بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

ولو كانت في أحدهما عقليّة ، وفي الآخر شرعيّة ، فقد عرفت سابقا أيضا عدم إمكان الترتّب عنده في المشروط بالقدرة الشرعيّة حيث لا يوجد إلّا تكليف مطلق بالمشروط بالقدرة العقليّة فقط.

وقد أفاد في منع الترتّب في ذلك ، إنّ الأمر بالمتقدّم على نحو الترتب ، إنّما يتصوّر على وجوه أربعة ، وكلها باطلة :

١ ـ الوجه الأول هو : أن يكون مشروطا بعدم الإتيان بالخطاب المتأخر.

وهذا مستحيل ، لأنّه يلزم من ذلك الشرط المتأخر ، وهو غير معقول عنده.

هذا مضافا إلى كون هذا التقييد غير كاف لدفع المنافاة بينه وبين خطاب وجوب حفظ القدرة المتولد بلحاظ الواجب المتأخر الأهم.

٢ ـ الوجه الثاني هو : أن يكون مشروطا بعدم تعقّب امتثال الأهم ، والتعقب شرط مقارن عند الميرزا «قده» ، وبه حاول تصحيح ما ثبت في الفقه ، ممّا ظاهره الإناطة بالشرط المتأخر ، وهو مستحيل عنده أيضا ، لأنّه لا يدفع المحذور الثاني في الوجه الأول.

هذا مع العلم أنّ التقييد بمثل هذا القيد بحاجة إلى دليل ، ولا دليل عليه إثباتا.

٣ ـ الوجه الثالث هو : أن يكون مشروطا بعصيان خطاب وجوب حفظ القدرة ، وهو شرط مقارن.

وهذا مستحيل عنده أيضا ، لأنّ عصيان وجوب حفظ القدرة ، إمّا أن يكون بنفس الواجب المتقدم ، أو بفعل آخر مضاد لهما ـ لو فرض وجوده ـ

والتقييد بكليهما غير معقول ، إذ يلزم على الأوّل طلب الحاصل ، وعلى الثاني طلب الضدّين.

١٢١

٤ ـ الوجه الرابع هو : أن يكون مشروطا بالعزم على عصيان الواجب المتأخر الذي يكون شرطا مقارنا.

وهذا أيضا غير معقول عند الميرزا «قده» ، باعتبار ما تقدم من عدم إمكان الأمر الترتّبي مشروطا بالعزم على العصيان (١).

والتحقيق هو : إنّ ما أفاده الميرزا «قده» في إبطال الوجوه المتقدمة غير تام.

وجواب ما أورده في إبطال الوجه الأول من استحالة الشرط المتأخر ، هو : إنّه لا استحالة فيه على ما حقّقناه في محله ، وبنينا على إمكانه ، إذ لا محذور في أخذ العصيان المتأخر شرطا بعد إمكانه ، خصوصا في مثل هذا الشرط.

وتوضيحه هو : إنّ الشرط المأخوذ في الوجوب ، تارة يكون دخيلا في تماميّة الملاك ، وأخرى ، يكون دخيلا في تصحيح الخطاب ، والقدرة تكون من القسم الثاني في المشروط بالقدرة العقلية ، لأنّ القدرة تؤخذ لتصحيح الخطاب دون الملاك ، وأمّا الملاك ، فإنّه تام على القادر والعاجز.

وحينئذ ، القيد المأخوذ للوجوب ، إن كان لأجل تتميم الملاك ، فقد يستشكل في الشرط المتأخر ، بدعوى أنّ المتأخر ، مع تأخره كيف يؤثر في تتميم الملاك باعتبار أنّه أمر تكويني ، فيلزم منه تأثير المتأخر في المتقدم ، وأمّا إذا كان المتأخر قيدا في الوجوب ، لأجل تصحيح الخطاب ، فلا يأتي فيه تأثير المتأخر في التقدم ، حيث يقال للميرزا «قده» بالفم الملآن : إنّ الشرط المتأخر معقول.

ونحن لو بنينا على عدم معقوليته ، فإنما نبني على هذا عند ما يكون دخيلا في تتميم الملاك ، إذ حينذاك يلزم منه تأثير المتأخر في المتقدم.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ـ ص ٣١٨ ـ ٣١٩.

١٢٢

وإن شئت قلت : إنّه لا استحالة في أخذ الشرط المتأخر على ما حقّقناه في محله ، خصوصا في أمثال المقام الذي يكون فيه الشرط المتأخر شرطا في الوجوب ، لأجل تصحيح الخطاب ، أي : إنّه شرط في الخطاب فقط ، مع فعليّة الملاك ، إذ المفروض كون القدرة في الواجبين عقليّة ، وليس شرطا في الاتصاف كي يتخيّل استلزامه تأثير المتأخر في أمر تكوينيّ متقدم.

وجواب ما أبطل به الوجه الأول ثانية بدعوى بقاء المضادة بين الأمر الترتّبي ، وبين خطاب وجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر :

فإنّ جوابه أولا : إنّ هذه الدعوى مبنيّة على كون وجوب حفظ القدرة خطابا شرعيا ، لا مجرد حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الواجب الأهم بتفويت القدرة عليه كما حقق في المقدمات المفوتة ، إذ على هذا لا يكون هناك إلّا حكم العقل بلزوم إطاعة التكليف الأهم.

ومن الواضح أنّ هذا ليس حكما آخر وراء التكليف الأهم ، كي تكون له محركيّة زائدة على محركيّة ذلك التكليف ، والحال إنّه قد فرض الفراغ عن عدم المنافاة بين محركيّة الخطاب الأهم المطلق مع محركيّة الأمر الترتّبي ، كما عرفت في مبحث الضد.

