بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

٣ ـ الأمر الثالث ، هو : أن يكون بإلقاء الثقل على ملك الغير دون مجرد المماسة ، فإنّه لا يصدق عليها أنّها تصرّف في ملك الغير.

وقد انصبّ التحريم على هذه المصاديق الثلاثة.

من هنا لا بدّ من النظر في أجزاء الصلاة ، كي نرى أنّه هل يكون واحدا منها أحد هذه المصاديق لتدخل المسألة في مسألة اجتماع الأمر والنّهي ، أو لا يكون شيئا منها أحد هذه المصاديق ، فتكون هذه الأجزاء خارجة عنها؟

فنقول : إنّ الصلاة تقسم إلى عدة أقسام :

١ ـ القسم الأول ، النيّة : ولا إشكال في أنّها ليست أحد الأمور الثلاثة المتقدمة.

٢ ـ القسم الثاني ، الأقوال : كالقراءة التي هي من مقولة اللسان ، أو كيف له. ولا إشكال أيضا في أنّها ليست أحد الثلاثة المتقدمة.

إلّا أنّه فلا يدّعى أنّ القراءة مرجعها إلى الصوت ، وهو يستوجب تموج الهواء ، وهذا التموج تصرف وتغيير في فضاء ملك الغير ، فإنّ الغير كما يملك ذلك المكان ، فإنّه يملك فضاءه أيضا. وعليه ، فتكون القراءة محرمة ، والمفروض أنها واجبة ، لأنّها جزء من الصلاة ، فتدخل في مسألة الاجتماع.

إلّا أنّ هذه الدعوى شبهة غير صحيحة.

أمّا أولا : فلأنّ الصوت أو القراءة ، ليس عبارة عن تموج الهواء ، بل هو مسبّب عن ذلك ، فأحدهما غير الآخر.

وأمّا ثانيا : فلو أغمضنا عن ذلك ، وسلّمنا أنّ القراءة هي نفس التموج ، إلّا أنّه لا دليل على ملكيّة الغير لهذا الهواء ، إذن فلا حرمة في التصرف في الهواء ، حتى لو قلنا بملكيّة الغير للفضاء.

وأمّا ثالثا : فلو سلّمنا بملكيّة الغير للهواء ، إلّا أنّه لا يصدق على ذلك أنّه تصرف في ملك الغير ، بحسب النظر العرفي ، أو تغيير فيه ، لكي يشمله

٣٨١

دليل حرمة التصرف فهذا المقدار من التصرف لا بأس به.

وأمّا رابعا : فلو سلّمنا أنّه تصرف ، إلّا أنّه لا إطلاق في دليل حرمة التصرف ليشمله. وعليه فلا مجال لعقد مسألة الاجتماع بلحاظ القراءة.

٣ ـ القسم الثالث من الصلاة : الاستقراء المعبّر عنه بالطمأنينة. وهذا عبارة عن الكون في المكان ، فيجتمع فيه الأمر والنّهي. إلّا أنّ الصحيح عدم كونه موردا للاجتماع ، وذلك لأنّ الاستقرار عبارة عن عدم الاضطراب من دون أن يستبطن معنى المكان ، كما لو أمكن الصلاة في غير مكان ، فصلّى بلا اضطراب ، فإنّه يصدق معه عنوان الاستقرار ، كما يحدث ذلك لمن يركب «الطائرات أو البراشوت» في عصرنا.

٤ ـ القسم الرابع ، من الصلاة : ممّا هو من مقولة أفعال الجوارح ، كالركوع والسجود ، وحينئذ قد يدعى أنّه من موارد اجتماع الأمر والنّهي ، لأنّه تصرف في ملك الغير بنحو من الأنحاء. إلّا أنّ هذا غير صحيح ، لأنّه بعد أن أشغل مكان الغير بالكون ، فلا يصدق أنّ الركوع تصرّف في ملك الغير بل حتى لو سلّمنا بأنّ الكون تصرف ، فلا نسلم بأنّ الكون جزء من الصلاة ، هذا مضافا إلى أنّ الركوع والسجود بما هي أفعال المصلّي ، فهي تصرّف في جسم الراكع والساجد ، لا في ملك الغير ، إذ إنّ الركوع وأمثاله نسب بين أجزاء الجسم ، فهو تصرف فيه.

وقد يقال : بأنّ الاجتماع يحصل بلحاظ الهوي إلى الركوع ، لأنّه حركة في الكون في المكان ، والحركة كذلك كون في المكان ، لأنّ الحركة من كل طبيعة ، هي مصداق لتلك الطبيعة ، وبذلك يجتمع الأمر والنّهي في الهوي.

إلّا أنّ هذا القول غير صحيح ، لأنّ الهويّ كذلك ، وإن كان موضوعا للنّهي ، إلّا أنّه ليس موضوعا للأمر ، فإنّ الهويّ ليس جزءا من الصلاة ، وإنّما هو مقدمة للجزء.

٣٨٢

وقد يقال : إنّ الاجتماع بين الأمر والنّهي يحصل بلحاظ السجود ، بناء على أنّ السجود لا يكفي فيه مجرد المماسة بالأرض ، بل لا بدّ فيه من إلقاء الثقل على الأرض ، وهو نحو تصرف فيها ، وفي مثله يتحقق الاجتماع.

وهذا القول صحيح : وعلى ضوئه يبحث في جواز الاجتماع وعدمه.

