بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

من عشرة أجزاء ، مشروط بترك هذين الجزءين منها ، وهذا غير معقول ، لأنّ الأمر بالعشرة على أن يترك بعضها غير معقول.

وبهذا يثبت عدم إمكان تصوير التزاحم في المقام لعدم إمكان جعل وجوبين ضمنيّين في محل الفرض.

وإن شئت قلت : إنّ الوجوب الضمني مجعول بعين جعل الوجوب الاستقلالي ، فهو غير مستقل في الجعل.

وعليه ، فأيّ شرط يؤخذ فيه ، لا بدّ وأن يكون مأخوذا في الجعل الاستقلالي ، وحينئذ ، عند ما يتراءى لنا وجوبان ضمنيّان ، يتعذّر على المكلف الجمع بينهما ، كما لو قدر على الركوع دون السجود ، فقد يقال بوقوع التزاحم بينهما.

فإذا أردنا أن نتعامل مع الواجبين الضمنيّين كما نتعامل مع الواجبين الاستقلاليّين المتزاحمين من حيث أنّ كلا منهما مجعول على موضوعه ، وهو «القادر عقلا وشرعا» ، كان لازم ذلك ، أخذ هذا الموضوع في الخطاب الاستقلالي أيضا.

ومن الواضح أنّ القدرة على كل منهما ، لا تكون إلّا بترك الآخر ، ومعنى كون إيجابهما مشروطا بالقدرة ، هو اشتراط ذاك الوجوب الاستقلالي بترك الاشتغال بالجزءين معا ، ومعنى هذا أنّ الأمر بالصلاة المركّبة من عشرة أجزاء يكون مشروطا بعدم الاشتغال بشيء من أجزائه ، وهو واضح الفساد.

٤ ـ الصيغة الرابعة ، هي : أنه قد عرفت في حال التزاحم بين الواجبين الاستقلاليّين «كالصلاة والإزالة» أنه يتنجّز كلا الوجوبين في حق المكلف في حال تركهما معا ، لأنّ وجوب كل منهما مقيّد بالقادر بمعنى يساوق ترك الآخر ، فينتج أنّه إذا ترك الاثنين معا ، تنجّز الوجوبان في حقه ، لفعليّة شرط كلا الوجوبين ، فإنّه بلحاظ تركه للصلاة ، يتمّ في حقه موضوع وجوب الإزالة ، وبلحاظ تركه للإزالة يتم في حقه موضوع وجوب الصلاة ، وهذه

١٤١

النتيجة ، وهي فعليّة كلا الواجبين عند تركهما لفعليّة شرطهما ، مستحيلة ، فيستحيل ملزومها ، وهو الأمر المشروط بنحو الترتّب.

والوجه في استحالة هذه النتيجة ، هو : إنّ الوجوبين في المقام جزءان تحليليّان من وجوب واحد ، فلو فرض أنّ المكلف ترك كلا الواجبين ، كان شرط كلا الأمرين الضمنيّين فعليا ، ومن ثمّ يصبح الأمر بالمركب كله فعليا.

ومعنى هذا ، ثبوت أمر استقلالي واحد يطلب فيه الجمع بين الضدّين ، وهو محال لما عرفت ، لا الجمع في الطلب كما هو الحال في الطلبين الاستقلاليّين المتزاحمين كما أشكل المنكرون للترتّب.

وقد تقدّم وذكرنا أنّ هذا اللازم صحيح ، ونلتزم به في الاستقلاليين ، ولذلك ، قلنا على أساسه بتعدد العقاب في صورة ترك الواجبين ، وإن كان هذا اللازم لا يعقل الالتزام به في الوجوبين الضمنيّين.

والوجه في ذلك أنّه في حالة ترك كلا الجزءين ، «القيام والركوع» ، فسوف يجب كلا الجزءين ، لأنّه بلحاظ تركه «للقيام» يتنجّز في حقه وجوب «الركوع» ، وبلحاظ تركه «للركوع» ، يتنجز في حقه وجوب «القيام».

والمفروض أنّ هذين الوجوبين ضمنيّان ، راجعان إلى وجوب واحد ، فكأنّ المولى طلب الإتيان بالجزءين معا.

وهذا الأمر غير معقول ، لعدم القدرة على متعلّق هذا الأمر ، والمفروض أنّ متعلّق الأمر ، لا بدّ وأن يكون مقدورا.

وهذا الإشكال لا يأتي في الواجبين الاستقلاليّين لأنّ المفروض فيهما وجود أمرين ، لا أمر واحد ، ومع وجود أمرين لا إشكال كما عرفت تفصيله في محله.

وعليه ، فلا يمكن في المقام فرض وجوبين ضمنيّين.

ومعه فلا يمكن تصوير التزاحم.

١٤٢

وربّما يمكن في المقام إبداء نكتة ، تثبت عدم كفاية هذه الصيغ ، لإثبات استحالة تصوير التزاحم بين الواجبين الضمنيّين.

وحاصل هذه النكتة هي : إنّه يمكن افتراض تعلّق الأمر ابتداء بعنوان المقدور من أجزاء المركب.

وهذا عنوان جامع ينطبق على مجموع الأجزاء المقدورة ، وعلى المقدور منها ، إذا كان بعضها تعينيا غير مقدور. وعند ما يقع التزاحم بين اثنين منها ، يكون ترك كل منهما محققا للقدرة على الآخر ، فيكون الآخر مقدورا ، ويكون هو الواجب المطلوب.

وهذا هو معنى انّ الأمر بكل منهما مشروط بترك الآخر ، كما هو الحال في الواجبين الاستقلاليّين المتزاحمين.

وهذه النكتة ، إن تمّت ، فإنّها تثبت فشل كل الصياغات المتقدمة لإثبات استحالة التزاحم بين الواجبين الضمنيّين.