وجوابه ثانيا هو : إنّه لو فرضنا كون وجوب حفظ القدرة خطابا شرعيا أيضا ، وليس حكما عقليا بلزوم الطاعة ، فإنّه مع هذا ، لا ريب في أنه حكم طريقيّ محض ، للحفاظ على الواجب الأهم.

إذن ليس لوجوب حفظ القدرة على هذا الأساس محركيّة ، كي تكون منافية مع محركيّة الأمر الترتّبي بالضد.

وكان الوجه الثاني الذي طرحه الميرزا «قده» (١) ، هو أن يكون الشرط هو عنوان التعقّب كما تقدم ، وقد أشكل عليه الميرزا «قده» بوجهين :

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ١

١٢٣

١ ـ الوجه الأول هو : الوجه الثاني من الوجهين المتقدمين إشكالا على الأول ، وهو بقاء محذور المطاردة بين الأمر الترتّبي ، ووجوب حفظ القدرة.

وقد أجبنا عليه بما ذكرناه سابقا من حل مشكلة التصادم بين الخطابين.

٢ ـ الوجه الثاني هو : أنّ شرطيّة التعقب ، تحتاج إلى دليل خاص على وجود الحكم ، كي نلتزم بشرطية التعقب.

وأجبنا عن هذا : بأنّه غير تام ، لأنّ شرطية التعقب ليس معناها في مثل هذا المقام إلّا التبعيض في رفع اليد عن وجوب صلاة يوم السبت ، أي : في رفع اليد عن الإطلاق في «صلّ يوم السبت» ، فالدليل الإثباتي دال على وجوب مطلق سار في كل حال يوجب صلاة يوم السبت فنرفع اليد عنه بأقل مقدار ممكن ، والمقدار هذا ، هو ما يتعقّبه من صلاة يوم الأحد.

إذن فاشتراط التعقّب هنا ، نتيجة الجمع بين عاملين ، هما : الإطلاق في «صلّ يوم السبت» وبين أن لا يجوز رفع اليد إلّا عمّا يقتضيه الجمع بين الوجوبين.

إذن فالوجه الثاني الذي أبطله الميرزا «قده» ، معقول وغير باطل.

وبتعبير آخر يقال : إنّه يرد على ما أبطل به الميرزا «قده». الوجه الثاني من بقاء محذور الثاني ، وهو المطاردة بين الأمر الترتّبي ووجوب حفظ القدرة ما تقدم.

وأجيب على ما أبطل به الميرزا «قده» ثانيا هذا الوجه الثاني من عدم الدليل على شرطية التعقّب إثباتا ، بما مجمله : إنّ الدليل موجود ، وهو إطلاق الأمر بالواجب المتقدم الشامل لحالة تعقبه بعصيان الواجب المتأخر ، حيث لا وجه لرفع اليد عن هذا الإطلاق ، كما عرفت ، وبهذا يثبت الأمر الترتّبي المشروط بتعقّب عصيان الأهم.

١٢٤

وكان الوجه الثالث الذي أبطله الميرزا «قده» هو : شرطيّة عصيان خطاب «حفظ القدرة» ، بدعوى أنّ هذا لا يعقل أن يكون شرطا ، لأنّه إمّا أن يصلي يوم السبت ، وإمّا أن يجلس بلا عمل ، وإن فرض أنّ المكلّف أتلف قدرته حيث صلّى يوم السبت ، فلا معنى حينئذ ليقال له «صلّ» ، وإن أتلف قدرته بالراحة يوم السبت ، فلا معنى ليقال له «صلّ يوم السبت» ، لأنّه من باب الجمع بين الضدّين وهو غير معقول.

وجواب ما أبطل به هذا الوجه هو أن يقال أولا : إنّ خطاب «حفظ القدرة» يكون عصيانه بأمر عدمي ، وهو عدم حفظ القدرة ، وهذا يلازم الفعل الوجودي ، وهو الصلاة أو التمشي ، وليس هو عين الصلاة يوم السبت ، أو عين التمشي.

وثانيا : لو سلّمنا أنّ عصيان خطاب «احفظ القدرة» يكون بنفس «صلاة يوم السبت ، أو التمشي» ، فمع ذلك لا بأس بأخذ عصيان خطاب «احفظ القدرة». في موضوع «صلّ يوم السبت».

والنكتة في ذلك هي إنّ القيد ليس هو الصلاة بما هي صلاة ، ولا التمشي بما هو تمشي ، بل هو الجامع بينهما الذي ينطبق على الصلاة حينا ، وعلى التمشي حينا آخر.

ومن الواضح أن التقييد لا يسري من الجامع إلى الفرد كي يلزم منه ما قاله الميرزا «قده» ، فلو قال المولى : «إذا جاءك عالم ، فصلّ ركعتين» ، فالقيد هو جامع العالم المأخوذ بنحو صرف الوجود.

نعم لو كان الجامع مأخوذا بنحو مطلق الوجود ، أي : كانت القضيّة انحلاليّة بعدد أفراد الجامع ، حينئذ يسري التقييد إلى كل فرد من أفراد الجامع.

ومحلّ الكلام من أخذ الجامع ، هو ما كان بنحو صرف الوجود ،

١٢٥

وعليه فلا يلزم ، لا محذور تحصيل الحاصل ، ولا محذور طلب الجمع بين الضدّين ، وعليه ، فالترتّب معقول في هذا الوجه.

