بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وأمّا هذا الملاك الخامس ، فيتمّ ، حتى بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنّهي ، فإنّه إذا بني على جواز الاجتماع ، من باب أنّ الأمر المتعلق بصرف الوجود لا يسري إلى الحصص ، أو من باب أنّ تعدّد العنوان بمجرده يكفي لرفع غائلة الامتناع.

فبناء على جواز الاجتماع بأحد هذين الملاكين ، يكون الملاك الخامس تاما أيضا ، لأنّه بناء على الجواز بأحد هذين الملاكين ، يكون الفعل الخارجي واحدا ، وهو مبغوض ، لفرض النّهي عنه ، ومع المبغوضيّة ، لا يمكن التقرب به ، كما تقدم وعرفت.

نعم لو بنينا على جواز الاجتماع ، من باب أنّ تعدد العنوان يوجب تعدّد المعنون ، حينئذ ، لا يتم هذا الملاك ، لأنّ متعلق الأمر حينئذ شيء ، ومتعلق النّهي شيء آخر ، ولا مانع من التقرب بالصلاة في الغصب ، وعليه فلا يتم هذا الملاك.

٦ ـ الملاك السادس : وحاصله هو : إنّه إذا كان النّهي واصلا للمكلف فيكون حينئذ منجزا عليه ، ومعنى تنجّزه ، هو أنّ العقل يحكم بمبعدية معصيته عن المولى ، ومع هذه المبعدية يستحيل أن يقع مقربا ، فإذا أتى به يكون باطلا.

وهذا الملاك يختلف عن سابقه ، بأنّه يبرز حيثيّة المبعديّة التي هي معلولة للنّهي ، بينما الملاك السابق يبرز حيثيّة المبغوضية التي هي مكشوفة للنّهي.

وأمّا خصائص هذا الملاك ، فمنها : إنّه لو تمّ ، فهو يتم في جميع أقسام النهي ، حتى في القسم الرابع ، لأنّ النّهي في جميعها مولوي ، ولم ينشأ من مبغوضية في متعلقه وما دام كذلك ، فالعقل يحكم بقبح عصيانه حينئذ ، ومعه لا يكون الفعل مقربا ، لأنّهما ضدان لا يجتمعان فإذا أتى به المكلف حينئذ ، فإنّه يقع باطلا ، ويستحيل أن يكون مقربا.

٥٤١

وأمّا بقيّة الخصائص ، فيتفق فيها مع الملاك الخامس.

والتحقيق عدم تماميّة هذا الملاك.

والوجه في ذلك هو : إنّ التنافي بين المقربية والمبعدية على نحوين :

١ ـ النحو الأول ، هو : أن يكون التنافي بلحاظ المحل القابل ، بمعنى أن يكون الشيء الواحد في زمن واحد ، قريبا من شيء وبعيدا عنه ، وهذا مستحيل.

٢ ـ النحو الثاني ، هو : أن يكون الشيء الواحد سببا للقرب من المولى وسببا للبعد عنه.

وهذا مستحيل أيضا ، وحينئذ ، ففي محل الكلام ، إن أريد من التنافي بين المقرّب والمبعّد هو النحو الأول ، فهو ممنوع ، لأنّه لا تنافي بين كون العبد قريبا من المولى ، وبعيدا عنه في آن واحد ، ومثال ذلك ، النظر إلى الأجنبية حال الصلاة ، فإنّه في هذه الصورة ، قد فعل محرّما أثناء الإتيان بواجب.

فالقرب والبعد المعنوي ، كما هو محل الكلام ، ليس كالقرب والبعد المكاني ، الذي يستحيل فيه ذلك ، فإنّه يستحيل أن يكون الإنسان قريبا من مكان ، وبعيدا عنه في آن واحد.

وعليه ، فالتنافي بين المقربيّة والمبعديّة بلحاظ المحل القابل ، غير موجود في محل الكلام.

وإن أريد من التنافي بين المقرّب والمبعّد ، النحو الثاني ، فهذا أيضا غير موجود في محل الكلام ، لأنّ نفس الفعل الذي أتي به ، لا أثر له في المقربيّة والمبعديّة ليرد إشكال التنافي ، ويقال : إنّه كيف أمكن أن يكون نفس الفعل مقربا ومبعدا ، بل المقرب والمبعد في الحقيقة ، هو الداعي النفساني للمكلّف ، على ما ذكرنا سابقا ، وهو مختلف في المقام ، لأنّ مثل هذا المكلف ، نجد عنده داعيان : أحدهما مولوي ، وهو مقرّب ، والثاني

٥٤٢

شيطاني ، وهو مبعّد. وقد اشترك كلا هذين الداعيين في إبراز هذا الفعل ، فيكون هذا الفعل مقربا بلحاظ نشوئه من الداعي الأول ، ومبعدا بلحاظ نشوئه من الداعي الثاني.

وعليه ، فالنحو الثاني من التنافي أيضا غير موجود ، وبذلك يثبت عدم تماميّة هذا الملاك.

وإن شئت قلت : إنّه إن كان المقصود أنّه يستحيل أن يكون شيء واحد سببا للاقتراب والابتعاد ، فهذا صحيح ، إلّا أنّه في المقام لا يلزم من إمكان التقرب ، أن يكون السبب واحدا ، فإنّه اتضح في الجواب على البرهان الخامس ، أنّ المقرّب والمبعّد ليس هو الفعل الخارجي ، كي يقال : لا يوجد إلّا فعل واحد ، وإنّما السبب للتقرب والابتعاد ، هو الداعي ، والداعي في المقام متعدد ، إذ يوجد داعي امتثال الأمر ، ويوجد داعي عصيان النّهي ، فليكن أحدهما مقربا ، والآخر مبعدا.

