدان المأخوذ في موضوع دليل الوضوء ، لم يقصد به الوجدان الخارجي للماء بما هو ماء ، بسبب أنّه عطف المريض على المسافر ، والمسافر وإن غلب أنّه لا يجد ماء ، ولكن المريض كالصحيح قد يجده. فعدم الوجدان يقصد به عدم التمكن من استعمال الماء ، ولو بقرينة ذكر المرض مع السفر ، ويقابله التمكن منه ، ممّا يدل على أنّ الميزان هو القدرة ، وهو معنى كون القدرة الشرعية مأخوذة في موضوع وجوب الوضوء.

وبتعبير آخر يقال : إنّ المراد من وجدان الماء ليس هو وجوده التكويني بما هو ماء ، وإنّما المراد هو القدرة على استعماله ولو بقرينة ذكر المرض مع السفر ، ممّا يدل على أنّ الميزان ، إنّما هو القدرة وعدم المشقة ، وهو معنى كون القدرة الشرعية مأخوذة في دليل وجوب الوضوء.

إلّا أنّ هذا الكلام يعترض عليه :

أولا : باستذكار ما سبق في أبحاث التزاحم في المرحلة الثانية ، حيث ذكرنا هناك ، بأنّ أخذ العجز في دليل البدلية ليس قرينة على أخذ الخطاب الأول مخصوصا بالقادر ، لا أنّ القدرة دخيلة في الملاك والخطاب معا.

نعم لو أنّ المولى تصدّى لأخذ هذا القيد في الخطاب الأول ، أمكن حينئذ أن يقال : بأنّ هذه النكت هي للتنبيه على دخل القدرة في الملاك.

إذن فالقدرة إنما نبني على كونها شرعية ، إذا أخذها المولى قيدا متصلا في الخطاب ، وحينئذ من باب ظهور الحال في التأسيس ، لا التأكيد على ما يحكم به العقل ، نقول : إنّها دخيلة في الملاك.

وثانيا : لو سلّم أنّ القدرة شرعية ، فهي بالمعنى الأول الذي يناسب

١٠٨

معه الترتّب ، لا المعنى الثاني ، لأنّ التمكن من استعمال الماء ، مرجعه إلى عدم العجز تكوينا ، وعدم الاشتغال بالمزاحم أكثر ، فلما ذا نقول لا بدّ أن لا يكون هناك أمر بالخلاف؟ مع عدم القرينة على ذلك.

وثالثا : لو سلّم أنّ خطاب الوضوء هنا مشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، وعدم إمكان الترتّب ، فإنّنا نصحح الوضوء بخطاب ترتّبي آخر ، وهو الأمر الاستحبابي به ، وذلك بأن يقال : بأنّ الوضوء له خطابان : أحدهما : غيري ، والآخر : نفسيّ استحبابيّ.

ومن الواضح أنّه لم يؤخذ في موضوع الثاني القدرة الشرعية ، وهذا يكفي في تصحيح الوضوء.

هذا كله إذا افترضنا عصيان الأمر بالأهم بنفس عملية الوضوء.

وأمّا إذا فرضنا أنّ عصيان ذلك تحقق قبل الوضوء ، فلا إشكال.

وصورته أن يريق الماء على وجهه مبتدئا من أدنى إلى أعلى ، ثم إنّه عند رجوعه يتوضأ به ، وبهذا يتعذر امتثال الأمر بإرواء العطشان ، وهذا خارج عن محل الكلام ، وخارج عن الترتّب.

وإن شئت قلت :

تارة نريد أن نجعل من إحراز أخذ القدرة الشرعية بالقرينة الداخلية ، أو الخارجية ، مانعا عن إمكان الترتّب في الأمر بالوضوء.

وتارة أخرى ، نريد أن نجعل من احتمال كون القدرة المأخوذة فيه شرعية أيضا ، مانعا عن الترتّب بحيث لا بدّ من إحراز عدم أخذها في إثبات الأمر الترتّبي.