أمّا بطلان الصيغة الأولى ، فيقال : انّه يمكن تصوير التزاحم بناء على التقدير الثاني ، وهو ما إذا لم تكن الصلاة مقدورة بجميع أجزائها ، فإنّه حينئذ ، إذا كان قادرا على تسعة أجزاء منها ، وعجز عن أحد الجزءين ، إمّا «القيام» أو الركوع» ، فيقع التزاحم بين الوجوبين الضمنيّين المتعلقين بهذين الجزءين.

وذلك بأن يقال : بأنّ المولى ، جعل أمرا بعنوان المقدور من العشرة ، فيأمر بالإتيان بما هو الممكن من العشرة ، ولا يأمر بعنوان العشرة لكي يقال بسقوط هذا الأمر بسبب العجز عن أحد أفراده كما عرفت تفصيله ، بل يأمر بعنوان المقدور من العشرة وحينئذ ، فإذا عجز المكلف عن جزء معين من العشرة ، فسوف ينطبق الأمر على التسعة الباقية من العشرة ، وإذا فرض أنّه عجز عن أحد الجزءين لا بعينه ، كما هو فرض الكلام ، كما لو عجز عن الجمع بين القيام والركوع ، فحينئذ يبقى الأمر متعلقا بعنوان المقدور من العشرة.

١٤٣

وهذا العنوان ينطبق على الركوع مع الأجزاء الثمانية ، إذا لم يؤت بالقيام ، كما أنّ هذا الأمر ينطبق على القيام مع الأجزاء الثمانية ، إذا لم يؤت بالركوع.

وحينئذ يدور الأمر بين حالتين من الامتثال ، إمّا الثمانية مع الركوع ، وإمّا الثمانية مع القيام ، وكل من هاتين الحالتين إذا امتثلت ، ترفع موضوع الآخر ، وبذلك يقع التزاحم بين هاتين الحالتين الناشئة من التزاحم بين الواجبين الضمنيّين.

وبهذه النكتة أمكن تصوير التزاحم بين الواجبين الضمنيّين ، وبطل ما ذكر في الصيغة الأولى.

والخلاصة هي : إنّه لأنّ الواجب في هذه الصيغة هو المقدور من الأجزاء العشرة ، وليس الأجزاء العشرة بعنوانها ، لكي يسقط الوجوب بالعجز عن البعض ، حينئذ كل من الجزءين المتزاحمين مقدور على تقدير ترك الآخر ، فيقع التزاحم ، فإمّا أن يؤتى بالثمانية مع الركوع ، على فرض ترك القيام ، أو العكس.

وأمّا بطلان الصيغة الثانية : فإنّنا نختار منها الشق الأول ، وهو كون كل من الجزءين دخيلا في ملاك الصلاة ، لكن لا مطلقا ، حتى يرد الإشكال السابق ، بل مقيدا بالقدرة ، بمعنى يستبطن عدم الاشتغال بالواجب الضمني الآخر ، فتكون القدرة شرعية ، ويكون دخل الركوع في ملاك الصلاة متوقفا على عدم الإتيان والاشتغال بالقيام. كما أن دخل القيام في ملاك الصلاة ، يكون متوقفا على عدم الاشتغال بالركوع ، وحينئذ يقع التزاحم بين الواجبين الضمنيّين ، لأنّ كلا منهما دخيل في ملاك الصلاة ، من دون ورود الإشكال السابق ، لما عرفته من أنّ الدخالة مشروطة لا مطلقا.

وعليه ، فيبطل ما ذكر في الصيغة الثانية.

وخلاصة حلّ الصيغة الثانية ، هو أن يقال : لأنّ الدخيل في الملاك ، كما عرفت ، إنما هو المقدور من الأجزاء ، والمفروض أنّ كلا من الجزءين

١٤٤

على تقدير ترك الاشتغال بالآخر مقدور ، إذن ، فيكون مأمورا به على هذا الأساس ، وهو معنى الترتّب.

وبهذا يبطل ما ذكر في الصيغة الثانية.

إلّا أنّ هذا الحل للصيغة الثانية غير صحيح ، إذ لو تمّ فإنّه يستدعي أن يكون التزاحم بين الواجبين الضمنيّين المشروطين بالقدرة الشرعية دون القدرة العقليّة ، لأنّ معنى كونهما مشروطين بالقدرة العقلية ، هو دخالة الواجبين الضمنيّين في الملاك مطلقا ، وحينئذ يرد الإشكال السابق الذي ذكر في هذه الصيغة ، كما عرفت ، وكذا الحال لو كان أحدهما فقط مشروطا بالقدرة العقلية ، لأنّ معنى ذلك ، استحالة الأمر بالآخر حتى في حال عدم الاشتغال بالمشروط بالقدرة العقلية ، لأنّه بناء على ذلك ، يستحيل تحصيل الملاك ، لأنّ دخالة المشروط بالقدرة العقلية دخالة مطلقة ، وحينئذ ، فعدم الإتيان به يفوّت الملاك ، وإذا فات الملاك يستحيل الأمر بالآخر الذي يفرض كونه مشروطا بالقدرة الشرعية.

والحاصل ، هو : إنّ حلّ هذه الصيغة بالنحو الذي ذكر ، لو تمّ ، فإنّه لا يكون إلّا بين الواجبين الضمنيّين المشروطين بالقدرة الشرعيّة ، وبذلك لا يمكن إجراء أكثر مرجحات باب التزاحم في المقام ، إذ قد تقدّم ترجيح ما كان مشروطا بالقدرة العقليّة على ما كان مشروطا بالقدرة الشرعيّة.

