بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

حقيقة ، ينحفظ بفرد واحد ، ولا ينعدم الّا بانعدام تمام أفراده.

ولعلّ ذلك هو معنى الكلام المشهور ، حيث يكون المطلوب في الأمر حفظ ذلك المفهوم الذهني ، بينما يكون المطلوب في النواهي إعدامه.

وقد عرفت تفصيل ذلك في بحث المرة والتكرار.

الجهة الرابعة :

وهي تشتمل على تنبيهين مرتبطين بالجهتين السابقتين :

١ ـ التنبيه الأول ، هو : إنّ الفارقين المذكورين في الجهة الثانية والثالثة واللّتين تميزان النّهي عن الأمر ، محفوظان وثابتان للنّهي سواء قلنا بأنّ النّهي عبارة عن الزّجر عن الفعل كما هو الصحيح. أو قلنا إنّه عبارة عن طلب الترك. إذ لا فرق بين قول : «لا تشرب الخمر» ، وبين قوله : «أترك شرب الخمر» ، والسرّ فيه ، هو إنّ النكتتين اللّتين أوجبتا الفارقين ، موجودتان في قوله «اترك شرب الخمر» ، كما هما موجودتان في قوله «لا تشرب الخمر».

فنفس ما يستفاد من الأول يستفاد من الثاني ، لما قلناه من وجود كلتا النكتتين في طلب الترك ، وهما كون نشوء طلب الترك ، غالبا ما يكون من مفسدة انحلالية في الفعل ، فيكون الحكم انحلاليا ، ونكتة كون الطبيعة لا تترك إلّا بترك تمام أفرادها ، فيكون امتثال الحكم بترك تمامها.

٢ ـ التنبيه الثاني ، هو : إنّك قد عرفت في الفارق بين الأمر والنّهي ، أنّ الأمر يتعلق بإيجاد الطبيعة ، وبما أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ، فيكتفى في باب الأوامر ، بإيجاد فرد واحد ، وأمّا في النّهي فلا بدّ من إعدام جميع الأفراد ، لأنّ النّهي متعلق بالطبيعة ، وإعدامها ، والانتهاء عنها لا يكون إلّا بترك جميع أفرادها. وقد عرفت أن هذا الفارق أمر يدركه العقل ، ويحكم به. ولا يمكن التخصيص في الحكم العقلي. ومن هنا قد ينشأ إشكال بالنسبة للجامع الانتزاعي كعنوان «أحدهما ، أو أحدهم» حيث خرج

٣٢١

عن مقتضى هذه القاعدة العقلية ، وذلك لأنه إذا قال المولى : «ائت بأحد الفردين» ، وأتى المكلّف بفرد واحد ، فهذا يكون على مقتضى القاعدة ، حيث يكتفى بالإتيان بفرد واحد.

ولكن لو قال المولى : «لا تأت بأحدهما» ، فمقتضى القاعدة هو وجوب الاجتناب عن كلا الفردين لأنّ النّهي تعلّق بعنوان أحدهما ، فلا بدّ من ترك كلا الفردين كي يتحقق إعدام العنوان كما هو مقتضى القاعدة ، مع أنّنا نرى أنّ الاجتناب عن عنوان أحدهما يكفي فيه ترك أحد الفردين فقط وحينئذ يقال : كيف خرج هذا النحو عن مقتضى القاعدة ، مع أنّ القاعدة قد حكم بها العقل ، وحكمه غير قابل للتخصيص؟.

وإن شئت قلت : إنّ حكم العقل ، بأنّ الطبيعة توجد بانوجاد فرد واحد ، ولا تنعدم إلّا بانعدام جميع أفرادها ، هذا الحكم العقلي ينطبق على كل كلي عقلي وطبيعة ما عدا الجامع الانتزاعي مثل «أحدهما» ، فإنّ المولى لو طلب إيجاد أحدهما ، اكتفي بإيجاد واحد من أفراد الطبيعة.

بينما إذا طلب المولى إعدام أحدهما ، أو ترك أحدهما ، فإنّه لا يفهم من خطابه تركهما وإعدامهما معا ، مع أنّه من الواضح ، أنّ الحكم العقلي ، أو القاعدة العقلية لا تقبل التخصيص.

وفي مقام الجواب عن ذلك نقول : إنّ الصحيح هو أنّ عنوان «أحدهما» وما شابهه ، ليس من الجوامع الحقيقية من قبيل الإنسان لأفراده ، بل عنوان أحدهما هو مجرّد أمر ذهني يشار به إلى فرد بعينه في الخارج ، أو إلى أحد فردين لا بعينه في الخارج.

وحينئذ لا يكون هذا جامعا ينطبق على كلا الفردين ، المشار إليه وغيره كما في بقية الجوامع ، وإنما هو كما في الواجب التعييني والتخييري ، فيكون عنوان أحدهما من قبيل الدالة الجبريّة والرياضيّة التي يعبّر بها عن الأعداد.

٣٢٢

فلفظ «س» تارة يرمز به إلى عدد «ثلاثة» ، وأخرى يرمز به إلى عدد «أربعة» ، حيث لا يكون معنى ذلك ، أنّ هذا اللفظ «الرمز» جامع بين العددين ، وإنما هو بقوة قوله ، «هذا أو ذاك» فلا يكون طلب ترك الجامع «أحدهما» طلبا لترك الجامع ، وإنّما هو طلب لإلغاء وترك إحدى الخصوصيتين.

