بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

والخلاصة ، هي : إنّه في الحالة الثانية ، يفترض أنّ دليل التوقيت ناظر إلى مفاد الدليل الأول ، فيقيّده ، وحينئذ لا يصح التمسك بالدليل الأول كي نثبت به أصل الوجوب في خارج الوقت ، ولو بمرتبة أخرى ، بناء على معقولية تصوير المراتب في الوجوب بلحاظ المعتبر ، رغم كونه غير معقول بلحاظ الاعتبار ، كما تقدم ، لأنّ مفاد الخطاب ليس إلّا جعل وجوب واحد ، وهذا لا يثبت إطلاقا كي نثبته ، أو نعمّمه لتمام مراتب الوجوب ، كي يقال : بأنّه يبقى الإطلاق ثابتا ولو لبعضها.

ومن أجل هذا لا يستظهر من دليل الإيجاب لو خلّي ونفسه ، أنّه واجب بالمرتبة العالية ، وإنّما المستظهر منه بلحاظ مدلوله التّصديقي ، وجوب واحد للفعل ، دون أن يثبت إن له مراتب ، بل الذي يثبت له ، هو : إنّ الوجوب الواحد لا يختص بزمان دون زمان ، ولا بحصة دون حصة ، فالقول إنّ التقييد يثبت بلحاظ بعض المراتب دون بعض ، لا معنى له ، لأنّ إثبات الإطلاق بلحاظ بعض المراتب ، فرع ثبوت مراتب متعدّدة.

هذا والمفروض أنّ دليل التوقيت ناظر ومقيّد لمدلول الدليل الأول الواحد ، إذن فلا يبقى للدليل الأول إطلاق كي يتمسك به في خارج الوقت.

وأمّا النحو الثالث : فقد يقرّب بسنخ ما قرّب به النحو الثاني ، حيث ذكر السيد الخوئي «قده» (١) إنّه إذا كان لدليل الوجوب ، أي الدليل الأول ، إطلاق ، ولم يكن لدليل التوقيت إطلاق ، حينئذ يقال : بأنّ دليل التوقيت يدل على التقييد ، إلّا أنّه لا يعلم ، هل هو تقييد على وجه الركنيّة بحيث يسقط الوجوب رأسا عند العجز عن القيد ، أو إنّه تقييد ما دام القيد ممكنا.

فيقال حينئذ : مقتضى إطلاق الدليل الأول ، عدم أخذ قيد الوقت أصلا ، والقدر المتيقّن من دليل التوقيت ، هو أخذ الوقت قيدا في الدليل

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ص ٦٤ ـ ٦٥ ـ ٦٦ ـ ٦٧.

٢٨١

الأول ما دام ممكنا ، لا مطلقا فيرفع اليد عن الدليل الأول بهذا المقدار فقط.

وهذا معناه ، أنّه يتمسك بإطلاق أصل مفاد الدليل الأول لما بعد الوقت الذي يمثّل حالة عدم التمكن من القيد ، من قبيل ما إذا كان دليل التقييد مقيدا للدليل الأول بالنسبة إلى بعض المكلّفين ، كما في الأمر بالجهر في غير صلاة الظهرين بالنسبة للرجال في حال التمكن من ذلك خاصة وفي حال عدم الغفلة أو العذر ، فيبقى إطلاق الدليل الأول ، أي : الواجب ، تاما بالنسبة إلى سائر الحالات الأخرى ، وحينئذ يتمسك بهذا الإطلاق لنفي ما يحتمل من قيود أخرى.

وحينئذ يقال : إنّه كما صحّ في مثل ذلك ، التمسك بالإطلاق ، كذلك في المقام ، فإنّه يصح التمسك بالإطلاق ، إذا فرض كون دليل التقييد بالوقت كان منفصلا ، وكان القدر المتيقن المستفاد من التقييد بالوقت هو حالة التمكّن ، أي : حال كون المكلّف في الوقت لا مطلقا ، هذا إذا توفرت الشروط المذكورة التي تقدّمت.

وهذا البيان هو أيضا غير تام ثبوتا.

وتوضيحه ، هو : إنّه تارة يفرض قيام دليل على وجوب الفعل على عموم المكلّفين ، ويكون مقتضى إطلاقه عدم اعتبار الشيء الفلاني قيدا ، ثمّ يدل دليل آخر على كون الشيء الفلاني قيدا بالنسبة إلى بعض المكلّفين ، من قبيل أن يرد ، «صلّ» فإنّ مقتضى إطلاقه أنّه غير مقيّد بالجهر ، ثم دلّ دليل آخر على كون الجهر قيدا بالنسبة للرجل ، ولا إطلاق له ليشمل المرأة.

