مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

وفي المثال الأول لا يكون له دخل أصلا وقالوا من جهة هذا قال الشيخ قده بان العلم الإجمالي منجز.

ثم أشكل شيخنا النائيني بأن الزمان الّذي يكون خارجا عن الاختيار يمكن أن يكون الخطاب بالنسبة إليه في هذا الحال فانه يكون نظير خروج بعض الأطراف عن الابتلاء فلا يكون العلم بالنسبة إليه مؤثرا واختار نفسه طريقا آخر وهو القول بأن إطلاق الخطاب يشمل المقام أيضا ويكون المنظور من العلم الإجمالي الدفعي هو ذا.

وفيه انا لا نفهم كلام الشيخ ولا كلام النائيني (قدهما) فان التدريج لا زال يكون بالنسبة إلى ما يتصور كونه دفعيا أيضا فان الكأسين أيضا يكون استعمالهما على التدريج وقلّما يكون بنحو الدفعة.

ولكن التحقيق هو ان يقال بما اخترناه في أقسام الواجب من المشروط والمعلق والمطلق فان الحكم وهو الإرادة المبرزة يكون في الجميع فعليا فيكون الامتثال لازما بهذه النكتة والنائيني قده أنكر الواجب المعلق بل ألحقه بالمشروط (١) ولا أدري كيف يقول بإطلاق الخطاب مع ذلك فلعله يكون من اشتباه مقرر بحثه والخراسانيّ قده ارجع الواجب المشروط إلى المعلق وقال بالوجوب الفعلي والواجب الاستقبالي وعليه أيضا يشكل القول بالتنجيز في المقام وفي ساير المقامات.

وما يكون في كلام الشيخ (قده) من الفرق بين مثال الرّبا ومثال المرأة من القول بالاحتياط في الثاني دون الأول اجتهدوا في فهم كلامه وقالوا ان الزمان ظرف محض في مثال الربا فالعلم منجز وفي مثال المرأة يكون دخيلا في الملاك ولذا لا يكون العلم منجزا.

ثم قال النائيني (قده) الدخل في الملاك وان كان ولكن وجوب الاحتياط يكون بحكم العقل بمنع تفويت المصلحة على المولى فلو كان في الواقع مصلحة يجب إحرازها بحكم العقل.

__________________

(١) وهذا هو التحقيق كما مرّ تفصيله في بحث أقسام الواجب في المجلد الأول.

٤٤١

وحاصل دليل الشيخ قده هو ان الأصل بدون المعارض يجري في المرأة أي أصالة الطهر قبل رؤية الدم ويحكم بإباحة وطيها وساير أحكام الظاهر وفي مثال الربا أيضا يمكن القول بعدم الحرمة والفساد لأنه في كل بيع لا يكون على النهي الفعلي وبعد تمام الشهر وان كان يحصل العلم بوقوع معاملة محرمة في البين ولكن لا يكون العصيان صادقا وأصل الفساد يجري أيضا لأن كل معاملة يشك في كون عقدها ناقلا أم لا والأصل عدم النقل فالمعاملة غير محرمة فاسدة.

والجواب اما عن النائيني قده فهو أن الحكم ان لم يكن فعليا كما هو معترف به فمن أين يكشف المصلحة حتى يكون إحرازها لازما وتفويتها قبيحا فان حكمه يكون بعد كشف حكم الشرع فان الارتكاب لا يكون موجبا للتفويت المنتسب إلى العبد وان كان الفوت في الواقع صادقا بعد تمام الأطراف.

واما الجواب عن الشيخ قده فهو أن الفرق بين مثال الربا والمرأة بجريان الاحتياط في أحدهما دون الآخر لا وجه له لأن كل واحد منهما طوليان في عمود الزمان فكما انه لا يجري الأصل بالنسبة إلى أحدهما يجب ان لا يجري بالنسبة إليهما لنكتة الطولية فاستكشف بذلك ان السر هو كون العلم علة تامة بالنسبة إلى الطرفين وحكم العقل الّذي ادعاه النائيني قده أيضا يكون من هذا الباب ولا يكون العلم مقتضيا ليجري الأصل بالنسبة إلى بعض الأطراف.