والدليل على ذلك هو أنّ كل جامع لا يعقل انطباقه على الفرد بخصوصية وإنما ينطبق عليه بذاته دون خصوصيته لأنّ الجامع ينتزع عن الأفراد بعد إلغاء خصوصياتها كما هو واضح.

وهذا المعنى غير متحقق في عنوان «أحدهما» لأنّ هذا العنوان ينطبق على كل فرد من الفردين بخصوصيّته ، فهو ينطبق بالنتيجة على الخصوصية بما هي خصوصية ، وهذا بخلاف الجامع ، فإنّه لا يمكن أن ينطبق على الفرد بخصوصيّته.

وهذا يبرهن ، على أنّ هذا الجامع ليس بجامع حقيقي ، وإنّما هو رمز ، وبذلك ، لا يلزم تخصيص القاعدة العقليّة ، لأنّ القاعدة العقليّة ، إنما كانت بالنسبة للنّهي إذا تعلّق بالجامع الحقيقي ، فحينئذ ، الانتهاء عنه لا يكون إلّا بترك جميع أفراده.

وهذه قاعدة مطّردة في جميع الجوامع الحقيقيّة إذا تعلق بها النّهي.

وأمّا في مثل عنوان «أحدهما» فيكتفى فيه بترك أحد الفردين إذا تعلق به النّهي ، باعتبار أنّه ليس بجامع حقيقي كما عرفت.

إذن فلا تخصيص في هذه القاعدة العقلية.

وبهذا ينتهي الكلام في الجهة الرابعة ، وبها يتم الكلام في الفصل الأول ، أي : في صيغة النّهي.

الفصل الثاني : والكلام في الفصل الثاني في مادة النّهي يقاس على الكلام في صيغة النّهي في الجهات الأربع التي تقدمت.

٣٢٣
٣٢٤

الفصل الثاني

اجتماع الأمر والنّهي

والكلام في جواز اجتماع الأمر والنّهي وامتناعه ، إنما يكون بعد فرض أصل موضوعي مفروغ عنه. وهذا الأصل الموضوعي ، عبارة عن التضاد بين الأمر والنّهي إذا كان مركزهما واحدا ، من دون أيّ فارق بين متعلقيهما من قبيل قوله : «صلّ ولا تصلّ».

وبعد الفراغ عن هذا الأصل الموضوعي ، يقع الكلام في أنه إذا اختلف مركز الأمر والنّهي بالإطلاق والتقييد كما في قوله : «صلّ ، ولا تصلّ في الحمّام» ، أو اختلف مركزهما بالعنوان ، من قبيل «صلّ ، ولا تغضب» ، فيما لو أضطر إلى الصلاة في الأرض المغصوبة ، فهل إنّ اختلاف مركز الأمر والنّهي بأحد هذين النّحوين يكفي لدفع غائلة ومحذور التضاد ، بحيث يمكن أن يثبت الأمر والنّهي معا ، أو لا يكفي؟.

ولتحقيق ذلك ، لا بدّ من تحقيق ذلك الأصل الموضوعي ، لنرى ما هو ملاك التضاد فيه ، كي نبحث بعد ذلك ، عن أنّ اختلاف مركز الأمر والنّهي بأحد هذين النّحوين ، هل يرفع ملاك التضاد هذا ، أو لا يرفعه؟

إذن ، فيقع الكلام أولا في تحقيق ملاك التضاد بين الأمر والنّهي ، إذا كان مركزهما واحدا ومن دون أيّ اختلاف في متعلقهما الذي هو الأصل الموضوعي.

فنقول : إنّ توجيه خطابين إلى المكلف ، من قبيل ، «صلّ ولا تصلّ».

٣٢٥

محال ، وهذه المحاليّة نشأت من التضاد بين الحكمين ، إذن لا بدّ أولا من معرفة مركز هذا التضاد.

وفي هذا المقام ، تارة نتكلم على غير مبنانا ، كمبنى السيد الخوئي «قده» وأخرى نتكلم على مبنانا.

أمّا على مبنى السيد الخوئي «قده» : فلا تضاد بين قوله : «صلّ ، ولا تصلّ» أصلا في أيّ مرتبة من مراتب الحكم.

وتوضيح ذلك ، هو أنّ للحكم مراتب ثلاثة :

١ ـ المرتبة الأولى : مرتبة نفس الحكم.

٢ ـ المرتبة الثانية : مرتبة الامتثال.

٣ ـ المرتبة الثالثة : مرتبة المبادئ.

أمّا بلحاظ مرتبة نفس الحكم : فلا تضاد ، على مبنى السيد الخوئي «قده» ، لأنّ الحكم عنده مجرد أمر اعتباري ، وهو سهل المئونة ، فلا تضاد بين الوجوب والحرمة ، لأنّه لا تضاد بين الاعتبارين كذلك.

وأمّا بلحاظ عالم الامتثال. فأيضا ، لا تضاد ، لأنّ المكلّف ، وإن لم يكن قادرا على امتثال هذين الحكمين ، إلّا أنّ القدرة عند السيد الخوئي «قده» ليست شرطا في الخطاب ، بل هي شرط في حكم العقل ، وعليه فلا مانع من توجه هذين الخطابين إلى المكلف. فإن وصل أحدهما دون الآخر ، حكم العقل بوجوب امتثاله ، وإن وصلا معا ، لم يحكم بأيّ منهما ، لتساوي نسبة المولوية بالنسبة إليهما.

