بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

الوجه الأول والثاني اللّذين استدلّ بهما على أنّ باب التزاحم مستقلّ عن باب التعارض ، وغير داخل تحته ، حيث قلنا هناك : إنّ هذه القدرة التكوينية فعلّية وموجودة في كلا الخطابين ، حيث أنّه قادر على كل منهما ، ولو بدلا ، كما عرفت تفصيله.

وعليه : فلو اشتغل بأحد الخطابين ، يكون في اشتغاله هذا مفوتا للملاك الآخر ، لأنّهما من هذه الناحية سواء.

وحينئذ لا موجب لترجيح المشروط بالقدرة العقلية على الآخر المشروط بالقدرة الشرعية.

* المعنى الثاني للقدرة الشرعية ، هو : أن تكون هذه القدرة عبارة عن مجموع قيدين : أحدهما : القدرة التكوينية ، والثاني : عدم الاشتغال بضد مساو أو أهم.

وبناء عليه ، حينئذ يتم المرجح المذكور ، ويتعين تقديم الخطاب المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية ، لأنّ ملاك الأول تام ، حيث أنّه غير مشروط بالقدرة ، والاشتغال به لا يكون مفوّتا لملاك الآخر بل رافعا لموضوعه.

وهذا بخلاف ما لو اشتغل بالخطاب الثاني ، فإنّه بذلك يفوّت على المولى ملاك المشروط بالقدرة العقلية ، رغم كون ملاكه فعليا ، أمّا عدم تفويت ملاك الأول فلأنّه اشتغل به ، وأما عدم تفويت ملاك الثاني فباعتبار أنّه لا موضوع له ، فلا يكون ثابتا ، لأنّ ملاك الثاني متوقف على مجموع قيدين كما عرفت ، وأحد هذين القيدين هو عدم الاشتغال بواجب آخر ، والمفروض أنّه اشتغل بواجب آخر فينتفي موضوعه ، ومعه لا يكون هذا الملاك ثابتا ، فهنا يدور الأمر بين تفويت ملاك ، وعدم تفويت أيّ ملاك ، وفي مثله ، يحكم العقل بلزوم عدم تفويت الملاك ، وذلك بأن يختار الاشتغال بالخطاب الأول ، وهو المشروط بالقدرة العقلية دون الخطاب الثاني المشروط بالقدرة الشرعية ، وذلك لتماميّة ملاك الخطاب الأول على

٢١

كل تقدير ، وعدم تماميّة الثاني إلّا على تقدير عدم الاشتغال بالخطاب الأول كما عرفت.

وعليه ، فلا بدّ من أخذ عدم الاشتغال بالخطاب الأول في موضوع الخطاب الثاني دون العكس ، فلو فرض أنّ الخطاب الأول هو خطاب الإزالة ، فهنا يكون الأمر بالإزالة مطلقا ، إلّا أنّ الأمر بالصلاة يكون مشروطا بعدم الاشتغال بالإزالة ، ويكون قصد المولى من هذا الاشتراط صرف المكلف من الصلاة إلى الإزالة ، لئلّا يخسر المولى شيئا ، لأنّ الصلاة ، وإن فاتت بفعل الإزالة ، إلّا أنّ ملاك الصلاة غير ثابت ، كما عرفت ، لعدم تحقق موضوعه ، وهو عدم الاشتغال بواجب آخر ، وهو الإزالة ، والمفروض أنّه اشتغل بالإزالة.

وبناء على هذا ، فيكون خطاب «أزل» بامتثاله رافعا لموضوع خطاب «صلّ» حيث أخذ فيه عدم الاشتغال بالإزالة ، فإذا اشتغل بالإزالة يرتفع موضوع خطاب الصلاة.

وهذا معناه : أنّ خطاب «أزل» يكون واردا على خطاب «صلّ» ، والورود هو المرجّح الرئيس في باب التزاحم ، كما عرفت ، فيكون مقامنا هذا أحد موارد ومصاديق مرجّحات باب التزاحم.

* المعنى الثالث للقدرة الشرعية ، هو : أن يكون ملاك الخطاب الثاني متقوما ، ليس بالقدرة التكوينية فقط ، ولا بمجموع القيدين ، بل يكون ملاك الثاني موقوفا على عدم وجود مانع شرعي من قبل المولى ، أي : عدم وجود أمر بالخلاف يضادّه ، بحيث يكون الأمر بالخلاف والضدّ يغني الملاك الثاني ، بخلاف الملاك الآخر.

وفرق هذا عن المعنى السابق ، أنّه في السابق كان ملاك الثاني يغني بامتثال الخطاب الأول ، لا بوصوله بنفسه ، بينما هنا يغني بنفس وصول الخطاب الأول وتنجّزه ، إذن فهذا معنى ثالث للقدرة الشرعية.

٢٢

وفي مثل ذلك يتقدم الأول على الثاني ، ويتم الترجيح للمشروط بالقدرة العقلية ، على المشروط بالقدرة الشرعية ، وذلك لأنّ المشروط بالقدرة العقلية يكون بنفس فعليّته وتنجزه رافعا لموضوع الخطاب الآخر ، لتحقق المانع المولوي الشرعي بذلك دون العكس ، إذ إطلاق الخطاب الأول محفوظ بالفعل ، بينما الخطاب الثاني موضوعه منفي بالفعل ، إذن فيجب العمل على طبق الأول.

والترجيح في هذا الفرض ليس بحاجة إلى القول بإمكان الترتّب كما كان كذلك بناء على المعنى السابق. لأنّ المفروض أنّ القضيتين إحداهما مترتبة على عدم الأخرى ، وإنما كان القائل بامتناع جعلهما يمنع ذلك لاستلزامه فعلية الأمر بالضدّين في حال عدم الاشتغال بالأهم ، بينما هنا في المقام يكون المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث للقدرة ، معلّقا على عدم فعليّة الخطاب الآخر.