٧ ـ الملاك السابع : وفيه نرجع المسألة بالتحليل إلى مسألة فقهية ، فنقول : إنّه قد اتضح من مناقشة الملاكات السابقة ، أنّ النّهي عن العبادة لا يقتضي عجز المكلف وقصوره عن الإتيان بالعمل بقصد القربة ، بل هو قادر على قصد التقرب ، وإلى جانب هذا القصد يوجد قصد عصياني مترتب على النّهي الواصل المنجّز ، ولذا انتهينا في مناقشة الملاك الخامس إلى أنّ هذا المكلف ينقدح في نفسه داعيان : إلهي ، وشيطاني ، والفعل مستند إلى مجموع الداعيين ، لكن بنحو يكون كل منهما صالحا للاستقلال في المحركيّة.

وحينئذ ، فإن قلنا في باب العبادات فقهيا : إنّ المعتبر في صحة العبادة مجرد وجود داع قربي ، فتصح هذه العبادة حينئذ ، لأنّ هذا الداعي موجود.

وإن قلنا : إنّ المعتبر هو التمحض في الداعي القربي ، فتبطل ، لأنّها لم تتمحض بذلك. وهذا الملاك لو تمّ ، فهو يثبت البطلان منوطا بوصول النّهي وتنجزه ، لأنّ العصيان يتحقق بذلك. وأمّا مع عدم وصول النّهي فلا

٥٤٣

يتحقق الداعي الشيطاني ليكون مضرا بصحة العبادة. كما أنّ هذا الملاك يرجع إلى القصور في قدرة المكلف ، ولذا يختص بالعبادات ، كما أنّه لو تمّ فهو يتم حتى بناء على القول بجواز الاجتماع بأحد ملاكي جواز الاجتماع الأول أو الثاني دون الملاك الثالث من ملاكات الاجتماع ، كما عرفت في الملاك الخامس.

ثم إنّ هذا الملاك يحول المسألة إلى مسألة فقهية ، وهي : إنّه هل يشترط في صحة العبادة تمحضها في الداعي القربي ، أو أنّه لا يشترط ذلك؟ وقد عرفت أن العبادية بمعنى وجوب قصد القربة لم يثبت بدليل لفظي ، بل إنّ أهم دليل عليه هو الإجماع والارتكاز. ومن المعلوم أنّ الارتكاز قائم على أنّ الله تعالى لا يطاع من حيث يعصى.

وعليه فالإتيان بالصلاة بداع قربي مقرون بداع شيطاني ، لا يكون مسقطا للأمر بها ، بل لا بدّ من تمحضها بداع قربي فقط. ومرتكزات المتشرعة تقضي بذلك ، وبهذا يثبت بطلانها ، بلا حاجة إلى ما ذكر في الملاكات السابقة.

وبهذا يتضح ، إنّ الصحيح هو هذا الملاك السابع ، وكذلك الملاك الرابع بعد تتميمه كما عرفت في محله.

هذا تمام الكلام في ملاكات اقتضاء النّهي للفساد في العبادة ، وقد تبيّن أنّ الصحيح من هذه الملاكات ، هو الملاك السابع ، والملاك الرابع ، بصيغته المعدّلة ، كما عرفت سابقا.

وقد بقي تنبيهات للمسألة ، نستعرضها تباعا :

١ ـ التنبيه الأول ، هو : إنّه لو بني على أنّ النّهي التحريمي يقتضي الفساد بأحد الملاكات السابقة ، فهل إنّ ذلك الملاك الذي أوجب اقتضاء النّهي التحريمي للفساد ، يوجب اقتضاء النّهي الكراهتي عن العبادة للفساد أيضا ، أو إنّه لا يوجب ذلك؟ أو فقل : إنّه لو بنينا على أنّ النهي التحريمي

٥٤٤

يوجب بطلان العبادة ، فهل إنّ النّهي الكراهتي يوجب بطلانها أم لا؟.

وتحقيق الحال في هذه المسألة هو : إنّ كراهة العبادة ، تارة يقصد به كونها أقل محبوبيّة ، وفضيلة من غيرها ، سواء أكانت هذه الأقليّة ، ذاتيّة ، أو عرضيّة ، ناشئة من التزاحم بين محبوبيّة هذا الفرد المكروه ، كالصلاة في الحمّام ، وبين مبغوضيته المستكشفة من النّهي ، فبعد الكسر والانكسار ، يوجب ذلك منقصة الصلاة في الحمّام عن سائر أفراد الصلاة بالنسبة للمحبوبيّة ، فبناء على أنّ كراهة العبادة ترجع إلى ذلك أي إلى النقص في المحبوبيّة ، فلا يكون النّهي الكراهتي حينئذ موجبا للبطلان ، لأنّ الصلاة في الحمّام على هذا المبنى ، تكون مصداقا لمتعلق الأمر ، ومشمولة للأمر ، فيمكن التقرب بها بعد فرض كونها محبوبة ، ومعه تقع صحيحة.

وتارة أخرى يقصد بكراهة العبادة ، كونها مبغوضة فعلا ، غايته ، أنّ هذه المبغوضيّة مبغوضيّة ناقصة ، يمكن اجتماعها مع الترخيص بها.

وحينئذ ، فإمّا أن يبنى على استحالة اجتماع الأمر والنّهي ، ولو كان كراهيا.

وإمّا أن يبنى على الجواز ، فإن بني على الامتناع ، فحينئذ ، يكون النّهي الكراهتي مقتضيا لفساد العبادة بالملاك الأول للفساد ، والوجه في ذلك هو ، إنّ هذا النّهي يكشف «إنّا» عن قصور ذاتي في هذه العبادة ، وأنّها لا تفي بالمصلحة الوجوبيّة ، لأنّه لو كانت وافية بهذه المصلحة ، لكانت محبوبة ، ومن المعلوم أنّ المحبوبيّة اللزوميّة تقدم على المبغوضيّة الكراهيّة في مقام التزاحم ، فبعد الكسر والانكسار ، تكون هذه العبادة محبوبة ، غايته ، أنّها تكون أقلّ محبوبية من سائر الأفراد ، وهذا خلف فرض كونها مبغوضة فعلا.

