بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

إذن فالتردّد بين الأقل والأكثر ، إنّما يكون بلحاظ اهتمامات المولى ، لا بلحاظ كون سنخيّة المصلحة في الخطابين واحدة ، وكونها أقل في المهم ، وأكثر في الأهم.

وحينئذ لا يستشكل بأنّ المتزاحمين ربّما يرجعان إلى ملاكين متباينين غير متسانخين ، لأنّك عرفت أنّ المقصود بالملاك إنّما هو المصلحة التي تكون موردا لاهتمام المولى ، إذ مثلها يتنجّز بحكم العقل ، ويدخل في العهدة.

ثم إنّه قد يرد إشكال في المقام ، يثبت التلازم بين التقريبين ، واحتياج تماميتهما إلى قرينة خارجية.

ولكن من خلال الجواب عليه ، يتضح الفرق جليا بين التقريبين :

وبيان ذلك هو : إنّ العلم بأهمية الإزالة ، إمّا أن يكون فعليا حتى في حال الاشتغال بالصلاة ، فتكون القدرة في الإزالة عقليّة ، وإمّا أن يكون فعليا إذا تمّت شروطه ، بمعنى أنّ فعليته تعليقيّة ، إلّا أنّه لا يعلم أنّ عدم الاشتغال بالصلاة من شروطه ، أو ليس من شروطه ، أي : إنه لا يعلم بفعليته حتى حال الاشتغال بالصلاة ، وحينئذ ، فإن فرض كونه فعليا حتى حال الاشتغال بالصلاة ، إذن يتم التقريب الأول وهو الورود بالنحو الذي عرفته ، إلّا أنّه لا حاجة له لكفاية التقريب الثاني ، باعتبار أنّه في مثل ذلك يستقل العقل بلزوم استيفاء الأهم ، وهو الإزالة.

وإن فرض الثاني ، وهو : كون العلم بأهميّة الإزالة فعليا إذا تمت شروطه مع أنّه لا يعلم أنّ عدم الاشتغال بالصلاة ، أهو من شروطه ، أو ليس من شروطه ، ففي مثل ذلك تكون أهميّته تعليقيّة ، لا فعلية.

وعليه : فلا يتم التقريب الثاني ، لأنّ العقل لا يحكم بلزوم العدول من الصلاة إلى الإزالة ، لأنّه مع الاشتغال بالصلاة لا يحرز أنّه فوّت ملاك الإزالة ، باعتبار عدم إحراز فعليّة ملاكها لحال الاشتغال بالصلاة.

٦١

ومن هنا يعلم أنّ التقريب الأول وهو الورود ، غير تام ، لأنّه كما يكون الورود من جانب الإزالة ، فإنه يحتمل أن يكون من جانب الصلاة ، لأنّنا نحتمل كون الاشتغال بالصلاة رافعا لملاك الإزالة حينئذ.

وبهذا يثبت أنّ تمامية التقريب الأول موقوفة على المعنى الأوّل للأهميّة ، وهو أن يكون الملاك فعليا حتى في حال الاشتغال بالصلاة ، كما عرفت.

إلّا أنّ إحراز فعليّة هذه الأهميّة ، لا يتكفّله نفس الخطاب ، لما عرفت سابقا ، من أنّ فعليّة الملاك لا تحرز بنفس الخطاب ، وحينئذ لا بدّ من قرينة خارجيّة على فعليّة ملاك الإزالة ، حتى في حال الاشتغال بالصلاة ، فإن تمّت قرينة خارجية على ذلك ، فيتم التقريب الأول ، وإلّا فلا.

وإذا تمّ الأول يتم الثاني ، لما عرفت ، ومعه لا حاجة للأول ، وبهذا نثبت الملازمة بين التقريبين واحتياجهما في التماميّة لقرينة خارجية.

وتحقيق هذا الإشكال هو أن يقال : إنّ هذين التقريبين غير متلازمين ، كما أنّ التقريب الأول لا يحتاج إلى قرينة خارجية على فعليّة الملاك.

وبيان ذلك هو : إنّ كل خطاب ، هو مقيّد لبّيا بعدم الاشتغال بضد واجب ، كما عرفت ، إلّا أنّ هذا التقييد لا بدّ وأن يقتصر فيه على أقل مقدار ترتفع به الضرورة ، لأنّ هذا التقييد ضرورة ، وهي تقدّر بقدرها.

وعليه ، فاللازم برهانا أن نقيّد كلّ خطاب بعدم الاشتغال بضد واجب واجد لنكتتين :

١ ـ النكتة الأولى : هي أن يكون هذا الضد الواجب مساويا في الملاك لذلك الواجب ، أو أهم منه ، وإلّا فلو كان أقل منه ملاكا ، فلا برهان على تقييد ذلك الواجب بعدم الاشتغال به ، لعدم دليل على كون القدرة في ذلك الواجب شرعية كي يقيّد بذلك.

٦٢

٢ ـ النكتة الثانية : هي أن يكون ملاك الضد الواجب فعليا ، حتى في حال الاشتغال في الواجب الذي نريد أن نقيّده.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّه لا بد وأن نلاحظ الصلاة والإزالة لنرى أنّ كلا منهما ، هل هو واجد لتلكما النكتتين ، ليكون كلّ منهما رافعا لموضوع الآخر بامتثاله ، أو إنّ أحدهما هو الواجد دون الآخر ليكون الواجد هو الرافع لموضوع الآخر بامتثاله ، أو إنّ كلا منهما غير واجد لتلكما النكتتين ، فلا يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر.

وعلى هذا نأتي إلى الصلاة ، فنرى أنها غير واحدة للنكتة الأولى ، لأنّ المفروض أنّ ملاكها غير مساو لملاك الإزالة ، ولا أهمّ ، بل ملاك الإزالة أهم منها ، حسب الفرض ، وعليه ، فلا يكون الاشتغال بالصلاة رافعا لموضوع الإزالة ، وواردا عليه.

وحينئذ يكون مقتضى إطلاق دليل الإزالة هو أنّ ملاك الإزالة فعلي حتى في حال الاشتغال بالصلاة.