إذن فما دام الخطاب الآخر فعليا ، فمقتضى القاعدة أنّه يستحيل فعلّية المشروط بالقدرة الشرعية ، حيث لا يجتمع الحكمان في الفعلية.

وعليه ، فيقدم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية.

وبهذا يتضح أنّ هذه القاعدة ـ وهي ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية ـ غير صحيحة بلحاظ المعنى الأول للقدرة الشرعية ، وإن كانت صحيحة بلحاظ المعنيين الآخرين الثاني والثالث.

وبقي الكلام في نقطتين :

١ ـ النقطة الأولى : هي إنّه قد يفترض أنّ كلا الخطابين كان مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث ، أي : عدم المانع المولوي.

فهنا يقدم الأول على الآخر ، لأنّ القدرة الشرعية لها معان إذ قد يكون أحد المعنيين يوجب التقديم لأحدهما على المعنى الآخر ، كما لو كان

٢٣

أحدهما مشروطا بعدم الوجود الفعلي للمانع ، وكان الآخر مشروطا بعدم الوجود اللولائي للمانع ، أي : عدم وجود أمر بالخلاف ، أي : لو لا هذا الأمر ، وبقطع النظر عنه ، حينئذ يتقدم الأول على الثاني ، وذلك لأنّ العدم اللولائي غير صادق مع وجود الآخر ، فيكون موضوع الخطاب المشروط به مرتفعا ، وموضوع الخطاب الآخر فعليا ، كما في الورود من الجانبين.

وكذلك لو كان أحد الخطابين مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، وكان الآخر مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث ، فإنّه حينئذ يتقدم الأول على الثاني ، كما برهن على ذلك بالورود من الجانبين.

٢ ـ النقطة الثانية : هي في كيفية استظهار كون القدرة المأخوذة في موضوع التكليف ، إنّها عقلية أو شرعية من لسان الدليل ، فيما إذا لم يكن هناك قرينة خاصة في المقام.

وبتعبير آخر ، ما هو مقتضى القاعدة عند الشك في كون القدرة شرعية أو عقلية ، عند عدم إحراز كونها في أحد الخطابين المتزاحمين عقلية ، وفي الآخر شرعية ، لعدم دليل من الخارج ، وعدم قرينة من لسان دليل الحكمين يقتضي ذلك ، إذ حينئذ يشك في كون القدرة دخيلة في الملاك ، أي إنّها شرعية أم لا.

أما النقطة الأولى : فهناك صورتان يمكن افتراضهما فيها :

الصورة الأولى هي : أن يكون كل من الخطابين ، مشروطا بالقدرة الشرعية.

الصورة الثانية هي : أن يكون الخطاب الأول مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، ويكون الخطاب الثاني مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث ، فيكون متوقفا على عدم الأمر بالخلاف ، فيكون ملاك الثاني أشدّ قصورا من ملاك الأول

٢٤

وحينئذ يقال : إنّ البرهان يحتّم تقديم الأول على الثاني ، وذلك لأنّ دليل الخطاب الثاني في نفسه قاصر عن إثبات معنى معقول بينما دليل الخطاب الأول غير قاصر.

وتوضيحه هو : إنّ دليل الخطاب الثاني فيه أحد افتراضين ، أوّلهما : هو أن نلحظ حالة عدم امتثاله ، وثانيهما : هو أن نلحظ حالة امتثاله ، يعني : انّ دليل الخطاب الثاني مفاده : أنّ وجوب الفعل الثاني منوط بعدم وجود أمر بالخلاف ، أي : بالفعل الأول ، وعدم أمر بالخلاف لا يحصل إلّا بالاشتغال بالخلاف ، إذن فنفي الأمر الأول يكون بالاشتغال بالخلاف ، ومعنى هذا أنّ الأمر الثاني منوط بعدم نفسه ، وهو غير معقول.

ومن هنا نقول : إنّ دليل الخطاب الثاني ، إن أردتم أن تثبتوا به أمرا للثاني ، فلا يساعد عليه الدليل ، لأنّ دليل الثاني أخذ في موضوعه عدم الأمر الأول ، وهو يتوقف على عدم الاشتغال بالثاني ، وإن أردتم أن تثبتوا به أمرا بالثاني منوطا بالأمر الأول ، فهو غير معقول ، لأنّ معناه ، إناطة الأمر بالشيء بامتثال نفسه ، إذن فالدليل الثاني متعيّن السقوط ، إذ ما يكون معقولا بنفسه ، الدليل قاصر عنه ، وغير واف بإثباته ، وما يفي به الدليل ، ولا يكون قاصرا عنه ، غير معقول بنفسه إذ ينتج أنّ الأمر بالثاني هو الأمر بالثاني المنوط بالاشتغال بالثاني ، وهو غير معقول ، إذن الدليل المتكفل للخطاب الثاني ساقط ، فيتعيّن المصير إلى الخطاب الأول.

إذن ففيما إذا كان الخطاب الأول مشروطا بالقدرة بالمعنى الثاني ، وكان الخطاب الثاني مشروطا بالقدرة بالمعنى الثالث ، فإنّه يتعين تقديم الخطاب الأول.

الصورة الثانية ، التي يمكن أن نفترض فيها تقديم الخطاب الأول على الثاني مع أن كلا الخطابين يكون مشروطا بالقدرة الشرعية هي : أن نفرض أنّ كلا منهما شرط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث ، وهو عدم الأمر بالخلاف ، إلّا أنّ عدم الأمر بالخلاف يكون له نحوان :

٢٥

فتارة يكون الخطاب مشروطا بعدم الأمر بالخلاف ، بمعنى أنّه لا يكون هناك أمر بالخلاف لو لا هذا ، فيكون الأمر هنا منوطا بالعدم اللولائي يعني بعدم الأمر بالخلاف المحفوظ لو لا هذا.

وأخرى يكون مشروطا بعدم الأمر بالخلاف فعلا.

