بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

عنوان انتزاعيّ ، بمعنى أنّه ليس في الخارج إلّا واقع هذا أو واقع ذاك ، فيمكن تعلّق الوجوب ومبادئه به ، وعند التعلّق ينظر إليه بما هو عنوان بالحمل الشائع لا بالحمل الأوّلي.

وبهذا يتبيّن أنّ تفسير الوجوب التخييري لا ينحصر في نظرية أو فرضيّة واحدة ، بل يمكن أن يتم في عدة تفسيرات.

فإن فرض ملاك واحد يحصل بكل واحد من العدلين ، فيناسبه أن يكون وجوب واحد متعلّق بالجامع الحقيقي ، أو الانتزاعيّ بين العدلين والفعلين.

وإن فرض وجوبان تعيينيّان ، كل منهما تعلّق بفعل ، كما إذا كان هناك ملاكان تعيينيّان متضادّان ، فيناسبه أن يكون كل واحد منهما مشروطا بترك الآخر كما ذكره المحقق الخراساني «قده» (١).

وهذا التفصيل هو الصحيح.

نعم المحقق الخراساني «قده» (٢) افترض أنّ الجامع حقيقيّ دائما ، بينما قد يكون انتزاعيا في بعض الموارد ، كما عرفت.

وهذا الاختلاف في تفسير وصياغة الوجوب التخييريّ ، له ثمرة فقهيّة في موارد الشك في كون الواجب تعيينيا أو تخييريا ، وتختلف هذه الثمرة باختلاف تفسيره وصياغته ، كما لو تردّد أمر الصوم شهرين في كفارة الإفطار عمدا ، أنّه واجب تخييريّ أو تعيينيّ؟ ، حينئذ ، إن فرض أنّ الوجوب التخييريّ يرجع إلى الوجوب المشروط حيث يرجع الشك إلى أنّ وجوب الصوم مطلق أو مشروط؟.

حينئذ ، إن كان وجوب الصوم تعيينيّا ، فمعناه أنّ الصوم واجب ، حتى

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٢٦.

(٢) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٢٥.

٢٤١

على من أعتق رقبة ، وأمّا إذا كان وجوب الصوم تخييريا ، بمعنى كون الوجوب مشروطا بعدم العدل الآخر ، حيث نشك في وجوب الصوم لو أعتق رقبة ، حينئذ يكون الشك في أصل التكليف بنحو الشبهة البدويّة ، فتجري البراءة عنه.

وأمّا إذا فسّر وأرجع الوجوب التخييريّ إلى وجوب الجامع الذاتي الحقيقيّ بين العدلين ، حينئذ تكون الشبهة من موارد الدوران بين الأقل والأكثر ، حيث يعلم بتعلّق الوجوب بالجامع ، بينما يشك في تعلقه زائدا على ذلك بخصوصية الصوم ، وحينئذ يتوقف جريان البراءة فيه على القول بجريانها في موارد الدوران بين الأقل والأكثر التحليليّين ، أي : الدوران بين المطلق والمقيّد.

وأمّا إذا فسّر وأرجع الوجوب التخييريّ إلى وجوب الجامع الانتزاعيّ ، وهو وجوب أحدهما ، أو أحد العدلين ، حينئذ يدخل المقام في موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، حيث أنّه يتشكل علم إجمالي ، إمّا بوجوب الصوم بعنوانه ، وإمّا بوجوب عنوان أحدهما ، أي : أحد العدلين رغم كونهما متباينين مفهوما ، وحينئذ يقع بحث في أنّه هل تتعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، أو إنّها لا تتعارض؟ :

فإن قلنا بأنّها تتعارض فمعنى ذلك ، أنّ العلم الإجمالي منجز في كلا طرفيه ، وإن قلنا بأنها لا تتعارض ، حينئذ تجري البراءة عن التعيين ، أعني وجوب الصوم بعنوانه ، لأنّه غير معارض مع البراءة عن الطرف الآخر للعلم الإجمالي ، وهو وجوب أحد الفعلين كما هو الصحيح.

أو فقل : إنّه إن لم تتعارض الأصول ، فتجري البراءة عن أشدّ طرفي العلم الإجمالي مئونة وكلفة زائدة ، وهي كائنة في طرف وجوب الصوم فقط.

إذن فهذه التفسيرات للوجوب التخييريّ تؤثر في وضوح جريان البراءة وخفائها.

٢٤٢

الكلام في تصوير إمكان التخيير بين الأقل والأكثر وعدمه

وقد وقع الاستشكال في تصوير إمكان هذا التخيير وعدمه ، حيث قيل : إنّ الأكثر ، تارة يكون تدريجيا ، بحيث أنّ الزيادة تقع زمانا بعد الأقل.

وأخرى يكون الأكثر عرضي الأجزاء ، بحيث أنّ الزيادة تقع معاصرة مع الأقل.

فإن كان الأكثر تدريجيّا ، فمن الواضح أنّه بعد الإتيان بالأقل ، وقبل الشروع بالزيادة التي بها يتميّز الأكثر عن الأقل ، يكون الغرض قد استوفي ، والملاك قد حصل ، وسقط التكليف بالامتثال ، وحينئذ فلا معنى لكون الزيادة دخيلة في الواجب ، وكونها مصداقا له.

وإن كان الثاني ، وهو كون الأكثر عرضي الأجزاء ، من قبيل التخيير بين التصدق بدرهم ، أو التصدق بدرهمين ، فحينئذ يقال : بأنّ التكليف ، وإن كان محفوظا في حال وجود الأكثر ، إلّا أنّ الزيادة في هذه الحال يجوز تركها لا إلى بدل ، وليس شيء يجوز تركه لا إلى بدل يكون مصداقا للواجب ، إذ إنّ الواجب لا يجوز تركه لا إلى بدل.