وأمّا إذا لاحظنا الإزالة ، فنرى أنها واحدة لكلتا النكتتين ، أمّا الأولى ، فلأنّ المفروض أنّ ملاك الإزالة أهم ، وأمّا الثانية ، فلما عرفت قبل قليل ، من أنّ ملاك الإزالة ثابت وفعليّ ، حتى في حال الاشتغال بالصلاة.

وبهذا نثبت أنّ الإزالة رافعة بامتثالها لموضوع وجوب الصلاة بلا احتياج لقرينة خارجية ، كما ذكر في الإشكال.

وبهذا ظهر أنّ التقريب الأول يتمّ بلا قرينة خارجية ، كما ادّعي ، وظهر أيضا عدم التلازم بين التقريبين ، لأنّ التقريب الثاني يتوقف على ما ذكر في الإشكال ، إلّا أنّ الأول لا يتوقف على العلم بالاهميّة التنجيزيّة ، بل يكفي فيه العلم بالأهميّة التعليقيّة ، بلا احتياج لقرينة خارجية على كون القدرة فيه عقلية ، لا شرعية ، كما عرفت.

٦٣

والخلاصة ، هي : إنّه في المورد الأول يرجّح محتمل الأهمية فيه بمقتضى التقريب الأول.

وبتعبير آخر ، هو : إنّ كون ملاك الأهم فعليا في فرض الاشتغال بالمهم ـ بمعنى كون القدرة فيه عقلية بالقياس إلى المهم ـ يمكن إحرازه بنفس إطلاق الخطاب ، وذلك لأنّ القيد اللبّي المأخوذ في كل خطاب ، هو عبارة عن عدم الاشتغال بضد واجب واجد لشرطين : أحدهما هو : أن أن لا يقل هذا الضد عن الواجب الآخر في الأهميّة ملاكا والثاني هو : أن يكون ملاك الضد الواجب فعليّا حتى حال الاشتغال في الواجب الذي نريد أن نقيّده. وحينئذ ، فإذا انتفى أحد الشرطين في الضد الواجب ، حينئذ يكفي التمسك بإطلاق خطاب الواجب الآخر لحالة الاشتغال به ، إذ لا موجب لتقييد زائد ، والمفروض أنّه في المقام ، نعلم بحسب الفرض بانتفاء الشرط الأول في المهم ، «الصلاة» ، إذن فالمقيّد اللبّي غير منطبق عليه ، إذن فيصح التمسك بإطلاق خطاب الأهم «الإزالة لفرض الاشتغال بالمهم ، «الصلاة».

وبهذا يثبت كون ملاك الإزالة فعليا خطابا وملاكا ، حتى حال الاشتغال بالمهم ، «الصلاة» ، وبهذا يتم ورود الأهم على المهم. «خطاب الإزالة على خطاب الصلاة» وبه يرتفع موضوع «الصلاة» ، المهم.

والخلاصة هي : إنّ احتمال كون الملاك في الأهم ، مشروطا بالقدرة الشرعيّة ، وعدم الاشتغال بالمهم ، منفي بنفس إطلاق خطاب الأهم ، إذ إنّ دائرة الملاك ، سعة وضيقا ، كدائرة الخطاب ، يكون تحديدها بإطلاق دليل الخطاب نفسه.

وقد ذكر المحقق النائيني «قده» (١) في تخريج هذا الترجيح ما حاصله : إنّ التكليف بالأهم بما هو أهم ، يصلح أن يكون معجزا مولويا للمكلّف عن المهم دون العكس ، فيكون نسبة الأهم إلى غيره ، كنسبة الواجب إلى المستحب أو

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٢٧٧.

٦٤

المباح ، فكما لا يمكن أن يكون المستحب ، أو المباح ، مزاحما للواجب ، فأيضا هنا ، فإنّه لا يمكن أن يكون المهم مزاحما للأهم ، ولا يفرق الحال في ذلك بين كون المتزاحمين عرضيين وكونهما طوليين كما لا فرق أو كون خطاب كل من الطوليين فعليا أو كون أحدهما فعليا دون الآخر مع كون ملاكه تاما فعلا.

وما ذكره «قده» لا محصّل له ، فإنّه إن أراد أنّ نفس خطاب الأهم يكون معجزا عن خطاب المهم بنحو يرجع إلى تقييده بعدم الأمر بالأهم ، فقد عرفت سابقا أنّ هذا يمنع عن إمكان الترتب بينهما ، وبالتالي يرتفع الأمر بالمهم ، سواء اشتغل بالأهم أم لا ، وهذا خلف التزاحم.

وإن أريد أنّ الاشتغال بالأهم يكون معجزا ، فإن قصد معنى يرجع إلى تضييق دائرة الخطاب المهم في عالم الجعل ، فهذا رجوع إلى التقريب الأول ، وإن قصد ـ بعد الفراغ عن عدم الضيق في دائرة الخطاب ـ كونه معجزا في عالم الامتثال وبلحاظ حكم العقل بلزوم الخروج عن العهدة ، فهو بلا موجب إلّا إذا رجع إلى التقريب الثاني ، وقد عرفت حاله.

* المورد الثاني : من الموارد التي يقع فيها الترجيح بالأهميّة هو ترجيح محتمل الأهميّة كما لو كان احتمال الأهميّة موجودا في طرف أحد الواجبين المتزاحمين دون الآخر ، كما لو دار أمر الإزالة بين كونها مساوية للصلاة ، أو أهم منها وكذلك لو دار أمر الصلاة بين كونها مساوية للإزالة أو أقل منها ، فإنه في مثل ذلك تقدّم الإزالة ، ويقرب هذا المرجح بعدة تقريبات :

١ ـ التقريب الأول : وهو الظاهر من كلمات المحقق النائيني «قده» (١) وحاصله ، هو : إنّ كل خطاب مقيّد لبّا بعدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، وحينئذ فيكون خطاب «صلّ» ساقطا حال الاشتغال بالإزالة ، باعتبار كون الإزالة إمّا مساوية ، أو أهم ، فإذا اشتغل المكلّف بها يسقط خطاب الصلاة قطعا ، لأنه مقيد بعدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، كما

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٢٧٧.