وكلا المرادين غير تام.

أما المراد الأول : فغير تام مبنى وبناء :

١٠٩

أما عدم تماميّة المبنى : فلأنّ القدرة الشرعية لو كانت بمعنى عدم المنافي المولوي المانع عن الترتب ، فإنّ احتمالها أيضا يكون مانعا عن إمكان الترتّب ، كما لو فرض كون الخطاب مشروطا بما يحتمل أن يكون المراد منه القدرة الشرعية بالمعنى المذكور ـ كقيد الوجدان في الآية ـ فإنّه حينئذ لم يجز التمسك به لإثبات الأمر ، ولو مشروطا ، ذلك لكونه مقيدا بقيد يحتمل ارتفاعه بنفس ثبوت الخطاب الآخر ، بل لا بدّ من إحراز عدم أخذ القدرة الشرعية بالمعنى المذكور ولو بإطلاق ونحوه.

نعم لو أريد بالقدرة الشرعية دخل عدم الاشتغال بالأهم في الملاك ، أمكن حينئذ إثبات الأمر الترتّبي حتى لو علم بأخذها فيه ، ومعنى هذا هو إنّ الصحيح هو التفصيل بين المعنيين للقدرة الشرعية ، لا بين إحراز أخذ القدرة الشرعية وعدم إحراز أخذها.

وأمّا عدم تماميّة البناء فلأمرين :

١ ـ الأمر الأول ، هو : أنّه يكفي لتصحيح الوضوء الأمر الاستحبابي به ، فإنّه غير مقيّد بحسب لسان دليله بالقدرة الشرعية.

٢ ـ الأمر الثاني ، هو : إنّ الخطاب الوجوبي أيضا لم تقم قرينة فيه على أخذ القدرة الشرعية في موضوعه ، واستظهار كونه مقيّدا بفرض القدرة ـ باعتبار أخذ عنوان عدم وجدان الماء الذي هو كناية عن العجز ، وعدم القدرة على الوضوء ، ولو بقرينة عطف المرض على السفر في موضوع آية التيمم ، فتكون القدرة عليه مأخوذة في موضوع وجوب الوضوء ـ لا يكفي ، لأنّ عنوان القدرة والاستطاعة لم يؤخذ بصورة مباشرة في لسان دليل وجوب الوضوء.

وما تقدّم من إمكان استظهار دخل القدرة في الملاك بنكتة أنّ الأصل في قيود الخطاب أن تكون للتأسيس ، إنّما يتم فيما إذا أنيط الحكم صريحا بالقدرة في لسان دليله ، لا في مثل المقام الذي ورد فيه العجز في دليل البدل

١١٠

لتأسيس حكم آخر عليه ، ثم علم منه بقرينة أنّ التفصيل قاطع للشركة أنّ نقيضه مأخوذ في الحكم المبدل ، إذ لا يلزم من عدم دخل القدرة في ملاك المبدل أن يكون دليل البدل تأكيدا ، كما هو واضح.

وأمّا عدم تماميّة المراد الثاني الذي يبني أصحابه على افتراض أنّ الأمر الترتبي بالوضوء مبني على إحراز عدم دخل القدرة في الملاك ولو بإطلاق الخطاب حيث يقولون :

إن أريد من القدرة فيه ما يقابل العجز التكويني ، فإنّه يقال : إنّ القدرة بهذا المعنى ، إذا ثبت عدم دخلها في الملاك ، صحّ الأمر الترتّبي ، والمفروض أنّه في المقام لا يمكن إثبات ذلك ، لأنّ المثبت له واحد من اثنين : إمّا إطلاق المادة ، وإمّا المدلول الالتزامي للخطاب ، كما تقدم شرحهما ، وتبيّن أنّ كليهما غير جار فيما نحن فيه ، لأنّ المقيّد لدليل الوضوء متصل به ، وحينئذ لا ينعقد إطلاق للمادة ، وأمّا المدلول الالتزامي ، فإنه لا دلالة التزاميّة في الأمر لإثبات الملاك في فرض العجز التكويني.