ثم أنه قيل على فرض القول بعدم وجوب الموافقة القطعية في التدريجيات لا نتحاشى عن القول بجواز المخالفة القطعية أيضا بالبيان السابق من أن العلم بوقوع حرام في البين بعد تمام الأطراف لا يضر وقال الشيخ قده بأن المعاملة الربوية فاسدة وغير محرمة في الشهر كله فإيقاع المعاملات في أول الشهر ووسطه وآخره لا يكون حراما بمقتضى الأصل ولا يترتب عليها أثر أيضا بمقتضى الأصل وهو أصالة عدم الاشتغال.

ولكن حيث نقول بأن العلم علة تامة في التدريجيات أيضا نقول بحرمة المعاملة والفساد كليهما.

٤٤٢

ولا يقال علينا بأن أصالة الصحة في المعاملات تكون حاكمة على الاستصحاب أي أصالة عدم الانتقال لأنه لا مورد لجريان أصالة الصحة وهي أصل عقلائي الا وفي مورده استصحاب عدم الانتقال فحيث يلزم لغوية أصالة الصحة أو كونها بلا مورد يجب تقديمها على أصالة عدم النقل.

لأنا نقول جريان أصالة الصحة في المعاملات يكون موضوعها هو الشك بعد المعاملة من باب الشك في تطبيق الشروط على المعاملة وعدمه واما الشك القبلي فلا يكون موضوعا لها لأنه لم يقع شيء حتى يقال أنه صحيح.

واما كلام الشيخ قده على حسب مبناه من عدم تنجيز العلم في المقام وعدم الملازمة بين الحرمة والفساد فيكون صحيحا فانه إذا كان حلالا لا يمكن أن يقال أنه صحيح.

فلا يقال عليه بأن النهي اما أن يكون عن السبب أو عن المسبب أو عن التسبيب والّذي لا يقتضى الفساد يكون هو النهي عن السبب وهو القصد وعن التسبيب وهو فعل المكلف واما النهي عن المسبب فيكون دالا على الفساد حتما فيكون الحرمة ملازمة للفساد والحلية ملازمة للصحة والنهي عن الربا يكون عن البيع وهو المسبب فكيف لا يلازم الفساد وإذا لم يكن كيف لا يكون أصالة الصحة جارية.

لأنا نقول يمكن أن يكون القول بفساد الربا من جهة عدم تساوى الثمن والمثمن الذي يكون شرط صحة المعاملة عند العقلاء لا نهى الشارع فلا يكشف من حلية العقد صحة المعاملة لا من باب القول بأن النهي يقتضى الصحة كما هو مقالة أبي حنيفة فكلام الشيخ في التفكيك بين الحرمة والفساد صحيح جدا.

لا يقال علي فرض عدم تنجيز العلم الإجمالي مع العلم بوقوع العقد نتمسك بقوله تعالى أوفوا بالعقود فنقول بأن الوفاء بهذا العقد لازم.

لأنا نقول قال النائيني قده في الجواب ان العلم الإجمالي لا يجري في مورده الأمارة والأصل التنزيلي لأن البناء على عدم الواقع في البين يضاد مع البناء على الواقع في البين.

٤٤٣

مع أن المقام يكون من الشبهة المصداقية لأوفوا بالعقود والحق هو الثاني من الجوابين واما الأول فقد مرّ الجواب عنه بأنه لو لا كون العلم علة تامة ما كان وجه لقوله بالتنافي لأنه فرق بين الواقع والبناء عليه والبناء على ضد الواقع لا يضاد الواقع بل خلاف الواقع في الواقع يضاده.