وأمّا بلحاظ عالم المبادي ، أي مبادئ الحكم ، كالحب والبغض : فأيضا لا تضاد لأنه قد تكون مبادئ الحكم قائمة في نفس الجعل ، لا في متعلقه ، فلا يتّحد مركز المصلحة الفعلية مع مركز المفسدة الفعلية كما بنى على ذلك السيد الخوئي «قده». إذن فلا تضاد ، أو لأنّ المبادئ ، بمعنى

٣٢٦

المصلحة والمفسدة ، قائمة بالمتعلّق ، إلّا أنه ينكر الحب والبغض في أحكام المولى كما هو ظاهر بعض الأصوليين فلا تكون المصلحة والمفسدة موجبة للحب والبغض ، فبناء على ذلك ، لا تضاد ، إذ لا مانع من أن يكون شيء واجدا للمصلحة والمفسدة معا.

والحاصل : إنّه لا تضاد بين خطاب «صلّ» وخطاب «لا تصلّ» بناء على مبنى الخوئي «قده». وقد أوضحنا في محلّه بطلان هذه المباني.

وأمّا إذا تكلمنا على مبانينا : فسوف نرى أنّ التضاد قائم بين هذين الخطابين.

أمّا بلحاظ عالم الحكم : فالتضاد موجود بين هذين الخطابين «صلّ ، ولا تصلّ» في عالم الجعل والحكم ، باعتبار أن الحكم متقوم بداعي المحركيّة والزاجرية. ومن الواضح أنّ هذين الداعيين متضادان فيستحيل اجتماعهما على عنوان واحد.

أمّا بلحاظ عالم الامتثال : فلأنّ القدرة شرط في التكليف ، وعليه ، فحيث أن المكلف ليس له إلّا قدرة واحدة إذن فهو غير قادر على امتثالهما معا ، إذ لا قدرة لهذا المكلف على أن يصلي ، ولا يصلي ، إذن فيستحيل أن يتوجه الخطابان معا إليه.

وإذا كان يمكن دفع محذور التضاد في باب التزاحم ، عن طريق افتراض قدرتين مشروطتين كل منهما بعدم الأخرى ، لكنه هنا في المقام غير معقول.

وأمّا بلحاظ عالم المبادي : فلا يمكن اجتماع هذين الخطابين المتضادّين ، لأنّ الأمر يكشف عن مصلحة تامة ومحبوبية فعلية في الفعل ، وكذلك النّهي يكشف عن مفسدة تامة ومبغوضيّة فعلية قائمة في الفعل. وعليه فلا يمكن تعلّقهما بشيء واحد للزوم اجتماع الضدّين. وقد ذكرنا في بحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية أنه لا يعقل قيام المبادئ بنفس الجعل ، بل هي قائمة بالمتعلق. وبناء عليه ، فيحصل التضاد بينهما ، لأن

٣٢٧

مقتضى قوله : إنّ الصلاة ذات مصلحة وحب فعلي ، ومقتضى قوله : «لا تصلّ» ، أن الصلاة ذات مفسدة وبغض فعلي ، ولا يعقل اجتماع هذين الأمرين في مركز واحد.

وبهذا يثبت التضاد بين «صلّ ، ولا تصلّ» بلحاظ تمام مراتب الحكم ، وبهذا تمّ الكلام في هذا الأصل الموضوعي.

ثم إنّه يقع الكلام ثانيا ، في أنّ اختلاف مركزي الأمر والنّهي بالإطلاق والتقييد ، أو بالعنوان ، هل يرفع ملاك التضاد ومحذوره على أساس مبانينا ، كي لا يكون مانع من توجه الأمر والنّهي معا حينئذ ، أو إنّه لا يرفعه ، بل يستحيل توجه كلا الخطابين معا إلى المكلف؟

ولا يخفى أنّ الاختلاف بالإطلاق والتقييد ، يبحث فيه من جهة واحدة ، وهي إنّ هذا الاختلاف هل يكفي في جواز اجتماع الأمر والنّهي فيه ، أو لا يكفي؟

وأمّا الاختلاف بالنحو الثاني فيبحث فيه من جهتين :

١ ـ الجهة الأولى ، هي : إنّ تعدد العنوان هل يوجب تعدد الخارج ليجوز الاجتماع؟

٢ ـ الجهة الثانية ، هي : إنّه على تقدير أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدّد الخارج ، حينئذ يبحث في أنّ نفس اختلاف العنوان ، هل يصحّح اجتماع الأمر والنّهي أو لا يصحّح؟.

أمّا إذا كان الاختلاف بالنحو الأول ، أي : بالإطلاق والتقييد ، من قبيل قوله ، «صلّ» ، و «لا تصلّ في الحمّام» ، فإنّه في مثله لا تضاد بين الحكمين بحسب عالم المحركية والزاجريّة ، إذ يمكن فعليّة انقداح كلا الداعيين : داعي البعث نحو المطلق ، وداعي الزجر عن المقيّد ، في عرض واحد بلا أي محذور ، فيأمر المولى بالمطلق بداعي المحركيّة ، وينهى عن المقيّد بداعي الزاجرية حينئذ بلا أيّ محذور.

٣٢٨

وأمّا بلحاظ عالم الامتثال : فأيضا لا تضاد ، لأنه يمكن للمكلف امتثالهما معا ، بأن يأتي بالجامع بغير الحصة المحرمة كما لو صلّى في غير الحمّام.

وأمّا بلحاظ عالم المبادئ : فتارة تلحظ هذا التنافي بينهما بالنسبة إلى عالم الذهن والمفاهيم ، أي : المعروض بالذات.

وأخرى تلحظ التنافي بينهما بالنسبة إلى عالم الخارج والوجود الخارجي ، أي : المعروض بالعرض.