فإن فرض أنّ كلا منهما كان مشروطا بالعدم اللولائي ، أو العدم الفعلي ، فمعنى هذا أنّه لا مزيّة لأحدهما على الآخر ، لكن إذا فرضنا أنّ الأول كان مشروطا بالعدم الفعلي ، وكان الثاني مشروطا بالعدم اللولائي ، إذن سوف يتقدم بالبرهان ، الخطاب الأول على الثاني ، لأنّ الثاني مشروط بالعدم اللولائي ، للأوّل ، أي : إنّه لا يكون للأول وجود حتى لو لا الثاني.

ومن الواضح أنّ الأوّل له وجود لو قطع النظر عن الثاني ، فالثاني إذن مشروط بشرط باطل ، وغير موجود.

إذن فمفاد الثاني له شرط منتف حقيقة ، فلا يكون مفاده فعليا ، واذا صار مفاده معدوما ، فقد تحقق شرط الخطاب الأول ، لأنّه لا يحتاج إلّا إلى العدم الفعلي.

إذن فما هو مفاد الأول يكون فعليا في حقنا ، وما هو مفاد الثاني لا يكون فعليا في حقنا.

وبهذا البرهان يقدّم الأول على الثاني ، وبه يتضح أنّ غير المشروط بالقدرة الشرعية ، يقدّم إطلاقه على المشروط بالقدرة الشرعية ، وأنّ المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الأول للقدرة الشرعية ، يقدّم على المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني للقدرة الشرعية ، وأنّ المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث للقدرة الشرعية ، يقدّم على المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني للقدرة الشرعية.

ومن هذا القبيل ما إذا نذر أن يزور أحد الأئمة في أشهر الحج بحيث

٢٦

لا يتمكن من تدارك الحج أبدا في وقته ، فهناك ثلاث ترجيحات لإفساد الحج :

المرجح الأول هو : أن يكون أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، والآخر غير مشروط بها.

المرجح الثاني : أن يكون كلّ منهما مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، لكن وجوب الوفاء بالنذر مشروط بها بالمعنى الثالث ، إذ كل جعل شرط فيه أن لا يكون منافيا لشرط الله تعالى (١) ، وهو تحليل الحرام أو العكس. إذن فوجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث ، ووجوب الحج مشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، فيتقدم وجوب وفاء النذر لما تقدّم.

المرجح الثالث هو : أن يقال : إنّ الاستطاعة المأخوذة في دليل الحج هي ما يعمّ الخلاف ، فنحمله على المعنى الثالث للقدرة ، لكن مع هذا نستظهر أنّ دليل الوفاء بالنذر أخذت فيه القدرة بالمعنى اللولائي ، بمعنى أنّه. قبل أن تنظروا إلى شرطكم ، انظروا إلى ما إذا كان يوجد شروط لله تعالى في المقام.

وإلى هنا يتم الكلام في الميزان الكبروي ، وهو ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية.

وكذلك فقد برهنّا على ترجيح بعض المشروط بالقدرة الشرعية على البعض الآخر المشروط بالقدرة الشرعية ، كترجيح المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث على المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الأول والثاني للقدرة الشرعية.

__________________

(١) إشارة الى ما ورد في الوسائل الجزء السابع عشر صفحة ٤٠٩ باب ٢٢ من أبواب موانع الإرث نقلا عن (قرب الإسناد).

٢٧

وبهذا ننهي الكلام في مرحلة الثبوت.

والآن نتكلم في صغرى المرجح ، أي : في مرحلة الإثبات ، حيث يقال هنا : كيف نثبت أنّ أحد الخطابين مشروط بالقدرة العقلية ، والآخر مشروط بالقدرة الشرعية؟.

فنقول : إنّه إذا قامت قرينة خاصة على أحدهما ، فلا إشكال في اتّباعها ، وإلّا فقد يدّعى أنّ الأصل فيهما أن تكون القدرة عقلية ، وأن يكون ملاك الخطاب غير مشروط بالعقلية ، وهذا الأصل نخرج عنه بواسطة قرينة خاصة ، أو عامة ، كما لو تصدّى المولى بنفسه لأخذ القدرة في موضوع خطابه ، كأن يقول ، (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، فإنّ خطاب الحج يختلف عن خطاب (أَقِيمُوا الصَّلاةَ).

إذن لو تصدّى المولى بنفسه لأخذ القدرة في موضوع خطابه ، فيتنقح بذلك أنّ الأصل إن لم تؤخذ القدرة شرطا في موضوعه من قبل المولى ، يتنقح بذلك أنّ الأصل فيه أن تكون القدرة عقلية.

وقد يدّعى هنا ، أنّه إن كان المولى قد تصدّى لأخذ القدرة في موضوع خطابه ، فيتنقح بذلك ، أنّ الخطاب إذا لم تؤخذ القدرة في موضوعه ، فالأصل فيه أن تكون القدرة شرعية ، إلّا أن تقوم قرينة على الخلاف ، إذن فهنا دعويان :

١ ـ الدعوى الأولى وهي : كون الأصل في الخطاب الذي لم تؤخذ القدرة فيه من قبل المولى ، الأصل ، أن تكون القدرة عقلية ، هذه الدعوى ، موقوفة على أحد تقريبين تقدّم الكلام عنهما.

وتوضيح موجز التقريب الأول هو : أنّ الخطاب بحسب دلالته المطابقيّة على الحكم ، لا إطلاق له لحالة عدم القدرة ، لأنّ القدرة حتى لو لم يأخذها المولى في موضوع خطابه ، فهي قيد بحكم العقل ، إذن فلا إطلاق للمدلول المطابقي للخطاب لحالة عدم القدرة ، وعليه ، فيكون إطلاق

٢٨

المدلول المطابقي ساقطا في مقام العجز ، وانعدام القدرة.

