بحوث في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٩

١
٢

الصحيح والأعم في العبادات

الكلام في هذه المسألة يقع في عدة جهات :

٣
٤

الجهة الأولى

تصوير النزاع

وقع النزاع في أن أسماء العبادات ، هل هي موضوعة للصحيح خاصة ، أو للأعم من الصحيح والفاسد؟. وهذا النزاع ، هل يتطرق إلى جميع الاحتمالات المتقدمة في بحث الحقيقة الشرعية ، أو يبتني على بعضها دون البعض؟.

وتفصيل الكلام في ذلك.

أنه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية ، فلا إشكال في تطرق هذا النزاع ، إذ بعد الفراغ عن وضع الشارع الألفاظ المعينة للمعاني المخصوصة ، يقع الكلام في أنه هل وضع اللفظ لخصوص الصحيح؟. أو للجامع بين الصحيح والفاسد؟. وكذلك الأمر بناء على إنكار الحقيقة الشرعية ، والقول بوجود حقيقة قبل الشارع بأن كانت هذه الألفاظ حقائق في عرف لغوي قبل الشارع ، حينئذ يقع الكلام بأن هذه الألفاظ هل وضعت قبل الإسلام لخصوص الصحيح أو للجامع؟.

وأما إذا أنكرنا الوضع رأسا وقلنا بأن لفظ الصلاة مثلا لم يوضع للمعنى الشرعي ، لا على يد الشارع ولا على يد واضع قبل الشارع ، فحينئذ كيف يمكن أن يتطرق النزاع؟.

قد يقال بأن تصوير النزاع ممكن بحيث يكون لكل من القائل بالصحيح والقائل بالأعم دعوى معقولة في نفسها.

٥

وقد يقال أن هذا غير ممكن بناء على إنكار الوضع رأسا ، لأن الصحيحي والأعمي في أي شيء يتنازعان؟. فهل يتنازعان في تحديد المعنى الموضوع له؟. كلاهما يعترفان بعدم الوضع. أم أنهما يتنازعان في تحديد المعنى المجازي؟. كلا المعنيين مجازي ، فكما يصح الاستعمال مجازا في الصحيح باعتبار المشابهة والمشاكلة ، كذلك يصح الاستعمال في الأعم.

فمن هنا اتجه البحث إلى تصوير صيغة معقولة للنزاع ، بناء على إنكار الوضع رأسا ، والصيغ المتصورة في المقام عديدة.

الصيغة الأولى :

يمكن أن يتصور النزاع في تشخيص المجاز الأولي والمجاز الثانوي ، بمعنى أن كلا من الصحيحي والأعمي وإن كانا متفقين على أن اللفظ مستعمل مجازا في المعنى الشرعي ، في الصحيح مجازا وفي الأعم مجازا.

لكن يقع الكلام في أن القائل بالصحيح ، يقول أن العلاقة لوحظت أولا بين المعنى اللغوي ، والصحيح من المعنى الشرعي ، واستعمل اللفظ في الصحيح باعتبار المناسبة بينه وبين المعنى اللغوي ، وأما بعد ذلك ، لوحظت مناسبة ثانية طولية بين المعنى المجازي الصحيح ، وبين الأعم ، فاستعمل اللفظ في الأعم مجازا.

والقائل بالأعم يعكس المطلب ، فيكون النزاع بينهما في تشخيص المجاز الذي لوحظت العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ابتداء ، وما هو المجاز الذي لوحظت العلاقة بينه وبين المجاز الأولي.

وقد اعترض صاحب الكفاية على هذه الصيغة (١) بأنها لا توصل المتنازعين إلى الثمرة المقصودة في المقام لأن الثمرة في المقام هي حمل اللفظ على الصحيح عند الصحيحي وحمله على الأعم عند الأعمي ، ومن

__________________

(١) حقائق الأصول : الحكيم ج ١ ص ٥٣.

٦

الواضح بعد اعتراف كل منهما بأن اللفظ ليس حقيقة في الصحيح ولا في الأعم فحينئذ أن وجدت قرينة صارفة عن المعنى اللغوي ولم توجد قرينة خاصة تعين الصحيح أو الأعم يكون اللفظ مجملا. فلا تكون هذه الصيغة مؤدية إلى الثمرة المقصودة من هذا النزاع.

والصحيح ، أن كلا من الإشكال وأصل الصيغة غير تام.