٦٥

عرفت ، وأمّا لو اشتغل المكلّف بالصلاة ، فلا يعلم بسقوط خطاب الإزالة لاحتمال كون الصلاة أقل أهميّة من الإزالة ، وحينئذ يكون خطاب «أزل» مطلقا لحال الاشتغال بالصلاة ، لكون الصلاة أقلّ أهميّة من الإزالة ، وحيث لا يعلم حينئذ بسقوط خطاب الإزالة حين الاشتغال بالصلاة ، ومن الواضح أنّ كل إطلاق لا يعلم بسقوطه ، يجب العمل به ، لأنّه حجة لا ترفع اليد عنه الّا بحجة أخرى ، وحيث لم تقم حجة أخرى على سقوطه ، إذن فلا بدّ من العمل به ، وبذلك يثبت أنّ خطاب «أزل» مطلق حتى لحال الاشتغال بالصلاة.

وأما خطاب «صلّ» ، فإنّه مقيّد بعدم الاشتغال بالإزالة ، وهذا ترتب من أحد الجانبين ، فيقدّم الخطاب المطلق ، وهو «أزل» ، على الخطاب المقيّد ، وهو «صلّ» ، وبذلك يثبت تقديم ما يحتمل (١) على ما لا يحتمل أهميّته في مقام المزاحمة.

وهذا التقريب غير تام ، وذلك لأمرين :

أمّا أولا : فلأنّ كلّ خطاب المخصّص بذلك المخصّص اللبّي ، كما ذكر في هذا التقريب ، وهذا المخصّص ، خصّص إطلاق الخطاب ، وقيّده بصورة عدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم ، والحال إنّه حال الاشتغال بالصلاة ، لا يعلم بثبوت إطلاق خطاب «أزل» ، لاحتمال أن تكون الإزالة مساوية للصلاة.

وحينئذ فلا يعلم أنّ خطاب «أزل» هل هو داخل تحت ذلك التخصيص والتقييد ، أو هو باق على إطلاقه ، ومعه لا يجوز التمسك بالإطلاق لأنّه تمسك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة ، وهو غير جائز.

وأمّا ثانيا : فإنّه لو سلّم أنّه يجوز التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية ، إلّا أنّ جواز ذلك إنّما يكون فيما إذا كان المخصّص منفصلا ،

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي : ج ١ ص ٢٨٠.

٦٦

لأنّه حينئذ ينعقد للمطلق إطلاق ، وامّا في صورة كون المخصّص متصلا ، فلا ينعقد للمطلق إطلاق ليتمسك به.

ومقامنا من قبيل المخصّص المتصل ، لأنّ المخصّص لبّي عقلي ، وهو بحكم المتصل ، إذن فهذا التقريب غير تام.

٢ ـ التقريب الثاني : لتقديم محتمل الأهميّة عند التزاحم ، هو أنّك قد عرفت أنّ الاشتغال بالإزالة يسقط خطاب «صلّ» جزما ولكن الاشتغال بالصلاة لا يعلم معه بسقوط خطاب أزل ، فيكون المقام من موارد الشك في سقوط التكليف ، وهو مجرى لأصالة الاشتغال العقليّة.

وعليه ، فيجب الاشتغال بالإزالة ، وترك الصلاة ، فيثبت لزوم تقديم محتمل الأهميّة.

وهذا التقريب غير تام أيضا ، وذلك لأنّ المقام ليس من موارد أصالة الاشتغال العقليّة ، بل هو مجرى للبراءة ، وذلك لأنّ الشك في المقام يرجع إلى الشك في سعة دائرة التكليف وضيقه ، حيث أنّ قيد عدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم ، أخذ في موضوع خطاب «أزل» ولكن نشك في أنّ الصلاة مساوية للإزالة ، أو غير مساوية ، ومعنى ذلك ، أنّنا نشكّ في أنّ خطاب «أزل» ، هل هو مطلق لحال الاشتغال بالصلاة ، أو غير مطلق ، وهذا شك في سعة دائرة التكليف وضيقها ، وهو مجرى للبراءة.

٣ ـ التقريب الثالث : وحاصله ، هو : إنّه إذا شكّ في أصل وجود الملاك الملزم من قبل المولى ، فتجري البراءة عنه ، وأمّا إذا علم بأصل وجوده ، ولكن شك في الإذن بتركه لكونه مزاحما بآخر ، ففي مثل ذلك ، أصل البراءة ، لا يثبت الإذن بتركه ، بل يحتاج ذلك إلى دليل خاص ، ومع عدمه تجري قاعدة الاشتغال ، ويجب تحصيله.

وهذا التقريب غير تام ، وذلك لأنه يقال : إنّه في المقام ، يوجد عندنا ملاكان ملزمان من قبل المولى : أحدهما : ملاك الإزالة ، والثاني : ملاك الصلاة. ونحن نعلم أنّه بالاشتغال بالإزالة نعلم بثبوت الإذن بترك الصلاة ،

٦٧

وتفويت ملاكها ، إلّا أنّه بالاشتغال بالصلاة ، لا يعلم بالإذن بترك ملاك الإزالة ، وذلك لاحتمال أهميّتها ، وإذا لم يعلم بالإذن ، ولم يثبت بدليل خاص ، فيكون مجرى لقاعدة الاشتغال ، ويجب تحصيل ذلك الملاك.

وبذلك يثبت وجوب تقديم الإزالة التي هي محتملة الأهميّة.

وهذا التقريب لو تمّت أصوله الموضوعيّة ، لكان صحيحا ، إلّا أنّ أصوله الموضوعية غير تامة ، وذلك لأنّه لا بدّ في تماميتها من أن يكون خطاب الإزالة فعليا ، حتى حال الاشتغال بالصلاة ، وإثبات ذلك يحتاج لإثبات كون القدرة فيه عقلية ، غير دخيلة في الملاك ، لا شرعيّة ، حينئذ يكون خطاب «أزل» ، مطلقا حتى لحال الاشتغال بالصلاة ، ولو كانت مساوية ، إلّا أنّه لا يمكن إحراز ذلك إلّا بقرينة خاصة ، وهي غير موجودة.