ولكن يمكن أن يدّعى أنّ الملاك أوسع دائرة من آن الحكم ، إذ هو فعليّ حتى في حال عدم القدرة ، وحينئذ يمكن التمسك بالدلالة الالتزامية لإثبات ذلك ، بعد سقوط الدلالة المطابقية ، ويمكن التمسك تارة أخرى بإطلاق المادة. كما سمّاه الميرزا «قده» إذ إنّ خطاب «أقيموا الصلاة» له مدلول مطابقي ، وهو الوجوب ، وله مدلول التزامي ، وهو الملاك ، والأول قد سقط لما عرفت ، ويبقى الثاني لم يسقط ، لأنّه يعقل إطلاقه لحالة العاجز. إذن فنتمسك بإطلاق المادة لإطلاق الدلالة الالتزامية ، ومعناه أنّ القدرة عقلية.

وتوضيح موجز التقريب الثاني هو : أن نتمسك بإطلاق المادة في المرتبة السابقة على عروض الحكم عليها ، بمعنى أنّ مادة الصلاة قد صبّ عليها محمولان : محمول بارز وهو الوجوب ، ومحمول مستتر وهو الملاك. والمادة بلحاظ الأول مطلقة ، ولكنها بلحاظ الثاني مقيدة ، فنتمسك بالإطلاق.

وقد تقدم مناقشة هذين التقريبين وعدم ارتضائهما.

وعليه ، فمقتضى القاعدة إنّه لا دليل على أنّ القدرة عقلية ، لأنّ مفاد الخطاب المطابقي أنّ إطلاقه ساقط ، ومع السقوط لا يبقى كاشف عنه حتى نعلم أنّه مشروط بالقدرة العقلية.

٢ ـ الدعوى الثانية هي : أن يقال : إنّه حتى لو سلّمنا بالدعوى الأولى إلّا أنّه يقال هنا في الثانية : بأنّه عندنا في المقام قرينة عامة تدل ، متى ما وجدت ، على أنّ القدرة شرعية ، وهذه القرينة هي : تصدي المولى بنفسه لأخذ القدرة في موضوع خطابه ، وهذا بنفسه قرينة على أنّ القدرة دخيلة في الملاك ، وتقريب هذا يكون بأحد وجوه :

١ ـ الوجه الأول : هو : أن يقال : بأن المولى إذا تصدّى بنفسه لأخذ

٢٩

القيد ، إذن سوف ينثلم الإطلاق في كلا التقريبين السابقين اللّذين أريد بهما إثبات إطلاق الخطاب للتمسك بالدلالة الالتزامية ، لأنّ المطابقية لا وجود لإطلاقها ، لا انّ إطلاقها موجود وسقط عن الحجية ، حتى يبحث أنّ الالتزامية هل هي تابعة في الحجية للمطابقية ، أو غير تابعة ، فإنّ هذا البحث إنما يكون إذا كان أصل الدلالة المطابقية مستقرا ، وانهدمت حجيته بمخصص منفصل ، حينئذ يقع الكلام في أنها تتبع ، أو لا.

وأمّا إذا أخذ فيه قيد متصل من المولى ، فلا إطلاق أصلا حينئذ للدلالة المطابقية.

وهكذا يقال في التقريب الثاني : بأنّ إطلاق المادة يسقط ، لأنّ إطلاق التقييد يقتضي كونه تقييدا للمادة بلحاظ كلا محموليها. إذن فلم يبق إطلاق في المادة.

وعليه ، فأخذ هذا القيد ، بحسب الحقيقة ، ينتج فقداننا للتقريبين اللّذين نثبت بهما الدعوى الأولى.

وعليه فمتى ما أخذ هذا القيد سوف لا يحرز أنّه مشروط بالقدرة العقلية ، وإن كنّا لا نحرز أنّه غير مشروط بالقدرة الشرعية.

٢ ـ الوجه الثاني هو : أن نترقّى ونقول : بأنّ أخذ القدرة من قبل المولى ، ظاهر في إثبات كون القدرة شرعية ، وليس فقط يعطل الإطلاقين ، وذلك لأنّ هذا التقييد ، إن فرض كون القدرة شرعية ، أي : دخيلة في ملاك المولى وغرضه ، إذن فالتقييد مولوي منشؤه أغراض المولى.

وإن فرض أنّ القدرة غير دخيلة في الملاك فالتقييد عقلي إذن فأمر التقييد يدور بين كونه مولويا ، أو عقليا وإرشاديا. فظهور التقييد في المولوية يكون حجة في إثبات أنّ القدرة دخيلة في ملاك المولى ، وبهذا يكون التقييد مولويا ، لا عقليا.

ويرد على هذا ، إنّه : إن كان المراد بالتقييد المولوي ، هو حصول

٣٠

التقييد في مقام جعل الحكم من قبل المولى ، فهذا أمر محفوظ ، حتى في موارد عدم دخل القدرة في الملاك ، إذ تقييد الخطاب إنّما هو من فعل المولى ، وشأن من شئونه. إذن فالتقييد تقييد مولوي على أيّ حال. فلو سمّيت القدرة عقلية حينئذ ، لا يكون معناها إنّها إنّما سمّيت بذلك ، بسبب كون العقلي هو المقيّد ، بل سمّيت بذلك ، بمعنى كون العقل هو الكاشف عن التقييد.

وإن كان المراد بالتقييد المولوي التقييد الذي يكون عملا اختياريا للمولى ، وتحت سلطانه ، بحيث يكون للمولى رفعه ، أو تبديله إلى الإطلاق مثلا ، وهذا يتناسب مع كونه تقييدا للملاك بالقدرة ، لا تقييد الحكم ، إن كان هذا هو المراد بالتقييد المولوي ، فإنّ المولوية بهذا المعنى لا يقتضيها ظهور الخطاب الصادر من المولى ، لأنّها مئونة زائدة على كون التقييد عملا صادرا من المولى مع أنّ الكلام إنما هو في نكتة كون هذا التقييد وأنّه صدر من المولى ولما ذا أخذه المولى ، حيث يقال مثلا : إنّ المولى إنما أخذه باعتبار نكتة أنّه فاقد القيد الآن ، وليس فيه مصلحة ، أو يقال تارة أخرى : إنه إنما أخذه باعتبار أنه فاقد القيد ، فيقبح عند العقل التكليف به ، فهاتان نكتتان.