أمّا أنّ هذا الإشكال غير تام ، لأننا لو تعقلنا هذه الصيغة للنزاع لترتبت الثمرة ، لأن القائل بالصحيح ، يحمل اللفظ على الصحيح عند قيام القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي اللغوي من دون حاجة إلى قرينة معينة ، والأعمي يحمل على الأعم كذلك.

ونكتة المطلب أنه بناء على ما تصورناه ، تكون نسبة المجاز الثاني إلى المجاز الأول ، كنسبة المجاز الأول إلى الحقيقة ، فنفس النكتة التي بيناها في بحث الوضع وأنه كيف ينعقد للفظ ظهور تصوري أولي في المعنى الحقيقي ، ولا تصل النوبة إلى الدلالة على المعنى المجازي ، إلّا بعد إفناء ذاك الظهور الأولي ، وأن اللفظ بذاته مناسب للمعنى الحقيقي ، وأما مع المعنى المجازي فهو مناسب في طول مناسبته للمعنى الحقيقي ، تلك النكتة تجري هنا في المقام بين المجاز الأولي والمجازي الثانوي ، فعلى هذا التصوير ، يكون اللفظ مقترنا أولا بالمعنى اللغوي وبتوسطه اقترن بالصحيح عند الصحيحي وبتوسط ذلك اقترن بالأعم. إذن فاقترانه بالأعم نسبة إلى اقترانه بالصحيح كنسبة اقترانه بالصحيح إلى اقترانه بالمعنى اللغوي ، فكما أنه إذا دار الأمر بين المعنى اللغوي والصحيح يقدم المعنى اللغوي على الصحيح ، كذلك إذا دار الأمر بين المجاز الأولي والمجاز الثانوي يقدم المجاز الأولي ، فبهذا يمكن التوصل إلى الثمرة بهذه الصيغة.

ولكن أصل الصيغة غير صحيح ،. إذ كيف يتعقل الأعمي أن المناسبة قائمة بين المعنى اللغوي والأعم في المرتبة الأولى ولا يتعقل قيامها في هذه المرتبة بين المعنى اللغوي والصحيح ، فإن الصحيح فرد من أفراد الأعم ، فإذا ادّعى الأعمي وجود المناسبة بين الأعم والمعنى اللغوي فهذه المناسبة بعينها

٧

موجودة بين المعنى اللغوي والصحيح ، سواء كانت المناسبة هي المشاكلة والمشابهة أو علاقة الجزء والكل ، فأيّ مناسبة إذا كانت قائمة بين المعنى اللغوي والأعم فهي في نفس المرتبة ، لا بدّ من فرض قيامها أيضا بين المعنى اللغوي والصحيح. ومسألة المجاز الأوّلي والمجاز الثانوي إنما تتصور في معنيين مجازيين متغايرين متباينين ، عندئذ يقال ، أن المناسبة أولا تقوم بين المعنى اللغوي وأحدهما ثم تقوم بين هذا المعنى المجازي والمعنى المجازي الآخر ، أما إذا كان المعنيان المجازيان ، من قبيل الصحيح والأعم ، إذن فكيف يمكن أن نتعقل المناسبة بين الأعم وما بين المعنى اللغوي مباشرة ، ولا نتعقل في نفس المرتبة المناسبة بين الصحيح والمعنى اللغوي.

فهذه الصيغة إذن غير متعقّلة للنزاع.

الصيغة الثانية :

الصيغة الثانية للنزاع ، هي التي تصورها المحقق الأصفهاني (١) (قده) ومضمونها هكذا :

أن الصحيحي يقول بأن اللفظ دائما يستعمل في الصحيح ، وحينما يراد منه الأعم ، لا يكون من باب استعمال اللفظ في الأعم ، بل اللفظ مستعمل في الصحيح ، لكن عندئذ ، المتكلم يعمل عناية عقلية ، فيوسع دائرة الصحيح ، وينزّل الفاسد منزلة الصحيح ، فبالعناية والتنزيل يريد الأعم ، والأعمي يقول بأن اللفظ دائما يستعمل في الأعم ، وحينما يراد منه الصحيح ، يكون هذا من باب تعدد الدال والمدلول ، فاللفظ مستعمل في الجامع (٢) ، وخصوصية الصحة تستفاد من دال آخر.

__________________

(١) نهاية الدراية / الأصفهاني : ج ١ ص ٤٨ ـ ٤٩ ـ ٥٠.