وبتعبير آخر يقال : إنّ الجواب على ما أبطل به الوجه الثالث أمران :

أ ـ الأول هو : إنّ حفظ القدرة أمر وجودي ، فيكون عصيانه بأمر عدمي ، هو عدم حفظ القدرة ، وهو ملازم مع الواجب المتقدم ملازمة عدم الضد لضدّه ، فيكون التقييد به كالتقييد في سائر موارد الترتّب ، حيث يكون الشرط في الأمر الترتّبي هو ترك الضدّ الآخر.

ب ـ الثاني : إنّ عصيان خطاب «احفظ القدرة» ، ولو فرض أنّه يكون بنفس الواجب المتقدم ـ «صلاة يوم السبت ، أو التمشي» ـ فمع ذلك لا محذور من تقييد الأمر به ، لأنّ القيد هو جامع عدم الحفظ ، الأعم من الإتيان بالواجب المتقدم ، أو بضد آخر ، ولأنّ هذا القيد مأخوذ بنحو صرف الوجود.

ومن الواضح أنّ التقييد بالجامع المأخوذ بنحو صرف الوجود ، لا يسري إلى الأفراد كي يلزم المحذوران ، تحصيل الحاصل وطلب الجمع بين الضدّين ، بل يبقى على الجامع بحده.

ومعه لا يكون الأمر بأحد فرديّ ذلك الجامع ، مشروطا بتحقق ذلك الجامع من طلب الحاصل ، أو طلب الضدّين.

نعم قد يحصل ما يمنع عن الترتّب ، وهو فيما إذا فرض كون الجامع محرّما ، وقيل : إنّه عين الواجب المتقدم ، أو معلول له ، فإنّه حينئذ تسري الحرمة الغيريّة إليه ، وبهذا يلزم محذور طلب الجمع بين الضدّين.

إلّا أنّ هذا خارج عن محل الكلام.

وكان الوجه الرابع يقول : بأنّ الشرط هو العزم على العصيان. وقد أشكل عليه الميرزا «قده» إشكالا كبرويّا ، لأنّه في بحث الترتّب بناه على صيغة خاصة ، وعليه ، فلم يقبل فيه الترتّب.

١٢٦

وجوابنا عليه هو : إنّنا أثبتنا في أبحاث الترتّب أنّ الترتّب كما يكون ممكنا ولو بأخذ العصيان شرطا ، كذلك يكون ممكنا ولو بأخذ العزم على العصيان شرطا.

وعليه ، فيمكن الترتّب فيه ولا محذور ، كما يمكن الترتّب في الشقوق الأربعة التي ردّها الميرزا «قده».

وإن شئت قلت : إنّ إبطال الميرزا «قده» للوجه الرابع غير تام لما ذكرناه وأثبتناه في أبحاث الترتّب ، من إمكانية جعل الأمر الترتّبي مشروطا بالعزم على عصيان الأهم.

وبهذا يتضح معقوليّة الترتّب في المقام ، وبه يكون مندرجا في باب التزاحم.

المورد الثالث من الموارد التي استثناها الميرزا «قده» (١) من عدم جريان الترتب فيها ، ومن ثم خروجها عن التزاحم هو : ما لو وقع التزاحم بين واجب ومحرم ، كما لو توقف الواجب على مقدمة محرمة ، كإنقاذ الغريق واجتياز الأرض المغصوبة ، وكان الواجب هو الأهم ملاكا ، فاستشكل الميرزا «قده» على الترتب فيه فيما إذا قدّم وجوب ذي المقدمة بالأهميّة ، فإنّه لا يتعقل ثبوت حرمة الاجتياز ولو بنحو الترتب.

وتوضيحه هو : إنّه تارة نبني على عدم وجوب مقدّمة الواجب.

وأخرى نبني على وجوبها ، غير أنّ الوجوب الغيري يختص ، أو يمكن أن يختص بالحصة الموصلة.

وثالثة نبني على وجوب مطلق المقدمة وعدم إمكان اختصاصه بالموصلة فقط.

__________________

(١) فوائد الأصول ، ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٣٢ ـ ٣٣٣.

١٢٧

فعلى الأول : ليس أمامنا إلّا حكمان : حرمة المقدمة ، ووجوب ذيها ، وفي مثل ذلك فرضنا أنّ ذا المقدمة أهمّ فقدّم ، ومقتضى ذلك ، رفع اليد عن حرمة الحصة الموصلة من المقدمة ، لأنّ الحصة الموصلة توأم مع الاشتغال بواجب أهم ، فلا تكون حراما. وأمّا الحصة غير الموصلة فلا موجب لسقوط الحرمة عنها ، لأنّ التزاحم اندفع بسقوط الحرمة عن الموصلة ، إلّا أنّ هذه الحرمة ليست ترتّبيّة ، بل هي فعلية ، وقيد عدم التوصل قيد في الحرام ، لا في الحرمة ، إذ فرق بين «إذا لم تنفذ الغريق فلا تمش على الأرض» ، فهنا الحرمة مشروطة ، وبين أنّه بالفعل «يحرم عليك المشي الخاص» ، فالحرمة هنا ليست مشروطة ، بل متعلّقها مشروط ، فتتعيّن الصيغة الثانية ، لأنّ مقتضى إطلاق الهيئة في «لا تغصب» ، أنّ الحرمة غير مشروطة ، غاية الأمر أن متعلّقها ليس مطلق الغصب ، بل الغصب الخاص المجرد عن إنقاذ الغريق ، فمقتضى القاعدة الالتزام بحرمة فعليّة مقيّدة.

وعليه ، فلا نصحّح الترتّب لوجود ما هو أحسن منه ، وهو الحرمة الفعليّة المتعلّقة بحرمة خاصة.

والشيء نفسه نقوله على التقدير الثاني وهو : فيما إذا بنينا على الوجوب الغيري ، وكان هو المتعلق بالموصلة ، إذ يمكن ذلك ، وبناء على ذلك ، لا مانع من حرمة الحصة غير الموصلة مطلقا بمقتضى إطلاق الهيئة في دليل «لا تغصب».