إذن فهذا الوجه غير صحيح.

٣ ـ الوجه الثالث هو : أنّنا سلّمنا أنّ التقييد مولوي على كل حال. إلّا أنّه يدور أمره بين كونه تأسيسيا أو تأكيديا. بمعنى أنّه إن كان المقصود من التقييد. التقييد من باب ضيق الخناق ، إذن فبيان القيد تأكيديّ لأنّ هذا المطلب بيّن بحكم العقل. وأمّا إذا كان الغرض من التقييد بيان أنّ القيد دخيل في الملاك ، إذن فمثل هذا لم يبيّن ببيان آخر ، إذن فيكون تأسيسيّا.

وبتعبير آخر : إنّ اشتراط القدرة في الخطاب ـ سواء أكان من جهة حكم العقل بقبح خطاب العاجز ، أو من جهة اقتضاء الخطاب تقييد متعلقه بالمقدور ـ بعد أن كان أمرا مركوزا عند العرف ، وبمثابة المقيّد اللبّي المتصل بالخطاب ، حينئذ يكون تصدّي المولى للتصريح به ، وإبرازه ظاهرا ،

٣١

معناه : إنّه بصدد إفادة معنى زائد على ما هو منكشف في نفسه ، وهذا المعنى الزائد هو كون قيد القدرة دخيلا في الملاك ، وأنه من دون هذه القدرة ، لا مقتض للحكم.

وهذا الكلام إنّما يصحّ إذا لم يكن في المقام نكتة أخرى ، لإبراز هذا القيد اللبّي.

ولكن من الواضح أنّ هذا الوجه ، لا يمكن أن ينسجم مبنى مع الدعوى الأولى لإثبات كون القدرة عقلية ، فيما إذا لم يكن لسان الخطاب مقيدا بالقدرة ، وهو التمسك بالدلالة الالتزامية ، لإثبات الملاك في حال العجز ، وهذا معناه افتراض كون المقيّد اللبي بمثابة القرينة المتصلة باعتبار وضوحه وضرورته.

وإذا كان هكذا ، إذن سوف ينهدم التقريب المذكور في الدعوى الأولى ، لأنّه مع فرض كون المخصّص اللبّي متصلا هنا ، لا يمكن التمسك بالدلالة الالتزامية ، لإثبات الملاك في حال العجز ، بينما في تقريب الدعوى الأولى فرض كون المقيّد منفصلا ، كي ينعقد الإطلاق في الدلالة ذاتا.

فالصحيح في المقام هو : ان غاية ما يثبت بهذا الوجه أو بغيره من هذه الوجوه ، لو تمّ شيء منها هو دخل القدرة المأخوذة في لسان الدليل في الملاك ، كما فيما لو كان المأخوذ فيه عنوان القدرة والاستطاعة الظاهر في القدرة المقابلة للعجز التكويني ، فإنّه حينئذ ، لا يثبت إلّا دخل هذه القدرة في الملاك ، وهذا ينتج كون القدرة شرعية بالمعنى الأول.

وقد قلنا آنفا : إنّ هذه القدرة الشرعية بهذا المعنى ، لا تجدي في الترجيح ، وإنما الذي يجدي في الترجيح ، هو دخل القدرة المقابل للعجز التكويني ، أو المولوي الناجم عن الاشتغال بالضد الواجب ، ومثل هذا لا يمكن استظهاره من مجرد ورود عنوان الاستطاعة في لسان دليل الحكم.

نعم لو أنّ المولى أبرز المقيّد اللّبي بكل تفصيلاته ، في ظاهر الدليل ، كما لو قال : إذا استطعت ، ولم تكن مشتغلا بضد واجب لا يقل عنه في

٣٢

الأهمية ، فإنه حينئذ يمكن إثبات كون القدرة شرعية بالمعنى الثالث ، بأحد الوجوه المتقدمة ، لو فرض تمامية هذه الوجوه.

والخلاصة هي : إنّه إذا كان قيد القدرة واردا في لسان أحد الدليلين دون الآخر ، فإن كان الوارد عنوان القدرة والاستطاعة فقط ـ كما هو التعبير المفهوم عرفا ـ فإنّه حينئذ لا يمكن إثبات كون القدرة شرعية بالمعنى المفيد في مقام الترجيح ، بل يبقى الشك في مقتضيه على حاله ، فيرجع إلى الأصول العمليّة.

وإن كان الوارد في لسان الدليل ، هو نفس المقيّد اللّبي المستتر ، بمعنى عدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عنه في الأهمية ، فإن قبلنا كلا الاستظهارين السابقين ، تمّ الترجيح على أساسهما لا محالة ، وإلّا فإن أنكرنا الاستظهار الأول ، فلم نقبل إمكان إثبات القدرة العقلية بإطلاق الخطاب ، وقبلنا الاستظهار الثاني ، وهو كون

مجيء قيد القدرة في لسان الدليل يقتضي دخله في الملاك بمقتضى كون الخطابات الشرعية تأسيسية ، حينئذ تندرج هذه الحالة في الصورة الثانية من الصور الثلاث الآنفة ، وهي ما إذا أحرز كون القدرة في أحد الخطابين المتزاحمين شرعية ، وشكّ في كونها شرعية ، أو عقليّة في الآخر.

وإن قبلنا الاستظهار الأول ، وأنكرنا الثاني ، فإنّه حينئذ يندرج المقام في الصورة الثالثة من تلك الصور ، وهي ما إذا أحرز كون القدرة في أحدهما عقلية ، وشكّ في شرعية القدرة للآخر ، أو عقليتها.