ثم ان الخراسانيّ قده في الكفاية ص ٢١٤ و ٢١٥ قال بأنه على فرض القول بأن العلم الإجمالي يوجب تنجيز الحكم وفعليته لا فرق بين الشبهة المحصورة وغيرها ولو كان تفاوت يكون من ناحية المعلوم من جهة عدم فعلية الحكم بالنسبة إليه من جهة الاضطرار إلى فعله أو تركه أو خروجه عن محل الابتلاء أو كونه متعلقا بموضوع يقطع بوقوعه في هذا الشهر مثلا كأيام دم المستحاضة وأمثال ذلك فلو لم يكن مانع عن فعلية الحكم من الخارج يكون العلم منجزا وسرّ ذلك هو أن الاضطرار يوجب تخصيص الدليل في الواقع.

وفيه أن هذا كلام غير تام لأن الموارد تختلف ففي مثل الشبهة المحصورة لا يكون عدم الحصر مخصصا لدليل الواقع ومع وجود العلم لا يجب الامتثال كما سيجيء.

الأمر الرابع في الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي (١)

الاضطرار إلى بعض الأطراف يكون مختلفا من حيث الاضطرار إلى المعين أو إلى أحدهما على التخيير وكونه قبل العلم الإجمالي أو بعده ونذكر حكم كل صورة على حدة.

الصورة الأولى أن يكون الاضطرار إلى أحد الأطراف المعين مع كون العلم الإجمالي بعده مثل الاضطرار إلى الكأس الأبيض من الكأسين بعد كون أحدهما

__________________

(١) وهذه في الرسائل في التنبيه الخامس ص ٢٣٩ وكذا في التقريرات النائيني ص ٣٠ في الأمر الخامس.

٤٤٤

نجسا لكن حصول العلم يكون بعد ذلك فانه في هذه الصورة يكون الاتفاق على عدم تنجيز العلم الإجمالي لأن المدار فيه على أن يكون منجزا بأي طرف وقع.

وهنا حيث يكون احتمال التطبيق في المضطر إليه ولو كان كذلك لا بد من ارتكابه للاضطرار.

يكون الاحتمال بالنسبة إلى الطرف الآخر بدويا لا يفيد أو يقال علي مسلك النائيني قده الأصل بلا معارض جار في الطرف الآخر.

الصورة الثانية أن يكون المعلوم بالإجمال مقدما ولكن العلم الإجمالي مؤخرا عن الاضطرار مثل أن يحصل الاضطرار إلى أحد الأطراف المعين في الظهر ثم حصل في العصر العلم لأن أحد الكأسين كان نجسا من الصبح فيكون الواقع في الصبح والعلم به في العصر ففي هذه الصورة اختلف كلام شيخنا النائيني فقال في بعض الدورات المتقدمة من بحث أصوله بان المدار على المعلوم وهو الواقع فكأنه حصل الاضطرار بعد العلم الإجمالي لأن المدار على الواقع لا على العلم به وقال في الدورة الأخرى متأخرة ان المدار على العلم لأن الواقع بدون العلم به لا يكون له الأثر.

ولا يقال ان المدار على التكليف وهو قبل والعلم طريق محض لأنه يقال الاجتناب عن الأطراف لا يكون إلّا من جهة تنجيز العلم والأثر له لا للواقع وهذا هو الحق لا ما سبق منه فان المدار على الكاشف لا على المنكشف لأن العلم بالموضوع ما لم يحصل لا يكون وجه للقول بترتب الحكم.

الصورة الثالثة أن يكون الاضطرار بعد العلم الإجمالي وفي هذه الصورة أيضا يجيء احتمال التطبيق لأنه يمكن أن يكون النجس هو المضطر إليه ولكن الإشكال في أنه لو كان كذلك يمكن القول بإهراق أحد الإناءين ثم إهراق الآخر ولم يقل به أحد ولكل طريق للجواب عنه في المقام وإثبات أن الاضطرار أو الإهراق لا يوجب إسقاط العلم عن التنجيز.