(٢) هذا إذا كان الجامع صادقا على الواجد والفاقد بحدهما لما يقال مثله في الماهيات التشكيكية من أن الماهية الواجدة تارة شديدة وأخرى ضعيفة ، وأما إذا كان الجامع من الماهيات المهملة ، فكونها لا بشرط يقتضي صدقها على الواجد والفاقد فلا. المؤلف.

٨

وبناء على هذا المدّعى ، يتوصل المتنازعان إلى الثمرة المقصودة ، لأنه بناء على مدّعى الصحيحي ، فيما إذا ورد اللفظ ، وعلم عدم إرادة المعنى اللغوي به ، حينئذ يحمل على المعنى الصحيح ، لأن إرادة الأعم منه تتوقف على العناية الزائدة ، وهي فرض تنزيل الفاسد منزلة الصحيح ، وهذه العناية على خلاف الأصل ، فالأصل عدم إعمال هذه العناية ، فيحمل اللفظ دائما على المعنى الصحيح.

وبناء على مدّعى الأعمي ، يحمل اللفظ في المقام على الأعم ، لأن إرادة الصحيح يحتاج إلى عناية زائدة ، وهي الإتيان بدال آخر على قيد الصحة ، وحيث لا يوجد دال آخر ، فبمقتضى جريان مقدمات الحكمة يحمل اللفظ على الجامع. وبهذا البيان يتوصل المتنازعان إلى الثمرة المقصودة.

لكن هذه الصيغة غير صحيحة ، لأن الدعويين من البعيد أن يقول بهما الصحيحي والأعمي.

وذلك لأن افتراض الأعمي غير عقلائي في المقام وإن كان عقلائيا في أسماء الأجناس ، تحفّظا على كون الاستعمال حقيقيا ، يؤتى بدال آخر على الخصوصية ، ولا يتأتى ذلك في المقام ، لأن نسبة اللفظ إلى الأعمي والصحيحي على حد واحد ، إذ كلاهما مجاز ، لا أنه حقيقة في أحدهما ومجاز في الآخر ، وإذا كان الأمر كذلك ، فما هو المبرر العقلائي لاستعمال اللفظ في الأعم ، ليحتاج إلى دال آخر على الخصوصية ، وعلى هذا كيف يتصور النزاع؟.

كما أن افتراض الصحيحي غير صحيح في المقام ، لأن كثيرا ما يراد الفاسد بما هو فاسد بكلمة الصلاة ، فمثلا ، نقول ، الصلاة الفاسدة ، أو نقول الصلاة إمّا صحيحة وإمّا فاسدة ، فلم نستعمل اللفظ في الصحيح ولم نعمل عناية التنزيل ، فكثيرا ما يقع لفظ الصلاة في لسان الشارع ويراد به الفاسد بما هو فاسد فيقال «هذه الصلاة غير صحيحة». ففي هذا الاستعمال لم ينزل

٩

الفاسد منزلة الصحيح ، وإلّا لقيل «هذه صلاة صحيحة». فهذه الصيغة لتصوير النزاع أيضا غير تامة.

الصيغة الثالثة :

يمكن تصوير النزاع بين الصحيحي والأعمي بغير ما ذكر ، وذلك بتقريبات أخرى.

منها أن يقال : بأن الصحيحي والأعمي اللذين ينكران الحقيقة الشرعية والوضع في أيام النبي (ص) إمّا أن يعترفا بثبوت الوضع في زمن متأخر عن زمن النبي (ص) ـ في زمن الأئمة (ع) ـ وإما أن ينكرا الوضع أصلا ، ويقولا بأن استعمال اللفظ في المعنى الشرعي إنما كان مع القرينة ، فعلى الأول يمكن تصوير النزاع ، في أنه ما هو المعنى الموضوع له في هذا الزمن المتأخر ، هل هو الصحيح أو الأعم؟. وعلى الثاني يمكن تصوير النزاع بما أشار إليه المحقق الخراساني في الكفاية (١) ، بأن يقال ، بأن كلا المتنازعين يعترفان بأن القرينة على المعنى الشرعي قرينة عامة لا قرينة خاصة بحيث في كل مورد مورد يوجد قرينة خاصة ، وحينئذ ، يختلفان في مدلول القرينة العامة ، فالصحيحي (٢) يقول بأن الشارع استعمل اللفظ في المعنى الشرعي مجازا ، ونصب قرينة عامة ، ومدلولها عبارة عن مجموع الأجزاء والشرائط ، التي بها يكون العمل صحيحا ، فمتى ما أطلق اللفظ ووجدت القرينة العامة الصارفة عن المعنى اللغوي يحمل على الصحيح ، والأعمي (٣) يقول عكس ذلك ، بأن مدلول القرينة العامة عبارة عن المعنى الشرعي ، لكن بمرتبة من مراتبه ، كمرتبة الأركان الخمسة مثلا ، فمتى ما وجدت القرينة العامة الصارفة عن المعنى

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ٥٣.