ولكن من الواضح أنّ كلّ هذا مجرد افتراض محض ، لما تقدم آنفا من أنّ التعبير العرفي لإبراز قيد القدرة ، لا يكون مطابقا مع المقيّد اللّبي عادة ، إذن فلا يقيّد بعدم الاشتغال بضد واجب لا يقل أهمية ، إذ حينئذ كيف يمكن للإنسان العرفي تشخيص ما لا يقل أهمية ، أو يقل أهمية ، وإنما التعبير العرفي المعقول هو ، أن يرد التقييد بعنوان «عدم الاشتغال بواجب آخر» كما لو قال : «صلّ إن لم يكن لك شغل واجب آخر» ، وحينئذ يقال : إنّه إذا ورد

٣٣

خطاب ، لسان دليله مقيّد بعدم الاشتغال بواجب آخر ، تقدّم عليه في مقام التزاحم ، كلّ خطاب لم يكن مقيّدا بمثل هذا القيد ، وذلك بأحد بيانات نستعرضها تباعا :

١ ـ البيان الأول هو : أن يستظهر من إطلاق القيد ، أنّ كل واجب آخر ينبغي أن يتقدم على هذا الواجب في مقام المزاحمة ، بل يكاد لا يزاحمه أصلا ، وهذا ظهور عرفي واضح ، فيما إذا افترض اتصال الخطابين أحدهما بالآخر ، وقيّد أحدهما بعدم الاشتغال بالآخر.

٢ ـ البيان الثاني ، وهو مؤلّف من مقدمتين :

أ ـ المقدمة الأولى هي : إنّ المستظهر ـ من إطلاق التقييد بعدم الاشتغال بواجب آخر ـ هو إنّ أيّ واجب آخر يفترض بنحو القضية الحقيقية ، فلا يزاحمه هذا التكليف ، وهذا لا يمكن إلّا إذا كانت القدرة على هذا التكليف شرعية ، أي : أن تكون دخيلة في ملاكه ، وإلّا لو كانت هذه القدرة عقلية ، فلعلّ ملاك هذا التكليف يكون أهم من بعض الواجبات المستلزم لعدم صحة التقييد ، إلّا إذا فرضت القضية خارجيّة ، وأنّ المولى بنفسه لاحظ ملاك هذا الواجب مع كل واحد من أحكامه ، فوجده مساويا ، أو مرجوحا منها جميعا.

وهذا خلاف ظهور التقييد في كونه على نهج القضية الحقيقية ، كما عرفت آنفا ، وبهذا يتبرهن على كون القدرة فيه شرعية.

ب ـ المقدمة الثانية هي : أن يقال : بأنّ مقتضى إطلاق دليل الخطاب المطلق أن تكون القدرة فيه عقلية ، ولكن لا مطلقا ، وإنّما بالقياس إلى خصوص الخطاب المشروط بالقدرة الشرعية ، وذلك لأنّ مقتضى التمسك بإطلاقه لحال الاشتغال بالخطاب المشروط بالقدرة الشرعية ، هو كونه فعليا خطابا وملاكا ، ولا يشكّل هذا تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية لمخصّصه اللّبي ، بدعوى أنّ الخطاب مقيد في نفسه بعدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عنه أهمية ، وفي المقام يحتمل ذلك ، لأنّ المخصص اللّبي إنما يكون بمقدار

٣٤

ما إذا كان الاشتغال بواجب غير مشروط بالقدرة الشرعية ، أي : فعليّة الملاك حين الاشتغال بهذا الخطاب ، وأما لو اشتغل بهذا الواجب حال كون ملاك الضد الواجب الآخر غير فعلي ، فلا برهان عقلا يقتضي تقييد إطلاق الخطاب بعدم الاشتغال به ، كما عرفت سابقا في تحقيق صياغة المقيّد اللّبي ، بل يكون إطلاق الخطاب بنفسه مقتضيا لثبوت الحكم ، خطابا وملاكا ، حتى لو اشتغل بالواجب الآخر.

وحينئذ بضم هاتين المقدمتين ، إحداهما إلى الأخرى ، يثبت الترجيح إذ يحرز بهاتين المقدمتين كون القدرة في الخطاب المشروط بحسب دليله ، كونها شرعية ، وفي الخطاب المطلق بحسب دليله ، كونها قدرة عقلية بالقياس إلى الخطاب المشروط ، فيكون دليله وملاكه راجحا وواردا على ملاكه ودليله.

فإن قيل : بأنّه من المحتمل أن يكون الخطاب المقيّد بحسب لسان دليله بعدم الاشتغال بواجب آخر ، أن يكون مختلفا حاله بقياسه من واجب إلى واجب ، كأن يكون بالقياس إلى الواجبات المشروطة بالقدرة الشرعية تكون القدرة فيه شرعية أيضا ، ولهذا لم يكن مزاحما معها ، ويكون بالقياس إلى الواجبات الأخرى المشروطة بالقدرة العقلية ، تكون القدرة فيه عقلية ، وإنما لم يزاحمها ، لعدم رجحان ملاكه على ملاكها.

فإنه يقال : بأنّ هذا خلاف ما تقدم من استظهار كون التقييد بنحو القضية الحقيقية بالنسبة إلى كل واجب يمكن افتراضه ، إذ استظهار كون التقييد هكذا بالنسبة إلى أيّ واجب يفترض ، يقتضي أن تكون القدرة فيه شرعية مطلقا.

٣ ـ البيان الثالث وهو : يتوقف على مقدمتين أيضا :

أ ـ المقدمة الأولى هي : عبارة عن نفس المقدمة الثانية التي تقدمت في البيان السابق ، وهي دعوى إمكان إحراز كون القدرة في الخطاب المطلق عقلية بالقياس إلى الخطاب المشروط.

٣٥

ب ـ المقدمة الثانية هي : عبارة عمّا سوف يأتي من الترجيح ، باحتمال الأهميّة في أحد الخطابين المتزاحمين إذا كانا مشروطين بالقدرة العقليّة.