وإن شئت قلت : إنّه استشكل في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر وعدمه ، حيث قيل : إنه إذا كان الأقل والأكثر تدريجيين في الوجود ، فإنّ التكليف يسقط بامتثال لأقل ويحصل ملاكه ، وحينئذ لا يبقى مجال لأن يكون الأكثر مصداقا للواجب.

٢٤٣

وإن كان الأقل والأكثر عرضيّين ، فإنّ التكليف وإن كان يستوفى في آن حصول الأكثر ، إلّا أنّ الزيادة الواقعة في هذا الآن ، لا يعقل أن تكون واجبة ، لأنّه يجوز تركها لا إلى بدل. إذ لو كانت واجبة أو مصداقا للواجب لما جاز تركها لا إلى بدل.

والآن نستعرض صيغتين لتصوير إمكان التخيير بين الأقل والأكثر ذكرهما المحقق الخراساني «قده» (١) كإجابة عن هذا الإشكال ، وهما :

إمكان تعلق التخيير بالجامع الذي يرجع التخيير فيه إلى التخيير العقلي.

وإمكان تعلق التخيير بكل من العدلين مشروطا بترك الآخر كما ذكر في (الكفاية).

إذن ، فتارة يقع الكلام على أساس صيغة رجوع التخيير الشرعيّ إلى التخيير العقليّ.

وأخرى يكون المنطلق هو صيغة الالتزام بوجوبين مشروطين ، كل منهما بعدم الآخر.

الصيغة الأولى ، هي : إنّه يمكن افتراض إنّ الطبيعة لها فردان : قوي ، وضعيف ، أي : كامل وناقص ، ونفرض أنّ الملاك يفي به كلا الفردين ،

ففي مثل ذلك ، لا بدّ من الالتزام بتعلّق الوجوب التخييريّ بالطبيعة الجامعة بين كلا الفردين ، باعتبار وفاء كل منهما بالملاك ، وإلّا كان تخصيص الأقل أو الأكثر بالوجوب بلا مخصّص ، هذا فيما إذا كان الأقل والأكثر يشكل وجودا مستقلا واحدا للطبيعة ، من قبيل الخط الطويل والقصير ، باعتبار أنّ الاتصال يشكّل وحدة للطبيعة ، أو طبيعة واحدة.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٢٤٤

ـ الصيغة الثانية ، هي : إنّ الأقل والأكثر هنا ، غيره في الصيغة الأولى ، فإنّه في الأولى ، كان الأقل والأكثر ، كل منهما يشكل وجودا مستقلا واحدا للطبيعة.

وأمّا في الصيغة الثانية ، فإنه يراد بالأكثر ، الوجودات المتعددة للطبيعة ، فإنّ دوران الأمر بين تسبيحة واحدة ، وتسبيحات ثلاث ، يشكّل وجودات متعددة للطبيعة.

وفي مثله لا بدّ من تغيير الصيغة فيه ، إذ لا يمكن القول : بأنّ الملاك يترتب على كلا الفردين : الناقص والكامل كما في الصيغة الأولى ، لأنّ التسبيحات ليست وجودا واحدا للطبيعة ، بل هي ثلاثة وجودات ، إذن فالملاك مترتب على التسبيحة ، أي : على الأقل بشرط «لا» من حيث الزيادة ، وعلى الأكثر ، وحيث أنّ كلا من الأقل بشرط «لا» والأكثر ، يفي بالملاك ، فلا بدّ من القول بالتخيير.

وتوضيح الصيغة الأولى ، في مقام حل الإشكال ، يتوقف على الإشارة إلى بحث ، مفاده ، أنّ التفاوت بين الشيئين المتفاوتين يكون على نحوين :

١ ـ النحو الأول ، هو : أن يكون التفاوت بلحاظ جهة عرضيّة أجنبيّة ، وذلك كالتفاوت بين العالم والجاهل ، وهذا هو المسمّى بالتشريك العامّي ، أو بتشريك العامّي ، والذي يكون ما به الامتياز فيه ، غير ما به الاشتراك.

٢ ـ النحو الثاني ، هو : أن يكون التفاوت له حيثيّة ترجع إلى الجهة المشتركة ، كالتفاوت بين الثلاثة والأربعة ، فهما متفاوتان في العدديّة أيضا ، إذ إنّ مرتبة هذا غير مرتبة هذا ، وكذلك «الخط الطويل والقصير» ، فهما «كمّ» متصل ، ولكن يتفاوتان أيضا بهذا الكمّ المتصل.

ومن هنا وقعت معركة آراء في تصوير أنه ما هو الذي به الاشتراك ، وما هو الذي به الامتياز؟.

٢٤٥

فقيل : إنّ ما به الاشتراك هو «العدد أو الكم» ، وما به الامتياز هو خصوصيّة «أربعيّة الأربعة» ، إذ أربعيّة الأربعة حالة عرضيّة ، ترجع هذا النحو إلى النحو الأول.

وقيل : إنّ ما به الامتياز حيثيّة ذاتيّة لا عرضيّة ، وكذلك فإنّ ما به الاشتراك حيثيّة ذاتية أيضا ، وحيث أنّه يستحيل أن يكون ما به الاشتراك هو عين ما به الامتياز ، إذن فلا بدّ من الالتزام بتعدد الأنواع في المقام ، فيكون الثلاثة والأربعة مشتركين في الجنس ، وكل مرتبة من العدد نوع.

وعليه ، تكون مراتب الأعداد أنواعا متباينة وكذلك مراتب الخطوط.

وقيل : إنّ ما به الامتياز أمر ذاتيّ ، ولكن هذا الأمر الذاتيّ هو عين ما به الاشتراك ، فالعدديّة هي بنفسها وذاتها جهة الاشتراك ، وجهة الامتياز ، وهذا ما يسمّى في كلمات أهل المعقول ، «بالتشكيك الخاصّي الماهوي».