والحق طريق شيخنا العراقي قده وهو أن الكأسين يكون العلم الإجمالي

٤٤٥

بنجاسة أحدهما في وقت واحد مثل الظهر ويمكن أن يفرض (١) من هذا العلم فرد آخر في عمود الزمان أيضا بان يقال انى اعلم اما ان يكون هذا في الظهر نجسا وذاك في العصر أو بالعكس مضافا بعلمي بأن هذا أو ذاك في الظهر نجس وحيث أن العلم الإجمالي في التدريجيات يكون منجزا ولو خرج بعض الأطراف بواسطة مضى عمود الزمان عن الابتلاء فان الثلاثة في أول الشهر لا تكون محل الابتلاء في آخر الشهر للحائض وهكذا بالعكس ولكن العلم منجز ويلزم الاجتناب عن جميع الأطراف.

ففي المقام نقول إذا حصل الاضطرار إلى أحد الأطراف قبل العصر يكون سببا لموت العلم الإجمالي العرضي لا لموت العلم الإجمالي الطولي لأن الزمان لا يوجب سقوط العلم عن التنجيز كما في التدريجيات وهذا ينتج في المقام وفي ساير المقامات.

واما الاعلام فقد ذهب الشيخ الأنصاري قده بان الاجتناب عن الطرف الآخر في هذه الصورة يكون لازما وهكذا أساتيذنا ومنهم شيخنا النائيني وخالف الخراسانيّ

__________________

(١) أقول ما يكون حاصلا بالفعل هو العلم الإجمالي بين الكأسين عرضيا ولا يكون في صفحة النّفس علم إجمالي طولي والتنظير بالتدريجيات أيضا لا يتم لأن ما يكون ذاته تدريجية لا يكون مثل ما فرض كذلك ثم على فرض التسليم يكون هذا العلم التدريجي من مواليد هذا العلم العرضي فإذا مات يموت ولده أيضا فبعد الظهر لا يبقى علم بواسطة سقوط العلم الإجمالي العرضي.

وقد كرر الأستاذ مد ظله هذا التقرير في أبحاثه ولم يصر قريبا إلى ذهننا من الأول فالحق هو التمسك بقوله عليه‌السلام يهريقهما ويتيمم مع إمكان إخراج أحدهما عن الاستيلاء ثم استعمال الآخر أو يقال بأن العلم بحدوثه أوجب الاجتناب عن كلا الإناءين وبخروج بعض الأطراف عن الابتلاء أو الاضطرار إليه يشك في رفع الحكم فيستصحب وهذا الخلاف في صورة عدم تشكيل العلم من الأول لخروج أحد الأطراف عن الابتلاء قبلا أو بعد الاضطرار إليه وموت العلم بعد حياته لا يضر بالاشتغال بالإجماع أو الرواية.

٤٤٦

قده في الحاشية على الرسائل وفي الكفاية ووافق الشيخ قده في حاشية منه على الكفاية وحاصل دليل الشيخ ان التكليف بعد ما صار منجزا ويكون الاجتناب عن الأطراف محرزا لا يكون الاضطرار إلى بعض الأطراف سببا لخروج الآخر عن دائرة الامتثال بل الاشتغال اليقينيّ يحتاج إلى الفراغ اليقينيّ وهو لا يحصل إلّا بالاجتناب عن الطرف الآخر واحتمال التطبيق لا يضر.

وقال النائيني ان الأصول هنا غير متعارضة لأن العلم الإجمالي إذا حصل يكون قاعدة الطهارة في هذا معارضا بقاعدة الطهارة في ذاك والاضطرار لا يوجب رفع التعارض من البين فلا يجري الأصل بعده أيضا.

واما سند المخالف وهو الخراسانيّ قده في قوله بالمخالفة فحاصله ان العلم الإجمالي الحاصل بين المقدور وغير المقدور لا يكون منجزا ولا فرق بين الحدوث والبقاء في ذلك ففي المقام حيث لا يكون الاجتناب عن كلا الإناءين بعد حصول الاضطرار مقدور لا يكون العلم منجزا والتنجيز القبلي لا يفيد بقاء فلا يكون العلم هنا منجزا كما في صورة كون الاضطرار قبل العلم.

وقال ولا يقال أي فرق بينه وبين الإهراق فانه أيضا يكون من دوران الأمر بين المقدور وغيره بقاء فكيف يقال بوجوب الاجتناب عن الآخر فيه ولا يقال به هنا.