حينئذ لا بأس أن يقال : بأنّه هنا يتمسك بإطلاق الدليل الأول لإثبات عدم قيديّة الجهر في حق المرأة ، إذ إنّ الدليل ينحل في الحقيقة إلى أحكام متعددة ، فيعقل أن يقيّد بعضها دون بعض.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الدليل دلّ على اعتبار قيد «ما» في حق كل

٢٨٢

المكلّفين ، غاية الأمر أنّه بعد العجز عن ذلك القيد ، نشك في أنّ المولى هل رفع يده عن القيد ، أو عن المقيّد رأسا؟.

ففي مثل ذلك ، لا يجوز التمسّك بإطلاق الدليل الأول ، لإثبات كون وجوب الفعل غير مقيّد بذلك القيد ، وإلّا لزم من ذلك ، أن يكون مدلول خطاب «صلّ» ، له وجوبان على مكلّف واحد.

وقد تقدّم وقلنا باستحالته ، لأنّ أدلة الوجوب لا يستفاد منها تعدّد الوجوب عرضيا ، وإنّما استفدنا منها أنّ الوجوب له سعة ، وأنّه غير مخصوص بزمان دون زمان.

وإن شئتم قلتم : إنّه يجب على المكلّف الإتيان بالصلاة في الوقت ، ما دام الوقت موجودا ، فإذا خرج الوقت ، فإنّه تجب عليه الصلاة من دون وقت.

وهنا لكل من الوجوبين جعل مغاير لجعل الآخر ، إذ لا يعقل أن يكون الوجوب الثاني هو نفس الوجوب الأول ، لأنّ الوجوب الأوّل فيه وجوب ضمني متعلق بالوقت دون الوجوب الثاني ، إذن فلا بدّ أن يجعل الوجوب الأول بجعل مستقل مغاير لجعل الوجوب الثاني.

والخلاصة ، هي : أنّ هذين الجعلين لا يستفادان من دليل جعل واحد ، وإنّما غاية ما يثبت بإطلاق الدليل الأول ، سعة الوجوب ، لا تعدد الجعل.

إذن فالمتيقّن والمتعيّن بحسب القاعدة في عالم الإثبات ، هو الاحتمال الرابع بعد أن تبرهن عدم إمكان الأنحاء الثلاثة ، بحسب ظاهر دليل الواجب ، مع دليل التوقيت ، عند فقد القرينة على تعدّد الجعل. وبناء على هذا لا يبقى في الدليل الأول ما يقتضي وجوب الفعل بعد خروج الوقت.

نعم يبقى هناك بحث في أنه : هل يمكن إجراء الاستصحاب بعد خروج الوقت ، أولا؟ وقد بحث في تنبيهات الاستصحاب تحقيق ذلك.

٢٨٣

الأمر بالأمر

وقع البحث في أنّ الأمر بالأمر بشيء ، هل يكون بقوّة الأمر بذلك الشيء مباشرة ، أو لا يكون؟.

فلو أنّ المولى توجّه إلى عبد من عبيده ، وأمره بأن يأمر شخصا ثانيا ، فهل يكون الشخص الثاني ملزما أن يفعل الفعل بمقتضى الخطاب الأول ، أو أنّه ينظر حال الوسيط؟.

فلو أنّه صدر من الآمر الثاني أمرا ، وقام الدليل على وجوب إطاعته ، كان على المأمور الثاني أن يأتي بمتعلّق أمر المأمور الأول ، وإن لم يقم دليل على وجوب إطاعة المأمور الأول ، فلا يجب على المأمور الثاني شيء؟.

وتوضيحه ، هو أن يقال : إنّ الخطاب الموجه من المولى إلى المكلف الأول بأن يأمر المكلف الثاني ، فيه عدة احتمالات ثبوتا :

١ ـ الاحتمال الأول ، هو : أن يكون الخطاب صادرا لبيان إنشاء الأمر على المكلّف الثاني حقيقة.

غايته أنّ العبد الثاني حيث كان غائبا عن المولى ، كلّف المولى العبد الأول أن يوصل أمره إلى العبد الثاني.

إذن فالخطاب مسوق إلى العبد الثاني ، وعليه ، يكون هذا الخطاب متضمنا تكليفين لبّا.

٢٨٤

١ ـ التكليف الأول ، هو تكليف العبد الثاني بإيقاع متعلّق الأمر ، ولنفترض أنه «الصدقة».

٢ ـ التكليف الثاني ، هو : تكليف العبد الأول بإيصال خطاب المولى إلى العبد الثاني.

وحينئذ ينطبق على هذا الخطاب ، عنوان «المسألة المبحوثة» عرفا ، وإن كان لا ينطبق على حاق المسألة.

ومعنى هذا ، أنّ المطلوب إيقاع العمل في عهدة العبد الثاني ، سواء أمره الأول ، أو لم يأمره ، وسواء وصل إليه التكليف بواسطة الأول ، أو لم يصل ، وذلك لأنّ العبد الثاني هو المأمور حقيقة من قبل المولى ، إذن فلا أمر بالأمر ، وإنّما هناك أمر بإيصال الأمر.