وعليه : فلا يعلم بفعليّة خطاب «أزل» حتى لحال الاشتغال بالصلاة ، ولا يمكن إثبات هذه الفعليّة بإطلاق الخطاب ، لما عرفت في الإشكال على التقريب الأول ، من أنّ التمسك بالإطلاق لإثبات الفعلية ، يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

٤ ـ التقريب الرابع : وهو عبارة عن تتميم الوجه الأول وتعديله ، بحيث أنّه به يتم الورود في المقام ، وذلك للتمسك بإطلاق خطاب ما يحتمل أهميته من دون لزوم إشكال التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وتوضيح ذلك هو : إنّك قد عرفت أنّ كل خطاب قد قيّد بواسطة ذلك المخصّص اللبّي العقلي بعدم الاشتغال بما يكون مساويا أو أهم ، فإن كان هذا القيد مأخوذا في كل خطاب بوجوده الواقعي ، أي : بما يعلم أنّه مساو أو أهم واقعا ، فحينئذ لا يمكن الحكم بتقديم خطاب «أزل» ، لما ذكرناه في الجواب عن التقريب الأول.

وأمّا إذا فرض أنّ القيد المأخوذ في موضوع كل خطاب ، هو عدم الاشتغال بما يعلم كونه مساويا على الأقل ، ففي مثل ذلك يثبت تقديم خطاب «أزل» على خطاب «صلّ» ، وذلك لأنّ الاشتغال بالإزالة ، اشتغال بما

٦٨

يعلم كونه مساويا على الأقل ، فيكون عدم الاشتغال بالإزالة مأخوذا في موضوع خطاب «صلّ» ، فيكون خطاب «صلّ» مقيدا به ، وأمّا الاشتغال بالصلاة ، فليس اشتغالا بما يعلم كونه مساويا على الأقل ، وذلك لاحتمال أهميّة الإزالة ، فحينئذ لا يكون عدم الاشتغال بالصلاة مأخوذا في موضوع خطاب «أزل.

وبهذا يثبت أنّ خطاب «أزل» مطلق ، فيحصل التّرتّب من أحد الجانبين فيقدّم الخطاب المطلق ، وهو خطاب «الإزالة» على الخطاب المقيّد وهو خطاب «الصلاة».

وبذلك يكون الاشتغال بمحتمل الأهميّة رافعا لموضوع الخطاب الآخر ، وواردا عليه ، وحينئذ يكون هذا التقريب صحيحا ، لإثبات تقديم محتمل الأهميّة ، ويمكن أن يكون هذا التقريب تعديلا للتقريب الأول ، والبرهان على هذا التقييد المذكور في هذا التقريب الرابع تقدم سنخه في مقام الاستدلال على تقييد كل خطاب بعدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، وكانت خلاصته : إنّ القيد العام إنما ثبت بالبرهان العقلي القائل : بأنّ إطلاق الخطاب لصورة الاشتغال بالمساوي أو الأهم ، أمر غير معقول ، لأنّه إمّا أن يستلزم طلب الضدّين ، أو صرف المكلّف عن الأهم ، أو المساوي إلى غيره ، والأول مستحيل ، والثاني خلاف غرض المولى.

ومن الواضح أنّ هذا البرهان لا يقتضي التقييد بأكثر من صورة العلم بالأهميّة أو المساواة ، وأمّا صورة الاشتغال بواجب مردد أمره بين كونه مساويا ، أو أقل أهميّة فليس موجبا لرفع اليد عن إطلاق الخطاب الآخر لحال الاشتغال بالمساوي ، أو الأقل أهميّة ، بعد أن كانت الخطابات مجعولة على نهج القضايا الحقيقية بلحاظ حالات حصول العلم بالأهميّة ، أو احتمالها لدى المكلّف ، إذ يكفي أن يكون الغرض من ورائه صرف المكلف عمّا يحتمل كونه أقل أهميّة إلى ما يحتمل كونه أهم احتياطا.

ومن الواضح أنّه لا يجوز رفع اليد عن الإطلاق إلّا بمقدار ما تمّ

٦٩

القيد العام هو عدم الاشتغال بضد واجب معلوم المساواة ، أو معلوم الأهميّة ، أو محتملها.

وبذلك يكون الاشتغال بمحتمل الأهميّة رافعا أيضا لموضوع الخطاب الآخر ، وواردا عليه.

وهذا البرهان بنفسه يأتي هنا في التقريب الرابع ، وبهذا يكون هذا التقريب تعديلا للتقريب الأول.

* المورد الثالث : من موارد الترجيح بالأهميّة ، هو : الترجيح بقوة احتمال الأهميّة :

وحاصله هو : أن يكون كل من الواجبين المتزاحمين ، كالإزالة والصلاة» ، محتمل الأهميّة بالنسبة إلى الآخر ، إلّا أنّ احتمال الأهمية في أحدهما ، «كالإزالة» ، أكبر منه في الآخر «كالصلاة» ، ففي مثل ذلك يقدّم ما كان احتمال الأهميّة فيه أقوى على الآخر ، فتقدم «الإزالة» على «الصلاة» بنفس النكتة التي ذكرت في المورد الثاني ، وفي التقريب الرابع في ترجيح محتمل الأهميّة.

ومجمل ذلك هو : إنّ كل خطاب ، مقيّد لبّا بعدم الاشتغال بما يعلم كونه مساويا على الأقل أو أهم.

وأمّا ما يحتمل كونه أقل ، فلا يؤخذ عدمه في موضوع الخطاب ، ويكون الخطاب مطلقا بالنسبة إليه ، ولحال الاشتغال به ولا مانع من هذا الإطلاق. وحينئذ يكون غرض المولى منه صرف المكلّف عمّا يحتمل كونه أقل أهميّة إلى ما يحتمل كونه أكثر أهميّة ، ولا يكون في هذا نقضا لغرض المولى بوجه من الوجوه ، كما عرفت تفصيل هذا البرهان أكثر من مرة.