فلو كان أحد الواجبين مشروطا بالقدرة العقلية ، والآخر مشروطا بالقدرة الشرعيّة ، تعيّن الأمر بما يكون مشروطا بالقدرة العقليّة دائما.

وبذلك يستحيل الترتّب ، فيستحيل التزاحم.

بينما هنا على أساس حل هذه الصيغة الثانية ، فإنّ التزاحم لا يكون إلّا بين الواجبين الضمنيّين المشروطين بالقدرة الشرعيّة ، وعلى أساسه ، فلا يمكن ترجيح ما كان مشروطا بالقدرة العقليّة على ما كان مشروطا بالقدرة الشرعيّة ، لما عرفت من عدم إمكان فرض كون أحدهما مشروطا بالقدرة

١٤٥

العقليّة. وإذا كان هذا الحل لا يتم إلّا بين الواجبين الضمنيّين المشروطين بالقدرة الشرعيّة ، فإنّه يثبت التخيير بينهما دائما ، ولم يمكن إجراء شيء من مرجّحات باب التزاحم.

أمّا الترجيح بالقدرة العقليّة ، فقد عرفت وصفها.

وأمّا عدم الترجيح بالأهميّة ، فلما عرفت من أنّ الترجيح بها فرع كون الواجبين مشروطين بالقدرة العقليّة ، والمفروض في حل الشبهة كونهما مشروطين بالقدرة الشرعيّة ، إذن فلا يجري الترجيح بالأهميّة.

وكذلك لا يجري ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل ، لأنّه فرع الترجيح بالأهميّة ، فهو راجع إليه ، وقد عرفت إنّه لا مجال له في المشروطين بالقدرة الشرعيّة ، وكذلك لا يمكن تصور الترجيح بالأسبقية الزمانية ، إذ قد تقدّم عدم تماميته ، حتى لو أريد به سبق الوجوب ، فإنه لا موضوع له في المقام ، حتى لو قيل به في الواجبين الاستقلاليّين ، وذلك لكون الوجوبين الضمنيّين متعاصرين زمانا ، وإن أريد به سبق الواجب ، فإنّ الأمر بالمتقدم يكون متعيّنا دائما.

وحينئذ لا يبقى مجال للأمر بالمتأخر لو ترك المتقدم ، إذ بتركه يفوت الملاك ، وهو واحد بحسب فرض الكلام.

وأمّا بطلان الصيغة الثالثة ، على أساس النكتة ، هو أن يقال : بأنّ الوجوب الضمني لكل من الركوع والقيام ، لم يقيّد بالقدرة ، بمعنى يستبطن ترك الآخر ، حيث تكون القدرة شرعيّة ، وليرد بالتالي الإشكال المزبور ، بل القدرة أخذت شرطا في الواجب ، ويكون الوجوب متعلقا بعنوان المقدور ، وبذلك يقع التزاحم.

وإن شئت قلت : إنّ الصيغة الثالثة كانت مبنيّة على أن يكون الأمر بالأجزاء بعنوانها ، مع أخذ عدم كل من الجزءين بعنوانه في موضوع الأمر بالآخر ، وأمّا إذا كان الأمر متعلقا بعنوان المقدور من الأجزاء كما لو قال :

١٤٦

«إذا كنت قادرا على شيء من الأجزاء فأت به» ، فلا محذور منه أصلا ، إذ يكون كل من الجزءين على تقدير ترك الجزء الآخر مقدورا ، فيكون كل منهما على تقدير ترك الآخر واجبا.

وبتعبير آخر : فإنّ المقدور في حقه هو أحد الجزءين ، فلا يجب عليه أكثر من أحدهما مع سائر الأجزاء.

وأمّا إبطال النكتة للصيغة الرابعة ، هو : ان يقال : انّ ما ذكر في هذه الصيغة من لزوم الأمر بالضدّين غير وارد حتى لو ترك المكلف الواجبين الضمنيّين معا ، وذلك لأنّ الواجب هو عنوان المقدور ، وهذا الواجب يستحيل تطبيقه على الجمع بين الضدّين ، لأنّ هذا الجمع غير مقدور ، والمفروض أنّ عنوان المقدور كما يستبطن القدرة بمعنى عدم الاشتغال بواجب آخر ، فكذلك يستبطن القدرة التكوينيّة ، والجمع بين الضدّين غير مقدور تكوينا.

وبذلك يرتفع إشكال الصيغة الرابعة ويقع التزاحم على أساس تلك النكتة.

وبهذه النكتة ، يقال بجريان التزاحم ، ويبطل ما ذكر في الصيغ الأربعة لإبطال التزاحم بين الواجبين الضمنيين.

وإن شئت قلت : إنّ الأمر إذا كان متعلقا بالمقدور من الأجزاء ، إذن فهو لا ينطبق إلّا على سائر الأجزاء والجامع بين الجزءين المتزاحمين ، لأنّه المقدور للمكلف ، إذن فلا يلزم طلب الجمع بين الضدّين ، وقد عرفت أنّ هذه النكتة على فرض تماميّتها ، فإنّها لا تنفع في إجراء أكثر مرجحات باب التزاحم في المقام فلا نعيد.

والتحقيق في المقام ، هو عدم إمكان تصوير التزاحم بين الواجبين الضمنيّين ، وما ذكر من النكتة غير تام ، وذلك ، لأنّ قيد القدرة المستبطن

١٤٧

لعدم الاشتغال بواجب آخر ، إن أخذ قيدا في الوجوب فهو محال ، لما ذكر في الصيغ الأربعة كما تقدّم.

وإن أخذ قيدا في الواجب ، فهو خلف ، لأنّ هذا القيد زائد ، وعلى خلاف مقتضى القاعدة ، والمفروض أنّنا نتكلّم في مقام إثبات كون التزاحم بابا مستقلا عن باب التعارض ، استندنا في ذلك إلى مقتضى القاعدة ، على أساس ذلك المخصّص اللبّي العقلي العام لكل خطاب ، إذن فأخذ قيد آخر في الواجب هو تصرف بالدليل.