وعليه : فلا بدّ وأن يكون هذا كاشفا عن أنّ المحبوبيّة اللزوميّة غير شاملة لهذه الحصة من العبادة المكروهة ، ومع عدم كونها مشمولة لها ، تكون قاصرة ذاتا عن الوفاء بالملاك والمصلحة.

٥٤٥

وبهذا يثبت ، إنّ النّهي الكراهتي ، كشف عن قصور ذاتي في هذه العبادة ، وهذا يعني ، بطلانها بالملاك الأول.

وإن شئت قلت : إنّه لو افترضنا أنّ النهي كان ناشئا من مبغوضيّة فعليّة في هذا الفرد ، فتارة نلتزم بامتناع اجتماع الأمر والنّهي حتى مع النّهي الكراهتي ، وأخرى ، نلتزم بإمكان اجتماع الأمر والنّهي الكراهتي.

فإن التزمنا بامتناع الاجتماع ، ومع هذا افترضنا وجود النّهي الناشئ من مبغوضيّة فعليّة لمتعلقه ، فلا بدّ حينئذ من الالتزام ببطلان العبادة ، على أساس الملاك الأول من ملاكات اقتضاء النّهي للفساد المتقدمة ، لأنّ مثل هذا النّهي الناشئ من مبغوضيّة متعلقه ، يكشف لا محالة عن عدم محبوبيّة متعلقه ، لعدم إمكان اجتماع الحب والبغض في شيء واحد ، وعدم محبوبيّة هذا الفرد ، يكشف عن أنّ تلك المصلحة الإلزامية للعبادة ، التي تكون ثابتة في الجامع ، بين الأفراد ، غير ثابتة في الجامع الشامل لهذا الفرد المنهي عنه ، إذ لو كانت ثابتة في الجامع بين هذا الفرد وبين بقيّة الأفراد ، لكان هذا الجامع محبوبا بملاك إلزامي.

وبناء على امتناع اجتماع الأمر والنّهي ، وافتراض عدم تماميّة ملاكات جواز اجتماع الأمر والنّهي ، فإنّه لا بدّ وأن يسري هذا الحب من الجامع إلى الحصة والفرد ، فيقع التزاحم بين هذا الحب الذي يكون بملاك إلزامي وبين بغض هذا الفرد ، الذي يكون بملاك كراهي ، وبعد التزاحم ، لا بدّ وأن يزول البغض أمام الحب ، لأقوائيّة ملاك الحب بحسب الفرض ، مع أنّ المفروض أنّ هذا الفرد المنهي عنه مبغوض بالفعل بالبغض الكراهتي.

إذن فالمبغوضيّة الفعليّة لهذا الفرد ، المستكشفة من النّهي ، تكون دليلا على أنّ الجامع المنطبق على هذا الفرد ، ليس واجدا لملاك المأمور به.

وهذا يعني ، أنّ هذا الفرد من العبادة ، يقع باطلا بنكتة قصوره الذاتي ، وعدم وجدانه للملاك.

٥٤٦

وهذا في الحقيقة هو الملاك الأول من الملاكات السبعة المتقدمة لاقتضاء النّهي فساد العبادة ، وبه تبطل العبادة كما هو الصحيح.

وأمّا إذا بنينا على جواز اجتماع الأمر والنّهي ، فحينئذ ، لا يكون النّهي الكراهتي موجبا للبطلان ، لأنّ الملاكات المتقدمة للبطلان ، أربعة منها كانت مبنيّة على الامتناع ، والمفروض هنا ، أنّنا نقول بالجواز ، إذن فلا محل حينئذ لهذه الملاكات الأربعة.

وأمّا الملاك الخامس والسادس ، فلم يتمّا في أنفسهما.

وأمّا الملاك السابع ، فيرجع إلى تقوّم العبادة بأمرين حسب المرتكزات المتشرعية : أحدهما : وجود داع قربي ، والثاني : عدم وجود داع مضاد ، إلّا أنّ القدر المتيقّن من هذا الارتكاز ، هو عدم وجود داع مضاد تحريمي عصياني ، لا كراهي.

وعليه ، فلا موجب لبطلان العبادة بمقتضى هذا الملاك السابع.

وبتعبير آخر : هو إنّه لو التزمنا بجواز اجتماع الأمر والنّهي بدعوى : أنّ الأمر متعلق بصرف الوجود ، والنّهي متعلق بالحصة ، فالظاهر أنّ النهي الكراهتي لا يقتضي الفساد ، فإنّ الملاكات الأربعة الأولى لاقتضاء النّهي للفساد ، كانت مختصة بفرض الامتناع ، والملاك الخامس والسادس ، لم يثبتا في أنفسهما ، والملاك السابع كان على أساس دعوى ارتكازيّة ، هي إنّه يشترط في صحة العبادة ، عدم وجود داع شيطاني ، والقدر المتيقّن من هذا الارتكاز ، هو إنّه يشترط عدم وجود داع شيطاني عصياني ، بحيث يترتب على مقتضاه العقاب ، ولا يشمل مثل مخالفة النّهي الكراهتي ، لكون القدر المتيقن من الداعي المضاد ، كونه ، داعيا تحريميا عصيانيا.

٢ ـ التنبيه الثاني : في أن النهي كما يتعلق بأصل العبادة ، فكذلك قد يتعلق بجزئها أو شرطها. وقد ذكر صاحب الكفاية «قده» إنّه إذا تعلق النّهي بجزء العبادة ، فيكون ذلك موجبا لبطلان هذا الجزء بالملاك الصحيح

٥٤٧

للبطلان ، وإذا بطل هذا الجزء ، فإمّا أن يتدارك بغيره الذي لا نهي عنه ، أو لا ، فإذا لم يتدارك ، فتبطل العبادة لنقصانها بفقد جزء منها ، وإذا تداركه المكلف ، فتقع صحيحة ، إلّا إذا أوجب هذا التدارك زيادة ونحوها ممّا يوجب البطلان (١). وهنا كلام تام.