وهذا المراد بهذا التخريج غير تام حيث يرد عليه :

أولا : كفاية إطلاق الخطاب الاستحبابي في إثبات الأمر الترتّبي بالوضوء كما عرفت آنفا.

وثانيا : إنّ دخل القدرة التكوينيّة المقابلة للعجز التكويني في الملاك ، لا يضر بإمكان الترتّب ، وذلك لانحفاظها في المقام ، وعدم ارتفاعها بمجرد ثبوت الأمر الأهم.

وثالثا : تماميّة إطلاق المادة ، وكذلك الدلالة الالتزاميّة في المقام ، لو سلّم بهما كبرويا.

أمّا تماميّة الإطلاق وكفايته : فلأنّ ما يصلح لرفعه هو أن يرد القيد على المادة ابتداء ، وقبل جعلها موضوعا للحكم والملاك ، ولا يكفي مجرد كون

١١١

التفصيل قاطعا للشركة بعد ورود قيد عدم وجدان الماء في الآية ، كي يمنع من هذا الإطلاق.

وأمّا الثاني : وهو عدم تضرّر إمكان الترتب بسبب دخل القدرة التكوينيّة المقابلة للعجز التكويني في الملاك : فلأنّ آية التيمم ليست ظاهرة في التفصيل من حيث الحكم والخطاب ، وإنما هي مفصّلة من حيث الوظيفة ، فلا يستفاد منها إلّا التفصيل في عالم الامتثال.

وأمّا اختصاص التكليف بالقادر عقلا ، فهو مقيّد عام منفصل بحسب الفرض ، وإلّا ما كان ليتم شيء من الطريقين كبرويا.

وإن كان المراد بالقدرة الشرعيّة ، هو القدرة الشرعيّة المقابلة لعدم الاشتغال بواجب آخر ، فيرد عليه مضافا إلى الاعتراضات المتوجهة إلى المعنى المتقدم للقدرة : إنّه لا يمكن استفادة هذا المعنى من مجرد عنوان عدم وجدان الماء في الآية ، بل غاية ما يمكن أن يذكر لتمرير هذه الاستفادة هو : ذكر المرض مع السفر في آية التيمّم ، وأنّ المريض يجد الماء عادة فلا بدّ أن يراد من عدم الوجدان ، إذن معنى اوسع. وقد عرفت أن هذه القرينة لا تقتضي أكثر من كفاية القدرة العرفية على الوضوء ، وقد عرفت بأنّها محفوظة في المقام.

وإن كان المراد بالقدرة الشرعية ، القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي ، حينئذ تكون الاعتراضات الأربعة تامة ، باستثناء الاعتراض الثاني منها ، إذ إنّ القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي يمنع عن إمكان الترتب حينئذ ، حيث يرتفع موضوع الأمر بنفس ثبوت الخطاب الآخر ـ المنافي المولوي ـ سواء امتثله ، أم لم يمتثله ، وحينئذ فلا يعقل الأمر الترتّبي.

وبهذا يتّضح أنّ الأمر الترتّبي بالوضوء ، يمكن حفظه في موارد المزاحمة مع وجود تكليف آخر أهم.

١١٢

وممّا ذكروا مثالا فقهيا لمورد عدم إمكان الترتّب ، ومن ثمّ خروجه عن باب التزاحم ، هو : ما إذا كان الماء مغصوبا ، وبذلك يحرم استعماله لكونه تصرفا في مال الغير دون إذنه ، وحينئذ ترفع اليد عن وجوب الوضوء.