أمّا إذا لاحظته بالنسبة إلى عالم الذهن ، العالم الأول : فقد يقال بوجود تضاد بينهما ، بتقريب أنّ الصلاة بعنوانها قد وقعت تحت الأمر مستقلة ، فتكون محبوبة استقلالا بالفعل ، كما أنها وقعت تحت النّهي ، ومعروضة للمبغوضيّة ضمنا ، أي : ضمن المقيّد لأنّ النّهي قد تعلق بالصلاة بالحمّام ، فتكون الصلاة بعنوانها واقعة ضمنا تحت النّهي ، وبذلك تكون مبغوضة ضمنا.

وحينئذ يقال : كما أنه يستحيل اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة الاستقلاليتين ، كذلك يستحيل اجتماع المحبوبيّة الاستقلاليّة والمبغوضيّة الضمنيّة ، إذ من غير المعقول ، الأمر بالصلاة استقلاليا مع النّهي عن السجود ضمنيا ، وذلك لتضادهما.

ولكن الصحيح أنّ هذا الكلام غير تام ، وتوضيح ذلك هو : إنّه إذا أحبّ شخص شيئا مركبا من شيئين ، كما لو أحبّ ، «اللبن والخبز مجتمعين» بحيث لا يكون كل منهما وحده محبوبا. ففي مثل ذلك ينحل هذا الحب إلى حبّين ضمنيّين ، بمعنى أنّ حب اجتماعهما يحركه نحو إيجاد كل منهما. وأمّا لو فرض أنه كان يبغض مركبا من شيئين ، بحيث أنه كان لا يبغض كلا منهما وحده ، ففي مثل ذلك لا ينحل بغضه إلى بغضين ضمنيّين ، بمعنى أنّ

٣٢٩

بغضه لاجتماعهما لا يحركه نحو إعدام كل منهما ، وإنما يحركه نحو إعدام أحدهما فقط.

إذن ففي طرف الحب : لا يتحقق محبوبه إلّا بإيجاد الشيئين.

وأمّا في طرف البغض : فيمكن التخلّص من مبغوضه بإعدام أحد الشيئين.

وإن شئت قلت : إنّه فرق بين المحبوبيّة الضمنيّة ، والمبغوضيّة الضمنيّة :

إذ الأولى لا يمكن اجتماعها مع المبغوضيّة الاستقلاليّة.

بينما الثانية يمكن اجتماعها مع المحبوبية الاستقلالية ، إذ يمكن للمولى أن يبغض مجموع أمرين مع تعلق حبه الاستقلالي بأحدهما.

فالنتيجة هي : إنّ المحبوبية الضمنيّة يستحيل اجتماعها مع المبغوضيّة الاستقلاليّة ، بينما يجوز اجتماع المبغوضيّة الضمنية مع المحبوبيّة الاستقلاليّة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه في مثل مقامنا لا يلزم اجتماع المحبوبيّة الاستقلاليّة مع المبغوضيّة الضمنية بالنسبة إلى قوله : «صلّ ولا تصلّ في الحمّام» ، وذلك لعدم كون الصلاة مبغوضة ضمنا بناء على ما ذكرناه ، إذ المبغوض إنما هو المركب وهو «الصلاة في الحمّام» وهذا المبغوض لا ينحل إلى بغضين ضمنيّين ، كما يشهد بذلك الوجدان.

ورغم كون الوجدان قائما على ذلك ، فإنّ البرهان أيضا قائم على ذلك ، وذلك بدعوى ، أنه لا معنى للمبغوضيّة الضمنيّة ، وذلك لأنّ البغض الضمني إمّا أن يكون له اقتضاء ، أو لا ، وعلى الثاني يلزم أن لا يكون جزءا من الاستقلالي ، وعلى الأول ، إن كان يقتضي ما يقتضيه الاستقلالي. فحينئذ لا يكون بغضا ضمنيا بل يكون عبارة أخرى عن البغض الاستقلالي ، وإن كان يقتضي نفس ترك الصلاة التي هي جزء من المبغوض الاستقلالي المركب ، من «الصلاة في الحمّام» فهذا معناه أنّ البغض الضمني اقتضى ما لا يقتضيه البغض الاستقلالي ، وهذا خلف الضمنية ، وعليه فلا يتمّ ما ذكر.

٣٣٠

وإن شئت قلت بعد دلالة الوجدان : إنّ البرهان أيضا قائم على ما ذكرنا ، بدعوى أنّ المبغوضيّة الضمنيّة غير معقولة في نفسها بخلاف المحبوبيّة الضمنيّة ، لأنّ الحب عند ما يتعلّق بمجموع أمرين سيكون معنى ذلك ، أنه تعلّقت بالجزءين محبوبيّتان ضمنيّتان ، ويكون لكل من هاتين المحبوبتين اقتضاء غير مستقل لإيجاد الجزء الذي تعلّقت به تلك المحبوبيّة ، وكذلك الأخرى ، لا كاقتضاءين مستقلّين ، بل كل محبوبيّة تشكّل جزءا من اقتضاء الحب الاستقلالي للمجموع ، وهكذا فإنّ الحب الضمني يكون جزءا تحليليا لذلك الحب الاستقلالي للمجموع.