(٢) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ٥٤.

(٣) محاضرات فياض / ج ١ ص ١٣٥ ـ ١٣٦.

١٠

اللغوي يحمل على الأعم. وبهذا يمكن تصوير النزاع بين الصحيحي والأعمي.

وقد يتخيل في المقام بأن هذا النزاع غير عقلائي وبلا مدرك ، إذ من أخبر الصحيحي والأعمي بمفاد هذه القرينة العامة التي نصبها النبي (ص) ، حيث أنه لم يرد في الروايات تحديد لهذه القرينة ، فتكون دعوى كل منهما بلا موجب.

لكن هذا التوهم غير صحيح لأن هناك وسيلة لإثبات المدّعى في المقام ، وهذه الوسيلة هي التبادر ، فإنه حينما يؤتى بلفظ وتنصب القرينة على عدم إرادة المعنى اللغوي فما ذا يتبادر من معنى الصلاة؟. فإن كان يتبادر خصوص الصحيح ، يستكشف أن مفاد القرينة العامة هو الشرعي ، بمرتبة الصحيح ، وإن كان المتبادر هو الأعم ، يستكشف بأن المتبادر من القرينة العامة هو الأعم ، وذلك ، لأنه كما أن التبادر مع عدم القرينة يكشف عن الوضع ، كذلك التبادر مع عدم الوضع كما هو الحال في المقام ، يكشف عن القرينة ، فإنه سبق فيما مضى أن التبادر ينشأ من أحد سببين ، إمّا من الوضع ، وأما من القرينة ، فالتبادر مع عدم القرينة يكشف عن الوضع ، وهنا لا وضع كما هو المفروض. فالتبادر يكشف عن القرينة لا محالة ، فالنزاع بهذا الترتيب معقول وقابل للإثبات والنفي.

١١

الجهة الثانية

الكلام في هذه الجهة يقع في تحقيق حال الصحة التي أخذت في عنوان المسألة ، فهل أن أسماء العبادات هي أسماء لخصوص الصحيح أو للأعم؟.

والكلام في هذه الجهة يقع في عدة مقامات.

المقام الأول : في تفسير الصحة :

كأنه ذكر في تفسير الصحة عدة تعبيرات ، فقيل بأن الصحة معناها ، موافقة الأمر ، وقيل بأن معناها ، موافقة الغرض ، وقيل بأن معناها إسقاط الإعادة والقضاء.

وقد ذكر السيد الأستاذ (١) تبعا للمحقق (٢) الخراساني في الكفاية. أن هذه التعبيرات تفسيرات باللوازم ، وأن معنى الصحة الأصيل هو التماميّة ، في مقابل النقصان ، والفساد ، ولذلك لا تتعقّل الصحة إلّا في المركبات التي لها أجزاء وشرائط ، دون الأمور البسيطة التي ليس لها أجزاء وشرائط ، والمراد من التمامية والنقصان ، التمامية والنقصان بلحاظ ذات الشيء ، بمعنى ما يستجمع من أجزاء وشرائط. وأما اسقاط الإعادة والقضاء أو موافقة الغرض أو موافقة

__________________

(١) محاضرات فياض ج ١ ص ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٢) حقائق الأصول ج ١ ص ٥٥.

١٢

الأمر ، فهذه شئون ولوازم للتمامية من حيث الأجزاء والشرائط ، فإن التمامية بهذا اللحاظ يترتب عليها موافقة الأمر والغرض ، وإسقاط الإعادة والقضاء ، فهذه لوازم للتمامية. ويرد على هذا الكلام تعليقان.