ثم إنّه في إطار هذا التصوّر لما به الامتياز والاشتراك ، فقد ذهب بعضهم إلى أنّ عينيّة ما به الامتياز والاشتراك ، إنّما هي في مرحلة الماهيّة.

وذهب البعض الآخر إلى أنّها في مرحلة الوجود ، بناء على تصوير الثنائيّة بين الماهيّة والوجود.

وقد وقع هذا التشكيك الخاصّي في الوجود بعد الماهيّة ، إذ الوجود يحتوي على حيثيّة يكون بها الاشتراك ، وحيثيّة يكون بها الامتياز. فالتشكيك في الماهيّة معناه : إنّ الخط الطويل في كونه خطا ، هو أولى بالخطية وأشد في معناه من الخط القصير ، وهذا لم يقبله إلّا الشواذ من أصحاب هذا التصور.

والتشكيك الخاصّي في الوجود ، معناه : ، إنّه في عالم الماهيّة لا تشكيك ، وإنّما التشكيك في الوجود ، إذ بناء على أصالة الوجود يكون الوجود الزائد على الماهيّة محتويا على حيثيّة وجوديّة يكون ما به الاشتراك بعينه هو الخطيّة ، فالخطان خطّيتهما واحدة إذا جرّدا عن عالم الوجود ،

٢٤٦

ولكن في عالم الوجود ، مرتبة وجود الطويل أكمل من مرتبة وجود القصير.

وإن شئت قلت : إنّ حلّ إشكال التخيير بين الأقل والأكثر ، على ضوء الصيغة الأولى ، يتوقف على بحث فلسفي في مسألة التشكيك الخاصّي في الوجود ، حيث قيل هناك : إنّ التفاوت والاختلاف بين مفردات الطبيعة الواحدة ، يتصور على نحوين :

١ ـ النحو الأول : أن يكون هذا التفاوت بلحاظ امتيازات عرضيّة على الماهيّة ، ولكنّها خارجة عنها ، كالتفاوت بين الإنسان العالم ، والإنسان الجاهل ، وهذا هو المسمّى بالتشريك العامّي ، وهو الذي يكون ما به الامتياز فيه غير ما به الاشتراك.

٢ ـ النحو الثاني ، هو : أن يكون التفاوت بلحاظ امتيازات داخلة في الماهيّة ، ولكنّها تختلف فيما بينها بالمرتبة ، والنقص ، والكمال ، والكمّ ، كما في الماهيّات المشككة من قبيل الخط الطويل والخط القصير ، إذ كلاهما «كمّ متصل» ، ولكن يتفاوتان فيه ، وهكذا يقال في العدد بين الثلاثة والأربعة وما شابه ذلك.

ومن هنا اختلفت التفسيرات الفلسفية في تصوير هذه الامتيازات التشكيكيّة للماهيّة الواحدة.

فذهب فريق إلى أنّ هذه الامتيازات بين مفردات الطبيعة والماهية الواحدة ، على وزان الامتياز والتفاوت في النحو الأول القائم على أساس اختلاف في خصوصيّات العرض ، خارج عن ذات الماهيّة فيكون ما به الامتياز في كل وجود للماهيّة ، غير ما به الاشتراك ، ففي العدد مثلا ، ما به الاشتراك ، هو نفس العدد ، أو نفس الكم ، وما به الامتياز هو خصوصيّة أربعيّة الأربعة ، مع العلم أنّ هذه الخصوصيّة عرضيّة خارجة عن ذات الماهيّة ، وهذا هو المسمّى عندهم «بالتشريك العامّي» ، أو «بالتشكيك العامّي».

٢٤٧

وذهب فريق آخر إلى أنّ ما به الامتياز حيثيّة ذاتيّة للماهيّة لا عرضيّة ، كما أنّ ما به الاشتراك فيها حيثيّة ذاتيّة أيضا.

وعليه ، فما به الامتياز فيها هو عين ما به الاشتراك ، وحيث أنّه يستحيل أن يكون ما به الاشتراك هو عين ما به الامتياز ، إذن ، فلا بدّ من الالتزام بتعدّد الأنواع في المقام ، وذلك بأن يفترض أنّ الامتياز بينها في مرحلة الذات والماهيّة ، فماهيّة الثلاثة والأربعة ، وإن كانتا مشتركتين في الجنس الذي هو «الكم» ، لكن ماهيّة الثلاثة تختلف عن ماهيّة الأربعة ، كما تختلف الأنواع في الجنس الواحد ، فتكون كل مرتبة من العدد الذي هو الجنس ، نوعا ، وعليه ، تكون مراتب الأعداد متباينة وكذا مراتب الخطوط ، وإن كان ما به الامتياز فيهما هو من سنخ ما به الاشتراك وهو العدد ، لكن تختلف الأربعة عن الثلاثة في الأربعيّة والثلاثة كذلك ، دون أيّ شيء آخر ، ومثلهما الخط الطويل في اشتراكه مع الخط القصير في «الكم» ، الجنس ، واختلافهما في الطوليّة والقصريّة.

وهذا ما يسمّى في كلماتهم : «بالتشكيك الخاصّي الماهوي».

وذهب فريق ثالث إلى أنّ ما به الامتياز في كل منها أمر ذاتيّ ، وهذا الأمر الذاتيّ هو عين ما به الاشتراك ، ولكنه في الوجود لا في الماهيّة ، فالعدديّة هي بنفسها وذاتها جهة الاشتراك وجهة الامتياز ، فالماهيّة المنتزعة عن الفردين المختلفين في المرتبة ، هي ماهيّة واحدة ذاتا ، وإنّما الاختلاف بين الفردين إنّما هو في الوجود الذي هو الأصل في الخارج ، بناء على أصالة الوجود ، فالخط الطويل يمتاز عن الخط القصير في حقيقة الوجود الكامل للخط الطويل ، فإنّه يختلف في كماله الوجودي ، لا الماهوي ، عن وجود الخط القصير ، رغم كونهما من سنخ واحد ، وكل منهما مصداق مستقل واحد لماهيّة واحدة هي «الكم».