إلّا أنّ الميرزا «قده» (٢) اعترض على ذلك ، وذكر أنّ الإتيان بالجزء المنهي عنه ، يوجب بطلان العبادة ، لأنّ النّهي عن الجزء يوجب تحريمه ، وإذا ثبت تحريمه ، فيثبت تقييد الصلاة بغيره ، وبناء عليه ، فتكون الصلاة مأخوذة «بشرط لا» من جهته ، فإذا أتى به ، تقع الصلاة باطلة.

إلّا أنّ هذا الكلام غير تام ، لأنّ مرجع تحريم الجزء ، إلى أنّ الصلاة مقيّدة بغيره ، ومعنى ذلك ، هو إنّ الجزء المحرّم ليس مصداقا للواجب ، وليس معنى ذلك أنّه مانع عن الواجب ليكون الواجب مأخوذا «بشرط لا» من جهته ، هذا بالنسبة للنّهي عن الجزء.

وأمّا بالنسبة للنّهي عن الشرط ، فإن كان الشرط عبادة ، فيبطل لحرمته ، وحينئذ ، تبطل أصل العبادة المشروطة به ، لأنّ بطلان الشرط يوجب بطلان المشروط.

وأمّا إذا لم يكن عبادة فحينئذ ، يمكن التمسك بإطلاق دليل الشرط ، لإثبات شموله لهذا الفرد المحرم ، ومعه يقع المشروط صحيحا ، وذلك لوجود شرطه.

إلّا أنّ السيد الخوئي «قده» (٣) وجملة من الأعلام ، ذهبوا إلى أنّ المورد يدخل تحت كبرى مسألة اجتماع الأمر والنّهي ، وذلك لأنّ هذا الشرط صار موردا للأمر بلحاظ الواجب المشروط ، وموردا للنّهي كما هو

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني : ج ١ ص ٢٩٢.

(٢) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ٢ ص ٣٩٧.

(٣) محاضرات فياض : ج ٥ ص ٢٥ ـ ٢٦.

٥٤٨

الفرض ، وذلك كالتستر في الصلاة بثوب مغصوب ، وحينئذ ، فتكون هذه المسألة مبنيّة على مسألة الاجتماع.

وهذا الكلام غير تام ، فإنّا ذكرنا سابقا أنّ موارد حرمة هذا الشرط ، لا تدخل تحت كبرى مسألة اجتماع الأمر والنّهي وذلك ، لأنّ متعلّق النّهي هو نفس الشرط ، وأمّا متعلق الأمر فهو تقييد المشروط بشرطه لا نفس الشرط ، فاختلف متعلّق الأمر والنّهي ، فلا تكون المسألة من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنّهي.

٣ ـ التنبيه الثالث : هو انّ النهي المولوي التحريمي ينقسم إلى قسمين : وذلك ، لأنّ الحرمة ، تارة تكون ذاتية ، وأخرى ، تكون تشريعية.

والكلام المتقدم في اقتضاء النّهي الفساد ، كان في الحرمة الذاتية كالصلاة في الأرض المغصوبة ، بناء على امتناع اجتماع الأمر والنّهي. فإنّ نفس فعل الصلاة محرّم ، وإن لم يسند إلى الله تعالى.

بينما في هذا التنبيه ، يبحث عن الحرمة التشريعية ، وإنّ النهي في مثله ، هل يقتضي الفساد ، أو لا يقتضيه؟

أو فقل : هل إنّ الحرمة التشريعية توجب البطلان كالحرمة الذاتية أم لا؟.

وتحقيق الحال في ذلك هو أن التشريع يكون على نحوين :

١ ـ النحو الأول ، هو : أن يسند المكلّف إلى الله تعالى ، فعلا ، يعلم أنّ الله تعالى لم يشرّعه.

٢ ـ النحو الثاني ، هو : أن يسند المكلّف إلى الله تعالى فعلا يشك في تشريع الله تعالى له.

أمّا بالنسبة إلى النحو الأول : فلا إشكال في بطلان العبادة في مرحلة سابقة على ثبوت حرمة التشريع ، وذلك لأنّ المكلف يعلم بأنّ الله تعالى لم

٥٤٩

يشرّع هذا الفعل ، وعليه ، فهو يعلم بأنّ الأمر بهذا الفعل ، وعدم الأمر به ، ليس إلّا من جهة عدم وفائه بالمصلحة ، فيكون هذا الفعل قاصرا ذاتا عن الوفاء بالمصلحة ، وحينئذ ، فإذا أتى المكلف به ، يكون باطلا لهذا القصور ، مع قطع النظر عن الحرمة التشريعية المترتبة على إتيانه به مسندا له إلى الله تعالى.

وأمّا بالنسبة للتشريع بالنحو الثاني ، وهو أن يأتي المكلف بالفعل ، ويسنده إلى الله تعالى ، مع أنّه يشك في تشريع الله تعالى له :

فإنّه من المعلوم ، أنّ هذا النحو لا يستبطن البطلان بملاك القصور الذاتي ، وذلك لاحتمال كون هذا الفعل ذا مصلحة في الواقع ، لأنّ المفروض أنّه يشك في تشريعه ، لا أنّه يجزم بعدمه ، وإنّما البطلان في هذا النحو ، إنّما هو لعجز المكلّف عن قصد القربة المعتبر في صحة العبادة ، ويقرّب ذلك بوجوه :

١ ـ الوجه الأول ، وحاصله ، هو : إنّ الإتيان بهذا الفعل محرم تشريعا ، والحرمة التشريعية ، كما تكون متعلقة بالفعل القلبي الذي هو عبارة عن إسناد الفعل للمولى ، كذلك تكون متعلقة بالفعل الخارجي المأتي به ، لأنّ التشريع يكون وجها من وجوه الفعل ، وعنوانا من عناوينه ، وحينئذ ، فيحرم الفعل بهذا العنوان ، ويصير حال هذا الفعل حال العبادة المحرمة حرمة ذاتية ، كالصلاة في الأرض المغصوبة ، بناء على امتناع اجتماع الأمر والنّهي ، وحينئذ ، فيثبت البطلان هنا بالملاك الذي أثبت به البطلان هناك.