وفي المقام لا بدّ من القول بالامتناع عند من يستند في جواز الاجتماع إلى ملاك كفاية تعدّد العنوان ، أو إلى ملاك الميرزا «قده» القائل بأنه لا بدّ من تعدّد المعنون خارجا.

والوجه في ذلك هو أنّ عنوان الغصب في المقام ، غير متعدّد ، بل هو واحد ، بعد أن عرفت أنّ المحرّم ليس هو عنوان الغصب ، وإنما المحرّم هو واقع الفعل الذي به يتحقق الغصب ، وهو «إلقاء الثقل على الأرض» ، وعنوان إلقاء الثقل شيء واحد ، وقد صار هذا العنوان الواحد متعلقا للأمر والنّهي ، وبهذا لا ينطبق واحد من الملاكين. الثاني والثالث. هنا لما عرفت من اتّحاد المعنون فضلا عن عدم تعدد العنوان ، وأنّ النّهي وكذلك الأمر متعلق بمصداق الغصب بالنحو المتقدم.

وعليه فمن يستند في جواز اجتماع الأمر والنّهي إلى ملاكنا ، أو ملاك الميرزا «قده» يتعيّن عليه القول بامتناع الاجتماع في المقام لوحدة العنوان المتعلق للأمر والنّهي.

نعم من يستند في جواز الاجتماع إلى الملاك الأول المذكور في النحو الأول ، القائل بأنّ الأمر متعلق بصرف الوجود ، وهو لا يتنافى مع النهي عن الحصة ، يجوز له أن يقول بجواز الاجتماع حيث يقال حينئذ : إنّ الأمر متعلق بصرف الوجود وهو لا يسري إلى الحصة ، والنّهي متعلق بالحصة وهو لا يصعد إلى صرف الوجود. وعليه. فيجوز اجتماع الأمر والنّهي في المقام بلا محذور.

والخلاصة : إنّه بناء على الملاك الأول ، يمكن إدّعاء جواز الاجتماع

٣٨٣

في مورد السجود ـ بمعنى كونه إلقاء الثقل ـ وعليه ، فلا يكون من تطبيقات كبرى امتناع اجتماع الأمر والنّهي ، إلّا إذا بنينا على الملاك الثاني والثالث ، ويبقى تنقيح بطلان الصلاة في المكان المغصوب ، في ذمّة الفقه لما استدلّ له ببعض الروايات.

٣٨٤

تنبيهات اجتماع الأمر والنهي

ثم إنّه بعد استعراض كلمات المحققين في أصل مسألة اجتماع الأمر والنّهي ، واستعراض ملاكات الجواز والامتناع فيها ، نستعرض أخيرا ما ذكره صاحب الكفاية «قده» أولا ، تحت عنوان «مقدمات» ، ونذكره نحن تحت عنوان «التنبيهات» ، لأنّه بعد استعراضنا لأقوال المحققين في أصل المسألة ، يسهل فهمها :

* التنبيه الأوّل :

في تحقيق كون هذه المسألة ، أصولية ، أو فقهية ، أو كلاميّة ، أو إنّها من المبادئ التصديقية أو الأحكامية لها.

فقد اختار صاحب الكفاية «قده» (١) إنّها مسألة أصوليّة ، لانطباق ضابط المسألة الأصولية عليها ، وهو وقوع نتيجتها في طريق استنباط حكم شرعي كلي ، باعتبار أنّ القول بالجواز يترتب عليه صحة الصلاة في الدار المغصوبة ، والقول بعدم الجواز يترتب عليه بطلان تلك الصلاة.

وقد أشكل عليه المحقق النائيني «قده» (٢) حيث ذكر أنّ ضابط المسألة الأصولية ، ليس هو مجرد وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط ، بل هو وقوعها

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني ـ ج ١ ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

(٢) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ـ المطبعة العلمية.

٣٨٥

كبرى في قياس الاستنباط ، حيث لا تحتاج معها إلى ضم مسألة أصوليّة أخرى إليها.

والحال إنّها تحتاج إلى ضمّ كبرى أخرى إليها كفساد العبادة بالنّهي عنها ، فإنّها من دون ضم هذه الكبرى لا تثبت حكما شرعيا. وعليه : فلا يمكن أن تكون مسألة أصولية ، وإلّا فلو كان الضابط في المسألة الأصولية ما ذكره صاحب الكفاية «قده» ، لكانت مسائل اللغة هي أيضا مسائل أصولية حيث أنّ نتيجتها تقع في طريق الاستنباط. فإنّ كون كلمة (الصعيد) دالة على مطلق وجه الأرض لغويا ، هي أيضا تقع في طريق استنباط جواز التيمّم في مطلق وجه الأرض ، لكن بناء على ما ذكرناه من الضابط ، تخرج مسائل اللغة ، لأنّه لا يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي بلا ضم مسألة أصولية أخرى إليها.

وبناء على كون الضابط ما ذكرناه فلا تكون مسألة اجتماع الأمر والنّهي من المسائل الأصولية ، لأنّه لا يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي بلا ضمّ مسألة أصولية أخرى إليها ، إذ إنّ مجرّد القول بامتناع الاجتماع لا يثبت بطلان الصلاة بمجرده ، بل بناء على الامتناع يقع التعارض بين «صلّ ، ولا تغصب» فلا بدّ من تطبيق باب التعارض. فلو قدّمنا جانب النّهي ، فإنّ ذلك لا يثبت بطلان الصلاة ما لم يثبت أنّ النّهي عن العبادة يقتضي فسادها.