إذن فالمطلوب إيقاع التكليف في عهدة العبد الثاني ، سواء وصل إليه التكليف عن طريق العبد الأول ، أو عن طريق غيره.

والخلاصة هي : إنّ المجعول التشريعي بالأمر الأول ، إنّما هو طلب الفعل من العبد الثاني.

٢ ـ الاحتمال الثاني ، هو : أن يقال : إنّ المولى بخطابه هذا ، يكون قد أصدر أمرا واحدا إلى العبد الأول ، ومتعلّق هذا الأمر هو : أن يأمر العبد الأول ، العبد الثاني.

أو فقل : إنّه يكون المجعول في الأمر بالأمر ، هو إيجاب أن يأمر المأمور الأول ، العبد الثاني ، وليس إيجاب متعلق التكليف على العبد الثاني.

لكن ملاك هذا الأمر ليس نفسيا ، بل طريقي بحت إلى حصول الفعل من الثاني ، بمعنى أنّ المولى تعلّق غرضه ، بأن يأمر المأمور الأول ، العبد الثاني ، حتى يصل إلى مقصوده ، وهو فعل «الصدقة» من العبد الثاني.

غايته ، أنّ الأمر من الأول له تأثير على الثاني ، وفي مثله ، وإن لم يكن

٢٨٥

الخطاب إنشاء تكليف على العبد الثاني ابتداء ، إلّا أنّه كاشف عن أمره للثاني ـ بالدلالة الالتزاميّة العرفية ـ عن طلب الفعل منه ، إذ بعد فرض أمر المولى للمأمور الأول أن يأمر العبد الثاني ليصل إلى واقع مطلوبه ، «الصدقة» ، من العبد الثاني ، حينئذ يكون الأمر للعبد الثاني مستفادا من الخطاب بالالتزام.

وبناء عليه ، يكون العبد الثاني مشغول العهدة بالصدقة ، سواء أمره المأمور الأول ، أو أمره غيره ، وسواء وصله الخطاب بطريق المأمور الأول ، أو بطريق غيره.

وممّا يلاحظ ، أنّ هذين الاحتمالين يتفقان على كون المأمور الثاني هو المطلوب منه إيقاع الفعل ، «الصدقة» ، من أوّل الأمر ، ومن دون أن يتوقف هذا على أمر المأمور الأوّل له ، بل لو وصله هذا الأمر من أيّ طريق آخر ، فقد صار منجّزا وجوب هذا الفعل عليه من أول الأمر ، لأنّه وجوب صادر من مولاه.

٣ ـ الاحتمال الثالث ، هو : أن يكون المولى أنشأ أمرا للعبد الأول بأن يأمر ، ولم ينشئ أمرا للثاني بالصدقة ، نعم تمام نظر المولى هنا هو إلى صدور الأمر من العبد الأول ، إذ إنّ أمره هذا ملحوظ بنحو الموضوعية في غرض المولى ، بل كأنّه هو المطلوب المولوي ، وحينئذ ، فهذا الأمر لا يدل على مطلوبية الصدقة للمولى من الثاني ، لا مطابقة ، ولا التزاما.

نعم يمكن أن تكون الصدقة على عهدة الثاني إن استظهرنا من قول المولى ـ «مر العبد الثاني» ـ ضمنا إعطاء مقام الآمرية للأول ، حينئذ يقع الفعل على عهدة الثاني لكن لا لأجل كونه مأمورا به من المولى ابتداء وإنّما لأجل كونه مأمورا به من المأمور الأول المجعول له الولاية والأمر ، إذ بعد أمره يتحقق وجوب الفعل على عهدة المأمور الثاني.

وفرق ملاك هذا الاحتمال عن الملاك في الاحتمالين السابقين ، هو أنّه هنا في الاحتمال الثالث ، إنّما يقع الفعل في عهدة المأمور الثاني إذا أمره المأمور الأول ، لا على كل تقدير كما في الاحتمالين السابقين ، كما أنّ

٢٨٦

العهدة هنا إنّما هي نتيجة وجوب مجعول من قبل المأمور الأول أمضي من قبل المولى.

والخلاصة ، هي : إن هذا الاحتمال هو نفس الاحتمال الثاني ، لكن مع افتراض أنّ أمر الأول للثاني له موضوعية عند المولى ، إذ يكون هو مطلوب المولى ، وليس صدور الفعل من المأمور الثاني ، مطلوبا ، ولا مرادا له.

وعليه لا يثبت وجوب الفعل على المأمور الثاني إلّا إذا استظهر من أمر المولى بالأمر ـ ضمنا ـ إعطاء مقام الآمرية للأول على الثاني ، فحينئذ يجب الفعل على المأمور الثاني ويتحقق هذا الوجوب بمجرد صدوره ووصوله ممّن جعل له الأمر.