٢ ـ الوجه الثاني ، هو : إنّه لو تنزّلنا ، وقلنا : بأنّ الحرمة التشريعية تكون متعلقة بالإسناد القلبي فقط ، ولا تسري إلى الفعل الخارجي ، فمع هذا يثبت البطلان ، لأنّ هذه الحرمة تثبت إنّ القصد المحرك نحو العمل قصد غير إلهي لأنّه محرم ، وإذا لم يكن القصد إلهيا ، فتبطل العبادة المأتي بها لفقدان قصد القربة.

٣ ـ الوجه الثالث : هو : إنّنا لو تنزلنا وقلنا : إنّ التشريع غير محرم

٥٥٠

شرعا ، ولكنه قبيح عقلا ، فيكون حاله كحال قبح المعصية ، فكما أنّ المعصية قبيحة عقلا ، ولا تستلزم حكما شرعيا بحرمتها ، لأنّها من تبعات حق المولى ، فلا معنى لتدخّل المولى من جديد وحكمه بالحرمة عليها.

فحتى لو قلنا : بأنّ التشريع كالمعصية غير محرم شرعا ، وإنّما هو قبيح عقلا ، فمع هذا ، يحكم ببطلان العبادة في المقام ، لأنّ قصد المكلّف بعد فرض كونها قبيحا عقلا ، يكون جرأة على الله تعالى ، ومعه يستحيل أن يكون مقربا نحوه ، وحينئذ ، تبطل العبادة.

ومن مجموع ما ذكرنا ، يمكن استنتاج الفوارق بين الحرمة الذاتية ، والحرمة التشريعية ، فإنّه في الحرمة الذاتية كان مصب الحرمة والبغض هو العمل ، حيث كان بالإمكان أن يقرب بقصد إلهي قد يتفق وجوده ، وأمّا في الحرمة التشريعية ، فنفس القصد المحرك في العمل ، يكون قصدا شيطانيا ، فلا يمكن التقرب على أساسه.

وإن شئت قلت : إنّه لو سلّمنا عدم تعلق الحرمة التشريعية ، لا بالفعل الخارجي ، ولا بنفس الإسناد والقصد ـ بأن يفترض أنّ قبح التشريع يكون من قبيل قبح المعصية والتجري الذي يكون في طول حق المولى ، فلا يمكن أن يكون موجبا لحكم شرعي ـ لو سلّمنا بهذا ، فلا إشكال في قبح هذا الإسناد والقصد عقلا ، لكونه موجبا لهدر حق المولى ، وما يوجب هدر حق المولى وهتكه ، يستحيل أن يكون مقربا إلى المولى.

٤ ـ التنبيه الرابع : وهو معقود لبيان المواضع التي يكون فيها النهي إرشاديا ، والتي يكون فيها مولويا : وإنّه إذا ثبت كونه إرشاديا ، فهو يقتضي البطلان ، إمّا لكونه إرشادا إلى البطلان رأسا ، كالنّهي عن الصلاة في ما لا يؤكل لحمه ، وإمّا لكونه إرشادا إلى عدم المشروعيّة ، كالنّهي عن الصوم يوم عاشوراء ، وعدم المشروعية لا يكون إلّا لأجل عدم الملاك ، ومع عدمه يكون الفعل باطلا.

إذن في هذين الموردين ، لا إشكال في اقتضاء النّهي للبطلان ، لأنّه

٥٥١

يكشف عن القصور الذاتي في الفعل ، وهذا ممّا لا نزاع فيه.

وإنّما الكلام في بيان المواضع التي يحمل فيها النّهي على الإرشاد ، فنقول :

إنّ النهي ، تارة ، يكون متعلقا بعنوان ينطبق على العبادة ، كالنّهي عن الغصب الذي ينطبق على الصلاة في بعض الموارد ، بناء على اتحاد الصلاة مع الغصب.

وأخرى يتعلّق النّهي بعنوان العبادة رأسا ، كالنّهي عن الصلاة مباشرة ، أو عن الركوع.

أمّا بالنسبة إلى القسم الأول : ففي مثله ، يكون النّهي مولويا تحريميا ، فإنّ مقتضى القاعدة الأولية في باب النواهي ، أنّ النهي يستعمل بداعي الزجر لا الإخبار ولا مقتض للخروج عن هذه القاعدة ، لأنّه لا معنى لكون النّهي عن الغصب إرشادا إلى بطلان الصلاة في المغصوب ، لأنّ دليل حرمة الغصب لم ينظر فيه إلى الصلاة.

وأمّا بالنسبة إلى القسم الثاني ، ففيه صور :

١ ـ الصورة الأولى : هي أن يفرض أنّ النّهي تعلّق بأصل العبادة ، كالنّهي عن صوم «يوم عاشوراء» ، فهنا يحمل هذا النّهي على الإرشاد إلى عدم مشروعيّة هذا الصوم ، وإن كان مقتضى القاعدة هو كون النّهي مولويا ، تحريميا ، إلّا أنّه في هذه الصورة ، لا بدّ من الخروج عن مقتضى هذه القاعدة ، والوجه في ذلك ، هو إنّ العبادة من حيث كونها عبادة ، تكون في معرض الأمر بها ، وهذا هو المترقب بالنسبة لها ، وكل عنوان كان في معرض ترقب صدور أمر به ، ثم صدر عنه نهي ، فحينئذ لا يكون لهذا النهي ظهور في التحريم المولوي.

بل إمّا أن يكون ظاهرا في مجرد نفي الأمر المتوهم ، وهذا معنى الإرشاد إلى نفي المشروعية.

٥٥٢

وإمّا أن يكون مجملا.

وعلى كلا الحالين ، فهو يقتضي البطلان ، باعتبار كشفه عن القصور الذاتي ، لأنّه إذا كان لنفي المشروعية فيكشف عن عدم وجود أمر به وبالتالي عدم مشروعيّته ، وإن كان مجملا فيستكشف أنّه لا أمر أيضا ، بناء على الامتناع ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون إرشادا لعدم المشروعية والأمر ، وإمّا أن يكون تحريميا ، فإن فرض الأول فهو المطلوب ، وإن فرض الثاني ، فالمفروض أنّ الحرمة لا تجتمع مع الأمر ، لأنّ المفروض البناء على الامتناع فيثبت حينئذ عدم وجود الأمر.