وأمّا البعض : فهو خلاف ذلك ، فأنّه إذا تعلق بمجموع أمرين ، فهو إنما يقتضي إعدام المجموع ، وهذا يكفي فيه إعدام أحد الأمرين لا إعدام كليهما ، وهذا الاقتضاء بخلافه في طرف الحب ، فإنّه هنا في البغض لا يمكن أن يتبعّض الاقتضاء فينحل إلى بغضين ضمنيّين يتعلقان بكلا الأمرين المبغوضين كي يكون لهما اقتضاءان تحليليّان كما في الحب ، ذلك لأنّه تعلق بإعدام المجموع وبغضه ، لا بإعدام الجميع ، وحينئذ يكون معنى ذلك أنّ البغض في صورته هذه يكشف عن عدم انحلال المبغوضيّة للمجموع إلى مبغوضيتين ضمنيتين ، وذلك لأنّه لو كان هناك بغض ضمني ، فهو لا يخلو أمره من إحدى حالتين : فإمّا أن يكون له اقتضاء أو لا يكون :

فإن كان له اقتضاء لإعدام أحد الأمرين كما يقتضيه البغض الاستقلالي كان معناه أنه عبارة عن البغض الاستقلالي.

وإن كان يقتضي نفس ترك الصلاة التي هي الجزء من المبغوض الاستقلالي المركب منها ، ومن الكون في الحمام ، فهذا معناه أنّ البغض الضمني اقتضى ما لا يقتضيه البغض الاستقلالي ، وهو خلف كونه مبغوضا ضمنيا. هذا مع العلم أن المجموع يوجد بوجود كل أجزائه ، بينما يكفي في إعدامه إعدام أحد أجزائه. وأمّا إذا كان ذلك البغض لا يقتضي ، فيلزم من هذا أن لا يكون جزءا من المبغوض الاستقلالي وهو خلف كونه مبغوضا.

٣٣١

وقد يضاف إلى هذا البيان ، بيان آخر ، حيث يقال : إنما يتنافى الحب والبغض فيما إذا فرض تنافيهما في مقام الاقتضاء والتأثير ، كما لو كان بين مقتضاهما تضاد ذاتي لا عرضي كما عرفت ذلك في باب التزاحم ، حينئذ يستحيل اجتماعهما.

فلو فرض عالم آخر غير عالمنا ، حيث يمكن فيه اجتماع النقيضين ، لأمكن تعلق الحب والبغض بشيء واحد ، إذ إنّ البغض ليس نقيضا للحب بذاته ، إذ لا تضاد ذاتي بينهما ، وإنما التضاد والتنافي بينهما إنما هو بلحاظ متعلقهما.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّه لا تنافي ولا تعاند ذاتي بين مقتضى الحب الاستقلالي لشيء ، ومقتضى البغض الضمني لذلك الشيء نفسه ، ذلك لأنّ البغض الضمني لا يقتضي أكثر من إعدام المجموع لا الجميع ، وهذا لا يتنافى مع مقتضى الحب الاستقلالي لأحد جزأي المجموع لأنّ إعدام المجموع ، لا يتوقف على إعدام هذا الجزء منه.

وإلى هنا ثبت أنه بحسب عالم الذهن والمعروض بالذات لم يلزم اجتماع الضدّين ، فلا يكون هناك تضاد بين قوله «صل ولا تصلّ في الحمّام» بأي مرتبة من مراتب الحكم ، حتى لو وقعت الصلاة مركزا للمحبوبية الاستقلاليّة ، ومركزا للمبغوضية الضمنية.

وأمّا التنافي بين الأمر والنهي بحسب عالم الخارج والمعروض بالعرض ، فقد يقال أيضا بأنّه : يلزم اجتماع الضدّين ، بدعوى ، أنّ الأحكام إنّما تتعلق بالعناوين الذهنية باعتبار حكايتها ومرآتيتها للخارج ، وحينئذ ، تكون الصلاة في الحمّام موردا للأمر والنّهي ، لأنّ الصلاة في الحمّام هي وجود للمطلق والمقيّد ، إذ إنّ الصلاة موجودة بعين وجودها في الحمّام عند الإتيان بها في الحمّام ، فبما أنها وجود للمطلق تكون متعلقا للأمر ، وبما أنها وجود للمقيد تكون متعلقا للنّهي ، وبهذا يلزم اجتماع المحبوبية

٣٣٢

والمبغوضيّة في شيء خارجي واحد ، وهو الصلاة في الحمّام ، وهو غير ممكن ، لاجتماع الضدّين.

وبتعبير آخر يدّعى : إنّ الأحكام إنما تتعلق بالعناوين باعتبار حكايتها ومرآتيتها للخارج ، وحيث أنّه ليس في الخارج إلّا شيء واحد ، إذن ، فقد صار هذا الوجود الواحد متعلقا للمحبوبيّة والمبغوضيّة الاستقلاليتين معا ، وهو غير ممكن لأنّه اجتماع للضدّين.

ولكن هذه الشبهة غير تامة ، وذلك لأنّ الأحكام وإن تعلّقت بالعناوين الذهنية باعتبار حكايتها عن الخارج ، وفنائها فيه ، إلّا أنّ فناءها في الخارج ومرآتيتها له ، إنما يكون بمقدار ما تساعد عليه المرآة من الكشف ، أو فقل : بمقدار مرآتية ذلك العنوان المتعلق وكشفه.

وقد تقدّم تحقيق كون الأمر متعلقا بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، فما هو مفنيّ فيه ، هو صرف وجود الطبيعة في الخارج القابل للانطباق على أيّ فرد ، وليس هو الفرد بالذات ، إذ الفرد مصداق للواجب ، وليس هو نفس الواجب ، ولذا ، لو أنّ المكلف أتى بفرد على أنّه هو الواجب ، لكان مشرّعا.