وهذا ما يسمّى في كلماتهم «بالتشكيك الخاصي الوجودي».

٢٤٨

والخلاصة ، هي : إنّ التشكيك الخاصي في الوجود ، معناه ، أنّ الوجود يحتوي على حيثية يكون بها الاشتراك وحيثية يكون بها الامتياز.

والتشكيك في الماهيّة ، معناه : إنّ الخط الطويل ، في كونه خطّا ، هو أولى بالخطيّة وأشدّ في معنى الخطيّة من الخط القصير ، وهذا لم يقبله إلّا الشواذ من أصحاب هذا التصور.

والتشكيك الخاصي في الوجود معناه : إنّه في عالم الماهيّة لا تشكيك ، وإنّما التشكيك في الوجود فبناء على أصالة الوجود ، يكون الوجود الزائد على الماهية محتويا على حيثية وجودية يكون ما به الاشتراك هو عين ما به الامتياز ، فخطيّة الخطّين واحدة ، وإن كان الخط الطويل يمتاز عن الخط القصير في كون مرتبة وجود الخط الطويل أكمل من مرتبة وجود الخط القصير.

وبعد هذا الاستعراض ، نقول : إنّ كلام المحقق الخراساني «قده» يرتبط بهذه التصورات.

فإن فرض أنّ كلا من الأقل والأكثر ، كان فردا واحدا مستقلا للماهيّة ، كما هو الحال في الخطّين ، الطويل ، والقصير ، لا إنّ الأكثر أفراد عديدة كما في التسبيحات الثلاثة ، فإن فرض أنّ التفاوت بينهما كان عرضيا ، كما لو كان يشتمل على خصوصيّة زائدة على أصل الماهيّة المشتركة بينهما ، فإنّه حينئذ لا يمكن التخيير بينهما ، إذ لا محالة يكون الملاك في ذات الماهيّة الجامعة بين الفردين ، فتكون هي الواجبة تعيينا وتكون الخصوصية التي بها الامتياز الزائدة على الطبيعة غير دخيلة في حاق مصداق هذه الماهية.

وقد عرفت أنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد في الأنواع.

وأمّا إذا أخذنا بالتصور الثاني ، وقلنا : إنّ المائز بينهما ذاتيا ، فما به الامتياز جهة ذاتية ، ولكن قلنا بالتشكيك العامي ، أي : إنّ ما به الامتياز غير ما به الاشتراك ، حينئذ أيضا لا تتم صيغة صاحب (الكفاية).

لأنّه إن فرض أنّ الملاك الواحد قائم بالجنس من دون دخل للفصول

٢٤٩

المميّزة ، فهذا معناه ، أنّ ما به يكون الخط طويلا ، لا دخل له في الواجب. إذن فهذه الزيادة لا دخل لها ، إذن فما معنى التخيير بعد أن عرفت أنّ ما له دخل هو الجنس فقط. إذن فهذه الحيثيّة لا دخل لها في المقام في إيجاد الواجب.

وإن فرض أنّ الملاك قائم بكل من الفصلين ، إذن فيلزم صدور الملاك الواحد من الكثير ، وهذا ممّا لا يقبله صاحب (الكفاية) أيضا.

وأمّا إذا فرض أن أخذنا بالتصور الثالث ، وهو كون ما به الامتياز هو عين ما به الاشتراك ، فإن قيل بالتشكيك الخاصي الماهوي ، فأيضا يجري الإشكال ، لأنّ الملاك الواحد سوف يحصل بالمرتبة الضعيفة تارة ، ويحصل بالشديدة أخرى دون أن يكون كل منهما بحدّه مشتركا في إيجاد الملاك ، لأنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد.

وهذا معناه ، أنه لا جامع ماهويّ بين المرتبتين ، بل تكون المرتبة الشديدة ممتازة في نوعها وماهيّتها عن المرتبة الضّعيفة.

ولكن إن قلنا بالتشكيك الخاصي الوجودي ، أي : في الوجود ، كما ذهب إليه من فسّر الامتياز بين مفردات الماهيّة الواحدة ، ومنهم صاحب (الكفاية) ، فإنه حينئذ يتم ما أفاده صاحب (الكفاية) من التخيير بين الأقل والأكثر ، لأنّ الأكثر بحدّه المستقل في وجوده عن الأقل ، لا يختلف عن الأقل في الماهية ، ما دام أنّهما تجمعهما ماهيّة جامعة بين مرتبتين من الوجود ، وفي مثل ذلك يكون الوجوب التخييريّ متعلقا بالوجود الاستقلالي للطبيعة ، وهذا الوجود الاستقلالي متمثل في إحدى المرتبتين ، والمفروض أنّه بين المرتبتين جامع ما هوي. إذن فلم يصدر الواحد بالنوع من الكثير بالنوع بل من واحد بالنوع.

أو فقل : إنّه إذا قلنا بالتشكيك الخاصي الوجودي ، فإنّه يتم ما أفاده صاحب (الكفاية) ، إذ يتعين التخيير بين الأقل والأكثر لا محالة ، لأنّ الأكثر بحدّه المستقل في وجوده لا يختلف عن الأقل في الماهيّة ، بل

٢٥٠

الماهيّة ، بل كلاهما وجود لطبيعة واحدة وماهيّة فاردة ، غايته أنّ الفارق بينهما في الوجود ، والفارق الوجودي أيضا من سنخ ما به الاشتراك ، لا من سنخ آخر.