ثم إنّ ما يحتمل كونه أقلّ أهميّة على ثلاثة أقسام :

١ ـ القسم الأول هو : كون احتمال أحد الطرفين أقلّ أهميّة دون الآخر ، وهذا هو المورد الثاني المتقدم.

٧٠

٢ ـ القسم الثاني هو : كون احتمال الأهميّة أقل في كلا الطرفين ، إلّا أنّ احتمالها في أحدهما أكبر ، وهو محل كلامنا.

٣ ـ القسم الثالث هو : كون احتمال الأهميّة أقل ، متساويا تماما في الطرفين.

أمّا القسم الأول فقد تقدّم الكلام فيه.

وأما القسم الثاني ، ففي مثله يقدم ما كان احتمال الأهميّة فيه أكبر على ما كان احتمال الأهميّة فيه أقل ، بنفس البرهان الذي تقدم ذكره في المورد الثاني ، إذ إنّ عدم الاشتغال بالأهم قد أخذ في موضوع المهم بدليل ذاك القيد اللبي باعتبار ان الأهم «الإزالة» ، يعلم كونه مساويا على الأقل ، فيكون خطاب «أزل». مطلقا حتى لحال الاشتغال بالمهم ، «الصلاة» ولا مانع من هذا الإطلاق ، وفيه يكون مقصود المولى منه صرف المكلف من المهم ـ «الصلاة» ـ إلى الأهم ، «الإزالة» ، وعليه ، فيحصل التّرتّب من أحد الجانبين ، وحينئذ يقدّم الخطاب المطلق على الخطاب المقيّد بالورود.

وأما القسم الثالث : وهو كون احتمال الأهميّة أقل في كل منهما متساو ففي مثل ذلك لا بدّ من تقييد كل منهما بعدم الاشتغال بالآخر ، ولا يمكن الإطلاق في أيّ واحد منهما لحال الاشتغال بالآخر ، لأنّنا نقول : إنه ما ذا يراد بالإطلاق؟ فإن كان المراد به الجمع بينهما ، فهو مستحيل ، لما عرفت سابقا ، وإن كان المراد به صرفنا من أحدهما إلى الآخر ، فقد عرفت تساويهما في احتمال كون كل منهما أقلّ أهميّة ، وقد عرفت تفصيل ذلك سابقا.

فإلى هنا تبرهن تقديم معلوم الأهميّة ، وتقديم محتمل الأهميّة ، وتقديم ما كان احتمال الأهميّة فيه أزيد وأكبر.

هذا تمام الكلام في كبرى الترجيح بالأهميّة ، وينبغي التّنبيه على أمور :

٧١

* الأمر الأول هو : إنّ الإزالة التي قدّمناها على الصلاة في الموارد الثلاثة :

أو فقل : إنّ تقديم الأهم على المهم في الموارد الثلاثة ، إمّا أن لا يقوم برهان ودليل خاص على كون القدرة في الأهم شرعيّة ، فحينئذ يتم ما ذكر من التمسك بإطلاق الأهم لحال الاشتغال بالمهم والواجب الآخر ، لأنّ عدم الاشتغال بواجب آخر ، لا يكون دخيلا في تماميّة ملاكه.

وإمّا أن يقوم برهان خاص على كون القدرة في الأهم شرعية ، وحينئذ ، فإمّا أن يقوم برهان على كون القدرة في المهم شرعية ، أو لا يقوم.

فإن قام برهان على كون القدرة في الأهم شرعية ، بمعنى عدم الاشتغال بأيّ واجب آخر ولم يقم برهان على كون القدرة في المهم شرعية ، ففي مثل ذلك لا أثر للأهميّة حينئذ ، بل يقدّم المهم ، «الصلاة» ، ويكون واردا على الأهم ، إعمالا للمرجّح الأول ، وهو ترجيح ما هو مشروط بالقدرة العقلية على ما هو مشروط بالقدرة الشرعية ، ببرهان أنّ كل خطاب يكون مقيدا بعدم الاشتغال بضد واجب واجد لنكتتين : إحداهما : أن يكون ذلك الضد مساويا على الأقل ، والثانية : أن يكون ملاكه فعليا حتى حال الاشتغال بذلك الواجب.

والأهم هنا ، وإن كان واجدا للنكتة الأولى ، كما هو المفروض ، إلّا أنّه غير واجد للنكتة الثانية ، حيث أنّ القدرة فيه شرعية ، ومعه يكون الاشتغال بالمهم رافعا لموضوع الأهم ، وواردا عليه. وعليه فيكون خطاب الأهم مقيّدا بعدم الاشتغال بالمهم ، وأمّا خطاب المهم فيكون مطلقا حيث أنّه لا موجب لتقييده بعدم الاشتغال بالأهم ، بعد أن فرض أنّ ملاك الأهم يرتفع بالاشتغال بالمهم ، وعلى هذا الأساس يقدّم المهم بالورود ، ولا أثر للأهميّة في المقام.

والخلاصة هي : إنّه إذا قام الدليل على كون القدرة في «الإزالة»

٧٢

«الأهم» شرعية ، ولم يقم دليل على كونها في الصلاة المهم شرعية ، حينئذ تقدّم الصلاة بملاك تقديم المقيّد بالقدرة العقلية ، على المقيّد بالقدرة الشرعية.

وبهذا يظهر أنّ الترجيح لما هو مقيّد بالقدرة العقليّة ، يتقدم على الترجيح بالأهمية ، إذا كانا في طرفين متقابلين.

وأمّا إذا قام الدليل على كون القدرة في كلا الدليلين ، «الأهم والمهم» ، شرعيّة ، فكان الملاك في كليهما مشروطا بعدم الاشتغال بواجب آخر ، ففي مثل ذلك ، هل يتم الترجيح بالأهميّة بحيث يرجّح الأهم ، «الإزالة» ، على المهم ، «الصلاة» ، أو إنّه ليس للأهمية أي أثر فلا يرجح أيّ واحد من الطرفين على الآخر؟.