وبهذا يتبين أنّ مجرد القول بالامتناع ، لا يثبت البطلان إلّا بعد ضمّ مسألة التعارض ، ومسألة اقتضاء النّهي للفساد ، وكلاهما من المسائل الأصوليّة.

وقد حاول السيد الخوئي «قده» (١) أن يدفع الإشكال عن صاحب الكفاية «قده» حيث ذكر أنّ ضابط المسألة الأصولية ، وإن كان ما ذكره

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ هامش ـ ص ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٣٨٦

الميرزا «قده» إلّا أنّه يكفي في أصولية المسألة أن يتوفر فيها هذا الضابط ، ولو على أحد تقديريها.

وفي المقام إذا قلنا بالامتناع يتوجه ما ذكره الميرزا «قده» من عدم إمكان استنباط بطلان العبادة إلّا بعد ضمّ غيرها من المسائل الأصوليّة إليها ، إلّا أنّه بناء على جواز الاجتماع ، يحكم بالصحة ، بلا حاجة إلى ضمّ مسألة أصولية أخرى إليها ، وهذا يكفي في أصولية المسألة.

ونحن بدورنا نعلّق على كل من كلام السيد الخوئي «قده» والميرزا «قده».

أمّا تعليقنا على كلام السيد الخوئي «قده» فهو أن يقال : إنّه بناء على ما ذكره الميرزا «قده» من الضابط للمسألة الأصولية ، فإنّه لا يمكن استنباط الحكم بالصحة من مجرد القول بالجواز ، بلا ضمّ مسألة أصوليّة أخرى ، وذلك لأنّ القول بالجواز ، لا بدّ وأن يكون بأحد الملاكات الثلاثة المتقدمة.

فإن قلنا بالجواز بناء على ملاك كون تعدّد العنوان يوجب تعدد المعنون : ففي مثله يكون ما هو الصلاة خارجا غير ما هو الغصب خارجا. وحينئذ ، فإمّا أن يفرض وجود مندوحة للمكلف. وإمّا أن لا يكون له مندوحة ، أي : بمعنى إنّه لا يمكنه الإتيان بالصلاة إلّا في الأرض المغصوبة.

فإن لم يكن له مندوحة ، فيقع التزاحم بين «صلّ ، ولا تغصب». والحكم بصحة الصلاة يتوقف على أحد أمور ثلاثة ، كما حقّقت في باب التزاحم. وهي أولا : أن نحصل على مرجح للأمر على النّهي.

وإمّا أن نقول بإمكان الترتب.

وإمّا أن نقول بإمكان التقرب بالملاك.

وهذه الأمور تثبت بقواعد التزاحم ، وعليه فقد احتجنا في إثبات صحة العبادة إلى باب التزاحم الذي هو مسألة أصولية.

٣٨٧

وأمّا إذا كان للمكلف مندوحة ، فحينئذ ، يكون للصلاة فردان :

أحدهما : مقدور شرعا ، وهو الصلاة في غير المغصوب.

وثانيهما : غير مقدور شرعا ، وهو الصلاة في الأرض المغصوبة.

وفي مثله إن بنينا على عدم إمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور. كما يقول الميرزا «قده» ، فحينئذ يقع التزاحم ، ولا بدّ من الرجوع إلى قواعده.

وإن بنينا على إمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، فتقع العبادة صحيحة لكون الجامع بين المقدور وغيره مقدورا.

وعليه فتصحيح العبادة يتوقف على إثبات كبرى إمكان الأمر بالجامع بين المقدور وغيره ، وكبرى إمكان الأمر بالجامع مسألة أصولية ، إذن فإثبات صحة العبادة في مورد اجتماع الأمر والنّهي بحاجة إلى ضمّ كبرى أخرى على كل حال. فإذا فرض أنّ الثمرة لهذه المسألة هي تصحيح الصلاة في مورد اجتماع الأمر والنّهي ، فهي بحاجة إلى ضمّ مسألة أصولية أخرى على كل التقادير في مسألة اجتماع الأمر والنّهي ، ولا يكفي فيها مجرّد القول بجواز اجتماع الأمر والنّهي ، هذا بناء على أنّ جواز الاجتماع بملاك كون تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون.

وأمّا إذا قلنا بأنّ جواز الاجتماع كان بالملاكين الأخيرين ، ففي مثله يكون ما هو الصلاة خارجا ، هو نفسه الغصب ، كما عرفت تحقيقه. وعليه :

فلا يمكن الحكم بصحة الصلاة إلّا بعد إثبات عدم اقتضاء النّهي للفساد ، لأنّ هذه الصلاة بناء على ذلك ، وإن كانت مأمورا بها ، إلّا أنّ المفروض أنّه منهيّ عنها. إذن فنحن بحاجة إلى ضمّ مسألة اقتضاء النّهي للفساد ، وإثبات عدم اقتضائه لاستنباط الحكم بصحة الصلاة.

وبهذا يثبت صحّة ما ذكره الميرزا «قده» من الضابط في المسألة الأصوليّة تعليقا على صاحب «الكفاية». من أنّه لا يمكن استنباط الحكم

٣٨٨

بالصحة أو البطلان من مسألة الاجتماع بمجردها ، بلا ضمّ أيّ مسألة أصولية أخرى إليها على جميع التقادير.

وعليه : فإشكال الميرزا «قده» على المحقق الخراساني «قده» ثابت ، وإشكال السيد الخوئي «قده» على الميرزا «قده» غير تام.