٤ ـ الاحتمال الرابع ، هو : نفس الاحتمال الثالث مع فرض أنّ غرض المولى قائم بالمركّب من صدور الأمر من المأمور الأول ، ومن فعل الصدقة من المأمور الثاني ، لا بأحدهما وحده ، وذلك بأن يفرض إنّ الملاك إمّا قائم بالمجموع المركّب من الصدقة وأمر المأمور الأول ، أو إنّه قائم بأحدهما المقيّد بالآخر.

وحينئذ ، يأمر المولى العبد الأول بأحد ركنيّ الملاك هذا ، ويكون الركن الآخر منوطا بالعبد الثاني.

وبذلك يكون أمر المأمور الأول شرطا في إيجاب الصدقة على المأمور الثاني ، ويكون فعل الثاني متوقفا على أمر الأول.

فإن فرض أنّ الملاك كان قائما بمجموع الفعلين ، حينئذ يدل كلام المولى بالدلالة الالتزاميّة على أنّ المولى يريد الجزء الآخر من ركنيّ الملاك من العبد الثاني.

وإن فرض أنّ صدور الأمر من الأول كان دخيلا في أصل اتصاف فعل المأمور الثاني بالملاك ، حينئذ لا بدّ من كون الملاك متعددا ، وافتراض وجود ملاك مستقل قائم في أمر المأمور الأول ، وإلّا فقد أمره معناه.

٢٨٧

إذن فهنا ملاكان طوليّان : أحدهما : قائم في أمر العبد الأول ، والثاني : قائم في فعل العبد الثاني مشروطا بأمر الأول.

والخلاصة هي : إنه ، إمّا أن يكون غرض المولى وملاكه واحدا ، متقوما بمجموع أمر العبد الأول ، وفعل العبد الثاني ، بحيث يكون أمر العبد الأول من شرائط وجود ذلك الملاك بفعل العبد الثاني ، بحيث يكون فعل الثاني متوقفا على أمر الأول.

وإمّا أن يكون أمر المأمور الأول من شرائط اتصاف فعل العبد الثاني بالملاك.

وعليه ، لا بدّ من تعدّد الملاك وافتراض وجود ملاك مستقل قائم في أمر المأمور الأول.

وفي كلتا الحالتين لا يجب الفعل ، «الصدقة» على العبد الثاني ، قبل صدور الأمر إليه من المأمور الأول.

وممّا لا شك فيه. أنّ أظهر هذه الاحتمالات هو أحد الأوّلين ، إن لم يدّع ظهوره في الأول منهما ، إذ إنّ الظاهر من الخطاب ، إن لم يكن جعل المأمور الأول مجرد وسيط في تبليغ العبد الثاني ، فلا أقل من كون المأمور الأول مأمورا بأن يأمر ، فيكون أمره توسيطا وفعلا طريقيا لا مصلحة فيه بالخصوص ، فيلحقه حكم الأوليين ، وهو ممّا يجعل ظهور الأمر بالأمر في وقوع العهدة وإيجاب «الصدقة» على المأمور الثاني.

٢٨٨

الأمر بعد الأمر

اختلفوا في أنّ الأمر بعد الأمر ، هل يحمل على التأسيس ، أو على التأكيد؟ فإذا أمر ثم أمر من دون أن يختلف الأمران في الشروط ، كما لو فرض أنّه ليس لهما شرط ، أو إنّه كان لهما شرط متماثل ، فهل التكرار هذا يقتضي الحمل على التأسيس ، بحيث يكون هناك وجوبان ، أو إنّه يقتضي الحمل على التأكيد ، بحيث لا يكون هناك إلّا وجوب واحد؟

وتوضيح ذلك ، هو إنّه إن حملنا الخطاب الثاني على التأسيس ، إذن فلا بدّ من إتيان الفعل مرتين.

وإن حملناه على التأكيد ، إذن فكلا الخطابين يكون معبّرا عن وجود واحد للطبيعة.

وقد ذكر صاحب الكفاية «قده» (١) أنّه يقع تعارض بين ظهور الهيئة في التأسيس ، وظهور المادة في الإطلاق المقتضي ، كون متعلق الأمرين مفادا واحد ، وهذا معناه التأكيد ، لأنّه لو جمعنا بين ظهور الهيئة في التأسيس ، وبين ظهور المادة في الإطلاق ، للزم من ذلك اجتماع وجوبين على صرف الطبيعة ، وهو محال ، وذلك لأنّ ظهور الهيئة مفاده تعدّد الوجوب ، وإن كان

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ص ٢٣١.

٢٨٩

ظهور المادة في وحدة الوجوب ، إذن فلا بدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين.

وصاحب الكفاية «قده» (١) ، وإن كان قد استظهر في المقام تقديم ظهور الهيئة في التأسيس لا التأكيد ، إلّا أنّه استظهر انسباق التأكيد ، وحكم به نتيجة ، وذلك ببيان أنّ كون الهيئة مسبوقة بهيئة مثلها ، ولم يذكر هناك سبب واحد ، مثل هذا التكرار مع عدم ذكر سبب واحد ممّا يوجب إجمالها عرفا وسقوطها عن ظهورها في التأسيس.