التعليق الأول : إن الصحة والفساد بحسب الحقيقة ، ليست بمعنى التمامية والنقصان ، بل بمعنى الواجدية للخصوصية الملحوظة المرغوبة ، فالصحيح هو عبارة عمّا يكون واجدا للخصوصية المطلوبة ، والفاسد هو عبارة عمّا يكون فاقدا لهذه الخصوصية ، من دون نظر إلى التمامية والنقصان في الأجزاء والشرائط ، ولهذا توصف البسائط عرفا ، بالصحة والفساد ، كما توصف المركبات ، فيقال مثلا ، أن هذا التفكير صحيح ، وهذا الاستدلال فاسد ، فكيف يوصف التفكير بالصحة والفساد؟. مع أن التفكير ليس مركبا من أجزاء وشرائط ، بل قد تكون الفكرة بسيطة ومع هذا توصف بالصحة والفساد ، ويقال هذه فكرة صحيحة بلحاظ إيصالها إلى الواقع مثلا ، ويقال هذه فكرة غير صحيحة بلحاظ عدم إيصالها إلى الواقع ، وهكذا ، فالصحة ليس معناها التمامية بل هو الوجدان للجهة المرغوبة ، والفساد عدم الوجدان للجهة المرغوبة ، نعم الوجدان للجهة المرغوبة يكون بتمامية الأجزاء والشرائط.

التعليق الثاني : إن الصحة سواء كانت بمعنى الواجدية أو التمامية ، لا معنى لأن يقال ، بأن الصحة معناها التمامية بلحاظ الشيء ذاته ـ يعني بلحاظ تمامية أجزائه وشرائطه في نفسه ـ بل أن التمامية فضلا عن الواجدية ، دائما تلحظ بالإضافة إلى شيء آخر ، ففي المقام يوجد شيئان : أحدهما يكون مقياسا للصحة والفساد ، والآخر الموصوف بالصحة والفساد ، فيقال ، هذا تام بالنسبة إلى المقياس ، وذاك غير تام ، أمّا لو قطعنا النظر عن المقياس ، فكل شيء هو واجد لتمام أجزائه وشرائطه ، إذ لا يعقل أن يكون الشيء فاقدا لجزء ذاته أو لشرط ذاته بلحاظ ذاته ، بل يعقل ذلك بلحاظ مقياسه.

فالاتصاف بالصحة والفساد ، لا يكون إلّا بالإضافة إلى المقياس ، وعلى هذا ، حينما تتصف الصلاة بالصحة والفساد فلا بدّ من المقياس ، وهو أحد

١٣

الأمور المذكورة ـ إمّا إسقاط الإعادة والقضاء ، أو موافق للغرض ، أو موافقة الأمر ـ ، فقولنا الصلاة المشتملة على أجزائها وشرائطها صحيحة ، ليس بلحاظ ذاتها ، بل بلحاظ ما يتطلبه أحد العناوين المذكورة ، فالصلاة صحيحة وتامة ، بمعنى أنها مستجمعة لكل ما يحتاجه عنوان موافق للأمر مثلا ، أو غيره من العناوين.

فالتمامية بحسب الحقيقة ، يتحصل معناها بالإضافة إلى هذه المقاييس ، وهذه المقاييس مقوّمة لهذه التمامية ، لا أنها لوازم وآثار لهذه التمامية ، وهذا معنى ما أفاده المحقق الأصفهاني (١) من أن التمامية تتحصل بهذه العناوين ، فلا وجه لما أورده السيد الأستاذ (٢) من الإشكال عليه ، بدعوى أن المقصود من التمامية ، التمامية بلحاظ الأجزاء والشرائط ، فإن أردتم من التمامية ، التمامية بلحاظ الأجزاء والشرائط في نفسه ، كان الجواب كل شيء تام بلحاظ أجزاء نفسه ، وإن كان مقصودكم شرائط ما كان موافقا للأمر أو غيره من العناوين ، إذن فقد رجعنا مرة أخرى إلى عنوان موافق الأمر.

المقام الثاني :

إن العناوين المذكورة التي هي مقاييس للصحة ، هي في الحقيقة عناوين منتزعة عن معنوناتها ، فمثلا الصلاة الواجدة للأجزاء والشرائط ، ينتزع منها عنوان موافق الأمر وغيره من العناوين ، فهذه عناوين منتزعة عن ذاك الفعل الكلي الواجد لتلك الخصوصيات ، وفي هذا المجال ، القائل بالصحيح يتصور فيه احتمالان :

الأول : أن يكون مراده من الوضع للصحيح ، وضع اسم الصلاة مثلا ، لمنشا انتزاع هذه العناوين الذي هو الفعل الذي يكون مسقطا وموافقا ومحصلا للغرض.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥٠.

(٢) محاضرات فياض / ج ١ ص ١٣٥.