وأمّا التعليق على كلام المحقق النائيني «قده» فهو أن يقال : بأنه يمكن التخلص من إشكال الميرزا «قده» لو أنّ صاحب «الكفاية» جعل الوجوب والحرمة ، ثمرة اجتماع الأمر والنّهي ، بدلا من جعل الصحة والبطلان كأن يقال : القول بجواز الاجتماع ، يستنبط منه الحكم بالوجوب ، والقول بامتناع الاجتماع ، يستنبط منه الحكم بالحرمة ، فإنّ الوجوب والحرمة هما أيضا ، حكمان شرعيّان كليّان ، وأبعد عن إشكال الميرزا «قده» ، وذلك لأنّه بمجرد القول بالجواز ، يثبت الوجوب والحرمة معا ، وإن كان القول بالامتناع لا يثبت أحدهما إلّا بضم كبرى أصولية أخرى إليه.

وبعد أن عرفت مبنى صاحب «الكفاية» «قده» ، ومبنى الميرزا «قده» ، ومبنى السيد الخوئي «قده» ، يتبين لك أن كل هذا الكلام لا موضوع له ، بناء على ما هو الضابط عندنا في المسألة الأصوليّة. إذ قد عرفت أنّ الضابط عندنا هو اشتمال المسألة الأصولية على ثلاثة خصائص :.

١ ـ الخصيصة الأولى ، هي : أن يكون استخراج الحكم الشرعي الكلي من المسألة بنحو الاستنباط والتوسيط لا التطبيق ، وهذه الخصيصة متوفرة في مسألة الاجتماع ، لأنّ استخراج الوجوب ، والحرمة ، والصحة ، والبطلان ، من قاعدة إمكان اجتماع الأمر والنّهي العقلية ، أو من امتناعه ، ليس بنحو تطبيق الكلي على مصاديقه ، لوضوح أنّ الحكم المستخرج ليس مصداقا لإمكان الاجتماع ، وامتناعه ، بل هو مغاير له ، وإنّما استخراجه بنحو الاستنباط والتوسيط.

٢ ـ الخصيصة الثانية ، هي : أن تكون المسألة الأصولية بحسب مادتها مشتركة بين عدة أبواب غير مختصة بباب واحد. وهذه الخصيصة متوفرة في

٣٨٩

المقام ، لأنّ مسألة الاجتماع لا تختص بباب الصلاة ـ مورد مثالنا ـ بل تشمل غيره كالصوم وغيره.

٣ ـ الخصيصة الثالثة ، هي : أن يكون المبحوث في المسألة أمرا مرتبطا بالشارع دون غيره ، كوثاقة الراوي المرتبطة بأمر خارجي. وهذا متوفر في المقام أيضا ، لأننا نبحث عن إمكان اجتماع الأمر والنّهي ، وهما فعلان للشارع ، وبهذا يثبت أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي مسألة أصوليّة لاشتمالها على خصائص المسألة الأصوليّة.

* التنبيه الثاني :

هو إنّ الإمكان والامتناع المبحوث عنهما في المقام ، هل يختص بالإمكان والامتناع الذي يكون بحكم العقل ، أو إنّه يشمل ما يكون بحكم العرف أيضا؟.

ومنشأ هذا التشقيق هو ذهاب البعض إلى جواز الاجتماع عقلا ، وامتناعه عرفا.

وقد اعترض على كون النزاع في الإمكان والامتناع بنحو يشمل حكم العرف ، باعتبار أنّ الإمكان والامتناع أمران واقعيّان يدركهما العقل فقط ، ولا شأن للعرف في إدراك الأمور الواقعية ، وليس نظره حجة في تشخيصهما ، وإن كان حجة في غيرهما كما في المفاهيم ومدلول اللفظ.

وقد ذكر في مقام توجيه مدخليّة العرف في ذلك ما حاصله :

إنّ الحكم بالإمكان والامتناع ، وإن كان هو العقل ، حيث أنّ العقل هو الذي يحكم باستحالة اجتماع الأمر والنّهي على شيء واحد ، وعدم استحالته على شيئين ، إلّا أنّ تشخيص كون هذا شيئا واحدا أو شيئين ، يختلف فيه نظر العرف عن نظر العقل ، باعتبار المسامحة في نظر العرف ، والدقّة في نظر العقل.

٣٩٠

وقد أشكل على مدخليّة العرف في ذلك حيث قيل : بأنّ مدخليّة العرف في بحث الإمكان والامتناع ، مرجعه إلى تشخيص العرف للمصداق. وحكمه في تشخيص المصداق ليس حجة ، وإنما هو حجة في تشخيص مفهوم اللفظ. فمثلا ـ بعد أن يحكم العرف في معنى (الصعيد) ، ونعلم أنّه خصوص التراب ـ لا يرجع إلى العرف ليشخص ويحكم على مشكوك الترابيّة بأنّه تراب ، بل يرجع في ذلك إلى العقل المبني على الدقة والتحليل. وهذا الكلام وإن كان صحيحا في نفسه ، إلّا أنّه مع ذلك يمكن القول بأنّ الكلام في الإمكان والامتناع يشمل ما كان بحكم العرف إمكانا وامتناعا.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ العرف قد يدرك تلازمات قد لا يدركها العقل ، باعتبار كون حكم العرف مبنيا على النظر المسامحي الذّوقي ، بينما حكم العقل مبني على الدقة والتحليل. فمثلا : العرف يدرك التلازم بين مطهّرية الماء وطهارته ، فإذا علم بمطهريّة ماء من دليله ، تراه يحكم بطهارة هذا الماء بسبب هذا التلازم العرفي ، لأنه لا يعقل كون المطهر غير طاهر ، وهذا التلازم هو دلالة التزامية ، وهي حجة كسائر الدلالات ، بينما قد لا يحكم العقل بهذا التلازم ، حيث أنّ التفكيك بين مطهريّة الماء وطهارته ليس مستحيلا بنظره.