هذا مضافا إلى أنّه لو تعقّلنا التزاحم بين الواجبين الضمنيّين ، فإنّ ذلك لا يفيد الفقيه شيئا ، لأنّ الدليلين اللّذين يعالجهما الفقيه ، ليسا هما الوجوبين الضمنيّين ، بل هما دليلا الجزئيّتين لقوله (ع) : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ، «ولا صلاة إلّا بطهور» ، ونحو ذلك ، وليس مفاد أمثال هذه الأدلة هو الوجوب الضمني ليقال بوقوع التزاحم بينها ، بل مفادها هو جزئيّة «الفاتحة والطهارة» والتي هي حكم وضعي.

ومن الواضح أنّ عنوان الجزئيّة لا يوجد فيه مخصّص لبّي يقيّده بعدم الاشتغال بجزء آخر ، لأنّ هذا التقييد من شئون الأحكام التكليفيّة ، وعليه فلا مانع من الإطلاق في دليل كل جزء ، بحيث تكون الجزئيّة ثابتة حتى في حال الاشتغال بجزء آخر.

ومعنى ذلك ، أنّ جزئيّة «الركوع» تكون ثابتة حتى في حال الاشتغال «بالقيام» ، وكذلك العكس في القيام.

ولازم ذلك ، هو سقوط الأمر بالصلاة رأسا ، لعدم التمكن من امتثالها حينئذ ، لأنّ المفروض عدم التمكن من الإتيان بالركوع والقيام معا.

وبما أنّ هذا اللازم ، وهو سقوط الصلاة ، لا نلتزم به ، إذن فلا بدّ أن يكون أحد هذين الإطلاقين غير ثابت ، وبذلك يقع التعارض بين الإطلاقين ، ويخرج الفرض عن محل التزاحم الذي هو محل الكلام.

١٤٨

وبهذا يثبت أنّ التزاحم حتى لو قيل بإمكانه بين الواجبين الضمنيّين ، فهو لا يفيد الفقيه.

وإن شئت قلت في عدم تماميّة هذه النكتة : إنّ القدرة إن أخذت قيدا للوجوب ، إذن تتم هذه الصياغات الأربع في استحالة التزاحم ، لأنّ معنى كون القدرة قيدا للوجوب ، هو الأمر بالأجزاء العشرة بعنوانها ، لكن مشروط بالقدرة عليها.

وأمّا إذا فرض كون هذه القدرة قيدا للواجب ، كما هو مفروض النكتة ، حينئذ يكون من الأمر بالجامع بين المتزاحمين ، وهو يختلف عن باب التزاحم الذي يوجد فيه أمران تعينيّان ، ولا يتأتّى فيه البيان الذي استطعنا به أن نخرج باب التزاحم على مقتضى القاعدة عن باب التعارض الحقيقي ببركة المقيّد اللبّي المستلزم لدخوله في باب الورود ، كما عرفت ، إذ إنّ جعل القدرة قيدا للواجب هو تصرف في ظهور الدليلين الدالّين على وجوب كل من الجزءين بعنوانه ، وهذا ليس جائزا على القاعدة ، بل مقتضى القاعدة أنّه لو علم بعدم سقوط الواجب الاستقلالي في مورد التزاحم ، فإنّه يقع التعارض بين دليلي الجزءين ، وإلّا كان مقتضى القاعدة سقوط الواجب مطلقا للعجز عنه ، هذا مضافا إلى أنّ أدلة الأجزاء والشرائط ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئيّة والشرطيّة.

وهذا المعنى ليس موردا للتزاحم ، إذ ليس مفاده حكما تكليفيا يستحيل ثبوته للمتزاحمين معا كي نفتش عن المقيّد اللبّي له ، بل مقتضى إطلاقات هذه الأدلة لحال العجز ثبوت الجزئيّة أو الشرطيّة فيه أيضا ، وعليه فيلزم سقوط التكليف الاستقلالي بالمجموع رأسا.

فلو فرض العلم من الخارج بعدم سقوطه وقع التعارض حينئذ ، بين إطلاق دليلي الجزءين المتزاحمين على أساس العلم بانتفاء إحدى الجزئيتين ، وبه يخرج الفرض عن باب التزاحم الذي هو محل الكلام.

١٤٩

التنبيه الرابع من تنبيهات التزاحم :

هو في إجراء أحكام التزاحم على ما لو وقع التزاحم بين الواجب الموسّع والمضيّق ، ومثاله المشهور ، هو نذر زيارة الحسين (ع) في اليوم التاسع ، (يوم عرفة) من كلّ عام قبل الاستطاعة ، فيقع التزاحم بين الوجوبين ، «الحج والنذر» ، وحينئذ يبحث في أنّه أيهما يقدّم على الآخر ، «الحج ، أو النذر» ، أو إنه يخيّر بينهما؟.

الذي ينبغي أن يقال ابتداء هو : تقديم وجوب الحج على النذر ، وبيان هذا يكون بعدة تقريبات :

التقريب الأول : هو : أن يقال بتقديم وجوب الحج حيث يقال : بأنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر ، لم يؤخذ في موضوعه القدرة الشرعيّة ، وكذلك دليل وجوب الحج ، لم يؤخذ في موضوعه القدرة الشرعيّة أيضا ، إذن فكلا الدليلين مشروط بالقدرة العقليّة.