والصحيح إنّه لا إشكال في عدم صحة الوضوء ، ولو ترتّبا ، لأنّ الترتّب إنما يعقل إذا لم يكن الواجب المهم متصفا بالحرمة ، وهنا قد اتصف الواجب بالحرمة فعلا ، إذن فيستحيل اتصافه بالوجوب ، لاستحالة اجتماع الأمر والنهي ، إذن فالترتب في مثله غير معقول.

ومثله ما لو حرم الوضوء من أجل الضرر ، فهنا لا بدّ من الالتزام بعدم إمكان الترتب ، وعدم تصحيح الوضوء بالتالي ، لأنّ الوضوء وقع مصداقا للحرام بعد البناء على عدم اجتماع الأمر والنهي ، فلا يقع مصداقا للحرام بعد البناء على عدم اجتماع الأمر والنهي ، فلا يقع مصداقا للواجب ، وهنا رفعنا اليد عن وجوب الوضوء لأجل الضرر.

هذا بخلاف ما لو رفعنا اليد عن وجوب الوضوء للحرج ، لا للضرر ، فإنّ الإقدام على الحرج ليس حراما ، فيصحح فيه الوضوء باعتبار دليل الاستحباب النفسي للوضوء ، لأنّ الاستحباب لا حرج فيه ، وإنما الحرج بالإلزام.

وإن شئت قلت : إنّه بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، يدخل هذا في باب التعارض ، وأمّا بناء على الجواز ، فمع عدم المندوحة يكون من باب التزاحم بين التكليفين ، إلّا إذا قيل بكون القدرة شرعية في الأمر بالوضوء ، فيكون باطلا لعدم إمكان الأمر به ، ولو بنحو الترتّب.

وأمّا إذا كانت هناك مندوحة ، فالأمر بالوضوء فعلي على كل حال ، لأنّ ملاكه المشروط بالقدرة الشرعية فعلي. وحينئذ إن قيل بمقالة الميرزا «قده» (١) من عدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيّق ، بحيث كان

__________________

(١) المصدر السابق.

١١٣

يمكن الأمر بالجامع المنطبق على الفرد المزاحم للتكليف الأهم ـ كما هو الصحيح ـ صحّ الوضوء بالأمر الترتّبي بذلك الفرد ، ذلك لكون الملاك فعليا على كل حال.

والصحيح هو ما تقدّم ، من عدم اشتراط الوضوء بالقدرة الشرعية بالمعنى الذي يستحيل معه الأمر بنحو الترتّب.

وممّا ذكروا مثالا فقهيا لمورد عدم إمكان الترتب ، ومن ثمّ خروجه عن التزاحم ، هو : ما إذا كان الماء المباح موجودا في آنية مغصوبة ، وكان نفس الاغتراف منها تصرفا فيها ، فيتوقف الوضوء على مقدمة محرمة ، فترفع اليد عن وجوبه ، فإذا توضأ المكلّف حينئذ به ، فقد فصّل المشهور ، بين صورة الانحصار بهذه الآنية ، وعدم الانحصار بها ، فذهبوا إلى أنّه في صورة الانحصار ، لا يعقل تصحيح الوضوء ، لأنّ وجوبه مشروط بالقدرة الشرعية عندهم ، والحال إنّه لا قدرة شرعية في حالة الانحصار ، وحيث لا قدرة شرعيّة فلا ملاك في الوضوء ، إذن فيبطل ، ولا يمكن تصحيحه ولو ترتّبيا.

وأمّا إذا فرض عدم الانحصار ، كوجود الماء في آنية أخرى مباحة ، حينئذ ذهبوا إلى صحة الوضوء ، لأنّ ملاك الوضوء موجود ، حيث أنّ الجامع مقدور ، غايته أنّ المكلّف طبّق الجامع على فرد محرم ، وهذا لا ينافي صحة الوضوء ، وإنّما يستلزم تطبيق المكلّف هذا ارتكابه محرما بسوء اختياره.