لأنا نقول الفرق بينهما هو أن التكليف لا يكون مقيدا بالموضوع في الواقع فلا يقال اجتنب عن النجس إذا كان الإناء موجودا بل التكليف مطلق واما الاضطرار فيكون قيد الواقع فان الاجتناب عن النجس يكون في صورة عدم الاضطرار لا في صورة الاضطرار إليه وهذا هو الفارق فالمتيقن من وجوب الاجتناب هو صورة عدم الاضطرار إلى أحد الأطراف وغيره يكون مشكوكا.

وأجاب عن هذا التقريب في حاشيته على الكفاية بان القدر المتيقن لا يكون هنا صحيحا فانه يمكن أخذه في شيء واحد إذا كان له طول وقصر فإذا فرضنا الشك في أنه هل الواجب يكون الاجتناب عن هذا الإناء في ساعة أو ساعتين فيمكن أخذ المتيقن منه لأنه من دوران الأمر بين الأقل والأكثر واما إذا كان الحكم مرددا بين

٤٤٧

الإناءين وحصل احتمال التطبيق بالنسبة إلى أحد الأطراف فلا يكون هذا هو المتيقن لأن الطرف الآخر أيضا يكون فيه احتمال التطبيق كما كان في الطرف المضطر إليه.

وفيه حدوث العلم لا يكفي للبقاء فإذا فرض عدم انحفاظ العلم بعد طروّ الاضطرار لا يكون هذا كافيا في القول بتنجيز العلم ولو كان كافيا لتمّ كلام الشيخ والنائيني قدهما أيضا وفي المقام الشك في بقاء الحكم لا يكون مثل ساير الموارد بل يكون الشك ساريا بمعنى أنه يوجب هدم العلم الّذي كان من قبل لأن المدار في التنجيز وعدمه هو العلم وجودا وعدما فلا بد من التمسك بما قال شيخنا الأستاذ في الاضطرار الطاري والخروج عن الابتلاء كذلك من العلم الإجمالي المورب التدريجي الّذي يكون باقيا بعد سقوط العلم الإجمالي العرضي وقد مرّ تقريبه هذا كله في الاضطرار إلى المعين.

واما الاضطرار إلى غير المعين فالأقوال فيه ثلاثة :

قول بعدم سقوط العلم عن التنجيز بالنسبة إلى الطرف الآخر سواء كان الاضطرار قبل العلم أو بعده وقول بعدم التنجيز مطلقا وقول بأن حاله مثل الاضطرار إلى المعين ففي صورة كونه قبل العلم لا يكون العلم منجزا وفي صورة كونه بعده يكون منجزا.

اما القول الأول فعن الشيخ الأنصاري قده واستدل له بما حاصله ان الاضطرار إلى المعين كان بنفسه مضادا مع العلم واما الاضطرار إلى غير المعين لا يكون مضادا معه فانه في صورة كونه في المعين لو علمنا به أيضا بعلم تفصيلي كان التكليف بالاجتناب عنه ساقطا بخلاف صورة كون الاضطرار إلى غير المعين فانه لو علمنا به لزم اختيار الطرف الآخر وبعبارة أخرى ان الأصول في الطرفين متعارضة فان أصالة الطهارة في هذا الكأس يتعارض مع أصالة الطهارة في ذاك والعلم يؤثر اثره وتطبيق الاضطرار على بعض الأطراف لا يوجب سقوط العلم بالنسبة إلى الطرف الآخر.

لا يقال هذا يكون في الاضطرار الّذي يكون بعد العلم الإجمالي واما الاضطرار قبل العلم الإجمالي فحيث يكون التكليف في الواقع مقيدا بعدم الاضطرار وهو

٤٤٨

إلى أحدهما حاصل لا يكون العلم منجزا لاحتمال التطبيق كما عن الخراسانيّ قده.