والحاصل ، إنّه في مثل ذلك يعلم بعدم وجود أمر ، ومعه تبطل العبادة للقصور الذاتي ، لأنّ عدم الأمر ليس إلّا من جهة عدم وفائه بالمصلحة والملاك.

٢ ـ الصورة الثانية ، هي : أن يكون النّهي متعلقا بخصوصيّة من خصوصيات العبادة ، كتعلقه بالجزء وما يشبهه ، وتكون تلك الخصوصيّة من الخصوصيات التي يتوهم ـ لو لا ورود النّهي عنها ـ أنّها جزء من العبادة ، من قبيل أن يقال : «لا تقرأ فاتحة الكتاب في الصلاة على الميت» فهنا حيث أنّ المركوز في الذهن ، أنّه لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، فيترقّب حينئذ ، كون الفاتحة جزءا من الصلاة على الميت ، فيرد النّهي عنها.

وهذا النّهي حاله حال النّهي في الصورة الأولى ، لأنّه وارد في مقام توهم الأمر ، فحينئذ لا بدّ كما عرفت ، من حمله ، إمّا على الإرشاد إلى عدم كون الفاتحة جزءا ، وأنّها ليست مشروعة ، وإمّا على كونه مجملا مرددا بين النهي الإرشادي والنهي التحريمي ، وفي كلا الحالين ، إذا أتي بها ، لا تكون مقتضية لبطلان العبادة ، إلّا إذا قام الدليل على إبطال مثل هذه الزيادة ، لأنّ النّهي هنا ليس ظاهرا في التحريم ، لأنّه في مورد توهم الأمر. وإن كان غاية ما يدل ، فقد يدل على عدم كونها جزءا ، أو شرطا.

٥٥٣

٣ ـ الصورة الثالثة : هي : أن يتعلق النّهي بخصوصيّة من خصوصيّات العبادة ، وهذه الخصوصيّة ليست في معرض الأمر بها ، كالنّهي عن القرآن بين السورتين في ركعة واحدة ، ومثل هذا النّهي ، لا يحمل على ما تقتضيه القاعدة الأوّلية ، وهو التّحريم المولوي ، وإنّما يحمل على المانعيّة ، تطبيقا لقاعدة أخرى ، وهي : إنّ جميع الأوامر والنواهي الواردة في خصوصيّات المركّبات ، ظاهرة في الإرشاد إلى عناصر تلك المركّبات ، جزءا أو شرطا أو مانعا ، وعليه ، فلا بدّ من حمل هذا النهي على المانعيّة ، فإذا أتي بهذه الخصوصيّة المنهي عنها ، تبطل العبادة ، لكون هذه الخصوصيّة مانعة عن الصحة.

وبهذا التنبيه ، يتم الكلام في التنبيهات ، وبذلك تمّ الكلام في المسألة الأولى ، وهي اقتضاء النهي الفساد في العبادات.

٢ ـ المسألة الثانية :

في اقتضاء النهي الفساد في المعاملات : والكلام في هذه المسألة يقع في جهتين :

١ ـ الجهة الأولى :

في الاقتضاء بلحاظ مقتضى القاعدة.

٢ ـ الجهة الثانية :

في الاقتضاء بلحاظ الدليل الخاص.

أمّا الجهة الأولى : فموضوع الكلام فيها ، هو النّهي المولوي التحريمي ، لأنّ الإرشادي ، لا إشكال في اقتضائه للبطلان ، لأنّه ، إمّا أن يكون إرشادا إلى بطلانها ، أو إلى تقوّمها بأمر وجودي ، أو عدمي ، فمع عدم مراعاته تبطل ، من قبيل «لا تبع ما ليس عندك» ونحوه ، فلا إشكال في أنّ مثل هذه النواهي تقتضي البطلان.

٥٥٤

وعليه ، فموضوع كلامنا في هذه الجهة هو النّهي المولوي التحريمي.

فنقول : إنّ هذا النّهي تارة : يكون متعلقا بالسبب ، وهو المعاملة التي تصدر من المتعاملين مباشرة.

وأخرى : يكون متعلقا بالمسبّب ، كانتقال المبيع إلى المشتري ، وانتقال الثمن للبائع مثلا ، فإنّ مثل هذا الانتقال ، مسبّب عن تلك المعاملة.

وثالثة : يكون النهي متعلقا بالأثر المترتب على المسبّب ، كتصرف البائع بالثمن ، والمشتري بالمثمن ، فإنّ هذا التصرف أثر من آثار المسبّب ، وهو الانتقال.

والكلام يقع في كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة ، وإنّ تعلّق النّهي بها هل يقتضي البطلان ، أم لا؟.

أمّا القسم الأول ، وهو النّهي المتعلق بالسبب : فلا إشكال في عدم اقتضائه الفساد ، كالنّهي عن البيع عند وقت النداء لصلاة الجمعة ، فبمناسبة الحكم والموضوع يظهر أنّ الحرمة متعلقة بالسبب ، وذلك حتى لا ينشغل المكلّف به عن الاستجابة للنداء ، وهذه الحرمة المتعلقة بالسبب لا تقتضي الفساد.

ويظهر الوجه في ذلك ، ممّا يأتي ، حيث أنّ الوجوه التي تدّعى لاقتضاء النّهي عن المسبب للفساد ، لو تمّت ، لا تشمل النّهي عن السبب ، والمفروض أنّه ليس هناك وجه آخر غير تلك الوجوه ، يكون موجبا لاقتضاء النّهي عن السبب للبطلان. وعليه : فلا منافاة بين مبغوضيّة السبب وبين نفوذه ، بمعنى ترتب أثره عليه ، فمقتضى الجمع بين دليل حرمته التكليفية ، وبين التمسك بإطلاق دليل نفوذه ، هو الحكم بترتب الأثر عليه ، وإن ترتب العقاب على الإتيان به ، ولا منافاة.