وإن شئت قلت : إنّ التحقيق في هذه الحالة هو أن يقال :

إنّه تارة ، يفرض كون الوضوء من الإناء المغصوب بنحو يعدّ بنفسه تصرفا في المغصوب ، كما لو كان ارتماسا ، فإنّه في هذه الحالة تدخل هذه الصورة في الصورة السابقة.

وتارة أخرى يفرض كون الوضوء بنحو لا يعدّ تصرفا في الآنية ، كما لو اغترف كل ماء وضوئه دفعة واحدة ، ووضعه في إناء آخر مباح ، ثم توضأ

١١٤

منه ، فإنّه حينئذ ، لا إشكال في صحة وضوئه لوجود أمر مطلق به بعد سقوط الحرمة بالعصيان الأول عند نقله إلى إناء مباح ، حيث لا يبقى حينئذ مزاحم لهذا الوضوء عند القيام به.

وإن اغترف الماء شيئا فشيئا حال التوضؤ ، فإن عدّ هذا الاغتراف تصرفا في المغصوب عرفا ، فإنّه حينئذ يندرج أيضا في الصورة السابقة ، حيث يجتمع في هذا التصرف عنوانان : عنوان الوضوء وعنوان الغصب. وإن لم يعدّ هذا الاغتراف المتكرّر بنفسه ، تصرفا في المغصوب ، وإنّما عدّ تصرفا بالاغتراف الذي يكون مقدمة للوضوء ، فقد ذهب الميرزا «قده» (١) هنا إلى التفصيل ، بين صورتي الانحصار ، وعدمه ، فحكم بالبطلان في الصورة الأولى ، لكون الوجوب مشروطا بالقدرة الشرعية ، وحيث لا قدرة شرعية في حالة الانحصار ، إذن فلا ملاك في الوضوء ، فيبطل ، ولا يمكن تصحيحه ولو ترتّبيا ، وحكم بالصحة في الصورة الثانية لفعليّة الملاك بفعليّة القدرة الشرعيّة على الوضوء حيث أنّ الجامع مقدور ، فيمكن الأمر به ، ولو بنحو الترتّب ، غايته أنّ المكلّف طبّق الجامع على فرد محرم يستلزم ارتكابه محرما بسوء اختياره ، لكن يصح وضوؤه.

وقد ذهب السيد الخوئي «قده» (٢) إلى خلاف المشهور ، حيث حكم بصحة الوضوء ، حتى في حالة الانحصار ، وذلك بدعوى أنّ القدرة الشرعيّة المأخوذة في وجوب الوضوء ، ليست أقل من القدرة التكوينيّة ، وذلك لأنّه إن كانت القدرة الشرعية مأخوذة على وزان القدرة العقليّة ، فيكفي إذن الوجود التدريجي في القدرة العقليّة ، ومثله يجري في القدرة الشرعيّة.

وتوضيحه هو : إنّا إذا لاحظنا القدرة التكوينية ، سوف نجد لها فردين ، أحدهما : القدرة التكوينية الدفعيّة ، كأن يكون لدى الإنسان ماء كاف من أول

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٢) محاضرات فياض : ج ٣ ـ ١٨٨ ـ ١٨٩ ـ ١٩٠ ـ ١٩١.

١١٥

الأمر : والفرد الثاني ، هو : القدرة التكوينيّة التدريجية ، بحيث أنّ المكلف حين يغسل وجهه لا يكون قادرا على أكثر من ذلك ، ثم تحدث له القدرة تدريجيا كما لو كان لديه قطعة ثلج تذوب تدريجيا ، فهو واجد للماء على مراحل.

ولا شك في أنّ كلا من هذين النّحوين من التكوينيّة ، يكفي في إيجاب الوضوء فكما يجب في الحالة الأولى يجب في الثانية.

إذ تارة يجد ماء بلا محذور شرعي ، بحيث يكفي لوضوئه كله من أول الأمر.