وهذا ممّا يقتضي بقاء ظهورها في التأكيد ، وعدم وجود أمر آخر.

والصحيح هو ، إنّه لا ظهور لهيئة الأمر في التأسيس ولا في التأكيد ، لا في المقام ، ولا في غيره ، وإنّما هي ظاهرة في كونها للوجوب دون أن تكون مقتضية للكشف عن وجوب بقيد أن لا يكون مكشوفا قبل الآن بكشف لأنها غير ظاهرة في ذلك.

ولذا فإنّ استعمال الهيئة في الكشف عن وجوب كشف عنه سابقا ، ليس فيه أيّ تجوز أصلا ، لأنّه لم يؤخذ في مدلولها ذلك.

نعم هناك مزيّة لها بالظهور السياقي للمتكلم ، قد نستعمله أحيانا في مقام إثبات التأسيس بدلا عن التأكيد ، كما لو فرض أنّه أفاد معنى ، ثم ذكر جملة ، دار أمرها بين كونها إشارة إلى الأول ، أو إلى معنى آخر صالح لتأكيد المعنى السابق ، حينئذ قد يدّعى أنّ الظهور السياقي للمتكلم هو التأسيس لا التأكيد ، لأنّ التأكيد حكم استثنائي ، بينما التأسيس حكم طبيعي ، فيكون أولى بالظهور فيه.

إلّا أنّ هذا البيان لا يمكن تطبيقه هنا ، لأنّ «صلّ» ، الأمر الأول ، و «صلّ» ، الثانية ، الأمر الثاني ، تارة نفترضهما منفصلتين بحيث أنّه قال

__________________

(١) كفاية الأصول ـ مشكيني : ج ١ ـ ص ٢٣١.

٢٩٠

الثانية منهما بنحو لا يصح عرفا العطف بالواو على الأولى.

وأخرى ، قال الثانية تبعا ، بنحو يصح عطفها بالواو على الأولى.

فإن فرض إنّ «صلّ» الثانية كانت منفصلة عن الأولى ، فهو خارج عن الظهور في التأسيس ، لأنّ الظهور الحالي في أن يؤسس بلحاظ شخص هذا الكلام ، لا في غيره ، حينما يدور الأمر بين التأسيس والتأكيد.

نعم لو كان الوجوب واحدا لزم منه أن يكون مقيّدا لكلام سابق ، وهذا ليس على خلاف الطبع ، بل الذي على خلاف الطبع هو الذي يلزم منه التكرار في كلام واحد.

وأمّا إذا فرضنا أنّ «صلّ» الأولى مع الثانية ، كانتا متصلتين ، بحيث يمكن أن يعطف إحداهما على الأخرى بالواو ، فيلتزم حينئذ بالتأسيس ، باعتبار أنّ الواو ظاهرة في المغايرة بين «صلّ» الأولى و «صلّ» الثانية ، وإذا فرض أنّه قد أسقط حرف العطف ، فإسقاطه قرينة عرفية على أنّ الثانية تكرار للأولى ، وهذا التكرار يكون قرينة على التأكيد.

والخلاصة هي : إنّ الصحيح ، هو إنّ هيئة الأمر ليس لها مدلول إلّا الوجوب ، دون أن يكون للتأسيس أو التأكيد دخل في مدلولها ، لأنّ الهيئة لم توضع لطلب مقيّد بكونه لم يكشف عنه بكاشف قبل الآن ، ولذا فإنّه ليس مجازا استعمال الهيئة في الكشف عن وجوب سابق ، لأنّه لم يؤخذ في مدلولها ذلك ، كما لو أمر عبده ثانية بما كان قد أمره به سابقا لأجل التأكيد.

نعم هناك مزيّة لها بالظهور السياقي الحالي للمتكلم ، قد تستعمل في مقام إثبات التأسيس بدلا عن التأكيد ، كما لو أفاد معنى ، ثم ذكر جملة يمكن أن تصلح لتأكيد المعنى الأول ، ويمكن أن تصلح لإفادة معنى جديد.

حينئذ قد يدّعى حملها على إفادة معنى جديد ، ببيان أنّ الظهور السياقي للمتكلم هو التأسيس لا التأكيد ، لأنّ التأكيد حكم استثنائي ، بينما التأسيس حكم طبيعي ، فيكون أولى بالظهور فيه.