وعليه ، فالمرجح فيهما هو ، إمّا الأهميّة ، أو محتمل الأهميّة ، أو ما كانت الأهميّة فيه أكثر احتمالا ، ولا إشكال في وجود الثلاثة في الحج ، إذن فهنا افتراضات ثلاث :

أ ـ الافتراض الأول هو : إنّه لم تؤخذ في موضوع النذر ، القدرة الشرعيّة ، وهو أسوأ تقدير ، فلا يجب إقامة البرهان عليه.

الافتراض الثاني هو : إنّه لم تؤخذ في موضوع دليل وجوب الحج ، القدرة الشرعيّة ، وهذا يجب إقامة البرهان عليه.

وهنا قد يتوهّم بأنّ دليل وجوب الحج أخذ فيه قيد القدرة الشرعيّة ، باعتبار تقييد الخطاب بالاستطاعة ، ومعناه كون القدرة فيه شرعيّة.

وهذا التوهم غير صحيح.

أمّا أولا : فلأنّ القدرة هنا ينبغي أن تحمل على معناها العرفي ،

١٥٠

والمعنى العرفي لها هو القدرة التكوينيّة في مقابل العجز التكويني.

ويلحق بهذا العجز ، ما كان عجزا تكوينيا بالمسامحة ، مثل ما إذا كان من قبيل المشقة عليه ، وأمّا استبطان القدرة هذه لعدم الاشتغال بضد واجب ، فليس هذا مأخوذا في موضوع دليل وجوب الحج.

وقد تقدّم أنّ ما كانت القدرة التكوينيّة دخيلة في ملاكه فقط ، فهو ، كغير المشروط ، لا يؤثّر فيه الاشتغال بضد واجب ، والملاك فيه محفوظ على كل حال.

وثانيا هو : إنّ دعوى أنّ آية الحج أخذ في موضوعها الوجدان وقد فسّر بالقدرة الشرعيّة.

هذه الدعوى ، مرفوضة ، لأنّ الوجدان معناه الوجدان التكويني ، لا عدم الاشتغال بضد واجب ، غايته أنّ العجز التكوينيّ يشمل المشقة ، وهي الفرد الدقّي ، وبهذا عطف المريض عليه ، وهذا فرد من العجز ، إذن فعطف المرض على السفر لا يعني تطعيم القدرة بمعنى شرعي كما ذهب إليه الميرزا قده».

ولو تنزّلنا وقلنا بأنّ هذه القرينة الميرزائيّة لو وجدت لتوسّع مفهوم القدرة ، فمثل هذه القرينة غير موجودة في آية الحج ، إذ مقتضى حمل اللفظ على معناه الظاهر منه عرفا ، هو أن تكون القدرة تكوينيّة بمعناها العرفي.

ج ـ الافتراض الثالث هو : أن يقال : بأنّ الاستطاعة فسّرت في الروايات بالزاد والراحلة ، فلو فرض طلب هذه القدرة ، فإنّه حينئذ لا بدّ من تقييدها بحدود هذا المقدار ، وعليه ، فلا نستفيد كون القدرة المأخوذة في الآية دخيلة في الملاك.

وحينئذ بعد أن ثبت ذلك يقال : بأنّ المتعيّن هو تقديم دليل وجوب الحج على دليل الوفاء بالنذر ، لأنّ دليل وجوب الحج إن لم يكن معلوم الأهميّة فهو محتملها بحسب الروايات الواردة في الحج وإنّه من أهم

١٥١

الواجبات ، وإنّه من جملة ما بني عليه الإسلام ، فهذه إن لم تكن قرينة قطعيّة على أهميّة الحج ، فلا أقل من كونها محتملة القرينيّة ، وبهذا يكون محتمل الأهميّة فيقدّم على النذر.

وإن شئت قلت في هذا التنبيه : إنه نسب إلى المحقق الثاني «قده» (١) القول بعدم جريان التزاحم ، فيما إذا وقع بين واجب موسع وواجب مضيّق ، كما في نذر زيارة الحسين (ع) في (يوم عرفة) من كل عام ، وذلك لإمكان الأمر بالواجب الموسّع المزاحم مع الواجب المضيّق في عرض واحد ، ومن دون حاجة إلى تقييد أحدهما بعدم الإتيان بالآخر ، ذلك لأنّ الواجب الموسّع يرجع إلى إيجاب الجامع بين الأفراد الطوليّة.

وعليه ، يكون الإتيان بهذا الجامع مع الواجب المضيّق مقدورا ، فلا يلزم من الأمر بهما في عرض واحد المحال.

وعليه ، فلا حاجة للأمر بهما على نحو الترتّب كي نجري التزاحم.

وقد منع من ذلك المحقق النائيني «قده» (٢) ، بدعوى ، أنّ ما قاله المحقق الثاني «قده» مبتنيا على كون القدرة شرطا في التكليف بحكم العقل ، لكونه يقبّح تكليف العاجز ، بينما الخطاب بنفسه يخص متعلقه بالحصة المقدورة لأنّ مفاد الخطاب هو البعث والتحريك ، وهو غير معقول نحو غير المقدور ، حتى لو أنكرنا التحسين والتقبيح العقليّين ، وكان الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي ، وحينئذ ، لا بدّ من كون متعلّق الأمر مقيدا بالحصة المقدورة عقلا وشرعا من أفراده.

ومعنى هذا إنّه لا إطلاق في الواجب الموسّع للفرد المزاحم ، لعدم القدرة عليه شرعا ، وهو معنى عدم إمكان الأمر به في عرض الأمر بالمضيّق.

__________________

(١) جامع المقاصد ـ الكركي : ج ٥ ص ١٣ ـ ١٤.

(٢) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

١٥٢

نعم يمكن الأمر به بنحو الترتّب.