وأمّا متعلق النّهي ـ والمعروض بالعرض لقوله ، «لا تصلّ في الحمّام» ، والمفنيّ فيه خارجا ـ إنما هو الفرد أو الحصة الخاصة التي تكون مرآة للفرد ، لأنّ الإطلاق في النّهي شمولي ، بينما المعروض بالعرض ، والمفنيّ فيه خارجا لقول «صلّ» ، إنما هو صرف وجود الطبيعة ، وصرف الوجود لا يلحظ من خلاله الأفراد كي يكون المعروض بالعرض واحدا كما عرفت ، وعليه فلم تجتمع المحبوبيّة والمبغوضيّة في مركز واحد خارجي في عالم المعروض بالعرض ، وكذلك لم تجتمع في مركز واحد خارجي بلحاظ المعروض بالذات.

ثمّ إنّه في مقابل هذا الكلام ، هناك بيانان لبيان استحالة اجتماع الأمر

٣٣٣

بالصلاة والنّهي عن الصلاة في الحمّام ، الذي هو محل الكلام ، فإن تمّ أحدهما ملاكا للامتناع ، فسوف نلتزم بالامتناع في هذا النحو.

١ ـ البيان الأول : هو ما أفاده المحقق النائيني «قده» (١).

وحاصله هو : إنّ الأمر بمطلق «الصلاة» ، مع النّهي عن «الصلاة في الحمّام» ، متنافيان بالعرض لا بالذات ، وذلك لأنّ الأمر المتعلق بالصلاة أخذ على نحو الإطلاق البدليّ إذ إنّ هذا مفاد الأمر بصرف الوجود ، والإطلاق البدلي مرجعه إلى ترخيص المولى بتطبيق الصلاة على أيّ فرد من أفرادها ومنها الصلاة في الحمام. وهذا ينافي حينئذ الصلاة في الحمّام.

إذن فالأمر بصرف الوجود يلزم منه الترخيص في التطبيق حتى على الصلاة في الحمّام.

وبذلك يكون التنافي عرضيا باعتبار هذا اللازم.

وإن شئت قلت : إنّه لا يوجد تضاد بين الأمر والنّهي المتعلقين بالمطلق والمقيّد حال كون التركيب اتحاديا وليس انضماميا ، لأنّ مركز الأمر هو صرف الوجود ، ومركز النّهي هو الفرد ، ولا تنافي ذاتي بينهما ، وإنما التنافي بينهما بالعرض.

وهذا التنافي يقتضي عدم إمكان اجتماع الأمر بالصلاة والنّهي عن الصلاة في الحمّام ، وذلك لأنّ الأمر بصرف وجود الطبيعة يلزمه إمكان تطبيقها على أيّ فرد من أفراد الطبيعة خارجا حتى الفرد المحرّم. وحينئذ يقع تناف لا محالة ، بين المدلول الالتزامي المستفاد من بدليّة متعلق الأمر ، وبين النّهي عن الفرد.

__________________

(١) فوائد الأصول ، الكاظمي : ج ١ ـ ص ٢٥٩ ـ ٢٦٧ ٢٦٨.

ـ فوائد الأصول ج ٢ الكاظمي ـ مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة تاريخ ذي الحجة الحرام ١٤٠٤ ه‍.

٣٣٤

والفرق العملي المهم بين هذه الصياغة لبيان التنافي والامتناع بالعرض ، وبين الصياغة المتقدمة لبيان التنافي والامتناع بالذات بين مدلولي الأمر والنهي ، هو : إنّه بناء على الصياغة السابقة ، لا يفرق الحال في الامتناع بين كون النّهي تحريميا ، أو كراهيا ، لأنه لا يعقل اجتماع المحبوبيّة مع المبغوضيّة ولو كانت خفيفة.

بينما بناء على أساس هذه الصياغة للميرزا «قده» ، فامتناع الاجتماع يختص بما إذا كان النّهي تحريميا ، بينما لا يوجد تناف فيما كان النّهي كراهيا ، لأنّه لا مانع من اجتماع كراهة الصلاة في الحمّام مع الترخيص في تطبيق الأمر بالصلاة على الصلاة في الحمّام.

وعلى أيّ حال ، فالصحيح عدم تمامية هذا البيان للامتناع.

وتوضيح ذلك هو : ليس معنى الإطلاق البدلي المذكور هو الترخيص الفعلي في تطبيق الواجب على أيّ فرد من أفراده ، وليس معنى لازمه ذلك أيضا ، بل المعنى المطابقي للإطلاق هو أخذ الطبيعة بلا قيد موضوعا للوجوب كما عرفت تحقيقه سابقا. فإن المستفاد من مقدمات الحكمة هو أنّ تمام ما أخذ في مقام الإثبات ، هو تمام ما هو موضوع في مقام الثبوت ، وذلك لأصالة التطابق بينهما. إذ لو زاد مقام الثبوت على مقام الإثبات بشيء لوجب بيان هذا الزائد ، والمفروض أنّه لم يبيّن.

إذن فالمعنى المطابقي للإطلاق هو هذا المعنى المذكور ، ولازم هذا المعنى هو عدم المانع من تطبيق الجامع على أيّ حصة من الحصص ، لكن عدم المانع من قبل شخص هذا الوجوب ، باعتبار ما عرفت من كون هذا الوجوب عرضا على الطبيعة ، وأن معروضه هو ذات الطبيعة المبيّنة بحسب مقام الإثبات دون أخذ أيّ قيد فيها ، وليس المقصود عدم المانع الفعلي من قبل الشارع.