١٤

الثاني : أن يكون مراده من الوضع للصحيح ، الوضع لنفس هذه العناوين ولهذا الفعل بما هو معنون بهذا العنوان ، بحيث أن عنوان موافق الأمر مثلا ، دخيل في المسمّى ، لا أنه معرّف ومشير إلى منشئه.

والكلام حول الاحتمال الأول يأتي فيما بعد ، أمّا الاحتمال الثاني ففيه تفصيل ، وحاصله.

أن الدعوى المذكورة في هذا الاحتمال بلحاظ عالم التسمية وعالم الوضع دعوى معقولة ، إذ ليس من المستحيل القول بأن لفظة الصلاة موضوعة لعنوان مسقط الإعادة مثلا ، لكن بجب أن نتصور المسمّى بنحو يمكن تعلّق الأمر به ، لأن الشارع حينما وضع لفظ الصلاة لمعناها ، كان ذلك استطراقا للأمر بالصلاة ، فلا بدّ وأن يكون المسمّى بالصلاة سنخ مسمّى يعقل تعلّق الأمر به بلا محذور بحسب عالم الأمر ، وإلّا فلا يصح أن يكون مسمّى.

ومن هنا يتضح أن اثنين من هذه العناوين وهما موافق الأمر ، ومسقط الإعادة ، لا يعقل تعلق الأمر بهما ابتداء ، لأن كلا من هذين العنوانين يفترض وجود أمر في المرتبة السابقة ، ولا ينتزع من الفعل إلّا في طول تعلق الأمر به ، فكيف يعقل أن يكون موضوعا لذلك الأمر ، فيلزم محذور الدور بلحاظ عالم الأمر.

ولهذا لا ينبغي أن يقال ، بأن المسمّى بلفظ الصلاة ، هو نفس عنوان المسقط ، أو عنوان موافق الأمر.

نعم عنوان محصّل الغرض ، حيث أنه ليس في طول الأمر ، وإنما في طول الغرض ، فيعقل تعلّق الأمر به ، ويعقل أن يكون هو المسمّى.

ويتحصل من ذلك أن القائل بالصحيح مدعو إلى أن يصوّر سنخ مسمّى ، يعقل تعلق الأمر به ، وإمّا أن يختار الاحتمال الأول ، ويقول ، بأن اللفظ موضوع لمنشا انتزاع هذه العناوين ، وهذه العناوين معرّفات وليست دخيلة في التسمية فيكون أمرا معقولا ، وإمّا أن يختار دخل نفس العنوان أيضا في

١٥

التسمية ، وحينئذ ينحصر هذا العنوان الدخيل في محصّل الغرض ، دون عنوان موافق الأمر ومسقط الإعادة ، إذا لا يعقل أخذهما موضوعا للأمر.

المقام الثالث :

بعد أن اتضح معنى الصحة في المقام ، نقول ، بأن الصحة لها حيثيات متعددة ، فإن الشيء لا يكون صحيحا على الإطلاق ، فمثلا الصلاة ، لا تكون صحيحة على الإطلاق ، إلّا إذا حفظ فيها تمام الأجزاء والشرائط ، وحفظ فيها قصد القربة وقصد امتثال الأمر ، وحفظ فيها القيود اللبيّة ، من قبيل قيد عدم النهي وعدم المزاحم ، فيما إذا فرض عدم المزاحم شرطا في الصحة. وهنا نسأل الصحيحي ، هل يشترط في المسمّى تمام هذه الحيثيات أو يشترط الصحة بلحاظ بعض الحيثيات دون البعض الآخر؟.

أمّا الأجزاء ، فلا إشكال في كونها منظورة للقائل بالصحيح ، لأن الصلاة ما لم تستجمع تمام الأجزاء لا يراها الصحيحي صلاة ، وأما الشرائط فهل هي أيضا داخلة في منظوره بحيث يعتبرها مقوّمة كما اعتبر الأجزاء مقومة!؟.

الظاهر أن الأمر كذلك ، لكن مقوّمية كل منهما بحسبه ، فمقومية الجزء بنحو يكون القيد داخلا ، ومقوّمية الشرط بنحو يكون التقيد داخلا مع خروج القيد.

وفي هذا المجال نقل السيد الأستاذ (١) من تقريرات الشيخ (قده) إشكالا في المقام.