٢٩١

إلّا أنّ هذا البيان لا ربط له بالمقام ، لأنّ الأمر الثاني إن ذكر متصلا بالأول ، بحيث يمكن عطفه عليه بالواو ، وقد عطفه عليه فعلا بالواو ، حينئذ كان العطف بنفسه قرينة على التأسيس ، وذلك لكون العطف ظاهرا في أنّ المعطوف غير المعطوف عليه ، وإلّا فإن لم يذكر العطف بالواو ، حينئذ يكون عدم ذكر العطف قرينة عرفيّة ، ووسيلة من وسائل التأكيد عرفا ، فتكون ظاهرة فيه.

وأمّا إذا ذكر الأمر الثاني منفصلا ، حينئذ لا يكون له ظهور حالي ، لا في التأسيس ، ولا في التأكيد ، لأنّ الظهور الحالي السياقي ، يقتضي أن يؤسس بلحاظ شخص ذلك الخطاب ، لا في خطاب آخر ، إذ إنّ تكرار الأمر بشخص أمر آخر ، ليس منافيا مع التأسيس بلحاظ شخص الأمر الثاني.

فالنتيجة هي : إنّه لا ظهور في مفاد الهيئة ، كي يقتضي التأسيس ، فيبقى إطلاق المادة مقتضيا للتأكيد.

وبهذا ننهي بحوث الأوامر ، لندخل في بحوث النواهي ، إن شاء الله تعالى ، وآخر دعوانا ، أن الحمد لله ربّ العالمين.

٢٩٢

النّواهي

والكلام فيها يقع في فصول :

الفصل الأول : في دلالات صيغة النّهي.

الفصل الثاني : في مادّة النّهي.

الفصل الثالث : في دلالة النّهي على الفساد.

٢٩٣
٢٩٤

الفصل الأول

والكلام في الفصل الأول ، يقع في جهات :

الجهة الأولى :

في مدلول الصيغة ومفادها :

وقد اشتهر في كلمات الأصوليين ، أنّ مفاد صيغة النّهي ، هو الطلب ، كما اشتهر أنّ مفاد صيغة «افعل» ، هو الطلب ، فكل من الصيغتين تدلّ على الطلب ، غايته أنّ إحداهما : تدل على طلب الفعل ، والأخرى : تدل على طلب التّرك.

وقد اعترض مشهور المتأخرين من علماء الأصول ، على هذا الكلام ، مدّعين بأنّ مدلول الصيغة في كل منهما ، تختلف عن الأخرى وتغايرها ذاتا ، لا أنّهما تدلان على الطلب وتختلفان في متعلقه ، لأنّ الصيغة ليس مفادها الطلب ، وإنما مفادها في النّهي معنى يناسب مع الزّجر والرّدع ونحوه ، وكذلك في صيغة الأمر ، فإنّ مفاد الصيغة فيه ، معنى يناسب مع البعث ، والانبعاث ، والتحريك.

وفي مقام توضيح ذلك وبيان أنّ مفاد الصيغة ليس هو الطلب ، يوجد ثلاث كلمات :

الكلمة الأولى ، هي : ما نسبه السيد الخوئي «قده» (١) الى مشهور المعترضين.

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ـ ص ٨١

٢٩٥

الكلمة الثانية ، هي : للسيد الخوئي «قده» نفسه.

الكلمة الثالثة ، هي : التحقيق والمختار.

والكلمة الأولى ، التي نسبها السيد الخوئي «قده» الى مشهور المعترضين (١) هي : أنّهم ذكروا أنّ مفاد صيغة الأمر ، إنّما هو البعث والتحريك نحو الطبيعة ، وأنّ مفاد صيغة النهي ، هو الزجر والردع عنها ، وليس مفادها الطلب كما اشتهر.

إذن فالصيغتان متقاربتان ومتعلقتان بالطبيعة.

غايته أنّ إحداهما تقرّب من الطبيعة ، والأخرى تزجر وتبعّد عنها.

وهذه الكلمة إن أريد بها إبداء فرضيّة معقولة في قبال مسلك المشهور ، فيصح القول حينئذ : إنّ صيغة الأمر موضوعة للطلب ، وإنّ صيغة النهي موضوعة لمعنى مقابل ، هو : الرّدع والزجر.

إن أريد بها هذا ، فهذا بيان واف بذلك ، ولكن ينقصه الدليل فقط.

وإن أريد بها البرهنة على بطلان الكلام المشهوري ، فهو غير ممكن ، إلّا إذا استعان بالوجدان العرفي مضافا الى نكات سنذكرها.

وحيث أنّ السيد الخوئي «قده» يرى أن هذه الفرضية في كلام المعترضين غير معقولة.

فقد أشكل عليهم ، بأنّه لا معنى لما يقوله المعترضون : من أنّ صيغة الأمر موضوعة للطلب ، وصيغة النّهي موضوعة للزّجر ، وذلك لأنّ الزّجر والتحريك لهما فردان : فرد تكويني ، وفرد تشريعي.

فالتكويني كما لو دفعه بيده نحو الماء ، أو دفعه عنه.

والتشريعي من المولى بما هو مولى ، إنما يكون بخطابات المولى.