وتارة أخرى يجد الماء بلا محذور شرعي بالتدريج ، ومعناه ، إنّ القدرة المأخوذة في وجوب الوضوء ، أعم من وجدانها دفعيا أو تدريجيا ، فالمكلّف الذي يغترف غرفة بعد غرفة لوضوئه ، وإن كان غير واجد لماء تمام وضوئه وجدانا شرعيا فإنه حينما يأخذ ماء وجهه ، ويرتكب المحرم ، لا يبقى محذور في غسل وجهه ، ثمّ يعصي مرة ثانية فيغترف لليمنى ، ثم هكذا لليسرى.

إذن المناط هو انتفاء المحذور الشرعي عند التلبّس بالوضوء ، فكما أنّ الوجدان التكويني يكفي ، فكذلك الوجدان التدريجيّ التشريعيّ يكفي.

وبتعبير آخر يقال : إنّ السيد الخوئي «قده» حكم بصحة الوضوء ، حتى في صورة الانحصار بدعوى : أنّ القدرة تتجدّد عند كل جزء من أجزاء الوضوء بالعصيان ، وبارتكاب المحرم ، حيث أنّ المكلّف بعد ارتكابه المحرم ، واغترافه الماء من الآنية المغصوبة ، يقدر على الوضوء بمقدار غسل الوجه ، وبما أنّه يعلم بارتكابه المحرم ثانيا وثالثا إلى أن يتم الوضوء فهو يعلم بطروّ التمكن عليه من غسل سائر الأعضاء ، فعندئذ لا مانع من الالتزام بثبوت الأمر به مترتّبا على عصيانه ، بناء على ما ذكرنا من صحة الترتّب وجوازه ، وإنّ وجود القدرة في ظرف الإتيان بالأجزاء اللاحقة ، شرط لوجوب الأجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر.

١١٦

ومن المعلوم أنّه لا فرق في ذلك ، بين كون القدرة تبقى من الابتداء ، أو تحدث في ظرف الإتيان بها ، وقد عرفت أنّه لا دليل على اعتبار القدرة بأزيد من ذلك.

وهذا غير صحيح ، لأنّ القدرة المأخوذة في وجوب الوضوء ، إذا كانت بالمعنى الثاني ، فلا يتصور الترتب وإن كانت بالمعنى الأول ، فلا بأس بالترتب.

وتوضيحه : إنّه إن كانت القدرة بالمعنى الثاني ، أي : بمعنى عدم المانع ، والأمر بالخلاف من قبل المولى ، فهذا المعنى لا يكفي فيه الوجدان التدريجي.

ونكتة الفرق بين القدرة التكوينيّة والشرعيّة : إنّه في التكوينيّة يكتفى بالوضوء التدريجيّ ، ولا يكتفى بذلك في القدرة التدريجية ، هي إنّ القدرة التكوينية وما يلحق بها من عدم الاشتغال بالضد الواجب المساوي أو الأهم ، هو قيد عقلي في الخطاب ، فمن الواضح أن البرهان العقلي هو حكم العقل ، ومن الواضح أنّ هذا البرهان إنما يبرهن على جامع الوجدان للقدرة ، لأنّ نكتة هذا التقييد عقلا هي قبح التكليف بما لا يطاق ، ومن الواضح أنّ القادر الواجد للماء مثلا لا يقبح من المولى أن يأمره بالتوضؤ وإن لم يجد الماء دفعة واحدة ، ولكن هو واجد له شيئا فشيئا.

إذن فالبرهان لا يأبى عن صورة الإطلاق في القدرة العقلية.