حينئذ هنا ، لا نقول بالترتّب ، ووجه الأحسنية في كلا التقديرين وأنّ هذه الحرمة هنا تكون ثابتة على وجه الإطلاق ، ومتعلقة بالحصة غير الموصلة ، وجهه ، هو : إنّه هنا يمكن اجتماع امتثال كلا التكليفين دون تضاد.

وعلى هذا لا يرد إشكال المحقق الخراساني «قده» (١) على الترتب ،

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المشكيني : ج ١ ـ ص ٢١٢ ـ ٢١٣.

١٢٨

من أنّه يؤدي إلى طلب الجمع بين الضدّين ، إذ في محل الكلام لا يوجد تضاد ، وإن وجد في غير المقام ، وعليه ، كان ما قلناه أحسن من الترتّب المتعارف.

وأمّا على التقدير الثالث وهو : ما لو بنينا على الوجوب الغيري ، وبنينا على أنّه لا يمكن اختصاصه بالموصلة ، بل يتعلّق بجامع المقدمة ، حينئذ بناء عليه ، تتصف هذه المقدمة بأنها واجبة بالفعل ، لأنها مقدمة الواجب بالفعل ، فيستحيل اتصافها بالحرمة ، لا بخصوص الحصة غير الموصلة منها ، ولا بصيغة الحرمة الترتّبيّة المشروطة لمطلق المقدمة ، إذ كلاهما غير معقول ، لأنّ الحصة غير الموصلة مصداق للواجب ، فيستحيل أن يكون هذا مصداقا للحرام ، لأنّ التنافي هنا بين الملاكين في موضوع واحد.

ودعوى التوفيق بين الوجوب الغيريّ والحرمة الترتبيّة بأن يقال : بأنّ الوجوب الغيري توأم مع الوجوب النفسي للإنقاذ ، لأنهما مشتقّان من ملاك واحد ، والحرمة الترتّبيّة في طول وجوب الإنقاذ فتتأخر عنه ، فتتأخر عن الوجوب الغيريّ للمقدمة ، إذن فيصطلحان.

هذه الدعوى غير صحيحة ، صغرى وكبرى :

أما صغرى : فلأنّه لو سلّم أنّ الوجوب الغيريّ والنفسيّ في مرتبة واحدة ، وأنّ الحرمة في طول النفسيّ ، فهذا لا يكفي ، لأنّ المتأخر عن أحد المتساويين لا يلزم أن يكون متأخرا بالرتبة عن مساويه.

وأما كبرى : فلأنّه حتى لو سلّمنا ذلك فإنّ التقدّم والتأخر الرتبي ، لا يسوّغ اجتماع الضدّين على أمر واحد ، إذن فهذا لا يفيد في دفع الغائلة المزبورة. إذن على هذا يتعذر الترتّب.

ويمكن التعبير عن المورد الثالث وتحقيق الكلام فيه بتعبير آخر ، فيقال : إنّ المورد الثالث الذي استثناه الميرزا «قده» (١) من الترتّب ومن ثمّ

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

١٢٩

من التزاحم ، هو فيما إذا وقع التزاحم بين الواجب والمحرم ، كما لو توقف الواجب على اجتياز الأرض المغصوبة ، وكان الواجب هو الأهم ملاكا ، فإنه في مثل ذلك لا يعقل جعل الحرمة على المقدمة المحرمة ـ اجتياز الأرض المغصوبة ـ ولو بنحو الترتب.

وتوضيحه هو : إنّه تارة نبني على عدم وجوب مقدمة الواجب ، وأخرى نبني على وجوب الحصة الموصلة من مقدمة الواجب ، أو اختصاص الوجوب بها ، وثالثة ، نبني على وجوب مطلق المقدمة (١) وعدم إمكان اختصاص الوجوب بالموصلة ، وحينئذ ، فإنّه بناء على الأول والثاني يمكن تصور إمكان حرمة المقدمة بنحو الترتّب ، وذلك ، بأن تكون المقدمة محرمة على تقدير عدم الإتيان بالواجب الأهم ، ولكن الصحيح هو حرمة الحصة غير الموصلة من المقدمة مطلقا ، حيث أنّه لا مانع من حرمتها كذلك ، ولا تزاحم بينها وبين فعل الواجب ، بل يمكن امتثالهما معا. ومعه يبقى إطلاق الهيئة في خطاب «لا تغصب» على حاله.

نعم لا يعقل حرمة المقدمة الموصلة ، لأنّ ذلك يستلزم التكليف بغير المقدور بعد فرض إيجاب ذيها ، بل يستلزم محذور اجتماع الحرمة والوجوب في واحد مع كون العنوان واحدا.

هذا لو قيل بوجوبها ، لأنّ الواجب هو واقع المقدمة لا عنوانها.

فلو قيل : بأنّ الأمر دائر بين تقييد مدلول هيئة النهي عن المقدمة بما إذا لم يأت بذي المقدمة الأهم ، أو تقييد المادة بالحصة غير الموصلة منها ، ولا تعيّن لأحدهما أو ترجيحه على الآخر.

فإنه يقال : إنّ إطلاق المادة ساقط على كل حال ، كما عرفت في محله ، من رجوع شرائط الهيئة إليها في مثل المقام ، إذ لا يعقل إطلاق المادة وصدقها في مورد لا يثبت فيه مفاد الهيئة ، فتقيّدها بالحصة غير

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المشكيني ج ١ ص ١٤٨.