__________________

(١) نفس المصدر.

٢٩٦

فإن أريد أنّ صيغة «افعل» موضوعة للتحريك التكويني ، وصيغة «النهي» موضوعة للزجر التكويني ، فهذا واضح البطلان.

وإن أريد أنهما موضوعان للفرد التشريعي ، فأيضا هذا واضح البطلان ، لأنّ هذه الصيغة هي بنفسها الفرد التشريعي ، لا أنها دالّة على الفرد التشريعي ، لأنّ التحريك والزّجر التشريعيّين يحصلان بنفس الأمر والنهي ، لأنهما بوجوديهما الواقعيين مصداقان للتحريك والزجر ، لا بمدلوليهما ، فكما لا يقال كلمة «زيد» تدل على صوت ، لأنها بنفسها صوت ، فكذلك ، صيغتا «النّهي والأمر» لا بدلان على الطلب أو الزجر التشريعيّين ، لأنّ كلا منهما هو الفرد التشريعي.

إذن ، فلا بدّ أن يكون مدلولهما أمرا آخر غير التحريك والزجر.

وقد عرفت أنّ ما نسبه السيد الخوئي «قده» الى المعترضين بحدود بيانه لاعتراضهم ، لا يشكل برهانا على ردّ مقالتهم ، إلّا إذا أضيف إليها دعوى الوجدان العرفي مضافا الى نكات لهذا الوجدان سوف نذكرها فيما بعد.

وأما الاعتراض الذي وجّهه السيد الخوئي «قده» (١) إلى المعترضين ، فكأنه مرتبط ذهنيا مع مبناه في باب وضع الجملة التامة ، حيث كان يرى ـ كما تقدم ـ أنّ الجمل الموضوعة ، دلالتها التّصديقيّة ، هي الدلالة الوضعية ، وينكر الدلالة التصورية رأسا.

وقد سبق منه في بحث الوضع ، أن بنى على التعهد ، ثم صار في مقام تعيين ما هو المدلول التصديقي الثابت بالوضع.

فاعتراضه هذا ، مبني على تلك الأصول ، فهو يرى أنّ المعنى الموضوع له ، هو معنى تصديقي ، أي إنّه يدل اللفظ عليه ويكشف عنه كشفا تصديقيا.

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٤ ص ٨٤ ـ ٨٥ ـ ٨٦ ـ ٨٧

٢٩٧

وبعبارة أخرى ، إنّ السيد الخوئي «قده» يرى أنّ الوضع ينتج مدلولا تصديقيا لا مجرد خطور ، ولذلك فهو يتساءل ، إنه : ما هو الذي يكشف عن الوضع كشفا تصديقيا؟ إذ لا الفرد التكويني يكشف حينئذ ، ولا الفرد التشريعي كذلك ، لأن المنكشف لا بدّ من مغايرته للكاشف ، والمفروض أنّه عينه.

إذن لا بدّ أن يكون مدلولهما أمرا آخر غير التحريك والزجر.

وأمّا بناء على مسلك المشهور ومختارنا ، من أنّ الوضع هو منشأ الدلالة التصورية فقط ، فمدلول مادة الأمر والنهي معنى اسمي ، ومدلول الصيغة فيهما معنى حرفي نسبي ، ودلالة الصيغة دلالة تصورية ، فمدلول هيئتهما النسبة التكوينية الخارجية التي انتزع عنها ذلك المعنى الاسمي ـ كما تقدّم في معاني الهيئات ـ فهي النسبة الإرسالية التحريكيّة في «افعل» ، وهي النسبة الزجريّة الردعيّة في «لا تفعل» ، وكلتا النسبتين يراد منهما الإرسال والزجر الخارجيّين التكوينيّين كمفهوم تصوّري لا تصديقي ، فلا يرد حينئذ ، أنّ هذا واضح البطلان لما عرفت من السيد الخوئي «قده» ، لأنّ المدلول التصديقي ـ الذي هو عندنا كما هو عند المشهور ـ ليس من صنع الوضع ، بل هو يرجع إلى الظهور الحالي ، فإنه إذا صدر الكلام من المتكلم ، يكون لهذا الكلام معنى تصوري ، فيستظهر من حال المتكلم ، ويكشف كشفا تصديقيا عن أنّ المعنى والمراد الحقيقي القائم في نفس المتكلم هو الداعي للتحريك التشريعي والزجر التشريعي ، ف «افعل» تدل على أنّ المولى يريد أن يحرّك العبد حقيقة ، و «لا تفعل» تدل على إرادة المولى ، الزجر حقيقة ، وبهذا يكون مدلول النهي غير مدلول الأمر تصورا وتصديقا.

وهذه الصيغة معقولة ، وإن كان ينقصها الوجدان.