وعليه ، فلا يلزم من تأثير كل منهما بحدّه في ذلك الملاك صدور الواحد من المتعدد بالنوع بل وحدة الماهيّة محفوظة فيهما.

وبهذا يتضح ، أنّ هذه الصيغة لا تحتاج في إتمامها لأخذ قيد «بشرط لا» في الوجود الناقص ، بدعوى أنّ الوجود الناقص يجب أن يؤخذ بقيد عدم الزيادة ، إذ يعوّض عن هذا القيد بقيد الاستقلاليّة في الوجود.

وبذلك تكون هذه الصيغة في مقابل الصيغة الثانية.

أو فقل : لأنّ الأكثر ليس عبارة عن وجودين : وجود للأقل ، ووجود للزيادة ، فلا يقال حينئذ : إنّه لو لم يؤخذ الأقل «بشرط لا» عن الزائد ، كان به الامتثال ، وكان يجوز ترك الزائد لا إلى بدل وعليه فلا يكون هذا الزائد مصداقا للواجب.

لأنّه يقال : حيث أنّ المفروض أنّ الأكثر يشكل وجودا واحدا مستقلا للماهيّة ، وليس وجودات كثيرة ، بدعوى أنّ الأكثر يشكل وجودات عديدة ببرهان أنّ الشيء ما دام متحركا ، ولم يقف في حركته ، لا يكون له وجود مستقل ، وإلّا ، لزم حصر اللامتناهي بالفعل بين حاصرين وهو مستحيل.

فهذا الاعتراض حينئذ غير وارد ، إذ قلنا سابقا : إنّه مخصوص بما إذا كان الأكثر ضمن وجودات عديدة للطبيعة لا وجود واحد لها.

والصيغة الأولى هذه ، حولها كلامان :

١ ـ الكلام الأول ، هو : إنّ هذه الصيغة إذا تمّت ، فإنّما تتم في الأكثر الذي يشكل ، بما هو أكثر ، وجودا واحدا للطبيعة ، كما في الخط الطويل بالنسبة إلى الخط القصير ، ولا تتم في الأكثر الذي يشكّل عدة وجودات متفاصلة للطبيعة من قبيل التسبيحات الثلاث ، فإنّ الوجود الاستقلالي

٢٥١

لطبيعة التسبيح يحصل بالتسبيحة الأولى ، سواء انضم إليها تسبيحة أخرى ، أو لم ينضم إليها شيء ، لأنّ الزيادة هنا ليست من قبيل الحركة في الخط ، ليقال : إنّ هذا وجود واحد.

إذن ففي المقام لا تتم هذه الصيغة فيما إذا كان الأكثر يشكل وجودات متفاصلة ، ولعلّه لأجل ذلك تقدّم صاحب (الكفاية) بالصيغة الثانية.

٢ ـ الكلام الثاني ، هو : أنّه يمكن الإيراد على هذه الصيغة ثانية فيقال :

بأنّ المكلّف ، بعد أن يبدأ بامتثال رسم الخط ، فقد سقط التكليف ، ولا يبقى معنى معقول للأمر به ، لأنّه إن فرض أنّ الغرض والملاك يحصل بمجرّد أن يبدأ بأصل وجود الخط ، إذن فلا محالة يسقط التكليف بهذا المقدار ، وعليه ، فلا يكون الأكثر بحده دخيلا في الامتثال.

وإن فرض بقاء الأمر على ذمّة المكلّف ، كما لو كان للمولى غرض آخر. كما لو كان يريد منه استقلاليّة الوجود ، فأيضا لا معنى لبقاء الأمر الذي يطلب به الاستقلاليّة في الوجود ضمنا ، وذلك لأنّ الاستقلاليّة حاصلة على أيّ حال في ضمن أحد الوجودين ، إذن فيكون الأمر به تحصيلا للحاصل.

وكأنّ الأمر هنا ، ينحل إلى أمرين : أمر بذات الطبيعة ، وأمر باستقلاليّة وجودها ، والمولى هنا حصل على غرضه على كل حال كما عرفت ، ومعنى هذا أنّ الامتثال يتحقق بالأقلّ.

وهذا الكلام إن كان يرد ، فهو يرد فيما لو فرض أنّ الواجب لم يكن موقتا ، بأن فرضنا أنّ المقيّد اللبّي العرفي للخطاب بالمقدور ، يقتضي أن تكون مقدوريّة متعلّق كل وجوب ضمني مستقلا.

ولكن هذا الكلام لا يرد فيما إذا كان الواجب مؤقتا ، كما لو كن مقيّدا بزمان معيّن بأنّه يجب أن توجد الطبيعة وجودا مستقلا في ذلك الزمان ،

٢٥٢

بحيث أنّه إذا استمرت حركته في الخط إلى انقضاء ذلك الزمان القيد ، بحيث أنّ وجود الطبيعة استقل في الزمان الثاني ، فإنّه حينئذ لا يكون هذا الوجود في الزمان الثاني ، مصداقا للواجب ، وتكون الاستقلاليّة في الوجود غير حاصلة في الزمان المحدّد ، وحينئذ يرتفع الإشكال ، ويصح أن يبقى الأمر على ذمة المكلّف.

وهكذا يتضح ، أنّ هذه الصياغة الأولى لعلاج التخيير بين الأقل والأكثر عن طريق تصوير الأمر بالجامع بينهما ، معقولة بشكل مجمل ، وسواء افترضنا أمرا واحدا بالجامع ، أو افترضنا وجود أمرين مشروطين كما لو فرض وجود ملاكين ، فإنّ ذلك لا ينافي صدور الكثير من واحد بالنوع ، وإنّما يستحيل هذا في الواحد البسيط ، بينما غيره فلكونه مركبا فلا مانع فيه من صدور الكثير من فردين لنوع واحد.