١٣٠

الموصلة معلوم على كل حال ، ومعه لا موجب لرفع اليد عن إطلاق الهيئة لإثبات حرمة مطلقة للمقدمة غير الموصلة.

وأمّا بناء على التقدير الثالث : فإنّه لا يعقل جعل الحرمة على المقدمة مطلقا لأنّ جعلها ، ولو مشروطا ، يتنافى مع عدم إمكان تخصيص وجوبها بالموصلة ، إذ حينئذ يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ، ودليل وجوب ذيها ، ويكون هذا من باب التعارض دون التزاحم.

وما يمكن أن يدّعى من أنّ الأمر الغيري بالمقدمة هو في رتبة الأمر النفسي بذي المقدمة ، لأنّ الأمر الغيري بالمقدمة مترشح من الأمر النفسي بذي المقدمة.

أو قل لا أقل أنهما في رتبتين متصلتين لأنّ تحريم المقدمة الترتّبي ، متأخر عن الأمر النفسيّ برتبتين ، لأنّه متأخر عن ترك الواجب النفسي المتأخر عن الأمر به ، وعلى هذا الأساس لا مانع من تعلق التحريم بالمقدمة لعدم اجتماعه مع الوجوب الغيريّ في رتبة واحدة.

وهذا غير تام صغرى وكبرى.

أما صغرى : فلأنّ المتأخر عن أحد المتلازمين أو المتساويين لا يلزم أن يكون متأخرا بالرتبة عن مساويه ، أو ملازمة الآخر ، هذا مضافا إلى المناقشة في أصل تأخر الخطاب الترتّبي بالمهم عن خطاب الأهم ، كما عرفت ذلك في أبحاث الترتّب.

وأمّا كبرى : فلما عرفته سابقا في أبحاث الترتّب من أنّ محذور اجتماع الضدّين في واحد ، لا يرتفع بتعدد الرتبة.

وبهذا يتبيّن أنّه لا يمكن جعل الخطاب الترتّبي التحريميّ على المقدمة المحرمة على التقادير كلها في بحث وجوب المقدمة ، وإنما الممكن ، إمّا خطاب تحريميّ مطلق ، حيث لا تزاحم ولا تعارض ، أو خطاب تحريميّ يتعارض مع الأمر بذي المقدمة ، وقد تقدم القول فيه.

١٣١

المورد الرابع ممّا استثناه الميرزا «قده» (١) من الترتب ومن ثمّ التزاحم ، هو :

فيما إذا كان هناك تلازم بين الواجب والحرام ، كاستقبال القبلة الملازم لشيء آخر حرام.

فإن فرض كونهما متلازمين متساويين فواضح ، لأنّه إذا قدّم أحدهما بأيّ ملاك كان ، يجعل من المتعذّر ثبوت الآخر وامتثاله ، وعليه ، فلا يتصور الترتب.

وبإمكانك أن تهتدي بمثال إثبات وجوب استقبال الجدي بعد أن تعذّر استقبال القبلة الملازم لاستدبار الجدي ، فإنّه يلزم من ذلك طلب الحاصل ، إذ لو كان استقبال القبلة الملازم لاستدبار الجدى ، هو المأمور به الأصلي ، وأريد إثبات وجوب استقبال الجدي بالأمر الترتّبي عند عصيان استقبال القبلة ، فإنه يلزم من ذلك طلب استقبال الجدي بعد فرض حصوله ، إذ لا يصح أن يقال : «إن لم تستقبل القبلة ، فاستقبل الجدي» ، وذلك لأن عدم استقبال القبلة ملازم لاستقبال الجدي خارجا ، فيلزم طلب استقبال الجدي بعد حصوله.

وإن ناقشت بالمثال ، فعليك بمثال الجهر والإخفات الذي تقدم الكلام عنه في رد مقالة كاشف الغطاء «قده» (٢). وأمّا إذا كان أحدهما أعم من الآخر ، فيتصور الترتب وهو في حالة تقديم الأعم على الأخص.

والخلاصة : إنّه من خلال المورد الثالث ، يتضح الحال في جميع موارد التزاحم بين الواجب والحرام ومنها هذا المورد ، فيما إذا كان الواجب أهم ، ولو لم يكن الحرام مقدمة للواجب ، أو بين الحرامين ، فإنّه لا حاجة

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٣٨.

(٢) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

١٣٢

فيها إلى الترتّب ، لأنّه إذا كان عصيان الواجب متلازما مع فعل الحرام دائما ، كما في المثال المزبور ، فحينئذ يكون من اللغو وطلب الحاصل ، جعل الخطاب التحريميّ ، ولو بنحو الترتب ، لأنّ عصيان الواجب هنا مساوق مع فعل الحرام دائما.

وإن كان عصيان الواجب غير مساوق مع امتثال الحرام ، كما لو أمكنه فعل الحرام أيضا ، فإنّه حينئذ لا مانع من جعل التحريم المطلق على الحصة المقيّدة بترك الواجب من ذلك الحرام ، من دون حاجة إلى الترتّب ودفع محذور المطاردة بين التكليفين فيه ، إذ لا مانع من فعليّة مثل هذا الخطاب التحريميّ مع الأمر بالواجب الأهم ، لأنّ المكلف قادر حينئذ على امتثالهما معا من دون أن يلزم من ذلك طلب الجمع بين الضدّين.

نعم إذا كان ترك الاشتغال بالواجب من شرائط حصول الملاك التحريميّ فيه ، أي : كان ترك الاشتغال بالواجب من شرائط الاتصاف بالنسبة للحرام ، حينئذ تكون الحرمة مقيّدة بعدم الاشتغال بالواجب بنحو الترتب ، ولكن هذا خلاف إطلاق الهيئة ، فيكون منفيا به.