وحينئذ ، على أساس هاتين المقدمتين ، بثبت الترجيح في المقام ، حيث يقال حينئذ : إنّ الواجب المشروط ، بحسب لسان دليله بعدم الاشتغال بواجب آخر ، إن كانت القدرة فيه عقلية ، أي : إنّ ملاكه فعليّ حين الاشتغال بواجب آخر ، فلا بدّ أن يكون الواجب الآخر ملاكه فعليا أيضا ، وإلّا لم يصحّ التقييد ، بل كان هو مقدما عليه ، وحينئذ يكون احتمال الأهميّة في ملاك الواجب الآخر المطلق موجودا دون الواجب المشروط ، إذ لو كان هو أهم لما صحّ التقييد أيضا ، بل كان هو مقدّما عليه. وعليه فيترجح الواجب المطلق بملاك احتمال الأهمّية.

وإن كانت القدرة فيه شرعية ، فإطلاق الخطاب المطلق يقتضي كون القدرة فيه عقليّة بالقياس إليه ، فيترجح حينئذ عليه بملاك ترجيح غير المشروط بالقدرة الشرعية على المشروط بها.

وبتعبير آخر ، إنّ التمسّك بإطلاق الخطاب المطلق ، يقتضي ثبوته حتى في حال الاشتغال بالخطاب المشروط ، وبهذا يكون واردا عليه لا محالة ، ولا يكون هذا من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمخصصه اللبّي ، لأنّ المقيّد اللبّي إنّما يخرج عن الإطلاق حال الاشتغال بالواجب الآخر ، إذا توفر شرطان :

أحدهما : أن يكون ملاكه فعليا ، أي إنّ القدرة فيه عقليّة بالقياس إلى الواجب الأول.

والشرط الثاني هو : أن يحرز عدم أهمية الواجب الأول كما سوف تعرف من الترجيح بالأهمية.

وفي المقام يعلم بانثلام أحد الشرطين إجمالا ، وإلّا لما صح تقييده

٣٦

بعدم الاشتغال بضد واجب آخر ، فيكون المقيّد اللبّي للخطاب المطلق ، غير شامل لحال الاشتغال بالخطاب المشروط جزما.

ثم إنّ هناك بحثا آخر ، وهو : إنّ ترجيح غير المشروط بالقدرة الشرعية على المشروط بها. هل يشمل صورة ما إذا كان المشروط بالقدرة الشرعية ، أهم ملاكا من غير المشروط بها ، أم إنّه لا يشمل؟.

والصحيح هو أن يقال : بأنّه إن كان المراد بالقدرة الشرعية المعنى الثالث منها ، وهو عدم الأمر بالخلاف ، تمّ هذا الترجيح مطلقا إذ يكون حينئذ الخطاب المرجوح ملاكا واردا بنفس فعليّته على الآخر ، ورافعا لموضوعه ، فلا يكون له ملاك أهمّ من الآخر ومقدما عليه.

وإن كان المراد بالقدرة الشرعية ، القدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، فلا بدّ من التفصيل بين صورتين :

الصورة الأولى ، هي : أن يكون الخطاب المشروط بالقدرة الشرعية ، قد أبرز فيه هذا القيد بالتعبير العرفي المتقدم ، وهو عدم الاشتغال بواجب آخر ، وفي هذه الصورة يكون مقتضى إطلاق التقييد ، تقدم كل خطاب عليه ، ولو كان ملاكه مرجوحا ، كما عرفت بالبيانات السابقة ، فيصح التعميم.

الصورة الثانية ، هي : أن يكون الشرط المبرز على وزان المقيّد اللبّي المستتر ، أي : عدم الاشتغال بواجب لا يقل عنه أهمية.

وفي هذه الصورة غاية ما يستفاد من هذا الاشتراط ، أنّ هذا الواجب لا يزاحم واجبا لا يقل عنه في الأهمية ، لا مطلق الواجب ، فالقدرة فيه شرعية بالقياس إلى ما لا يقل عنه في الأهميّة لا مطلقا ، والمفروض أنّ الواجب المطلق ، بحسب لسان دليله قد أحرز كون ملاكه مرجوحا بالنسبة إلى الواجب المشروط ، فيكون الواجب المشروط فعليا ، خطابا وملاكا بمقتضى التمسك بإطلاق دليله ، حال الاشتغال بالخطاب المطلق ، فيتقدم المشروط عليه بالأهميّة لا محالة.

٣٧

المرجح الثاني ، من مرجحات باب التزاحم هو : تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل.

وقد قرّب المحقق النائيني «قده» مرجحيّة هذا المرجح (١) بدعوى ، أنّ الخطاب الذي يكون لمتعلقه بدل يعتبر أنّه لا اقتضاء له بالنسبة لمتعلقه بالخصوص ، وذلك لإمكان التعويض عنه بالبدل ، والخطاب الذي لا يكون لمتعلقه بدل ، يكون مقتضيا لإيجاد متعلقه بالخصوص ، لأنّه لا بديل له.

ومن الواضح أنّ ما لا يكون له اقتضاء ، لا يزاحم ما له اقتضاء.

إذن فلا بدّ من تقديم ما له اقتضاء على ما ليس له اقتضاء ، فلو أنّه وقع التزاحم بين الأمر بالوضوء ، والأمر ببذل الماء لحفظ النفس المحترمة ، فمن الواضح أن يقدم أمر حفظ النفس المحترمة ، لأنّه لا بدل له ، على الوضوء ويكتفى بالطهارة الترابية ، لكونها بدلا طوليا للوضوء.