الكلمة الثانية : وهي ما اختاره السيد الخوئي «قده» (١). وحيث أنه بنى

__________________

(١) المصدر نفسه

٢٩٨

على تلك المباني المشار إليها سابقا ، صار في مقام التفتيش عن المدلول التصديقي لصيغة «افعل» ، و «لا تفعل» ، فقال إنّ صيغة «افعل» وضعت لإبراز اعتبار الفعل في ذمة المكلف ، و «لا تفعل» وضعت لإبراز اعتبار مغاير للأول ، كاعتبار كون المكلّف مصدودا ومردوعا عن الفعل.

وبذلك تكون الصيغتان عند السيد الخوئي «قده» متغايرتين ، لأنّ النهي عنده ليس اعتبار عدم الفعل في ذمة المكلف ليرجع إلى الأول ، وقد استشهد على هذا المطلب بما عليه أهل العدل من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، حيث أنّ الأمر ينشأ من مصلحة في الفعل ، فيتعيّن حينئذ اعتبار الفعل في ذمة المكلف ، لأنّ الفعل هو مركز الأمر. وكذلك النّهي فإنّه ينشأ من مفسدة في الفعل ، فيتعيّن اعتبار كون المكلّف مصدودا ومزجورا عن الفعل ، لأنه مركز المفسدة ، لا أنّه يعتبر عدم الفعل وتركه على ذمته ، إذ ليس في عدم الفعل مصلحة ، وهنا نقاط :

النقطة الأولى ، هي : إنّ فرض كون صيغة الأمر «افعل» ، وصيغة النهي ، «لا تفعل» ، قد وضعتا لإبراز الاعتبار النفساني على عهدة المكلف ، فيكون مدلولا صيغة الأمر والنهي هو الاعتبار ، مثل هذا الفرض ، ينسجم مع مبنى السيد الخوئي «قده» في الوضع ، حيث يبني على أنّ الوضع ينتج دلالة وكشفا تصديقيا.

وقد عرفت في محلّه ، أنّ المدلول الوضعي للأمر ليس هو الاعتبار. نعم قد يستظهر كون الاعتبار مدلولا تصديقيا للظروف الحاليّة للمتكلم بدلالة سياقيّة ، وذلك لوضوح كون نظرية الاعتبار وما يلازمها ـ من فرض وعاء ذمة وعهدة للمكلّف ـ أمور معقدة ، لا تتناسب مع بساطة الدلالة الوضعية ، وأسبقيّة تصوّرها.

ولوضوح أن صيغة الأمر كما تصدر ممّن يملك اعتبار الفعل على العهدة ، كالمولى العالي ، فإنّها كذلك ، تصدر ممّن لا يملك اعتبار شيء أو جعله في عهدة المولى تعالى ، فنحن حينما نقول : «يا ربّنا اغفر لنا» ، لا

٢٩٩

نملك أن نقصد اعتبار المغفرة في عهدة المولى.

إذن فالأوامر والنواهي كما تصدر من المولى العالي ، تصدر من العبد الداني.

النقطة الثانية : هي إنّ ربط المدلول اللغوي لصيغة الأمر والنّهي ، وكون مدلول النّهي هو اعتبار حرمان المكلّف ، لا اعتبار الترك ، في ذمته ، أقول ربط كل هذا ، لمذهب أهل العدل ، لا رابط له ، ولا أثر له.

لأنّنا نتكلم في المدلول اللغوي لصيغة «افعل ولا تفعل» ، وحينئذ لا معنى للاستدلال على مدلول لغوي وضعي ، بأحد مذاهب الكلام التي ظهرت مؤخرا عند المسلمين.

النقطة الثالثة : هي إنّه حتى لو أخذنا بمذهب أهل العدل في تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فإنّ ذلك لا يقتضي ولا يعيّن لنا أنّ الاعتبار في جانب النواهي ، هو اعتبار المكلّف محروما من الفعل ، إذ كما أنّ اعتبار المكلف محروم من الفعل ، مناسب لجانب النواهي ، كذلك اعتبار عدم الفعل وتركه في ذمة المكلّف ، مناسب لها أيضا. إذ كلتا الطريقتين صالحة ليسلكها المولى في تبعيد المكلّف عن الفعل ، غاية الأمر أنّ الطريقة الأولى أنسب ، لكن متى كانت الأنسبية دليلا على الوضع اللغوي وأن الواضع قد لاحظ هذه الطريقة دون تلك.

الكلمة الثالثة : في أنّه ما هو المختار عندنا؟

وحينئذ يقال : إنّ ما قيل في الكلمة الأولى ، من التمييز بين مفاد صيغة «افعل ولا تفعل» ، صحيح.

فإن صيغة «افعل» ، تدل هيئتها على النسبة الإرسالية دلالة وضعية تصورية ، وهيئة «لا تفعل» تدل على النسبة الزّجريّة والردعيّة دلالة وضعية تصورية.

كما أنّه صحيح ما قيل ، من أنّ لهما دلالة تصديقيّة ، تكشف في

٣٠٠