كما أن تشريع المولى لم ينحصر في هذا الأمر ليقال : إنّه إذا لم يكن

٣٣٥

مانع في التطبيق من قبل هذا الأمر ، فلا مانع أيضا من قبل الشارع.

والخلاصة هي : إنّه وقع خلط في المقام بين الترخيص الوضعي المتمثل في اقتضاء الأمر ، إذ الأمر يقتضي الترخيص الوضعي في تطبيق الحكم على أيّ فرد من أفراد الطبيعة المعروضة للحكم والإجتزاء بأي فرد يحقق هذه الطبيعة ، ومعنى هذا : إنّ هذا لا ينافي أن يكون هناك مانع من ناحية أخرى ، إذن فلا تنافي بين مدلول الأمر والنّهي لا بالذات ، ولا بالعرض.

٢ ـ البيان الثاني : لاستحالة اجتماع الأمر بمطلق الصلاة مع النهي عن الصلاة في الحمّام.

وهو مبني على أن التخيير الشرعي يلازم التخيير العقلي في عالم الحب ، لا في عالم الجعل والإلزام.

وتوضيح ذلك هو : إنّ الأمر في المقام تعلق بالجامع بنحو صرف الوجود ، وفي مقام التطبيق على الأفراد يحكم العقل بالتخيير ، إلّا أنّ هذا التخيير العقلي لا يلزمه تخيير شرعي بحسب عالم الجعل والإلزام ، لأنّ معنى التخيير الشرعي في المقام أنّه يرجع هذا الأمر إلى أوامر متعددة مشروطة ، مع أنّنا بيّنا سابقا أنّه ليس معنى قوله «صلّ» ، يعني : صلّ في المسجد ، إذا لم تصلّ في البيت ، وصلّ في البيت إذا لم تصلّ في المسجد.

والسر في ذلك. هو : إنّ الأمر مرجعه إلى الجعل والإلزام من قبل المولى :

فالمولى تارة يجعل الأمر على الطبيعة بنحو صرف الوجود ، وحينئذ فلا يسري إلى الأفراد ولو تخييرا.

وأخرى يجعله على الأفراد ، وحينئذ لا يصعد إلى صرف الوجود للطبيعة.

٣٣٦

وعليه فلا تلازم بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي بحسب عالم الجعل والإلزام.

وأمّا بحسب عالم الحب : فيوجد تلازم بينهما ، لأنّه إذا تعلق الأمر بالجامع بنحو صرف الوجود ، فمعنى ذلك تعلق الحب بهذا الجامع ، ومرجع هذا الحب إلى التخيير العقلي كما هو واضح ، وهذا الحب يلزمه عقلا في نفس المحب أفراد كثيرة من الحب ، فكلما توجه لفرد وفرض عدم الأفراد الأخرى ، فسوف يحب ذلك الفرد. وهذا معنى التخيير الشرعي في الحب ، فيكون كل فرد محبوبا له لكن بشرط عدم وجود بقية الأفراد الأخرى.

وحينئذ نقول في محل الكلام : إنّ الأمر المتعلق بصرف وجود الصلاة وراؤه حب متعلّق بصرف وجودها ، وهذا حب مرجعه إلى التخيير العقلي كما عرفت ، ويلازمه حب بنحو التخيير الشرعي ، فإنّ هذا الحب سوف يسري إلى الأفراد ، غايته أنّه يسري بدلا ، لا جمعا. وبذلك ستكون الصلاة في الحمّام التي هي من جملة أفراد الصلاة محبوبة على تقدير عدم الأفراد الأخرى.

وكون الصلاة في الحمّام محبوبة ولو على تقدير ، ينافي كونها مبغوضة على كل تقدير كما هو مقتضى النّهي عنها.

فبهذا يثبت استحالة اجتماع الأمر بالصلاة بنحو صرف الوجود مع النّهي عن الصلاة في الحمّام ، فلا يكون الاختلاف بالإطلاق والتقييد كافيا في رفع ملاك التّضاد بين الأمر والنّهي.

والخلاصة هي : إنّ الحب المتعلق بالجامع بنحو صرف الوجود ، لازمه تعلّق الحب بكل فرد على تقدير عدم الأفراد الأخرى. ومعنى هذا أنّ التخيير العقلي دائما يلزم منه التخيير الشرعي بلحاظ عالم الحب ، وإن لم يكن كذلك بلحاظ عالم الجعل والحكم ، وهذا يقتضي التضاد بين النّهي عن

٣٣٧

الحصة والأمر بالطبيعة ، لأنّ النّهي عن الحصص يقتضي تعلق البغض بالحصة ، والأمر بالطبيعة يقتضي تعلّق الحب بها مشروطا بترك الحص الأخرى. إذن فبلحاظ عالم الحب ، يكون الحب ساريا من الطبيعة إلى الأفراد بنحو مشروط ، وإن لم يكن كذلك بلحاظ عالم الجعل والحكم ، فيلزم بذلك اجتماع الضدّين ، إذ إنّه كما لا يجتمع الضدان مطلقا ، فكذلك لا يجتمعان مشروطا.

ولا يخفى أن هذا البيان موقوف على تسليم التلازم بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي بحسب عالم الحب ، أيّ : على تسليم إرجاع كون الحب المتعلق بالطبيعة إلى كل فرد من أفرادها مشروطا بعدم الأفراد الأخرى.