والحاصل هو : إنّ العرف المبني على النظر المسامحي بحسب مرتكزاته ، قد يدرك تلازما بين شيئين لا يدركه العقل ، كما لو ادّعى الحكم بالإمكان أو الامتناع ، باعتبار إدراكه تلازما يكون مقتضاه الحكم بالامتناع ، فمثل هذا الإدراك للتلازم حجة لأنّه دلالة التزامية ، وهي حجة كما عرفت. ونفس الشيء يقال في المقام ، فمثلا : دليل «صلّ» : يدل بالمطابقة على وجوب الصلاة ، وبالالتزام بنظر العرف على أنّ الصلاة لا تقع في مورد «ما» مصداقا للغصب ، باعتبار أنّه يرى التمانع بينهما ولو كانا ذا عنوانين ، وكذا دليل «لا تغصب» فإنّه يدل بالمطابقة على حرمة الغصب ، وبالالتزام ـ بنظر

٣٩١

العرف ـ على أنّ الغصب لا يقع في مورد مصداقا للصلاة ، فإنّه حينئذ يحكم باستحالة الاجتماع لهذه الدلالة ، ويكون دليل وجوب الصلاة حينئذ ، دالا بالملازمة العرفية ، على اختصاصها بغير الفرد المحرّم.

وبهذا يثبت أنّ البحث عن الإمكان والامتناع ، بحيث يشمل حكم العرف بهما ، أمر معقول.

نعم يبقى فرق بين الإمكان والامتناع بحكم العقل ، والإمكان والامتناع بحكم العرف :

فالأول : لا يفرّق فيه بين ما إذا كان دليل الوجوب والحرمة لفظيا أو غير لفظي ، كما لو كان الدليل لبّيا ، كالإجماع وغيره. بينما يختص الثاني بما إذا كان دليل الوجوب والحرمة لفظيا باعتبار أنّ حكم العرف مبني على إدراك ووجود دلالة التزامية تشكّل موضوعا لكبرى حجية الدلالات ، وهذا من شئون الخطابات اللفظية ودلالاتها.

والحاصل : هو : إنّ البحث في الإمكان والامتناع غير مختص بالإمكان والامتناع العقلي ، بل يشمل الإمكان والامتناع العرفي أيضا.

وعليه : فلا مجال للتفصيل المذكور ، وهو القول بجواز الاجتماع عقلا ، وامتناعه عرفا.

بل الصحيح ، هو إنّنا في كل مورد قلنا فيه بجواز الامتناع والاجتماع عقلا ، نقول فيه بجوازه عرفا ، وهكذا العكس.

ويشهد لذلك الوجدان ، وهناك منبه على ذلك الوجدان ، وحاصله هو : إنّ القول بجواز الاجتماع عقلا ، معناه ، إمكان اجتماع مبادئ الأمر من الحب مع مبادئ النّهي من البغض ، كما يحصل للإنسان العرفي حيث يمر وجدانه بعناوين كثيرة يحبّ بعضها ، ويبغض بعضها الآخر ، وقد يجتمع حبّه وبغضه على عنوان واحد ومورد فارد ، حيث يكون فصل واحد ، بأحد العنوانين محبوبا ، وبالعنوان الآخر مبغوضا ، والحب والبغض من الأمور

٣٩٢

التكوينية الواقعية ، فإذا كان يمكن اجتماعهما عقلا بلا محذور ، إذن سوف لا يرى الإنسان العرفي بوجدانه أيّ مانع من اجتماع الأمر والنّهي على شيء واحد ذي عنوانين ، محبوبا بأحدهما ، ومبغوضا بالآخر ، وليس معنى هذا إلّا جواز الاجتماع عرفا كما هو جائز عقلا.

* التنبيه الثالث :

وهو قد عقد للتفرقة بين مسألة الاجتماع ، ومسألة اقتضاء النهي لفساد العبادة وعدمه ، حيث أنّه قد يتوهم رجوعهما إلى مسألة واحدة ، باعتبار أنّ البحث هنا ، في أنّ النّهي عن العبادة هل يقتضي فسادها أم لا ، يرجع إلى أنّ النّهي عن العبادة هل يقتضي بطلانها؟ بمعنى عدم كونها مصداقا للمأمور به ، أم لا؟

ومعنى البحث في المقام عن إمكان اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، هو : إنّ النهي عن شيء هل يوجب زوال الأمر عنه حتى لا يكون مصداقا للمأمور به ، أم لا؟

ومعنى هذا ، رجوع البحث في المسألتين إلى ما بحث عنه في مسألة اجتماع الأمر والنّهي.

وأول من حاول التفرقة بين المسألتين هو صاحب القوانين «قده» (١) ، حيث ذكر أنّ المسألتين متغايرتان لتغاير موضوعهما ، إذ إنّ موضوع مسألة أنّ النّهي هل يقتضي الفساد أم لا ، هو أن يكون هناك طبيعة واحدة ، تعلّق الأمر بمطلقها ، والنّهي بمقيدها ، كالأمر بالصلاة ، والنّهي عن الصلاة في الحمّام ، أي : يكون عندنا أمران بينهما عموم وخصوص مطلق ، فيتعلق الأمر بالأعم ، والنّهي بالأخص.