وهذا نظير تطهير الثوب بماء مغصوب ، فالفعل محرّم ، ولكن يترتب عليه أثره ، وهو طهارة الثوب.

٥٥٥

٢ ـ أمّا القسم الثاني : وهو فيما إذا تعلّق النّهي بالمسبب : والكلام فيه يقع في مقامين :

١ ـ المقام الأول : في أصل معقوليّة تعلّق النهي بالمسبب.

٢ ـ المقام الثاني ، هو : إنّه بعد الفراغ عن معقوليّته ، يبحث في أنّه هل يقتضي البطلان ، أو لا يقتضي؟.

أمّا الكلام في المقام الأول : فقد يستشكل في أصل معقوليته ، ويقرب ذلك بتقريبين :

١ ـ التقريب الأول ، هو : إنّ النّهي إنّما يتعلق بما هو فعل المكلف ، والمسبّب ليس فعلا للمكلف ، بل حكم للمقنّن والمشرّع بانتقال السلعة من البائع إلى المشتري ، وعليه فلا يعقل تعلق النّهي به.

وهذا التقريب غير تام ، فإنّ المسبّب ، وإن لم يكن فعلا مباشرا للمكلّف ، إلّا أنّه فعل تسبيبي له ، باعتبار أنّه يمكن إيجاده بإيجاد سببه الذي جعله الشارع والمقنّن سببا له ، فالمسبّب يدخل تحت قدرة المكلف بالقدرة على سببه.

٢ ـ التقريب الثاني ، هو : إنّ المسبّب عبارة عن الانتقال والتمليك ، وهو من اعتبارات الشارع وإمضاءاته ، فإذا فرض إنّه مبغوض للشارع ، فمن الأول يمكنه أن لا يقنّنه ويمضيه ، ولا معنى لنهي المكلّف عنه حينئذ.

وهذا التقريب غير تام أيضا : فإنّ المسبّب لو كان محصورا بخصوص الشرعي ، لكان لهذا التوهم صورة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، لكن إذا فرض أنّ المقصود من المسبّب المعنى الأعم ، الجامع بين الشرعي والعقلاني ، فحينئذ لا يتوجه هذا التقريب ، لأنّ إعدام خذا الجامع لا يتحقّق بمجرد كفّ المولى عن تقنينه وجعله ، بل يحتاج في مقام إعدامه إلى الاستعانة بالمكلف.

٥٥٦

وبهذا يثبت أنّ كلا هذين التقريبين غير تام ، فالصحيح هو إنّ النّهي عن المسبّب أمر معقول.

وأمّا الكلام في المقام الثاني ، وهو اقتضاء النهي عن المسبّب للفساد بعد تعقّل تعلّقه به :

ففي هذا المقام يذكر وجهان للاقتضاء :

١ ـ الوجه الأول ، هو : إنّ النّهي عن المسبب يكشف عن مبغوضية الشارع له ، وكونه ذا مفسدة ، ومع هذا الفرض فمن الواضح أنّ المولى لا يمكنه أن يمضيه ، وهذا معنى البطلان.

وبهذا يثبت أنّ هناك تهافتا بين إمضاء السبب والنّهي عن المسبب لذلك السبب.

أو فقل : إنّ النّهي عن المسبب يكشف عن مبغوضيته شرعا ، سواء أكان المنهي عنه خصوص المسبب الشرعي ، أو الجامع بينه وبين المسبّب العقلائي ، فإنّ مبغوضية الجامع تسري إلى الأفراد أيضا باعتبار انحلاليتها. فإذا كان المسبب الشرعي مبغوضا للشارع ، فلا بدّ وأن لا يفعله بنفسه ، بأن لا يجعل السببية كي لا يثبت المسبب عند ثبوت السبب ، فالنّهي عن المسبب يكشف عن عدم جعل السببية ، وهو معنى البطلان.

إلّا أنّ هذا الوجه غير تام : وذلك لعدم التهافت بين إمضاء السبب والنّهي عن المسبب. والوجه في ذلك هو إنّنا لو لم نلتفت إلّا إلى المسبب الشرعي ، ولاحظنا قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، فهذا يرجع إلى إنشاء إمضاء للبيع على نحو القضية الحقيقية. وهذا الجعل ثابت في نفسه ، سواء وجد موضوعه وهو البيع خارجا ، أو لم يوجد. وهناك مجعول تابع في فعليته إلى فعلية وجود موضوعه ، وهو البيع الخارجي. وعليه : فعندنا جعل ومجعول ، وقد يفرض وجود مصلحة في نفس هذا الجعل على نحو القضية الحقيقية ، وإن كان هذا الجعل شاملا على نحو القضية الحقيقية لمجعول

٥٥٧

محرم ، كبيع المصحف من الكافر ، وحينئذ ففي هذه الحالة لا بد وأن يحافظ الشارع على جنبة المصلحة التي يفرض كونها أهم ، وعلى جنبة المفسدة أيضا ، وهذه المحافظة تتحقق بأن يجعل البيع ويمضيه على نحو القضية الحقيقية ، على نحو يشمل المسبب المحرم ، حفاظا على جانب المصلحة ، وبأن يحرم وينهى عن الإيجاد التسبيبي لانتقال المصحف إلى الكافر ، تخلصا من المفسدة ، وبذلك يكون قد حافظ على جنبة المصلحة والمفسدة.

وبهذا يثبت أنّه لا تهافت بين إمضاء السبب والنهي عن مسببه.