لأنا نقول التكليف الواقعي لا يكون منوطا باختيار أحد الأطراف بل هو قبل الاختيار يكون منجزا والأصول عنده متعارضة واختيار أحد الأطراف يوجب تطبيق الاضطرار على هذا الفرد ولا يوجب تطبيق التكليف الّذي تنجز في الواقع أيضا على هذا المعين المختار فيجب الاجتناب عن الآخر أيضا.

وبتقريب آخر يمكن ان يقال ان العلم الإجمالي بأن الاجتناب عن النجس في البين لا شبهة فيه فان وجود تكليف بالاجتناب بين الكأسين الذين أحدهما نجس يكون حتميا غاية الأمر في ظرف الامتثال حيث يكون الاضطرار إلى أحد الأطراف مانعا عن الامتثال التام يجب الامتثال الناقص والترخيص يكون في مرحلة الامتثال لا في مرحلة الجعل فهو ترخيص ظاهري لا واقعي وأصل الكلام بين القائل بالتنجيز والقائل بعدمه هو توهم أن الترخيص في مرحلة الجعل ليكون سندا للبراءة أو في مرحلة الامتثال ليكون سندا للاشتغال والحق هو الثاني.

لا يقال هذا يكون على فرض كون العلم الإجمالي علة تامة وأما على فرض كونه مقتضيا فلا يكون التنجيز حاصلا لأن الأصل في الطرف الغير المختار للاضطرار لا يكون له معارض ضرورة أن الأصل في الكأس المضطر إليه المختار لا يكون جاريا للاضطرار.

لأنا نقول الأصل يحسب بالنسبة إلى مرحلة الجعل لا مرحلة الامتثال ففي المرحلة الثانية وان كان كذلك ولكن في مرحلة الجعل قبل الاختيار يكون الأصول كما مر فعلى مسلك القائل بالاقتضاء أيضا لا يجري الأصل في الطرف الآخر والخراسانيّ قده يزعم أن الترخيص في مرحلة الامتثال يرجع روحه إلى الترخيص في مرحلة الجعل فان الشارع إذا لم يحفظ تكليفه حتى في ظرف الجهل بجعل الاحتياط أو برفع الجهل تكوينا وحكم بالترخيص في مورد الاضطرار ولم يحكم بالاحتياط يكشف عنه عدم فعلية التكليف في هذا الظرف ولكن لا يتم ما ذكره لأن الترخيص في مرحلة الامتثال لا ربط له بالجعل فان التكليف فعلى يجب الخروج عن عهدته

٤٤٩

بقدر الإمكان (١)

ومن هنا ظهر سند قول المفصل القائل بأن الاضطرار إلى غير المعين يكون كالاضطرار إلى المعين فان سنده ما مر في المعين.

وحاصله ان التكليف إذا كان الاضطرار طارئا عليه لا يسقط عن التنجيز واما إذا كان الاضطرار قبله فحيث يحتمل التطبيق يكون مانعا عن التنجيز والجواب عنه ان الاضطرار إلى غير المعين يكون اختيار أحد الأطراف موجبا لتطبيق الاضطرار عليه ولا يكون موجبا لتطبيق التكليف في الواقع على هذا الفرد المعين فتحصل أن الحق ان الاضطرار إلى غير المعين قبلا كان أو بعدا لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز.

تذييل

قد اشتهر في السنة الأصوليين اصطلاح الواسطة في التكليف والواسطة في التنجيز في الاضطراري كونه واسطة كذا أو كذا ومعنى الواسطة في التكليف هو كون التكليف لو لا ذلك فعليا ومعه يكون ساقطا عنه الفعلية بواسطة الاضطرار ومعنى الواسطة في التنجيز هو ان التكليف يكون فعليا على أي حال ويكون الجهل

__________________

(١) أقول وبعد الاختيار وان كان الشبهة بالنسبة إلى الطرف الآخر بدوية ولكن يكون مثل إهراق أحد الإناءين غاية الأمر يكون هنا استعمال أحدهما للاضطرار الّذي يكون مجوز الارتكاب وان كان بعد في الذهن شيء وهو انه إذا كان الاستعمال لأحد الأطراف بحكم الشرع جائزا ويكون احتمال تطبيق الواقع عليه يكون الشبهة بالنسبة إلى الطرف الآخر بدوية لحكم الشارع بارتكاب أحد الأطراف إلّا أن يقال ان هذا يكون بعد التكليف والضرورات تتقدر بقدرها.