بينما موضوع مسألة الاجتماع ، هو ما إذا كان عندنا عنوانان ، بينهما

__________________

(١) قوانين الأصول ـ المحقق القمي : بحث الاجتماع ص ٧٧.

٣٩٣

عموم وخصوص من وجه ، فيتعلق الأمر بأحد العامّين ، والنّهي بالآخر ، ويقع الكلام في إمكان اجتماعهما في مادة الاجتماع ، كما في مثال الغصب والصلاة : إذ موضوع أحدهما غير موضوع الآخر ، ومن هنا يقع التغاير بينهما ، ويكون أحدهما مستقلا عن الآخر.

وأشكل صاحب «الفصول» (١) عليه ، حيث ذكر بأنّ موضوع مسألة الاجتماع هو ما إذا كان هناك عنوانان على معنون واحد ، سواء أكانت النسبة بينهما العموم من وجه ، أو العموم المطلق ، دون أن يختص ذلك بالعامين من وجه ، لأنّ ضابط مسألة الاجتماع هو تعدّد العنوان.

ومن هنا فرّق صاحب «الفصول» بين المسألتين بوجه آخر ، حاصله : إنّه في مسألة الاجتماع عندنا عنوانان ، وفي مسألة اقتضاء النّهي الفساد عندنا عنوان واحد ، تعلق الأمر بمطلقه ، والنهي بمقيده.

وهذا التفريق بين المسألتين من قبل هذين العلمين غير تام.

أمّا بطلان تفريق صاحب القوانين : فإنّه مضافا إلى ما قاله صاحب «الفصول» ، من عدم اختصاص بحث الاجتماع بما إذا كان العنوانان عامين من وجه ، بل يشمل ما إذا كان بينهما عموم مطلق ، فإنه كذلك لا يختص البحث عن اقتضاء النّهي الفساد ، بما إذا كان النّهي قد تعلق بالعبادة من خلال عنوان أخص منها ، بل يشمل أيضا ما إذا تعلق النهي بها ، ولو من خلال عنوان أعم منها من وجه.

وأمّا بطلان تفريق صاحب «الفصول» فإنّه مضافا لما عرفت وتعرف ـ فهو غير تام ، خصوصا في مسألة اقتضاء النّهي للفساد ، حيث جعل موضوعها عنوانا واحدا ، تعلق الأمر بجامعه والنّهي بفرده. بل قد يكون لموضوعها عنوانان ، كما لو فرض أنّ المقام من باب اجتماع الأمر والنّهي.

__________________

(١) الفصول في الأصول ـ محمد حسين بن محمد رحيم : ص ١٢٦.

٣٩٤

فإذا قلنا بامتناع الاجتماع ، ورجّحنا جانب النّهي ، فإنّه حينئذ يقع البحث في أنّ النّهي هل يقتضي الفساد أم لا؟. وبهذا يكون بحث موضوع مسألة اقتضاء النّهي للفساد مندرجا في مبحث اجتماع الأمر والنّهي ، كما ذكر بالملاك الأول للجواز.

ومن هنا سلك المحقق النائيني «قده» (١) طريقا آخر للتفرقة بين المسألتين ، حيث فرّق بينهما بالرتبة لا بالموضوع ، باعتبار أنّ مسألة الاجتماع تنقّح موضوع مسألة اقتضاء النهي للفساد ، فهي في مرتبة متقدمة عليها ، لأنّ البحث في مسألة الاجتماع هو الذي ينقّح سراية النّهي عن الغصب إلى الصلاة وعدم سرايته.

أو قل : إنّ المبحوث عنه إنّما هو سريان النّهي وعدمه إلى متعلّق الأمر ، كالصلاة ، فالقول بالاجتماع ، معناه عدم السّراية ، والقول بالامتناع معناه السّراية.

فإذا قلنا بالسراية تنقّح موضوع الاقتضاء ، وحينئذ يقع البحث في أنّ هذا النّهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ إذن فمسألة الاجتماع نقّحت موضوع مسألة اقتضاء النّهي للفساد.

وأمّا إذا ثبت عدم السّراية ، فلا موضوع لهذه المسألة. وبهذا يثبت التغاير بين المسألتين.

ولكن هذه التفرقة غير تامة أيضا ، لأنّ البحث في مسألة الاجتماع ليس منصبا ابتداء على السراية وعدمها ليتوجه التفريق المذكور ، بل البحث ابتداء عن إمكان الاجتماع وعدمه ، ولو مع فرض السراية ، ووحدة المعنون ، وإنّما السراية ، هي أحد ملاكات الامتناع ، فلا تكون إحدى المسألتين مترتبة على الأخرى ، وإنّما يكون البحث في هذه الجهة في عرض البحث في مسألة

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ص ٣٣٤.

٣٩٥

«اقتضاء النهي الفساد من حيث الرتبة ، كما لو بحث عن الجواز بملاك أنّ الأمر يتعلق بصرف الوجود ، ولا يسري إلى الحصص ، فمن يبحث بهذا الملاك المتقدم تفصيله ، يكون بحثه في مسألة اقتضاء النّهي للفساد ، وبحثه في إمكان الاجتماع في عرض واحد.