٢ ـ الصيغة الثانية : وقد ذكرها المحقق الخراساني «قده» كحلّ لعلاج مسألة التخيير بين الأقل والأكثر [وذكر بحوث ثلاثة حول هذه الصيغة] ، فيما إذا كان الأكثر متحققا ضمن مصاديق متعددة للطبيعة ، كما في التخيير بين تسبيحة واحدة ، وتسبيحات ثلاث ، فإنّه فيه يمكن أن نتصور أنّ الواجب التخييري هو الأقل «بشرط لا» والأقل «بشرط شيء» ، فإنّ الواجب حينئذ يتحقق إمّا بالأقل أو بالأكثر ، وحينئذ لا يكون الأقل في ضمن الأكثر واجبا أصلا.

وحينئذ لا يقال بسقوط التكليف بالأقل قبل الإتيان بالزيادة ، لأنّه لم يتحقّق الواجب بالأمر الضمني بالأقل.

وهنا لا يشكل ، بأنّ هذا خلف ، لأنّ الأقل «بشرط لا» ، والأكثر متباينان فلا يكون هذا تخييرا بين الأقل «بشرط لا» والأكثر بحسب الحقيقة ، لأنّ صاحب (الكفاية) «قده» كان بصدد وضع فرضيّة تصور التخيير بين الأقل والأكثر ، لأنّه وقع في الفقه ما ظاهره ذلك ، حتى ولو رجع ذلك إلى التخيير بين المتباينين. وكيفما كان فإن لنا حول هذه ثلاث كلمات :

٢٥٣

١ ـ الكلمة الأولى : إنّ الأمر المتعلق بالجامع بين الأقل «بشرط لا» والأكثر ينحل إلى أمرين ضمنيّين :

أوّلهما : أمر ضمني بذات الأقل المحفوظ في الأقل «بشرط لا» وفي الأكثر.

وثانيهما : أمر ضمني بالجامع بين الأقل «بشرط لا» والزيادة ، وحينئذ يقال : إنّ هذا الأقل «بشرط لا والبشرطشيء» لا يرتفعان أحيانا ، ولا بديل لهما ، كما لو فرض أنّ المولى خيّر بين تكبيرة واحدة «بشرط لا» وبين تكبيرة بشرط ضم أخرى إليها ، فهنا الجامع بين الأمرين قهري الحصول بعد التكبيرة الأولى ، وحينئذ لا يعقل الأمر الضمني الثاني.

وهذا الإشكال إنّما يرد في حالة عدم وجود شق ثالث متصور في المقام.

وأمّا إذا كان يوجد شق ثالث كما لو فرض أنّ التخيير بين تسبيحة واحدة «بشرط لا» ثانية ، وبين تسبيحة واحدة «بشرط ثانية وثالثة ، فإنّه حينئذ لا يكون الجامع هنا قهري الحصول خارجا.

وإن شئت قلت : في الكلمة الأولى ، إنّ هذه الصياغة الثانية إنّما تتم فيما إذا كان يمكن انتفاء الأقل والأكثر معا مع بقاء وجود ذات الفعل ، كما هو الحال في التسبيحة الواحدة والثلاث تسبيحات ، فإنّه يمكن وجود ذات التسبيحة في ضمن تسبيحتين ، إذ حينئذ لم يتحقق لا الأقل ، ولا الأكثر.

وأمّا إذا كان فرض وجود ذات الفعل مستلزما لتحقّق إمّا الأقل ، وإمّا الأكثر على كل حال ، كما هو الحال في التسبيحة الواحدة ، والأكثر منها ، ولو ضمن تسبيحتين ، فإنّه حينئذ ، قد يقال : إنّ التخيير بين مثل هذا الأقل والأكثر ، غير معقول وإن أخذ الأقل «بشرط لا» ، لأنّ الأمر بالتخيير هنا ينحل إلى أمر ضمني بذات الأقل المحفوظ ضمن التسبيحتين ، وأمر ضمني

٢٥٤

آخر بالجامع بين الأقل «بشرط لا» عن الزيادة وبشرط الزيادة إذن فهذا الجامع قهري الحصول ، فيكون الأمر الضمني به حينئذ لغوا ، لأنّه تحصيل للحاصل.

نعم لو قيل : بأنّه يكفي في كون التكليف عقلائيا ـ استجابة لفحوى المقيّد اللبّي ـ أن لا يكون متعلّق التكليف حاصلا. فإنّه حينئذ يمكن أن يكون التخيير المذكور معقولا.

٢ ـ الكلمة الثانية ، هي : إنّه إذا فرضنا ملاكا واحدا يترتّب على الأقل «بشرط لا» ، وعلى الأقل مع الزيادة ، فحينئذ هذا الملاك يحتاج إلى جامع واحد يؤثر فيه ، وحينئذ يشكل الأمر ـ بناء على قانون أنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ـ وذلك ، لأنّ هذا الملاك ، إن كان قد أثّر في حصوله ، الأقل «بشرط لا» بما هو «بشرط لا» ، والأقل «بشرط شيء» ، أي : الأكثر بما هو أكثر ، رغم كونهما متباينين ، إذن لزم صدور الواحد من الكثير والمتباينين ، وإن كان قد أثّر في حصوله ، الجامع المحفوظ في ضمن الأقل «بشرط لا» ، والأكثر ، فإنّ الجامع يتحقق بذات الأقل ، فإذن يكون ذات الأقل هو المؤثّر في الملاك. إذن فيعود الإشكال طرا ، لأنّ الجامع يتحقق بالتسبيحة الأولى سواء أتى بثانية وثالثة ، أو لم يأت ، فيكون ضم الزيادة دائما بعد تحقق الجامع ، وتحقّق الملاك.

والخلاصة ، هي : إنّه إذا كان الملاك يحصل بالجامع بين الأقل والأكثر ، والمفروض أنّ الجامع يتحقق بذات الأقل ، فمعنى هذا ، أنّ الملاك يحصل بالأقل ، وحينئذ يرجع إشكال سقوط الواجب بالأقل قبل تحقق الأكثر.