وقد ذهب المحقق النائيني «قده» (١) في المقام إلى أنّه لا أثر للأهميّة ، فلا يرجح بها المشروطين بالقدرة الشرعية ، أحدهما على الآخر ، إذ الأهميّة إنما توجب التقديم ، فيما لو كان كل من الملاكين فعليا. والمفروض أنّ القدرة في كل منهما شرعيّة ، فكل واحد منهما مقيّد بعدم الاشتغال بالآخر. كما أنّه لا ملاك فعلا بالمجموع من حيث المجموع ، لأنّ تحصيل مثل هذا الملاك غير مقدور والملاك فرع القدرة.

نعم يوجد ملاك فعلي في أحدهما لا بعينه ، فيحتمل أن يكون بالإزالة ، ويحتمل أن يكون بالصلاة ، وفي مثل ذلك لا وجه للترجيح كما هو الحال في موارد التعارض. فلو أنّ الدليل في باب التعارض ، دلّ على ثبوت ملاك وجوبي شديد ، ودلّ دليل آخر على ثبوت ملاك وجوبي آخر ضعيف ، أو ملاك استحبابي مثله ، وعلمنا إجمالا بكذب أحد الدليلين ، فإنّه حينئذ لا يقدّم دليل الوجوب على دليل الاستحباب ، وكذلك يفعل في المقام ، فإنّه لا يقدّم احتمال الملاك الأقوى ، على احتمال الملاك الأضعف.

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي : ج ١ ص ٢٨٠.

٧٣

وبتعبير آخر يقال : إنّ عدم الترجيح بالأهميّة في المشروطين بالقدرة الشرعيّة ، لأنّ الأهميّة إنما توجب تقديم الأهم فيما إذا كان كل من الملاكين تاما وفعليّا. وأمّا في المقام حيث كلا الطرفين الأهم والمهم مشروط بالقدرة الشرعيّة ، إذن فكل من الملاكين موقوف على القدرة على تحصيله. وعليه ، فلا محالة يكون أحد الملاكين غير ثابت في نفسه ، لاستحالة ثبوت كلا الملاكين مع عدم ثبوت القدرتين وحينئذ لا يعلم أنّ ما لم يثبت من الملاك ، هل هو الأهم على تقدير وجوده ، أو إنّ الأهم غيره. وحينئذ لا يكون الدوران بين تفويت الملاك الأضعف وتفويت الملاك الأقوى لكي يتعين بحكم العقل تفويت الملاك الأضعف وإنما الدوران هنا في أصل ثبوت الملاك ، وأنّه واقعا هل هو الأضعف أو الأقوى ، وحينئذ يقال : إنّه لا موجب لترجيح احتمال كونه الأقوى ، على احتمال كونه الأضعف ، كما هو الحال في موارد التعارض.

نعم لو كان كل من الملاكين فعليّا ، ودار الأمر بين استيفائهما ، قدّم الأهم منهما ، إلّا أنّ المفروض أنّ مقامنا ليس من هذا القبيل ، كما عرفت.

وقد اعترض السيد الخوئي «قده» (١) على هذا التقريب ، حيث اعترف بأنّ باب التعارض هو كما أفاده المحقق النائيني «قده» ، حيث أنّ ملاك الوجوب الشديد فيه ، لم يثبت لابتلاء دليله بالمعارض ، وحيث أنّه لا علم لنا به من غير ناحية دليله الساقط بالمعارضة ، إذن فلا يتعيّن العمل على طبقه.

إلّا أنّ السيد «قده» اختار في باب التزاحم ، الترجيح بالأهميّة ، حتى في مثل المشروطين بالقدرة الشرعيّة ، وأنّ الإزالة ، «الأهم» ، تقدّم على الصلاة «المهم».

وقد برهن على ذلك ، بأنّ ملاك الأهم ، «الإزالة» ، معلوم الفعليّة

__________________

(١) أجود التقريرات الخوئي : ج ١ ص ٢٨٦.

٧٤

في المقام ، لأنّ ملاكه مشروط بالقدرة ، والقدرة معناها ، عدم وجود المانع عقلا وشرعا ، ومثل هذه القدرة محرزة بدليل وجوب الأهم بلا معارض.

أمّا عدم المانع عقلا : فلوضوح أنّه قادر على الاشتغال بالإزالة ، الأهم.

وأمّا عدم المانع شرعا : فلأنّ المانع الشرعي الذي يمنع عن الإزالة ـ الأهم ـ هو جعل أمر مطلق بالصلاة حتى لحال الاشتغال بالإزالة ـ الأهم ـ بحيث يصرفنا المولى من الإزالة ـ الأهم ـ إلى الصلاة ـ المهم ـ إلّا أنّ هذا الأمر المطلق بالصلاة ، غير مجعول في المقام ، لأنّ المفروض أنّ القدرة المأخوذة في الصلاة المهم شرعية ، ومعه لا أمر مطلق بها ، بل الأمر فيها مقيّد بعدم الاشتغال بواجب آخر ، وبهذا يثبت أنّه لا مانع عقلا ولا شرعا عن الإزالة ـ الأهم ـ فيثبت أنّها مقدورة ، وإذا ثبتت القدرة فيها ، يثبت أنّ ملاكها فعلي ، فتقدم حينئذ.

وإن شئت قلت : إنّ السيد الخوئي «قده» ، وإن وافق المحقق النائيني «قده» على عدم الترجيح بالأهمية كما في (باب التعارض) لما عرفت إلّا أنّه خالفه في (باب التزاحم) حتى في المشروطين بالقدرة الشرعية ، وذلك للعلم بفعليّة الملاك الأهم ـ الإزالة ـ في المقام ، لأنّ ملاكه مشروط بالقدرة التي معناها عدم وجود المانع ، عقلا وشرعا ، ومثل هذه القدرة ثابتة بنفس دليل وجوب الأهم بلا معارض. وأمّا نفس تقدير القدرة عقلا وشرعا فهو محرز وجدانا ، إذ لا مانع عقلي ولا شرعي من الإتيان بالأهم ، أمّا عدم المانع العقلي فواضح ، إذ إنّه قادر على الاشتغال بالأهم ، وأمّا عدم المانع الشرعي ، فلأنّ ما يتصوّر كونه مانعا شرعيا ، إنما هو الأمر التعييني بالمهم ، بحيث يمنع عن صرف القدرة الواحدة في الأهم ، بينما هذا الأمر التعييني بالمهم ، غير محتمل ، لوضوح كون القدرة المأخوذة فيه شرعيّة ، ومعها لا أمر مطلق ، بل الأمر فيه مقيّد بعدم الاشتغال بواجب آخر.