واعترض السيد الخوئي «قده» (١) على المحقق النائيني «قده» بما حاصله : هو إنّ ما هو المشهور من كون الإنشاء إيجادا للمعنى باللفظ ، مشهور لا أساس له أصلا ، وإنّما حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمة المكلّف ، وإبرازه بمبرز «ما» ، ولا نتعقّل معنى سوى ذلك للتكليف والإنشاء ، وحينئذ نقول : إنّ اعتبار المولى الفعل على عهدة المكلّف ، لا يقتضي الاختصاص بالحصة المقدورة ، ولا نفس التكليف يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه ، وإنّما العقل يعتبرها شرطا في لزوم الامتثال والإطاعة.

ولكن اعتراض السيد الخوئي «قده» غير تام ، وذلك لأنّ المدّعى فيما أفاده الميرزا قده» ، ليس هو أخذ عنوان الباعثيّة والتحريك في المدلول التصوري لصيغة الأمر ، كي يربط بينه وبين ما هو الصحيح في تشخيص معنى صيغة الأمر ، أو الصياغة العقلائيّة للأحكام.

وإنّما المدّعى هو إنّ الخطاب المشتمل على التكليف ، مهما كان مدلوله اللفظي التصوري ، فإنّه يكشف كشفا تصديقيا عن أنّ داعي المولى من وراء خطابه إنّما هو بعث المكلّف ، وتحريكه نحو الفعل ، إذ مثل هذا الظهور التصديقي في أدلّة الأحكام ، لا ينبغي التردّد فيه ، وليس المراد من الخطاب التكليفي مجرد إخطار معناه على ذهن المكلف ، إذ لا يكون المراد منه حينئذ إلّا لقلقة اللسان والاعتبار.

ولأجل كون المدّعى عند الميرزا «قده» هكذا ، فلا يعقل حينئذ أن يتعلّق الخطاب بغير المقدور.

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٦٦ ـ ٦٨ بتصرف ـ أجود التقريرات : ج ٢ هامش صفحة ٣٦٨.

١٥٣

والصحيح في الجواب هو أن يقال : إنّ داعي الباعثيّة والتحريك ، لا يتطلّب أكثر من كون متعلق الخطاب مقدورا ، والحال إنّ متعلّق الواجب الموسّع مقدور ، لأنّ متعلقه هو الجامع بين الأفراد المقدورة وغير المقدورة.

وعليه ، يكون هذا الجامع مقدورا ، لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ، وليس متعلّق الواجب الموسّع هو كل فرد فرد.

وعلى هذا الأساس لا موجب لتقييد الواجب بالفرد غير المقدور ، بل يبقى المتعلّق هو الطبيعة الكليّة ، ويمكن للمكلّف تحقيق هذا الواجب في ضمن أيّ فرد ، ويكون تحقيقه هذا امتثالا للتكليف.

نعم لو رجع التخيير العقلي في الواجب الموسّع إلى التخيير الشرعي ، حيث يكون متعلّق الأمر هو كل فرد مشروطا بترك الأفراد الأخرى ، حينئذ لا يكون الخطاب شاملا للفرد غير المقدور ـ كما في الفرد المزاحم ـ إلّا بنحو الترتّب.

وقد تقدّم في محلّه عدم رجوع التخيير العقلي إلى الشرعي ، بل قد عرفت أنّ العكس هو الصحيح.

٢ ـ التقريب الثاني : هو أن نتحفظ فيه على ما افترضناه في دليل الحج من أنّ القدرة الشرعيّة غير مأخوذة فيه ، لكن لا نتحفظ على ما أخذ في دليل وجوب الوفاء بالنذر من كونه مقيدا بالقدرة الشرعيّة ، لأنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر قد قيّد بأن يكون غير مناف مع شرط الله تعالى لما دلّ على أنّ «شرط الله قبل شرطك» (١) ، وهذا يقتضي أن تكون الوجوبات الناشئة من قبل غير منافية لشرط الله تعالى.

وهذا واضح في أخذ القدرة الشرعيّة في دليل الوفاء بالنذر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ الحر العاملي : ج ١٧ ب ٢٢ ص ٤٠٩.

١٥٤

بينما دليل وجوب الحج لم يؤخذ فيه شيء من هذا.

وعليه ، فنطبق المرجّح الآخر للتزاحم ، فنقدم ما كان مشروطا بالقدرة العقلية ، على ما هو مشروط بالقدرة الشرعيّة.

٣ ـ التقريب الثالث : هو أن نتنزّل في دليل وجوب الحج ، ونفترض أنّ القدرة المأخوذة فيه ، قد طعّمت بالمعنى الشرعي.

وهنا أيضا يقدم دليل وجوب الحج على دليل وجوب النذر ، لأنّه على هذا ، وإن أصبح كل من الخطابين مشروطا بالقدرة الشرعيّة.

أمّا دليل وجوب الوفاء بالنذر ، فلما تقدّم.

وأمّا دليل وجوب الحج ، فهو مشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الأول ، وهو كون الملاك ، عدم الاشتغال بضد واجب ، بينما دليل وجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني ، وهو كون الملاك متوقفا على عدم وجود أمر بالخلاف ، سواء اشتغل بضد واجب آخر ، أو لم يشتغل.

وقد برهنّا سابقا على أنّ المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الأول ، يقدّم على المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني.

٤ ـ التقريب الرابع : هو أن نتنزل ونفترض أنّ القدرة المأخوذة في دليل وجوب الحج ، لها سنخ معنى حيث ينتفي بوجود المانع الشرعي ، ولو مع عدم الاشتغال بضد واجب ، بدعوى أنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا ، وعليه ، يصبح دليل وجوب الحج أيضا مشروطا بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثاني ، لأنّ مرجعه أنّ الملاك في دليل الحج متوقف على عدم المانع ، فيصبح كلا الدليلين مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني.