وما يدّعى من دوران الأمر بين تقييد المادة ، أو الهيئة ، فقد عرفت جوابه ممّا تقدّم. وهذا بخلاف التزاحم في الواجبات ، إذ إنّ الأمر المطلق بالمهم غير ممكن ، ولو أنّنا قيّدنا الواجب بالحصة الخاصة المقارنة لترك الأهم هناك ، لاستلزم الأمر بالقيد ، وهو ترك الأهم ، وبذلك يكون منافيا للأمر بالأهم.

ومحاولة المحقق العراقي «قده» (١) إرجاع الأمر بالمهم في موارد الترتّب ، إلى حرمة تركه المقرون بترك الأهم ، والذي سمّاه بوجوب سدّ باب عدمه المقرون بعدم الأهم ، عند ما كان يناقش المحقق الخراساني «قده» في

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي : ج ١ ص ٣٤٠ ـ ٣٤١. طبعة جديدة.

١٣٣

الترتّب ، هذه المحاولة ، وإن كانت معقولة ثبوتا ، إلّا أنّها خلاف ظاهر الأوامر إثباتا.

المورد الخامس : من الموارد التي استثناها الميرزا «قده» (١) من باب الترتب ومن ثم الخروج عن باب التزاحم.

هو : مورد اجتماع الأمر والنهي ، فإنه بناء على القول بالامتناع وعدم المندوحة ، يدخل في باب التعارض ويخرج عن التزاحم ، وأمّا إذا قلنا بجواز الاجتماع ، فإنّه يدخل في باب التزاحم ، وحينئذ ، إذا قدّم دليل «لا تغصب». على دليل «صلّ» لكون النهي أهم ملاكا ، فهل يمكن أن يثبت دليل «صلّ» على وجه الترتّب؟ بمعنى أنّه لو غصب ، ودخل الدار ، هل يعقل أن يقول له المولى مثلا : «إذا غصبت ، فصلّ على الأقل» فيثبت الأمر بالصلاة على نحو الترتب ، أم إنّه لا يعقل ذلك؟

ذهب المحقق النائيني «قده» إلى الثاني (٢) ، والصحيح هو الأول.

وتوضيح ذلك هو أن يقال : إنّ جواز الاجتماع له مبنيان :

١ ـ المبنى الأول ، هو : إنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ، فالصلاة والغصب كاشفان عن مصداقين في الخارج ، وأحدهما غير الآخر.

٢ ـ المبنى الثاني ، هو : إنّه بعد الاعتراف بأنّ المصداق الخارجي واحد ، وليس ما بإزاء أحد العنوانين خارجا ، إلّا نفس ما بإزاء الآخر ، لكن مع هذا يقال : لا بأس باجتماع الأمر والنهي ، لأنّ النهي متعلق بالعنوان ، والكثرة في العنوان تكفي لدفع غائلة طلب الحاصل ، أو اجتماع الضدّين.

فإن قلنا بالأول : فيمكن الترتب حينئذ ، فيكون الحال من قبيل التلازم بين الواجب والحرام ، وقد قلنا فيما تقدّم : إنّه يعقل الترتب إذا لم يكونا

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٤١ ـ ٢٧٢.

(٢) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٧٢.

١٣٤

متلازمين متساويين بحيث لا ينفك معصية «الأهم» منهما عن امتثال الآخر «المهم» فإذا فرض خلو معصية أحدهما عن امتثال الآخر «المهم» ، فيعقل الأمر بالصلاة على نحو الترتب.

وأمّا إذا قلنا بالثاني ، لكن من حيث تعدّد العناوين وكثرتها ، وأنّ الأحكام تتعلق بالعناوين فلا بأس بالترتّب ، وإن كان القول بالترتب هنا يتعرض لإشكالين :

١ ـ الإشكال الأول ، هو : إنّ قوله : «إذا غصبت» ينطبق على نفس الصلاة. وعلى فعل آخر كالتحرك ، حينئذ ، يأتي إشكال الميرزا «قده» (١) ، وهو أنّ الغصب المأخوذ شرطا في وجوب الصلاة ، إمّا أن يتحقق بنفس الصلاة ، أو بضدّها.

ومن الواضح هنا ، إنّه لا يعقل تعلّق الأمر بالصلاة المتحقق بالصلاة ، للزوم تحصيل الحاصل ، كما أنّه لا يعقل تعلّق الأمر بضدها للزوم الجمع بين الضدّين ، إذن فلا يمكن الترتب.

وجوابه ما تقدّم ، من أنّ أخذ الجامع قيدا بنحو صرف الوجود ، لا يلزم منه سريان التقييد إلى الفرد الذي ينطبق عليه الجامع ، وكون الجامع ينطبق عليهما ليس معناه أنّ التقييد يسري إلى الفرد ، كي يلزم تحصيل الحاصل ، أو الجمع بين الضدّين ، وإنّما التقييد يقف على صرف الجامع.

٢ ـ الإشكال الثاني : هو إنّ مقتضى الجواب عن الإشكال الأول ، هو إنّ المأخوذ قيدا في موضوع خطاب الصلاة ، هو جامع الغصب بنحو صرف الوجود ، فكأنّ المولى قال : «إذا أوجدت جامع الغصب بين الصلاة والمشي ، فأوجده في ضمن الصلاة».

وهذا غير تام ، وذلك لأنّ هذه الصلاة مكوّنة من جزءين : أحدهما

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٧٢.