٣ ـ الكلمة الثالثة ، هي : إنّه إذا فرض أنّ ملاكا واحدا يحصل من الأقل «بشرط لا» بما هو أقل «بشرط لا» ومن الأقل «بشرط شيء» بما هو أقل «بشرط شيء» ، فمعنى هذا ، إنّ عدم الزيادة كوجود الزيادة ، يكون دخيلا في حصول الملاك ، ومعنى هذا أنّ الشيء ونقيضه كلاهما دخيلين في

٢٥٥

حصول الملاك ، وهذا أشدّ استحالة من مسألة أنّ الواحد يصدر من متعدد.

وهنا يمكن دفع كلتا الكلمتين وذلك بافتراض فرضيّة أخرى ، وهي : أن يكون المؤثر في الملاك هو الطبيعة الجامعة ، أي : ذات التسبيحة ، الجامعة بين الأقل والأكثر ، دون أن يكون «للبشرطلائيّة» أو «البشرطشيئيّة» دخل في تحقق الملاك.

نعم يمكن أن يمنع من تحقق الملاك ووجوده ، كون عدد الطبيعة اثنين.

وحينئذ في مقام تحصيل الملاك ، لا بدّ من الإتيان ، إمّا بتسبيحة واحدة ، أو ثلاثة ، فيكون المقتضي موجودا ، والمانع مفقودا.

وبهذا يندفع الإشكال الثاني. ولكنّ هذه الفرضية يقطع بعدمها خارجا ، ولكنها تكفي.

وكذلك تتم هذه الصيغة في تصوير التخيير بين الأقل والأكثر ، وتندفع الكلمات كلها ، ولا يلزم إشكال صدور الواحد من الكثير ، وذلك فيما إذا افترضت نظريّة الأمرين التعيينيّين المشروطين ، كل منهما إذ أتي به ، بترك الآخر ، باعتبار وجود ملاكين تعيينيّين متضادّين ، وذلك لأنّ الأمر بالأقل مشروط بترك الأكثر ـ ولو كان هذا الأكثر هو اثنين لا ثلاثة ـ فإنّه لا يلزم منه تحصيل الحاصل ، لأنّ من يترك الأكثر قد يأتي بالأقل وقد لا يأتي بشيء أصلا ، كما تقدّم معنا ، وهكذا الحال فيما لو كان الأمر بالأكثر مشروطا بترك الأقل.

وكذلك ، فإنّه بناء على هذه الفرضيّة ، لا يلزم صدور الواحد من الكثير ، ولا صدوره من النقيضين ، كما عرفت.

٢٥٦

الوجوب الكفائي

وقع الإشكال في تصوير الوجوب الكفائي ، كما وقع الإشكال في الوجوب التخييريّ ، وذلك ، حيث إنّ الوجوب الكفائي ، رغم كون متعلقه واجبا ، فإنّه يجوز للمكلّف تركه إذا أتى به آخر غير المكلّف به ، مع أنّ الواجب لا يجوز تركه.

وتحقيق الحال فيه هو : إنّ الوجوب الكفائي لا يخلو تفسيره من أحد فروض من ناحية كيفيّة تعلّقه بالمكلف :

١ ـ الفرض الأول ، هو : أن يكون موضوعه جميع المكلّفين ، بحيث يكون لكل واحد منهم وجوب يخصّه ، فيكون الوجوب بعدد المكلّفين.

٢ ـ الفرض الثاني ، هو : أن يكون موضوعه مجموع المكلّفين ، بمعنى أنّ مجموع المكلّفين كالواحد ، كما لو كلّف عشرة بحمل الحجر ، فالمكلّف هو المجموع ، بنحو العموم المجموعيّ ، لا العام الاستغراقي ، فكأنّ العشرة معا مكلّف واحد ، فالوجوب الواحد ، على مجموعهم.

٣ ـ الفرض الثالث ، هو : أن لا يكون الوجوب لا للجميع ، ولا للمجموع ، بل يكون الوجوب متعلّقا بالجامع بنحو العموم البدلي ، أي : إنّه متعلق بعنوان «أحد المكلّفين» على سبيل البدل ، والذي قد يعبّر عنه «بصرف الوجود».

٤ ـ الفرض الرابع ، هو : أن لا يكون للوجوب الكفائي موضوع أصلا ، بل له متعلّق واحد ، هو نفس الفعل الواجب ، من دون نظر إلى

٢٥٧

المكلّفين ، لا بنحو المجموع ، ولا بنحو العموم البدلي ، ولا الاستغراقي ، وإنّما هو إيجاب للفعل فقط.

وهذه الفروض ، لا بدّ من فحصها ، لنرى ما يصحّ منها تفسيرا للوجوب الكفائي ، هذا بعد الفراغ عن ثلاثة خصائص للوجوب الكفائي ، لا بدّ من الفراغ عن ثبوتها فيه أولا وقبل كل شيء ، لأنّه لا غنى عنها فيه أبدا ، وهذه الخصائص هي :

١ ـ الخصيصة الأولى ، هي : إنّ الوجوب الكفائي إذا قام به البعض امتثالا ، سقط عن الباقين ، ولو كانوا قادرين.

٢ ـ الخصيصة الثانية ، هي : إنّ الواجب الكفائي لو تركه جميع المكلّفين ، فالجميع عاصون ويستحقون العقاب مع الالتفات.

٣ ـ الخصيصة الثالثة ، هي : إنّ الواجب الكفائي ، لو كان ممّا يقبل التكثر والتعدّد ، من قبيل الصلاة على الميت ، فحينئذ لو اقترنت صلاتان على الميّت ، يحصل الامتثال ويثابون جميعا على ذلك ، وإن كان لا يقبل التكثّر ، فحينئذ لو تعاونوا على إيقاعه جميعا حصل الامتثال وكفى.