ومع هذا نقدم دليل وجوب الحج على دليل وجوب الوفاء بالنذر ، إذ قد برهنّا هناك على أنّه كلما وجد خطابان مشروطان بالقدرة الشرعيّة بالمعنى

١٥٥

الثاني ، وكان أحدهما مشروطا بأن لا يوجد مانع بقطع النظر عن الخطاب الآخر ، وكان الخطاب الثاني مشروطا بعدم المانع الشرعي بالفعل ، فإنّه حينئذ يقدّم الخطاب الثاني على الخطاب الأول.

وهنا خطاب الوفاء بالنذر ، مشروط بعدم المانع الشرعي ، بقطع النظر عن خطاب الحج ، فإنّ خطاب الوفاء بالنذر مسبوق في المرتبة السابقة بشرط الله تعالى ، فإنّ ما كان شرطا للإنسان ومخالفا لشرط الله ، وهو مخالفة كتابه ، حينئذ يلغى شرط الإنسان.

وهذا معناه ، إنّ خطاب وجوب الوفاء بالنذر أخذ في موضوعه عدم المانع في نفسه ، وإلّا فإن لم يوجد مانع فلا بأس.

أمّا دليل وجوب الحج حتى بعد التنزل ، وتطعيم القدرة فيه بالمعنى الشرعي للقدرة ، فإنّه مع هذا ، ليس المقصود بالمانع في دليل وجوب الحج المعنى اللّولائي ، كما هو مقصود في دليل وجوب الوفاء بالنذر.

فدليل وجوب الوفاء بالنذر بقطع النظر عنه ، هو مشروط بعدم المانع في نفسه ، ولكنّ دليل وجوب الحج إذا قيّد فهو مقيّد بعدم المانع العقلي.

وعليه ، فيقدّم دليل وجوب الحج على دليل وجوب النذر ، أو العهد ، إذا تزاحما.

ثم إنّه بقطع النظر عمّا تقدم من وجوه ، فقد ذكر وجهان آخران لتقديم دليل وجوب الحج على دليل وجوب النذر ، وكذلك فقد ذكرت وجوه لتقديم دليل وجوب النذر على دليل وجوب الحج نستعرضها تباعا.

ونستعرض أولا الوجهين اللذين ذكرا لتقديم دليل وجوب الحج على دليل وجوب الوفاء بالنذر :

١ ـ الوجه الأول : هو إنّه لم يؤخذ في موضوع دليل وجوب الحج ، القدرة الشرعية ، بينما أخذ في موضوع دليل وجوب الوفاء بالنذر القدرة

١٥٦

الشرعيّة ، وحينئذ ، إذا تزاحما ، يقدّم ما لم يؤخذ في موضوعه القدرة الشرعيّة على ما أخذ في موضوعه القدرة الشرعيّة ، لأنّ الأول ، وهو الحج مطلق ومنجز فعلي ، والثاني ، وهو النذر ، مشروط ، ويحتمل أن تذهب المزاحمة بالشرط ولا نتمكن من تحصيله.

وأمّا أنّ دليل الحج لم يؤخذ في موضوعه القدرة الشرعيّة ، فلما تقدّم في التقريب الأول.

وأمّا أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر ، أخذ في موضوعه القدرة الشرعيّة ، فيكفي ما ذكرناه فيما تقدّم.

وتوضيحه ، هو : انّ وجوب الوفاء بالنذر ، موضوعه النذر ، وهو الالتزام ، أي التزام الشخص بالإتيان بعمل معيّن ، والتزام الشخص بعمل لا يعقل أن يتعلّق إلّا بالمقدور ، إذ إنّ العاقل لا يلتزم بما لا يدخل تحت قدرته ، فالالتزام النذري بحسب طبعه يستدعي أخذ القدرة فيه بحسب جعل الناذر ، وذلك لاستحالة أن يلتزم بالعمل على أيّ حال حتى لو كان ميّتا ، أو مشلولا.

إذن فالالتزام هو موضوع دليل وجوب الوفاء بالنذر ، والقدرة مأخوذة فيه ، فمع العجز ، لا نذر ، ولا عهد. إذن فلا يتصوّر كون الملاك فيه مطلقا حتى لحال العجز ، فالمصلحة في الوفاء ، والمفسدة في الحنث ، متقوّمة بالقدرة ، وهذا معناه ، أنّ القدرة شرعيّة ، وبهذا يتمّ تقديم دليل وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.

وهذا الكلام لا يخلو من خدشة ، وذلك لأنّ الأمر وإن كان كما أفيد من حيث أنّ الناذر لا يلتزم إلّا بالمقدور وتكون حينئذ القدرة دخيلة في ملاك وجوب الوفاء بالنذر على أساس أنّه في حال العجز ، لا ملاك لوجوب وفاء الناذر.

لكن هنا نسأل : أيّ قدرة هذه التي تكون دخيلة في ملاك وجوب الوفاء بالنذر؟.

١٥٧

أهي القدرة التي لا بدّ وأن تؤخذ في موضوع التزامه ، وهي القدرة التكوينية في مقابل العجز التكويني؟.

إن كانت هذه هي القدرة ، فهذا يبرهن على أنّ القدرة التكوينيّة تكون مأخوذة في موضوع النذر ، وبالتالي في الوجوب الشرعي.

أم هي القدرة بمعنى أوسع حيث يشمل القدرة الشرعية ، وعدم الاشتغال بضد واجب آخر؟.

إن كانت هذه هي القدرة الدخيلة في ملاك وجوب الوفاء بالنذر ، فهي ممّا لا برهان على لزوم أخذها في موضوع النذر ، لأنّه يعقل أن يلتزم الناذر بالفعل على كل حال ، حتى لو كان مشغولا بواجب آخر ، بحيث أنّ هذا الالتزام يصرفه عن الواجب إلى الفعل هذا.