٧٥

وبعبارة أخرى : إنّ الأمر دائر هنا بين التخيير ، وبين تعيين الأهم ، بينما تعيين غيره غير محتمل.

وبذلك يتضح أنّ القدرة على الأهم تامة عقلا وشرعا ، وبذلك يتم ملاك الأهم وخطابه ، وبذلك يكون هذا الأهم معجّزا مولويا عن الوجوب الآخر ورافعا لملاكه (١).

ولكن هذا الكلام للسيد الخوئي «قده» غير تام ، وإنما يتم الترجيح بالأهميّة فيما لو كانت القدرة الشرعيّة المأخوذة قيدا للملاك في الواجبين معا ، هي على غرار المقيّد اللبّي العام المأخوذ في كل خطاب ، والذي كان مفاده عدم الاشتغال بالأهم ، أو المساوي ، كما عرفت سابقا ، إلّا أنّ هذا خلاف المقصود في المقام ، وإنما المقصود هو دخل القدرة في الملاك ، بلحاظ الاشتغال بأيّ واجب آخر سواء أكان أهم منه ملاكا ، أو أقل أهميّة.

وحينئذ نسأل عن مقصود السيد الخوئي «قده» من عدم المانع الشرعي عن الأمر بالأهم «الإزالة» ، هل يراد بعدم المانع هذا ، إحراز عدم المانع ، أو إنّه يراد به مجرّد عدم إحراز المانع؟.

فإن أريد الأول ، وهو إحراز عدم المانع الذي معناه إحراز عدم وجود أمر مطلق بالمهم ـ «الصلاة» ـ فحينئذ نسأل عن دليل هذا الإحراز؟ ودليله لا يخلو من أحد أمرين وكلاهما غير تام :

أمّا الأمر الأول فحاصله : أنّ المولى إمّا أن يأخذ الأهميّة بعين الاعتبار ، فينبغي حينئذ أن يأمر بالأهم «الإزالة» ، على الإطلاق.

وإمّا أن لا يأخذ الأهميّة بعين الاعتبار ، فحينئذ ينبغي أن يأمر بأحد الطرفين تخييرا لأنّ كل واحد من الخطابين حينئذ يكون مشروطا بحسب الفرض ، ملاكا وخطابا ، بعدم الاشتغال بواجب آخر فيكون الاشتغال بكل منهما رافعا للوجوب الآخر ملاكا وخطابا ، فيكون من التوارد من الطرفين ،

__________________

(١) هامش أجود التقريرات ـ السيد الخوئي : ج ١ ص ٢٧٦.

٧٦

وهو معنى التخيير في باب التزاحم ، وبهذا يكون ما أفاده الميرزا «قده» هو الصحيح. أمّا أن يأمر بالمهم «الصلاة» مطلقا حال كونها غير الأهم ، فهذا غير معقول ، وبهذا يحرز عدم وجود أمر ب «الصلاة» مطلقا.

وفيه ، إنّ هذا الدليل الثبوتي غير صحيح ، وذلك لأنّ هذا الدليل افترض أنّ هناك احتمالين معقولين فقط : أحدهما : أن يأمر بالأهم على الإطلاق. والثاني : أن يأمر بأحد الطرفين تخييرا.

بينما هناك احتمال ثالث : وهو احتمال أن يأمر بالمهم «الصلاة» مطلقا وهو احتمال معقول لأن فرض عدم معقولية ان يأمر بالمهم ، الصلاة مطلقا هو فرض غير معقول ، وذلك لأنّه لا يتصور مانع عن الأمر بالمهم «الصلاة» مطلقا إلّا ملاك الأهم «الإزالة» وهذا لا يعقل كونه مانعا عن الأمر بالمهم للزوم الدور.

وبيان ذلك. هو : إنّ فعليّة ملاك الأهم وتماميّته ، متوقفة على عدم وجود أمر مطلق بالمهم ، كما عرفت. وحينئذ فلا يعقل أن يكون ملاك الأهم مانعا عن مثل هذا الأمر بالمهم ، للزوم الدور كما هو واضح. إذن فهذا الدليل على إحراز عدم المانع الشرعي عن الأمر بالأهم غير صحيح.

وأمّا الأمر الثاني للدلالة على إحراز عدم المانع عن الأمر بالأهم : فهو دليل إثباتي وحاصله هو أن يقال : بأنّ نفس الدليل الذي دلّ على أنّ القدرة المأخوذة في المهم شرعية ، هو بنفسه يقتضي عدم وجود أمر مطلق بالمهم «الصلاة» بل الأمر بها يكون مقيدا بعدم الاشتغال بواجب آخر.

وفيه : إنّ هذا الدليل يوجد سنخ له في الأهم «الإزالة» ، فيقال فيه نفس ما قيل في دليل المهم «الصلاة» ، فلا يمكن إثبات وجود أمر مطلق بالأهم «الإزالة» ، وذلك بمقتضى نفس الدليل الدال على كون القدرة شرعية.

٧٧

وهذا البيان يكون دليلا على عدم الترجيح بالأهميّة في المقام ، لعدم وجود أمر مطلق بأيّ طرف من الطرفين ، إذ إنّ كلا منهما مقيد بعدم الآخر ، فيكون التوارد من الجانبين ، ومعه لا ترجيح.

إذن فعدم الترجيح لأجل ذلك ، لا لأجل ما ذكره الميرزا «قده» من أنّه يوجد ملاك فعلي في أحد الطرفين ، لا بعينه ، إذ قد عرفت إنّه يوجد ملاكان فعليّان ، إلّا أنّ كلا منهما مشروط بعدم الآخر ، ولأجل ذلك ، لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وإنّما هو التخيير.