وهذا الكلام إنّما يتم في البدل العرضي ، لا الطولي ، فإنّ البدل تارة يكون عرضيا كما لو فرض ، أنّ أحد الخطابين كان مرجعه إلى وجوب تخييريّ بين الصلاة والصدقة ، وكان الخطاب الآخر مرجعه إلى وجوب تعييني متعلق بالإزالة ، وحينئذ لو تزاحمت الصلاة مع الإزالة فإنّه هنا لا إشكال في تقديم الإزالة لعدم وجوب تعييني للصلاة ، إذ الواجب في خطاب الصلاة هو : الجامع بين الصلاة والصدقة ، وفي هذا الخطاب يمكن حفظ هذا الجامع بواحد من فرديه ، إذ يستطيع أن يزيل وأن يتصدق مثلا ، إذن فلا يتزاحم الجامع مع الإزالة ، بل هذا خروج عن باب التزاحم موضوعا ، لأنّ ما هو الواجب ، بحسب الحقيقة ، إنّما هو الجامع بين المبدل وبدله العرضي ، والجامع لا يزاحم الواجب الآخر. إذن فلا مسوغ للإشكال.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٢٧٢ وفوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ـ ١٩١ ـ ١٩٢

٣٨

في مثل ذلك نقول : إنّ ما ليس فيه الاقتضاء لا يزاحم ما فيه الاقتضاء بمعنى أنّ الاقتضاء التخييري لا يقتضي تعيين الإتيان بالصلاة. إذن لا اقتضاء بالنسبة إلى الصلاة بالخصوص ، وهذا الكلام خارج عن محل الكلام.

ونحن هنا نلتزم بما قاله المحقق الثاني «قده» ، إلّا أنّ هذا لا يتم في البدل الطولي الذي هو محل الكلام ، إذ فيه يكون البدل الطولي متفرعا عن العجز من الإتيان بالمبدل ، ومن الواضح حينئذ ، أنّ الأمر يقتضي متعلقه بالخصوص ، ولو كان له بدل طولي ، وإنّما لا يقتضي متعلقه بالقياس إلى بدله العرضي كما في الواجب التخييري ، فلو فرض أنّ الصلاة كانت واجبة تعيينا وكانت الإزالة واجبة تعيينا ، ولكن كان يوجد واجب آخر كلّفنا به وهو «الصدقة» على تقدير العجز عن الصلاة ، فهنا الصّدقة ليست عدلا للصلاة ، وإنّما هي بدل طولي ، بمعنى أننا نفترض هنا ثلاث خطابات ، وهي : «أزل» ، و «صلّ» ، وإن لم تتمكن من الصلاة ، «تصدّق» ، حينئذ لا مسوّغ للقول بأنّ ما لا اقتضاء له لا يزاحم ما له اقتضاء ، لأنّ كلا من هذه الخطابات فيه الاقتضاء ، والمفروض عدم إمكان الجمع بين المتعلقين ، فينتقل إلى البدل الطولي لكونه له اقتضاء ، وعليه ، لا بدّ من استئناف البحث في هذا المرجح.

وتحقيق الكلام في هذا المرجح هو أن يقال : إنّ هذا المرجح ، تارة نبحث في حجيته وفي برهان مرجّحيّته بحيث يكون مرجحا مستقلا بالأصالة ، أي : بعنوانه وملاكه في عرض سائر المرجحات ، وتارة أخرى ، نبحث عن كونه مرجحا عن طريق إرجاعه إلى مرجح آخر ينطبق عليه ، كما لو أرجعنا مرجحيته إلى مسألة المشروط بالقدرة العقلية ، والمشروط بالقدرة الشرعية. إذن فالكلام في هذا المرجح يقع في مقامين :

المقام الأول : في مرجحيّة هذا المرجح بالأصالة وبعنوانه وملاكه.

المقام الثاني : في تحقيق مرجحيّته عن طريق إرجاعه إلى مرجح آخر.

أما المقام الأول ، وهو في مرجحية هذا المرجح بالأصالة : فأحسن

٣٩

ما يقال في مرجحيته ، هو : إنّ كلا من الخطابين ، «صلّ ، وأزل» ، محكوم لا محالة بذاك المخصّص اللبّي العام ، وهو القدرة العقلية ، وهو عبارة عن القدرة التكوينية مع عدم الاشتغال بالضد الواجب المساوي أو الأهم.

ولكن نقول : بأنّ خطاب ما له بدل ، أخذ في موضوعه عدم الاشتغال بواجب مساو أو أهم ، على نحو ينطبق على الاشتغال بالواجب الآخر كالإزالة هنا.

وأمّا خطاب «الإزالة» فلم يؤخذ في موضوعه عدم الاشتغال بواجب مساو أو أهم ، بل أخذ في موضوعه عدم الاشتغال بما ليس له بدل ، يعني : إنّ القيد الذي يدخله العقل على التخصيص اللبّي ، على موضوع الخطاب في كل منهما ، هو عبارة عن عدم الاشتغال بالضد الواجب الذي ليس له بدل ، ومثل هذا القيد لم يؤخذ عدمه قيدا في الموضوع ، إذ لو أخذ هذا قيدا في الموضوع ، وتبيّن أخذ هذا القيد في الخطابين ، إذن سوف يكون الاشتغال بالإزالة رافعا لموضوع وجوب الصلاة ، لأنّ خطاب الإزالة واجب ليس له بدل ، بينما الاشتغال «بالصلاة» لا يرفع موضوع وجوب الإزالة ، لأنّ الاشتغال بالصلاة اشتغال بضد واجب له بدل ، وقد فرض أنّه أخذ في موضوع وجوب الإزالة قيد عدم الاشتغال بواجب ليس له بدل ، وهذا يعني أنّ المكلّف إذا اشتغل بالإزالة ، لم يفوّت شيئا ، لأنّه يمتثل أحد الخطابين ويرفع موضوع الآخر ، ولكن إذا اشتغل بالصلاة فسوف يفوّت موضوع خطاب «أزل».

فإن تمّت هذه المقدمة ، حينئذ يتم الترجيح ، لأنّ هذا يكون رافعا لموضوع ذاك دون العكس وهو معنى الورود ، فيكون المطلوب إذن ، موقوفا على أن يكون القيد هو عدم الاشتغال بضد واجب ليس له بدل ، وحينئذ يتم الترجيح.

بقي أن نبحث هذه الفرضية ، وهي : إنّ القيد الذي يجب إدخاله على كل الخطابات الشرعية ، هل هو عدم الاشتغال بضد ليس له بدل؟

٤٠