ومثل هذا معقول من الناذر ، ولو لكي يتخلّص من الأضداد على أمل أن يمضي الشارع له هذا.

إذن فلا برهان من ناحية هذا البيان ، على أنّ القدرة بمعنى الاشتغال بواجب تكون ثابته أو داخلة ، بل لا يبرهن على أكثر من دخل القدرة التكوينية في وجوب الوفاء.

وقد تقدّم وقلنا في بحث المرجّحات : إنّ المغلوب هو الواجب الذي يثبت أنّ القدرة فيه ـ بمعنى عدم الاشتغال بضد واجب ـ دخيلة في ملاكه ، لا القدرة التكوينيّة.

أما إذا ثبت أنّ القدرة التكوينيّة دخيلة في ملاكه ، فلا يكون حينئذ مغلوبا ومرجوحا.

وعليه ، إذن فهذا التقريب غير صحيح.

الوجه الثاني : وهو مبني على التنزّل بشكل جديد ، وذلك بأن نفترض أنّ كلا الدليلين ، دليل وجوب الحج ، ودليل وجوب الوفاء بالنّذر ، مشروط

١٥٨

بالقدرة الشرعيّة ، بنحو واحد ، بحيث لا يكون ميز لأحدهما على الآخر ، ومع ذلك ، يقدّم دليل وجوب الحج باعتباره الأسبق زمانا.

وقد تقدم بأنّ أحد المرجّحات للمشروطين بالقدرة الشرعيّة هو الأسبقيّة الزمانية ، أي كون أحدهما أسبق زمانا.

وتوضيحه ، هو : إنّنا نبني على امتناع الواجب المعلّق ، ونقول : إنّ وجوب زيارة الحسين (ع) يوم عرفة لا يكون إلّا في يوم عرفة ، لا من حين انعقاد النذر وإنشائه ، أو تحقق الشرط ، كي لا يلزم من ذلك الواجب المعلّق وإنما يصبح فعليا حين أداء الفعل المنذور.

وأمّا وجوب الحج ، فلا إشكال في فعليّة وجوب الخروج إليه وتهيئة الزاد والراحلة قبل مجيء (ذي الحجة) ، وبذلك يكون وجوب الحج أسبق زمانا.

وهذا الكلام غير صحيح ، لأنّ وجوب الخروج ، إن أريد به وجوب غيري مولوي ، باعتباره مقدمة للواجب ، فهذا معناه ، الالتزام بوجوب الحج من أول الأمر ، ومعنى هذا هو الالتزام بالواجب المعلّق ، وهو خلف ، إذ قد فرض امتناعه.

وإن فرض أنّ وجوب الخروج من باب المقدمات المفوّتة عقلا ، بحيث أنّ تفويتها يضيّع الواجب في حينه ، فهذا معناه ، أنّ ملاك الحج ليس مشروطا بالقدرة ، إذ لو كان مشروطا بالقدرة لانتفى الملاك ، إذن ، بضياع المقدمات ، لا إنّه يضيّع.

ويلزم من هذا ، أن تكون القدرة عقليّة لا شرعية ، وأمّا إذا كانت شرعية ، كما هو المفروض ، فلا تجب مقدماته المفوتة قبل الوقت ، كما حقق في محلّه.

وإن شئت قلت : إن فرض كون القدرة في الواجبين عقليّة ، فقد عرفت عدم الترجيح فيهما بالأسبقيّة الزمانيّة.

١٥٩

وإن فرض كون القدرة شرعيّة :

فإن أريد من تقدم الحج زمانا تقدّم الوجوب الغيري المقدمي ، فهذا يستلزم تقدم الوجوب النفسي للحج أيضا ، وهذا خلف الالتزام باستحالة الواجب المعلّق ، كما فرض في هذا الوجه.

وإن أريد به تقدم وجوب الخروج للحج الثابت بحكم العقل ، من باب وجوب المقدمات المفوتة قبل وقت الواجب ، فهذا لا يصح إلّا في واجب يكون ملاكه فعليا في الوقت ، وهو متوقف على أن تكون القدرة فيه عقليّة ، وأمّا إذا كانت القدرة فيه شرعيّة ، كما هو المفروض ، فلا تجب مقدماته المفوتة قبل الوقت ، كما عرفت في محلّه.

قد يقال : إنّ شرط فعليّة الملاك هو ثبوت القدرة على الواجب ، ولو قبل الوقت ، وذلك بالقدرة على مقدماته المفوتة.

فيقال : إنّه لو استظهر ذلك من دليل شرطيّة القدرة ، فإنّه يبطل الترجيح بالأسبقيّة ، لأنّ المتأخر زمانا ، سوف يكون ملاكه فعليّا ، ويكون الاشتغال بالمتقدم تفويتا له ، لا رافعا لموضوعه ، كما عرفت.

هذا ، وقد عرفت في بحث الترجيح بالأسبقيّة الزمانية ، أنّ الراجح هذا يحتاج إلى استظهار تقييد زائد في دليل الخطاب ، حيث لا يمكن تخريجه على القاعدة.

ثم إنّنا نستعرض ثانيا وجهين آخرين لترجيح دليل وجوب الوفاء بالنذر على دليل وجوب الحج :

١ ـ الوجه الأول : هو إنّ دليل وجوب الحج ، قد أخذ في موضوعه قيد القدرة الشرعيّة باعتبار قيد الاستطاعة ، ولم يؤخذ مثله في دليل وجوب الوفاء بالنذر.

وعليه ، تكون القدرة في الحج دخيلة في ملاكه ، بينما في النذر تكون دخيلة في خطابه فقط ، وبهذا يقدّم النذر عند التزاحم على الحج.

١٦٠