وهذا التلازم ، وإن لم يبرهن أحد عليه ، ولكن مع هذا ، لا يستطيع أحد إنكاره ، لأنّه وجداني ، فمثلا : من يعطش فيشرب الماء ، لا يقال له : إنّ حبك متعلّق بصرف الوجود للماء ، فما شربته من الماء ليس هو المحبوب لك ، بل هو مصداق له ، فإنّ مثل هذا الكلام ينكره الوجدان ، وإن لم يمكن دعمه بالبرهان.

ومعنى هذا أنه بلحاظ عالم الحب والبغض ، يلزم دائما من التخيير العقلي تخيير شرعي.

وعليه فلا يمكن اجتماع الأمر بمطلق الصلاة ، مع النّهي عن الصلاة في الحمّام ، كما تقدّم وعرفت في البيان الثاني.

فالاختلاف بين مركزيّ الأمر والنّهي بالإطلاق والتقييد لا يرفع ملاك التضاد.

وعليه فهذا البيان تام في إثبات الامتناع.

وأمّا الاختلاف بالنحو الثاني وهو الاختلاف بين مركز الأمر والنّهي من ناحية تعدد العنوان من قبيل. قوله : «صلّ» ، و «لا تغصب» فيما لو أضطر

٣٣٨

المكلف إلى الصلاة في الغصب بسوء اختياره ، ففي هذا النحو هل يكون تعدد العنوان مجديا في رفع محذور التضاد ، أو لا يكون مجديا؟ وهنا توجد دعويان متطرفتان :

١ ـ الدعوى الأولى :

مفادها : إنّه يكفي في رفع غائلة التّضاد بين الحكمين ، تعدد الوجود الذهني لأنّه هو المعروض بالذات للحكم ، كما إذا كان أحد الوجودات الذهنية معروضا للحكم بالوجوب ، والآخر معروضا للحكم بالحرمة ، ولو كان هذان الوجودان الذهنيان متّحدين خارجا ، أي : ولو اتّحد المعروض بالعرض لهما.

وهذه دعوى متطرفة في جواز الاجتماع ، ولازم هذه الدعوى هو أنه لو أوجدنا ماهية واحدة في الذهن بوجودين مرّتين ـ كما لو تصورنا الصلاة مثلا مرتين ـ فإنّه بناء على هذا ، يمكن أن يتعلق بإحداهما الحب ، وبالأخرى البغض ، لأنّ كلا منهما وجودها غير وجود الأخرى ، وإن اتّحدتا في الماهيّة ، نظير عروض أحد الضدّين على «زيد» والآخر على «عمر» بلا فرق رغم كونهما وجودين خارجيّين لماهيّة واحدة.

ولا يخفى أنّ هذه الدعوى مبنيّة على أنّ الأحكام تتعلق بالوجودات الخارجية.

وهذا هو الأساس في عدم استحالة اجتماع الأمر والنّهي.

ودعوى أنّ الأحكام تعرض على الوجودات الذهنية وأنها لا تعرض على الوجودات الخارجية ، قد برهن عليها بثلاثة براهين :

١ ـ البرهان الأول : هو أنه لا بدّ من كون معروض الأمر والحكم الشرعي محفوظا في حالتي الامتثال والعصيان ، ولا يكون معروض الأمر محفوظا في كلتا الحالتين إلّا إذا كان وجودا ذهنيا ، وذلك لأنّ المعروض

٣٣٩

الخارجي إنما يكون محفوظا في حالة الامتثال فقط ، بينما لا يكون محفوظا في حالة العصيان لعدم تحققه ، أو تحقق شيء من مصاديقه في الخارج ، وبهذا يثبت أنّ معروض الأمر ومتعلقه هو الوجود الذهني ، لا الخارجي.

٢ ـ البرهان الثاني : هو إنّ الأمر بالصلاة مثلا ، لو كان عارضا على الوجود الخارجي للصلاة ، لكان الأمر متأخرا عن وجودها الخارجي ، مع أن وجود الصلاة في الخارج متأخر رتبة عن الأمر بها ، إذ إنّ الصلاة إنما توجد خارجا بسبب الأمر بها ، فالأمر من مبادئ وجودها في الخارج ، ومعه لا يعقل أن يكون الوجود الخارجي لها معروضا للأمر ، وإلّا لزم الدور كما هو واضح. وهذا معنى ما يقال : من أن العليّة تنافي العروض ، إذ إنّ كون الأمر علة لوجود الصلاة خارجا ، ينافي مع كون الأمر عرضا من أعراض هذا الوجود للصلاة.

وقد أجاب المحقق الأصفهاني «قده» (١) عن هذا البرهان بما حاصله : إنّ ما هو عارض على وجود الصلاة إنما هو الأمر بوجوده الواقعي. وأمّا ما هو علة لوجودها فهو الأمر بوجوده العلمي ، أي : علم المكلف بالأمر ، لأنّ العلة في إيقاع الصلاة هو علم المكلف بالأمر لا مجرد وجود الأمر واقعا وتقديرا ، وإن لم يعلم به المكلف.

والخلاصة هي : إنّ العارض على الوجود الخارجي للصلاة ، إنما هو الأمر الواقعي ، وما يكون علة للوجود الخارجي إنّما هو الأمر بوجوده العلمي. إذن ، فاختلف ما هو العلة والمتقدم عمّا هو العارض المتأخر ، فلا دور.

الّا أنّ هذا الجواب غير تام : وذلك لأنّه إذا كان الأمر بوجوده الواقعي عارضا ومتأخرا عن الوجود الخارجي للصلاة ، إذن فيستحيل أن يكون العالم

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني : ج ٢ ص ٩٨ ـ المطبعة العلمية ـ رقم ١٣٧٩ ـ ١٣٣٨.

٣٤٠