وأما القدرة الشرعية بالمعنى الثاني : فهذا القيد زائد ، لم يكن ببرهان العقل ، وإنما هو شرعي مولوي يستفاد من لسان الدليل ، وحينئذ يكون من الواضح أنّ الظاهر في كل قيد يفرض في لسان الدليل أن يكون مقارنا لا متأخرا ، فيجب أن يكون الأمر بالوضوء مقارنا مع عدم وجود مانع شرعي عن تمام الوضوء ، وهذا غير حاصل في المقام ، إذ حينما يغترف لوجهه ، لا يأتي له أمر «توضأ» ، لعدم وجود القيد ، ولا يأتي له ، «اغسل وجهك» ، لأنّ

١١٧

غسل الوجه أمر ضمني يوجد ضمن الاستقلالي ، فوجوب الوضوء لا يشمل مثل هذا ، أما في القدرة التكوينيّة ، حيث أنّ الدليل على أخذها حكم العقل في سائر الموارد يكتفى بالقدرة التدريجية ، بخلافه هنا.

إذن فالصحيح هو الرجوع إلى التفصيل السابق المشهور.

وإن شئت قلت : إنّ الصحيح هو أنّ القدرة الشرعيّة المأخوذة في خطاب الوضوء ، إن أريد منها دخل القدرة التكوينيّة ، أو عدم الاشتغال بالضد الأهم في الملاك ، فالوضوء صحيح في المقام بالخطاب الترتّبي ، وإن أريد منها دخل عدم المنافي المولوي بأن كان مشروطا بعدم وجود حكم شرعي على خلافه ، حينئذ لا يمكن تصحيح الوضوء ، لأنّ القدرة الشرعيّة بهذا المعنى قد عرفت أنّها قيد شرعي محض لا بدّ في إثباته من تقييد الخطاب به ، بحسب لسان دليله ، ولا يخفى أنّ ظاهر الأمر بشيء ، مشروط بعدم المنافي المولوي حين الإتيان به ، حدوثا وبقاء ، ولا يكفي عدمه بقاء فقط ، لأنّه مقتضى اشتراط الحكم بعدم المنافي الظاهر في ترتّبه عليه.

وبتعبير آخر يقال : إنّ المستفاد من دليل شرطيّة القدرة بهذا المعنى ، هو أنّ الأمر بالوضوء لا يجتمع مع فعلية الحكم المنافي له لأنّه يكون معلّقا على عدمه ، وفي المقام وإن كان كل جزء من أجزاء الواجب في ظرف الإتيان به ، لا يوجد مناف مولوي له بالخصوص ، إلّا أنّه باعتبار ارتباطيّة هذه الأجزاء وعدم إمكان فعليّة الوجوب الضمني لكل منها مستقلا عن وجوب الآخر ، فإنّه لا يمكن فعليّة الأمر بها ، لاستلزامها فعليّة الأمر بالوضوء ، والمنافي المولوي معا.

هذا ولكنك عرفت عدم الدليل على اشتراط القدرة الشرعيّة بالمعنى المذكور في خطاب الوضوء ، كما أنّه لو فرض استفادة ذلك من دليل الأمر الوجوبيّ في الآية ، فإنّه يكفي الأمر الندبيّ المطلق في تصحيح الوضوء كما هو واضح.

١١٨

* ـ المورد الثاني ، والذي استثناه الميرزا «قده» (١) من جريان الترتّب ومن ثم خروجه عن التزاحم ، هو : ما لو كان المتزاحمان واجبين طوليين ، مع كون المتأخر منهما هو الأهم ، وكانا مشروطين بالقدرة العقليّة ، فلو قدّم الأهم منهما بالأهميّة ، فقد ذهب الميرزا «قده» (٢) هنا إلى استحالة الأمر بالآخر على وجه الترتّب ، وذلك لأنّ الشقوق المتصورة للترتّب في المقام باطلة كلها.

وتوضيحه هو : إنّ الأمر السابق زمانا إذا التزمنا بثبوته على وجه الترتب ، فلا بدّ من الالتزام بأنه مقيّد بأحد أربعة قيود :

القيد الأول : أن يكون مقيّدا بعصيان الأمر المتأخر ، كما لو قال المولى : «صلّ يوم السبت إذا عصيت صلاة يوم الأحد في ذلك اليوم» ، وهذا قد أبطله الميرزا «قده» (٣) بوجهين :

الوجه الأول هو : إنّه يلزم منه الشرط المتأخر ، والميرزا «قده» لا يقول به.