١٣٥

جامع الحركة الذي هو الجامع بين الصلاة والتمشّي ، والجزء الآخر : هو خصوصيّة هذه الحركة ، وكونها حركة صلاتية ، وعليه ، فيكون الأمر المتعلّق بالصلاة ، متعلقا بكلا هذين الجزءين ، والمفروض أنّ الجزء الأول منهما ، وهو جامع الحركة ، قد فرض وجوده ، لأنّه أخذ قيدا في موضوع خطاب الصلاة ، كما عرفت ، ومعه لا يعقل تعلق الأمر به لأنّه تحصيل للحاصل.

نعم لو كان الأمر الترتّبي متعلقا بالجزء الثّاني ، وهو خصوصيّة هذه الحركة بما هي حركة صلاتيّة فقط دون الجزء الأول ، حيث يكون المعنى ، أنّه إذا أوجدت الجامع فليكن هذا الجامع متخصصا بالخصوصيّة الصلاتية ، لكان ذلك معقولا ، إلّا أنّ هذا خلاف ظاهر دليل «صلّ» الذي نريد أن نثبت بواسطته الخطاب الترتّبي بالصلاة ، فإنّ ظاهره أنّه متعلق بكلا الجزءين ، وعليه ، فيلزم الإشكال المزبور ، من تحصيل الحاصل ، أو الجمع بين الضدّين.

إلّا أنّ هذا الإشكال غير تام ، وحاصل جوابه هو : إنّ جامع الحركة الذي تعلّق به الأمر الترتّبي ، وإن كان مفروض الحصول ، لكونه مأخوذا في موضوع الأمر الترتّبي ، إلّا أنّ حصوله كان استقلاليا ، والمفروض أنّ الأمر الترتّبي يطلب حصوله ضمنيا لا استقلاليا ، لأنّ الأمر الترتّبي تعلق بالصلاة المؤلفة منه ، ومن جزء آخر ، وما كان حاصلا استقلالا لا مانع من طلب حصوله ضمنا.

وعليه يثبت إمكان الترتّب في هذا المورد.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه بعد تسليم إمكان الترتّب كبرويّا ، فإنّ معقوليته في أيّ مورد تتوقف على شرطين :

١ ـ الشرط الأول : هو أن لا يكون خطاب «المهم» مشروطا بالقدرة الشرعيّة ، بمعنى عدم وجود أمر بالخلاف.

الشرط الثاني : هو أن لا يكون عصيان «الأهم» ملازما لامتثال «المهم»

١٣٦

كما في الضدّين اللّذين لا ثالث لهما ، كما عرفت ذلك مفصلا.

وعليه ، فمتى ما تحقّق هذان الشرطان تمّ الترتّب.

كما أنّه قد ظهر ممّا ذكر أنّه قد يتوفر هذان الشرطان ، ورغم ذلك لا يجري الترتّب ، إلّا أنّ ذلك ليس من جهة استحالة جريانه ، بل لعدم وجود أيّ داع له ، لأنّه يوجد ما هو أحسن منه ، كما عرفت تفصيله سابقا.

والخلاصة ، هي إنّه من مجموع ما تقدم ، اتضح أنّ اللّازم في صحة الترتّب ، ودخول اجتماع الأمر والنهي في باب الترتّب ، ومن ثم في باب التزاحم ، هو أن يتوفر الشرطان المزبوران في أول بحث التزاحم ، وهما :

عدم كون التكليف مقيّدا بالقدرة الشرعية ، بمعنى عدم الأمر بالخلاف.

والشرط الثاني ، هو عدم كون اللّازم من عصيان الخطاب الآخر تحقّق متعلّق التكليف ، كما في الضدّين اللّذين ليس لهما ثالث.

كما أنه اتضح ممّا تقدّم ، أنّ موارد التزاحم بين الواجب والحرام ، أو بين محرّمين ، لا يحتاج فيها للتحفظ على الخطاب التحريمي إلى مبنى إمكان الترتّب ، لأنّ مقتضى القاعدة فيها ، هو ثبوت الحرمة مطلقا مع تقييد الحرام بالحصة الخاصة المقرونة بترك مزاحمه.

التنبيه الثالث من تنبيهات التّزاحم ، هو : في إمكان تصوير التّزاحم وتطبيق أحكامه على الواجبات الضمنية.

بعد أن عرفنا تصويره وتطبيق أحكامه بالنسبة للواجبات الاستقلالية ، «كالصّلاة» ، و «الإزالة» ، فقد يقال : بأنّ التّزاحم يتصوّر في الواجبات الضمنية أيضا ، كما لو كان هناك واجب مركب من عدة أجزاء وكان المكلف قادرا على كل جزء منها وحده ، إلّا أنّه تعذّر عليه الجمع بين جزءين منها ، كما لو عجز عن الجمع بين «القيام والركوع» اللّذين هما واجبان ضمنيّان.

١٣٧

فحينئذ قد يقال بوقوع التزاحم بين هذين الواجبين الضمنيّين. كما ذهب إليه المحقق النائيني «قده» (١) ، حيث أنّه لا يفرق الحال في تطبيق قواعد باب التزاحم بين الواجبات الاستقلاليّة المتزاحمة ، والواجبات الضمنية ، كما لو وقع ذلك بين أجزاء المركب الارتباطي.

إلّا أن السيد الخوئي «قده» (٢) أنكر ذلك ، وجعل مثل هذا التزاحم ، موجبا لدخوله في باب التعارض ، لرجوعه إلى التنافي بحسب عالم الجعل.

ويمكن أن يبرهن على عدم إمكان التزاحم في المقام بأربع صيغ :

١ ـ الصيغة الأولى ، وحاصلها هو : إنّ جعل الوجوب الضمني ليس استقلاليا ، بل هو ضمني في ضمن جعل الأمر بالمركّب من مجموع الأجزاء.