وحاصله أنه لا يعقل أن يدّعى دخل الشرائط في المسمى في عرض دخل الأجزاء فيه ، لأن مرتبة الأجزاء ومرتبة الشرائط طوليتان ، باعتبار أن مرتبة الأجزاء هي مرتبة المقتضي ، ومرتبة الطهارة والاستقبال هي مرتبة الشرائط ،

__________________

(١) محاضرات فياض / ج ١ ص ١٣٦.

١٦

وهذه مرتبة متأخرة عن المرتبة الأولى ، فكيف يعقل أخذهما معا في عالم التسمية في عرض واحد؟.

وأجاب السيد الأستاذ عنه ، بأنهما وأن كانا طوليين ، لكن لا مانع بأن يوضع اللفظ الواحد للأمرين الطوليين كما نسمي الأب والابن معا بلفظ واحد ، فكون الشرط في طول المقتضي بحسب عالم الخارج ، لا ينافي كونه في عرضه في عالم التسمية ، وفي مقام الوضع نضع اللفظ لهما معا ، وإن كان أحدهما في طول الآخر في عالم الخارج.

وهذا الكلام غريب منهما ، فكأنهما تخيلا أن الشرط والمقتضي بينهما طولية ، فوقع الكلام بينهم ، في أنه هل يعقل الجمع بين الطوليين ، أو لا يعقل الجمع بين الطوليين؟. وهذا خلط بين ذات المقتضي وذات الشرط وبين تأثير المقتضي وتأثير الشرط ، فإن ذات المقتضي وذات الشرط لا طولية بينهما بل هما عرضيان ، وقد يتفق أحيانا أن يكون الشرط أسبق زمانا من المقتضي ، ألا ترى ، أن هذا الدواء مقتضي للأثر الفلاني في المزاج ، لكن شرط ذلك ، حرارة المناخ ، فهل هناك ترتب طولي بين الحرارة وما بين استعمال الدواء!. ليس هناك ترتب طولي بينهما ، وإنما الترتب الطولي بين تأثير المقتضي وتأثير الشرط ، كالقابلة بالنسبة إلى الحامل ، فوظيفة الشرط تتميم فاعلية الفاعل أو قابلية القابل ، فدور الشرط دور المساعد في إخراج المقتضى من مقتضيه ، فالطولية بين التأثيرين لا بين ذات المقتضي وذات الشرط. إذن فذات فاتحة الكتاب مع ذات الطهارة ليس بينهما طولية حتى يقع الكلام في مسألة الوضع لأمرين طوليين ، فلا ينبغي الاستشكال في أن الشرائط أيضا داخلة في منظور القائل بالصحيح.

وأما قصد القربة ، وقصد الأمر ، فإن قيل بأنه لا يعقل أخذه في متعلق الأمر ، حينئذ لا ينبغي أن يقال بدخل قصد القربة في المسمّى ، لما بيناه في المقام السابق ، من أن الصحيحي مدعو إلى أن يصوّر سنخ مسمّى يعقل تعلق الأمر به ، لأن التسمية إنما كانت استطراقا إلى الأمر بالشيء ، فإذا لم يكن

١٧

معقولا تعلق الأمر بقصد الأمر ، فلا يعقل أخذ قصد الأمر في المسمّى ، وأمّا إذا قلنا بأنه يعقل أخذ قصد الأمر أو قصد القربة في متعلق الأمر ، فلا بأس بأن يكون هذا أيضا محلا لنظر الصحيحي.

وأمّا الشروط اللّبية ، من قبيل عدم النهي وعدم المزاحم ، على فرض كون عدم المزاحم دخيلا في الصحة ، هنا عدم المزاحم وعدم النهي ، تارة يضاف إلى المسمّى ، فيقال عدم المزاحم عن الصلاة وعدم النهي عن الصلاة ، ففي هذه الحالة لا يعقل أخذه في المسمّى ، لأن هذا فرضه فرض تمامية المسمّى في المرتبة السابقة ، وتارة أخرى لا يضاف إلى المسمّى بما هو مسمّى ، بل يضاف إلى ذوات الأجزاء ، حينئذ يعقل دخله في منظور الصحيحي ، فكما يعقل أن يقول الصحيحي ، أن اسم الصلاة ، موضوع لفاتحة الكتاب والركوع والسجود المقرون بالطهارة والاستقبال ، يقول أيضا ، والمقرونة بعدم المزاحم للركوع والسجود ، وبعدم النهي عن الركوع والسجود ، فلو كان هناك نهي عن السجود لا يكون هذا صلاة

هذا أيضا يكون أمرا معقولا ويعقل أخذه في دائرة التسمية. هذا هو الكلام في المقام الثالث وبهذا تم البحث في الجهة الثانية.