وهذه الخصائص مفروغ عنها فقهيا وأصوليا.

وعليه ، فيجب وضع نظريّة معقولة في نفسها وكافية ، ووافية ، بهذه الخصائص ، فنتكلم في هذه الفروض الأربعة المزبورة على ضوء تلك الخصائص.

وقد كان الفرض الأول ، يفترض أنّ موضوع الواجب الكفائي هو كل مكلّف بنحو العام الاستغراقي ، بحيث يكون لكل مكلّف وجوبه المستقل ، وهذا الفرض له عدة صيغ :

ـ الصيغة الأولى ، هي : أن نفترض وجوبات عينية متعددة بعدد المكلّفين ، إلّا أنّها مشروطة ، بحيث أنّ كل مكلّف ، وجوبه مشروط بعدم الوجوب على غيره بمعنى انه إذا قام به الأول سقط عن الآخر ، باعتبار أنّ

٢٥٨

قيام الآخر بالفعل يسدّ عليه باب القيام به ، وسوف نبيّن ما اعترض به على هذه الصيغة.

ـ الصيغة الثانية ، وهي : الصيغة التي حقّقناها نحن في تفسير هذا الوجوب في الفرض الثاني ، وخلاصته هي : إنّ الوجوب الكفائي عبارة عن وجوبات متعددة بعدد أفراد المكلّفين ، ومطلقة وغير مشروطة ، ولكن متعلق الوجوب الذي هو الواجب ، ليس هو تغسيل من كل مكلّف بالخصوص ، بل هو جامع الفعل القابل للانطباق على تغسيل زيد أو عمرو من المكلّفين ، فزيد يجب عليه أن يغسّل هذا الميّت ، أي : يكون مغسّلا ، وكذلك عمرو يجب عليه كما وجب على زيد ، إذن فالواجب هو حصول الفعل خارجا ، وهذا معناه ، جعل الوجوب الكفائي وصدوره خارجا في عهدة كل مكلّف.

وقد عرفت في بحث التعبّدي والتوصّلي ، أنّه يعقل تعلّق التكليف بالجامع بين فعل زيد وفعل غيره ، وإن كان زيد لا يقدر على فعل غيره ، لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور.

وهذا التفسير في الصياغة الثانية ، يفي بالخصائص الثلاثة للوجوب الغيري.

أما الخصيصة الأولى : فإنّ الجميع لو تركوا تغسيل الميت ، إذن فقد عصى كل واحد منهم الخطاب الموجه إليه ، لأنّ الخطاب جعل وجوب التغسيل على عهدة كل واحد منهم ، وحيث أنّ كل واحد منهم كان له وجوب فعلي مطلق ، ومن لم يمتثله يكون عاصيا.

وأما الخصيصة الثانية وهي : أنّه لو قام بالفعل أحد المكلّفين ، سقط الوجوب عن الباقين ، لتحقّق الامتثال والغرض ، إذ إنّ الواجب عليهم تحصيل جامع الفعل في الخارج وهو كون الميت مغسّلا ، وهذا الجامع قد حصل ، فترتفع العهدة عن الآخرين.

وأمّا الخصيصة الثالثة ، وهي : إنّه لو قام الجميع دفعة واحدة بهذا

٢٥٩

الواجب وحققوه في الخارج ، كان فعل الكل امتثالا واحدا ، ويثاب الجميع على ذلك ، لأنّ الجامع الواجب قد تحقق بفعلهم جميعا ، ويكون فعلهم هذا نظير من وجب عليه تعيينا عتق رقبة فأعتق رقبتين دفعة واحدة.

وبهذا تكون هذه الصيغة الثانية واضحة الصحة ، لكونها مستوفية لكلّ خصائص الوجوب الكفائي.

ولكن قد اعترض على الصيغة الأولى من الفرض الأول باعتراضين :

١ ـ الاعتراض الأول ، هو : إنّ الملاك الذي من أجله جعل هذا الوجوب الكفائي على عهدة أحد المكلّفين ، إن أفترض أنه ملاك واحد ، فمعنى هذا أنّه يناسبه وحدة الوجوب والخطاب أيضا ، ومعنى هذا أنّه لا موجب لتعدّده.

وإن افترض أنّ هذا الملاك متعدد ، بمعنى أنّ فعل كل مكلّف مترتّب على ملاك خاص به ، مناف مع ملاك فعل المكلف الآخر ، ولذلك لا يؤمر المكلّف بالفعل على كل تقدير ، بل يؤمر بالفعل مشروطا بترك المكلّف الآخر له ، احترازا من التنافي بين الملاكات ، إن افترض التعدّد في الملاك هذا ، فالتنافي بين هذه الملاكات إنّما يتعقّل إذا كان الواجب الكفائي سنخ أمر قابل للتكثّر ، كصلاة الميت ، وأمّا إذا كان الواجب الكفائي سنخ أمر واحد لا يقتضي التكثّر ، من قبيل دفن الميّت ، حينئذ لا معنى لتعدد الملاكات.

وجوابه هو : إنّنا نختار أنّ الملاكات متعددة ثبوتا ، ويمكن تصوير التعدّد حتى إذا لم يكن الواجب الكفائي قابلا للتكثّر ، كما في حالة الدّفن ، إذ إنّ الفعل الصادر من «زيد» غير الفعل الصادر من «عمرو». فالصادر من «عمرو» له ملاك ، والصادر من «زيد» له ملاك آخر غيره.

غاية الأمر أنّ الدفن كنتيجة ، «أي : على نحو اسم المعنى المصدري» ، غير متعدّد ، لكن هو من حيث حيثيّة الصدور ، فهو مركز ملاك

٢٦٠