وقد فرّق صاحب الكفاية «قده» (١) بين المسألتين بفارق آخر هو غير الفوارق المتقدمة ، حيث جعل الفارق بينهما هو الجهة ، حيث أنّ جهة البحث في مسألة الاجتماع هي سراية النّهي إلى متعلق الأمر وعدم سرايته ، بينما جهة البحث في مسألة اقتضاء النّهي للفساد ، هي استتباع النّهي للبطلان وعدمه ، وبهذا تختلف المسألتان.

ولكنّ هذا الفارق أيضا غير تام ، لأنّ جهة البحث تحتمل أمورا ، وكلها لا يتم على ضوئها هذا التفريق :

إذ تارة ، يقصد بجهة البحث المحمول في القضية.

وتارة أخرى ، يقصد بجهة البحث الحيثية التعليليّة والواسطة في إثبات المحمول للموضوع.

وتارة ثالثة ، يقصد بجهة البحث ، الغرض الفقهي المتوخّى من المسألة.

فإن قصد بجهة البحث ، المحمول الذي يبحث عن ثبوته للموضوع ، وعدم ثبوته ، فحينئذ لا يكون هذا منطبقا على ما ذكره في مسألة الاجتماع ، حيث ذكر هناك أنّ (٢) جهة البحث في مسألة الاجتماع ، هو السراية وعدمها ، أي : كون التركيب اتحاديا أو انضماميا ، مع أنّ السراية ليست هي محمول

__________________

(١) كفاية الأصول ، المشكيني ـ الأمر الثاني من أمور اجتماع الأمر والنهي : ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٢) المصدر السابق.

٣٩٦

مسألتنا ، بل المحمول هو إمكان الاجتماع وعدمه. وأمّا السراية فهي حيثية تعليلية بمثابة البرهان على امتناع الاجتماع وعدمها ، حيثية تعليليّة بمثابة البرهان على إمكان الاجتماع. هذا أولا.

وثانيا ، هو : إنّه بعد أن عرفت أنّ المحمول هو إمكان الاجتماع وعدمه ، إذن فيتحد محمول المسألتين حينئذ ، لأنّ معنى إمكان الاجتماع وعدمه ، هو ملاءمة الأمر مع النّهي ، وعدم ملاءمته ، معناه : اقتضاء النّهي للبطلان ، كما عرفت عند ذكر أصل الشبهة ، وهذا هو بعينه محمول مسألة اقتضاء النّهي للفساد.

وإن قصد بجهة البحث ، الواسطة في ثبوت المحمول للموضوع ، أي : الحيثية التعليليّة التي بها نثبت محمول المسألة لموضوعها ، فيرد عليه : إنّ هذا لا يلائم ما ذكره ، من أنّ جهة البحث في اقتضاء النّهي للفساد هو استتباع النّهي للبطلان وعدمه ، لأنّ هذا هو نفس المحمول ، لا حيثيته التعليلية.

أو فقل : إنّ كان المقصود بجهة البحث ، واسطة الإثبات ، فالسراية يمكن أن تكون واسطة لإثبات محمول مسألة الاجتماع. ولكن البطلان ليس واسطة في المسألة القادمة ، بل هو نفس المحمول. إذن ينبغي أن يذكر إنّ الجهة فيها هي عدم إمكان قصد التقرب. هذا أولا.

وثانيا : إنّ تعدّد الحيثية التعليلية لا يوجب تعدد المسألة ، لإمكان أن تكون مسألة واحدة ، ولها حيثيات تعليليّة ، وبراهين متعددة ، ورغم هذا لا تخرج عن كونها مسألة واحدة.

وإن قصد بجهة البحث ، الغرض المتوخى فقهيا من المسألة :

فيرد عليه : إنّ السراية وعدمها التي جعلها جهة للبحث في مسألة الاجتماع ، ليست هي الغرض منها ، بل الغرض منها المتبادر إلى ذهن المستشكل ، هو تصحيح العبادة في تطبيق الأمر على مورد النّهي ،

٣٩٧

وبطلانها ، وهذا الغرض بنفسه هو الغرض من اقتضاء النّهي للفساد ، وعليه : فيتحد غرض المسألتين.

والحاصل ، هو : إنّ جميع هذه الوجوه المذكورة للتفرقة بين المسألتين إذا أخذت على بساطتها ، غير تامة ، لكونها موردا للإشكال كما عرفت.

والصحيح في مقام التفرقة بين المسألتين هو أن يقال : إنّ تعدّد المسألة يتوقف على مجموع أمرين :

١ ـ الأمر الأول ، هو : أن تعدّد القضية ، وتعدّدها يكون بالمغايرة ، إمّا بالموضوع أو المحمول ، لأنّهما ركنا القضية الأساسيان.

٢ ـ الأمر الثاني ، هو : أن لا يكون إثبات المحمول للموضوع في مسألة ، مستلزما لثبوت المحمول للموضوع في المسألة الثانية ، وإلّا لما كان وجه لعقد بحث في المسألة الثانية.

وبعبارة أخرى : هي أن لا تكون الحيثية التعليليّة ونكتة الثبوت واحدة في كلتا المسألتين بحيث لو ثبتت في إحدى المسألتين ثبتت في الأخرى. هذا هو الضابط في تعدّد المسائل.

وعليه فلا معنى لعقد بحثين : أحدهما في مقدمة وجوب الصلاة ، وآخر في مقدمة وجوب الصوم ، وذلك ، لأنّ الجهة التعليلية في كلتا المسألتين واحدة ، إذ كلا الوجوبين يستلزم وجوب مقدمته.