١٨

الجهة الثالثة

في تصوير الجامع

والكلام في ذلك يقع في مقامين :

المقام الأول : في تصوير الجامع على الصحيحي.

والمقام الثاني : في تصوير الجامع على الأعمي.

المقام الأول :

قد يستشكل في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة ، فيقال بأن تصوير هذا الجامع لا يخلو من إحدى احتمالات أربعة وكلها غير معقولة.

الاحتمال الأول : أن يكون الجامع المتصور على الصحيحي ، جامعا تركيبيا ، بحيث يكون الجامع عبارة عن مجموعة من الأجزاء والخصوصيات ، فنقول مثلا ، الفعل الذي يكون مشتملا على فاتحة الكتاب والركوع والسجود والتشهد يكون جامعا ، وهذا الجامع غير معقول ، لأن أي مركب نفرضه ، فهو قد يتصف بالصحة وقد يتصف بالفساد ، ولا يتعقل فرضه متمحضا بالصحة دائما وفي جميع الحالات ، فلو أخذنا أتم المركبات فإنها تتصف بالفساد فيما إذا صدرت في غير موقعها ، كالصلاة التامة لو صدرت من المسافر تكون فاسدة ، إذن فأي مركب نفرضه قد يتصف بالصحة ، وقد يتصف بالفساد ، فكيف يعقل فرض الجامع التركيبي الذي يكون جامعا صحيحيا على الإطلاق؟. فهذا الاحتمال ساقط.

١٩

الاحتمال الثاني : أن يكون الجامع عنوانا بسيطا منطبقا على الصلوات الخارجية انطباق الذات على فرده بحيث يكون كل فرد من أفراد الصلاة الصحيحة ، مصداقا لذلك الجامع الذاتي ، على حدّ مصداقية «زيد وعمر» بالذات لجامع الإنسان. وهذا أيضا أمر غير معقول ، لأن هذا الفرد من الصلاة الصحيحة ، هل يكون مصداقا لذلك الجامع الذاتي بعد طرو نحو وحدة عليه ، بحيث توحّد أجزاءه وتكسبه لون الوحدة؟. أو أن هذا الفرد بما هو متكثر من ركوع وسجود وغير ذلك يكون مصداقا لذلك الجامع الذاتي البسيط؟. فإن قيل بالأول فهو خلف ، لأن معنى ذلك ، أنه ليس مصداقا بالذات لذلك الجامع ، بل مصداقا بالعرض لأنه ينتظر به أن يكسب نحو وحدة من الخارج ليكون مصداقا لذلك الجامع ، فيكون الجامع جامعا عرضيا ، فهذا خلف فرض الجامع جامعا ذاتيا. وإن قيل بالثاني فهو مستحيل ، لأن الفرد الكثير بما هو كثير وقبل أن يكسب نحو وحدة اعتبارية ، لا يكون مصداقا للبسيط بما هو بسيط. فالاحتمال الثاني أيضا ساقط.

الاحتمال الثالث : أن يكون الجامع جامعا بسيطا. كالثاني ولكنه ليس ذاتيا بالمعنى المصطلح في كتاب الكلّيات ، بل هو أمر انتزاعي ومن لوازم الماهية ، وهو المسمّى عندهم بالذات في كتاب البرهان بحيث يكون هذا الجامع نسبته إلى الأفراد الخارجية للصلاة ، نسبة عنوان الزوج إلى الأربعات.

فهذا الاحتمال يفترض أن يكون الجامع الصحيحي جامعا انتزاعيا بسيطا ، ويكون من لوازم الماهية على حد الإمكان الذي هو من لوازم الإنسان.

وهذا المطلب أيضا يبرهن على استحالته فإنّ لازم الماهية معلول لتلك الماهية لأن كل لازم معلول لملزومه ، وفي المقام ، الصلاة مركبة من ماهيات متعددة ومتغايرة ، كماهية السجود والركوع وغيرها ، فلو كان هناك أمر بسيط يكون جامعا ولازما ذاتيا لهذه الصلاة ، إذن يلزم من ذلك أن يكون هذا الأمر البسيط معلولا لمجموع هذه الماهيات لأنه لازم لها ، وعلى هذا يلزم معلولية

٢٠