وإن شئت قلت : إنّه يمكن أن يفترض أنّ المبغوض للشارع ليس مطلق السبب ، بل هو صرف وجوده بنحو لا ينحل إلى كل فرد فرد ، وذلك كما إذا فرض أنّ عدم وقوع طبيعي المسبب في الخارج الأعم من الشرعي والعقلائي ، هو المحبوب للشارع. وهذا لا ينافي أن يمضي الشارع السببية ، وذلك أن يثبت المسبب عند ثبوت السبب ، فإنّه مع ثبوت المسبب العقلائي خارجا ، يثبت طبيعي المسبب ، ولو في ضمن المسبب العقلائي ، وبعد وقوع طبيعي المسبب ، لا يكون وقوع فرد ثان منه ، وهو المسبب الشرعي مبغوضا ، إذ بإمكان الشارع أن يجعل السببية ، ولكن ينهى عن المسبب كي لا يوجد السبب ، فلا يقع طبيعي المسبب خارجا ، ولو في ضمن المسبب العقلائي.

٢ ـ الوجه الثاني ، هو : ما أفاده الميرزا النائيني «قده» (١) ، وحاصله هو : إنّ صحة المعاملة ، كالبيع مثلا ، تتوقف على تماميّة ثلاثة أركان :

أ ـ الركن الأول ، هو : أن يكون البائع مالكا ، أو موكلا بالبيع ، أو وليا.

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٩٢. أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ٢ ص ٤٠٤.

٥٥٨

ب ـ الركن الثاني ، هو : أن يكون مسلطا شرعا على التصرف الوضعي في العين ، بأن لا يكون المالك مجنونا ، أو محجرا عليه ، بحيث لا يمكنه إيجاد النقل والانتقال في أمواله.

ج ـ الركن الثالث ، هو : أن يستعمل البائع الأسباب الصحيحة الموجبة للانتقال ، فيأتي بالصيغة المعتبرة مع تمام ما يعتبر من الشرائط ، لتحقيق السبب.

فإذا تمت هذه الأركان ، حينئذ يحكم بصحة المعاملة ، وإذا اختل واحد منها يحكم ببطلانها ، حينئذ نقول : بأنّ النّهي عن المعاملة بمعنى المسبب ، أي : إنّ النّهي عن المسبب ، كالنّهي عن تمليك المصحف للكافر. مثل هذا النّهي يقتضي بطلان المعاملة ، وذلك لاختلال الركن الثاني ، باعتبار أنّ هذا المسلم الذي يريد بيع المصحف من الكافر ، وإن كان مالكا للمصحف ، إلّا أنّه غير مسلط شرعا على مثل هذا التصرف الوضعي ، وبذلك يثبت بطلان هذا البيع.

وهذا الوجه يرد عليه إشكالان : أحدهما تفصيلي ، والآخر إجمالي.

أمّا الإشكال التفصيلي ، هو : أن يقال : إنّ السلطنة التي جعلت ركنا ثانيا لصحة المعاملة ، يتصور لها ثلاثة معان :

١ ـ المعنى الأول ، هو : أن تكون السلطنة بمعنى عدم الحرمة التشريعية ، فمعنى كونه مسلطا عليه شرعا ، يعني أنّه غير محرم ، فإذا كان المقصود بالسلطنة هذا المعنى ، فحينئذ يرجع أخذ السلطنة ركنا في صحة المعاملة ، إلى أنّ عدم حرمة المسبّب شرط في صحة المعاملة ، وهذا هو عين المتنازع فيه وعليه ، لا يكون هذا الوجه تاما.

٢ ـ المعنى الثاني ، للسّلطنة هو : أن تكون بمعنى القدرة التكوينيّة على إيجاد المسبّب الاعتباري ، وهذه القدر التكوينيّة على المسبّب ، فرع ملاحظة ما هو موضوع الحكم بالإمضاء والصحة في لسان الشارع ، فبعد ملاحظة

٥٥٩

هذا الموضوع ومعرفته بخصوصياته ، يعلم أنّ هذا المكلّف قادر تكوينا على هذا المسبب ، أو غير قادر.

فإذا كان ذلك الموضوع ، مع خصوصياته ، تحت قدرته ، فهو قادر ، وإلّا ، فلا قدرة له عليه. وعليه فلا بدّ في المرتبة السابقة على هذه القدرة أن يلاحظ موضوع دليل الإمضاء والصحة ، وحينئذ فلا يعقل أن تكون هذه القدرة مأخوذة على نحو الركنيّة في موضوع دليل الإمضاء والصحة ، وذلك للزوم الدور كما هو واضح ، فالسلطنة بهذا المعنى الثاني ، لا يعقل أخذها ركنا ، فإذا قصد بالسلطنة هذا المعنى الثاني ، فلا يكون هذا الوجه الثاني تاما.

٣ ـ المعنى الثالث للسلطنة هو : أن ترجع السلطنة إلى اعتبار من الاعتبارات الشرعيّة على حدّ اعتبار الملكية ، والولاية ، ونحوهما. فكما أنّ الشارع اعتبر جواز تصرف الولي بمال ولده ، كذلك هنا يقال : بأنّ السلطنة عبارة عن اعتبار كون الإنسان مختارا شرعا في أن يفعل ، وأن لا يفعل ، فتكون السلطنة هنا راجعة إلى القدرة الاعتبارية ، لا القدرة التكوينية.

وهذا المعنى للسلطنة لا مانع من اعتباره ركنا في صحة المعاملة ، فكما يعتبر في الصحة ، اعتبار كون البائع مالكا ، كذلك اعتبار كونه مالكا للتصرف ، وكونه مسلطا عليه ، يكون مأخوذا في موضوع الصحة.

إلّا أنّ هذا يرد عليه ، أولا : بأنّه لا دليل على هذه الركنية إذا لم يقم دليل على أنّ اعتبار كونه مالكا للتصرف أخذ في موضوع الصحة ، بل إنّ هذه الركنيّة منفيّة بنفس إطلاق (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ.)

فإن قيل : إنّ بيع الصبي لا يصح ، مع أنّه مالك ، إذن فليست عدم صحة بيعه ، إلّا من جهة كون صحة البيع ، منوطة باعتبار السلطنة على التصرف ، والصبي لم يعتبر له هذه السلطنة ، فيبطل بيعه لذلك.

قلنا :

٥٦٠