وحينئذ نقول : إنّ هذا الضابط بكلا أمريه متوفر في محل الكلام.

أمّا الأمر الأول : فلأنّ القضيتين مختلفتان ولو بالمحمول ، فإنّ المحمول في مسألة اقتضاء النّهي للفساد ، هو منافاة النّهي للصحة وعدمه. وأمّا المحمول في مسألة الاجتماع ، فهو منافاة النّهي للوجوب. فالمحمول في المسألة الأولى حكم وضعي. والمحمول في المسألة الثانية حكم تكليفي. وأحد هذين المحمولين غير الآخر.

وأمّا الأمر الثاني : فلأنّ إثبات المحمول للموضوع في إحداهما لا

٣٩٨

يستلزم ثبوت المحمول للموضوع في المسألة الثانية ، لأنّه يمكن القول بمنافاة النهي للصحة ، ومع ذلك لا نقول بمنافاة النهي للوجوب ، باعتبار كونهما في موضوعين ، هذا بناء على أنّ الأمر يتعلق بصرف الوجود ، ولا يسري إلى الحصة.

كما أنه يمكن أن يقال : بأنّ النّهي ينافي الوجوب ، ومع ذلك لا نقول بمنافاة النّهي للصحة ، بناء على كفاية التقرب بالملاك ، وصحة العبادة بذلك.

وبهذا يثبت أنّ هاتين المسألتين متغايرتان ، وحيثية الإثبات فيهما متعددة.

* التنبيه الرابع :

هو إنّه قد يقال : بأنّ بحث مسألة اجتماع الأمر والنّهي ، يبتني على مسألة ، أنّ الأوامر والنواهي ، هل تتعلق بالطبائع ، أو إنّها تتعلق بالأفراد؟.

فإن قلنا بأنّ الأمور والنواهي تتعلق بالأفراد : فحينئذ يتعيّن القول بامتناع الاجتماع باعتبار ثبوت السراية ، مع أنّ الموجود في الخارج فرد واحد فلا يعقل أن يكون متعلقا للأمر والنّهي.

وأمّا إذا قلنا بأنها تتعلق بالطبائع : فهنا تارة. يقال : إنّه يتعيّن القول بجواز الاجتماع ، باعتبار تعدّد المتعلق ، لأنّ طبيعة الصلاة ، غير طبيعة الغصب ، والمفروض أنّ الأوامر والنواهي تتعلق بالطبائع.

وتارة أخرى يقال : إنّه بناء على القول بتعلقها بالطبائع ، حينئذ يقع الكلام في جواز الاجتماع وعدمه.

فإن قلنا إنّها تتعلق بالطبيعة من حيث هي هي : فيتعيّن القول بجواز الاجتماع لاختلاف الطبيعة.

وإن قلنا : إنّها تتعلق بالطبيعة بما هي مرآة وفانية في الفرد الخارج ،

٣٩٩

فحينئذ يقع البحث في أنّ هذه المرآتيّة هل تجرّ الأمر والنّهي إلى نفس الفرد ، أو لا؟ فعلى الأول : يتعيّن القول بالامتناع ، لوحدة الفرد خارجا ، وعلى الثاني : يقال بجواز الاجتماع كما هو واضح.

وقد تعرّض صاحب «الكفاية» «قده» (١) لهذا التوهم ولم يرتضه ، وذكر أنّ مسألة الاجتماع غير مبنيّة على مسألة تعلّق الأوامر بالطبائع ، أو الأفراد ، بل يمكن على كلا التقديرين في تلك المسألة ، البحث هنا في الجواز والامتناع ، وذلك لأنّ نكتة جواز الاجتماع والامتناع هي أنّ تعدّد العنوان مع كون المعنون خارجا واحدا ، هل يرفع غائلة التضاد بين الأمر والنّهي في معنون واحد خارجا ، أو لا يرفعها؟.

فإن قلنا : بأن تعدّد العنوان يرفع غائلة التضاد بينهما ، فحينئذ لا بدّ من المصير إلى جواز الاجتماع ، حتى على القول بتعلق الأوامر بالأفراد ، لفرض كون تعدّد العنوان يجدي في رفع غائلة التّضاد.

وإن قلنا : بأنّ تعدّد العنوان لا يجدي في رفع غائلة التّضاد بينهما ، فلا بدّ حينئذ من المصير إلى القول بالامتناع ، حتى ولو كنّا نقول بتعلق الأوامر بالطبائع ، لأنّه وإن كان عندنا طبيعتان وعنوانان.

إلّا أنّهما منطبقتان على موجود واحد خارجا حسب الفرض.

وأمّا المحقق النائيني «قده» ، فقد سلك (٢) طريقا آخر في بيان عدم ابتناء مسألة الاجتماع على تلك المسألة. فهو لم يفرض كون الموجود في الخارج أمرا واحدا كما ذكر صاحب «الكفاية» «قده».

بل ذهب إلى أن مسألة الاجتماع وعدمه مبنية على أنّ الموجود في

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٤٠ ـ ٢٤١.

(٢) فوائد الأصول ـ الكاظمي ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي سنة ١٤٠٤ ه‍ ص ٤١٢ ـ ٤١٦ ـ ٤١٧ ـ فوائد الأصول ـ الكاظمي : ص ٢٥٥ طبعة المطبعة العلمية سنة ١٣٦٨ هجرية.

٤٠٠