هذا أحد الأمرين اللّذين ينبغي التنبيه عليهما.

الأمر الثاني : الذي ينبغي التنبيه عليه ، هو : في تشخيص الصغرى لهذا المرجّح الكبروي ، وهو الترجيح بالأهميّة وتوضيحه ، هو : إنّه تبيّن من كبرى هذا المرجح ، أنّ المرجح في المقام ، وهو الأهميّة ينحلّ إلى جزءين :

الجزء الأول هو : كون الملاك ، على تقدير وجوده ، فهو أهم ، إذن فهي أهميّة تقديريّة تأخذ شكل القضيّة الشرطيّة.

الجزء الثاني هو : إحراز فعليّة الملاك ، بمعنى أنّه ليس مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى المتقدم السابق ، وهو أن يكون الملاك منوطا بعدم الاشتغال بواجب آخر أهم أو مساو ، فإذا تمّ هذان الأمران فلا بأس بالعمل بهذا المرجح.

وقد عرفنا أنّ الأمر الثاني لا نحتاج في إثباته إلى أكثر من إطلاق الخطاب ، إذ إنّ إطلاق الخطاب في كلا الواجبين يكفي لنفي كون كل منهما منوطا بعدم الاشتغال بواجب آخر ، وهذا القيد الزائد لا برهان عليه.

وأمّا الجزء الأول ، وهو إثبات أهميّة ملاك أحد الخطابين المتزاحمين على الآخر ، فلإثباته يوجد عدة طرق نستعرض أهمّها :

٧٨

١ ـ الطريق الأول لإثبات الأهمية هو : دعوى التمسك بنفس إطلاق الخطاب لصورة الاشتغال بالواجب الآخر.

وتوضيحه : هو إنّ مقتضى خطاب «أزل» ، معناه : حتى لو كنت مشغولا بالصلاة ، وهو لا يناسب إلّا مع فرض أهميّة الإزالة ، كما أن مقتضى خطاب «صلّ» كذلك لا يناسب إلّا مع فرض أهميّة الصلاة ، بمعنى أنّه حتى لو كنت مشغولا بالإزالة ، فنتمسك بإطلاق خطاب «صلّ» لإثبات كون الصلاة أهم من «الإزالة».

وهذا الطريق يمكن الاستعانة به ، فيما إذا كان دليل أحد الخطابين لفظيا مطلقا ، ودليل الآخر لبيّا لا إطلاق فيه.

وكيفما كان ، فإنّ هذا الكلام لا يمكن قبوله نقضا وحلا :

أمّا نقضا : فلأنّه لو كان يمكن إثبات الأهميّة بالتمسك بالإطلاق ، لوقع التعارض بين إطلاق أدلّة الواجبات المتزاحمة ، وهو خلف كون أحدها أهمّ ، وبالتالي لدخل التزاحم في باب التعارض.

وأمّا حلا : فإنّ التمسك بالإطلاق لإثبات الأهميّة يلزم منه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، كما تقدم في تقرير أصل هذه المسألة ، من أنّ كل خطاب مقيد لبّا بعدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، وهو غير صحيح.

فإبطال إثبات الأهميّة بالإطلاق ، إمّا أن يبطل بهذا التقريب ، وهو أنّه ينتهي إلى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، أو بتقريب آخر ، وهو أنّ الإطلاق فرع كون المولى في مقام البيان لهذه النكتة ، ونحن نجزم أنّ المولى ليس في مقام البيان ، من ناحية المزاحمات ، لأنّ المولى العرفي لا يكون غالبا في مقام تخصيص إطلاق خطابه ، لإثبات هذه النكتة والعناية ، وحينئذ لا يصح استكشاف هذه الناحية من إطلاق خطاب المولى ، فالتمسك بالإطلاق إذن غير صحيح.

٧٩

٢ ـ الطريق الثاني : لإثبات أهميّة ملاك أحد الخطابين المتزاحمين هو : أن يقوم دليل خاص لإثبات أنّ الفعل الفلاني أهم من ذاك الفعل ، من قبيل ما ورد في صلاة الجماعة مقابل صلاة الفرادى في آخر الوقت ، إذ قد ورد أنّ الجماعة مستحب أهم من ذاك. أو غيرها من الأدلة التي تشعر باهتمام المولى بتكليف معيّن آخر ، بحيث يستفاد منه تقدمه على غيره من التكاليف لأهميّته.

والخلاصة هي : إنّه لو ورد دليل خاص على الأهم ، فلا إشكال في تقديمه على غيره.

٣ ـ الطريق الثالث لإثبات الأهمية هو : أن يرد بيان يصوّر التشديد في عقوبة من ترك أحد واجبين ، بنحو لم يرد مثله فيما لو خالف ، أو ترك غيره من الواجبات الأخرى.

مثل هذا التشديد والوعيد بالعقوبة الشديدة على مخالفة أحد الواجبين أو ترك بعض الواجبات ، دون غيره ، يوجب العلم بأهميّة التكليف المتروك ، كما عبّر عن ترك الحج بالكفر ، كما في القرآن الكريم (١) ، أو كما عبّر عنه في السنّة ، بأنه يموت يهوديا ، أو نصرانيا (٢).

بينما مثل هذه التعبيرات والألسنة ، غير موجودة بالنسبة الى غير الحج ، فمثل هذه التعبيرات وألسنة توجب العلم بأهميّة خطاب الحج ، ولا أقل من كونها صالحة لاستظهار مزيد عناية واهتمام المولى به ، ممّا يوجب احتمال كونه أهم من غيره من الواجبات ، ومثل هذا طريق فقهي صحيح.

٤ ـ الطريق الرابع لإثبات الأهميّة هو : أن يرد دليل خطاب ثانوي يتكفّل الوجوب بلحاظ ثانوي ، بلحاظ الحالات والطوارئ ، من قبيل

__________________

(١) القرآن المجيد ـ آل عمران آية ٩٦.

(٢) الوسائل ـ مجلد ٨ باب ٧ ص ٢٠

٨٠