الوجه الثاني هو : إنّه يلزم من الأمر بصلاة يوم السبت أن يزاحمه خطاب لزوم حفظ القدرة على صلاة يوم الأحد ، لأنّ ملاكها أهم ، ووجوب حفظ القدرة خطاب فعلي من يوم السبت ، ولو كان يزاحم الأمر بصلاة يوم السبت ، الأمر بصلاة يوم الأحد فقط ، لتم الكلام.

القيد الثاني : ان يكون شرط خطاب «صلّ يوم السبت» تعقبي العصيان. والتعقب محاولة يستعملها الميرزا «قده» ، للتخلّص من محذور الشرط المتأخر ، بدعوى عنوان التعقّب ، حيث يرجع الشرط المتأخر إلى عنوان التعقب ، فيقال : إنّ الأمر بصلاة يوم السبت ، ليس مشروطا بعصيان صلاة يوم

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ج ١ ص ٢٢٠.

(٢) نفس المصدر.

(٣) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢١٥ ـ ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

١١٩

الأحد ، لأنّه مقارن ، وقد أبطله بوجهين أيضا ، نفس الوجه الثاني السابق ، وثانيا بأنّ عنوان التعقب ، وإن كان معقولا ، إلّا أنّه يحتاج إلى دليل ، لأنّه على خلاف القاعدة ، وإنما نلتزم به في مورد يدل دليل خاص عليه ، كما لو فرض ذلك في بيع الفضولي ، وقلنا : إنّ الإجازة مصحّحة بناء على الكشف.

القيد الثالث : أن يكون الشرط عصيان خطاب آخر ، كما في مثل خطاب «صلّ يوم السبت بشرط عصيان خطاب حفظ القدرة» ، فيقال : «صلّ السبت إن عصيت خطاب احفظ القدرة» كما يقول الميرزا «قده». وهذا عنده غير صحيح ، لأنّ عصيان خطاب «احفظ القدرة» يكون بالاشتغال بأحد أضداد صلاة يوم الأحد ، كالاشتغال بصلاة يوم السبت ، فإن كان عصيان «حفظ القدرة» متمثلا بصلاة السبت ، فلا يمكن الأمر بعد ذلك بصلاة يوم السبت ، لأنّه تحصيل للحاصل ، وإن تمثل عصيان خطاب «حفظ القدرة» بالاشتغال بضد

ثالث ، إذن سيكون المكلّف عاجزا عن صلاة يوم السبت أيضا لأنّه مشتغل بضدها.

القيد الرابع : أن يكون الشرط هو العزم على العصيان ، وعلى هذا الأساس قال الميرزا «قده» بعدم إمكان الترتّب ، وإن كان الصحيح هو إمكان الترتب في هذا الاحتمالات الأربعة.

وإن شئت قلت : إنّ المورد الثاني ممّا ادّعى فيه الميرزا «قده» استحالة الترتّب ، ومن ثمّ خروجه عن باب التزاحم ، هو ما إذا كان المتزاحمان طوليّين مع كون الأهم متأخرا ، وكون القدرة عقلية فيهما ، فقد ذهب الميرزا «قده» في المقام إلى استحالة الأمر بالمتقدم منهما بنحو الترتّب ، وإنّما قيّدا بكون القدرة فيهما عقليّة ، لأنّها لو كانت القدرة فيهما شرعيّة فقد تقدّم من الميرزا «قده» أنّه لا يجري حينئذ الترجيح بالأهميّة ، ولا بالترجيحات الأخرى الراجعة إليه ، أو إلى الترجيح بالقدرة العقلية غير الموجود في شيء منهما ، ويكون التخيير حينئذ شرعيا عنده ، لوجود قدرة واحدة على الجامع ، وملاك واحد.

١٢٠