وعليه ، ففي المقام يوجد أمر واحد قد تعلّق بالمركب من مجموع الاجزاء العشرة ، وهو «الصلاة».

وحينئذ نقول : إنّ الصلاة إن كانت مقدورة بجميع أجزائها ، فيؤتى بالجميع ، ولا تزاحم ، وأمّا إذا لم تكن الصلاة مقدورة بجميع أجزائها ، بل طرأ عليها عجز ، سواء أكان هذا العجز عن جميع العشرة ، أو عن جزء معيّن ، أو جزء غير معيّن ، بل مردّد بين أمرين : «كالركوع والقيام» ، ففي جميع هذه الصور يسقط الأمر الأول المتعلق بالصلاة ، لانتفاء القدرة على متعلقه ، وإذا سقط ، فيقع الشك في ثبوت أمر جديد ببقيّة الأجزاء المقدورة ، إن كان هناك أجزاء مقدورة ، وفي مثله تجري البراءة لأنّه شك في أصل التكليف ، فلا تزاحم في المقام.

وأمّا لو فرض أنّا علمنا بأنّ المولى جعل أمرا جديدا بالنسبة لبقية

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٢٩٣.

(٢) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٢٩٤ ـ ٢٩٧ ـ ٢٩٩ ـ ٣٠١.

١٣٨

الأجزاء المقدورة ، ولكن جهلنا كيفيّة جعله ، ووقع الشك في أنّه هل جعل أمرا بتسعة أجزاء ليس فيها ركوع ، أو إنّه جعل أمرا بتسعة أجزاء ليس فيها قيام ، أو جعل أمرا بإحدى التسعتين على نحو التخيير ، فمثل هذه تكون شبهة حكميّة ، فلا بدّ من تطبيق أحكام الشبهة الحكميّة فيها ، وليس هذا من التزاحم.

وعليه ، فالتزاحم غير متصوّر في الواجبين الضمنيين على جميع هذه التقادير المفروضة.

٢ ـ الصيغة الثانية ، هي أن يقال : إنّ هذين الجزءين وهما «القيام والركوع» ، اللّذين عجز المكلف عن الجمع بينهما.

إمّا أن يفرض أنّ كلا منهما له دخل في الملاك الذي من أجله أمر المولى بالصلاة ، وحينئذ فمع تعذّر أحدهما يسقط الأمر بالصلاة لانعدام ملاكه ، لأنّ المفروض أنّه متقوم بكلا هذين الجزءين.

وإمّا أن يفرض أنّ أحد هذين الجزءين المعيّن ، وهو «الركوع» مثلا ، له دخل في الملاك دون القيام ، ففي مثل ذلك يكون عندنا وجوب واحد متعلّق بما يشتمل على الركوع ، وأين هذا من التزاحم.

وإمّا أن يفرض أنّ الدخيل في الملاك هو الجامع بين هذين الجزءين ، ففي مثل ذلك يكون عندنا وجوب واحد متعلّق بالجامع ، وأين هذا من التزاحم أيضا.

وإمّا أن يفرض أنّ كلا الجزءين غير دخيل في الملاك ، ففي مثله يكون وجوب واحد متعلّق بباقي الأجزاء ، وأين هذا من التزاحم أيضا.

وبهذا يثبت عدم إمكان تصوير التزاحم ، بناء على جميع هذه الفروض المتصورة في المقام.

وإن شئت قلت : إنّ الجزءين المتزاحمين إمّا أن يكونا معا مؤثرين في الملاك الذي من أجله أمر المولى بالواجب الارتباطي ، «الصلاة» مطلقا.

١٣٩

وإمّا أن تكون دخالتهما في الملاك مخصوصة في حال القدرة عليهما.

وإمّا أن يكون أحدهما المعيّن مؤثرا مطلقا دون الآخر.

وإمّا أن يكون الجامع بينهما هو المؤثر في الملاك.

ومن الواضح أنّ شيئا من هذه الفروض ليس له علاقة بالتزاحم ، لأنّه بناء على الأول ، يلزم منه سقوط التكليف رأسا ، للعجز عن إمكان تحصيل الملاك منه.

ولو بنينا على الثّاني ، فإنّه يلزم منه ثبوت التكليف بسائر الأجزاء فقط.

وإن بنينا على الثالث ، فإنّه يلزم منه التكليف بسائر الأجزاء إضافة إلى الجزء المؤثر في الملاك.

وإن بنينا على الرابع فإنّه يلزم منه التكليف بسائر الأجزاء مع الجامع بين الجزءين.

٣ ـ الصيغة الثالثة ، هي : أن يقال : بأنّ الوجوب الضمني مجعول بعين جعل الوجوب الاستقلالي ، وحينئذ ، فكل شرط يؤخذ قيدا في الوجوب الضمني ، لا بدّ وأن يكون مأخوذا في الوجوب الاستقلالي.

وعليه ، فلا يعقل أن يكون في المقام وجوبان ضمنيّان متعلّقان بالركوع والقيام ، لأنّ موضوع هذين الوجوبين هو «القادر عقلا وشرعا» لا محالة.

وحينئذ ، فلا بدّ من كون كل من هذين الوجوبين مشروطا بترك الآخر ، لفرض عجز المكلّف عن الجمع بينهما.

وهذا ينتج ، أنّ جعل الأمر الاستقلالي بالصلاة مشروط بترك الاثنين معا ، كما عرفت ، من أنّ كل شرط يؤخذ في الوجوب الضمني ، لا بدّ وأن يكون مأخوذا في الوجوب الاستقلالي ، فإذا أخذ في موضوع كل من هذين الوجوبين الضمنيّين ترك الآخر ، فيكون معنى هذا ، أنّ الأمر بالصلاة المركّبة

١٤٠