ولكن الكلام في إثبات التكليف في هذا المقام مع هذا الاضطرار فانه في الاضطرار إلى المعين ما كان الجهل سببا لانحلال العلم الإجمالي بل احتمال التطبيق جعل الشبهة في الطرف الآخر بدوية وهنا أيضا يكون احتمال المصادفة فتأمل.

٤٥٠

بالتكليف مانعا عن التنجيز.

ثم انه لا إشكال عندهم في كون الجهل في باب الأقل والأكثر بالأكثر واسطة في التنجيز لأن التكليف في الواقع محفوظ ويكون الحكم بالبراءة عن الأكثر على القول بها في الارتباطيين ظاهريا لأن البراءة عن الأكثر تكون في ظرف الإتيان بالأقل واما في ظرف ترك الأقل فلا يكون الحكم بالبراءة فالتكليف على الأكثر يكون منجزا على فرض ترك الأقل وغير منجز على فرض إتيانه.

ولا إشكال في ان (١) الاضطرار إلى المعين يكون واسطة في التكليف لأن

__________________

(١) أقول الاضطرار إلى المعين ما كان في جميع الصور واسطة في التكليف بل في صورة كون الاضطرار قبل العلم الإجمالي واما في صورة كونه بعده فقد مرّ تنجيز العلم الإجمالي فلا يكون مطلقا واسطة في التكليف.

واما الاضطرار إلى غير المعين فيختلف حسب اختلاف المسالك ولكن لا يكون واسطة في التكليف ولا في التنجيز على مسلك النائيني بتنجيز العلم الإجمالي لأنهم لا يقولون بأنه يوجب البراءة كما في باب الأقل والأكثر ولا وساطة له بالنسبة إلى التكليف في البين.

واما بالنسبة إلى أحد الأطراف وان كان واسطة ولكن في الواقع لا يكون الوساطة في التكليف أو التنجيز بالنسبة إلى الواقع في البين.

واما على مسلك القائل بعدم تنجيز العلم الإجمالي فلا فرق بين كونه واسطة في التنجيز أو في التكليف من حيث الأثر الشرعي فما قال النائيني قده من عدم الأثر واحتمال كلا الوجهين يكون على فرض كونه واسطة في التنجيز أو التكليف واما على فرض كونه غير واسطة في التنجيز فلا فرق بين كونه غير واسطة في التكليف أم لا بل لا يكون واسطة في التكليف أيضا بتمام المعنى وبالنسبة إلى الواحد من الأطراف لا يكون للتكليف أثر سواء كان واسطة في التنجيز أو التكليف.

واما الشيخ قده فلا أدري كيف يراه واسطة في التكليف على ما حكى عنه وانى لم أجد كلامه في رسائله مع قوله بتنجيز العلم الإجمالي فان الاضطرار في الواقع لا يكون له وساطة بل التكليف بحاله ولا مانعية له فان الواسطة يكون معناها المانعية ـ

٤٥١

التكليف في الواقع يكون مقيدا بعدم الاضطرار إلى متعلقه فالاجتناب عن النجس يكون الأمر به في صورة عدم الاضطرار إلى ما هو في الواقع يكون نجسا على فرض مصادفة الواقع معه فلا يكون التكليف مسلما على أي حال.

ولكن الاختلاف في أن الاضطرار إلى غير المعين هل يكون واسطة في التنجيز أو في التكليف واختار الثاني الشيخ قده.

وقال (١) شيخنا النائيني (في الفوائد ص ٣٣ ـ ٣٤) يمكن ان يقال بأنه واسطة في التنجيز أو واسطة في التكليف ولكل وجه وبيانه ان لكل من الجهل بالواقع والاضطرار دخلا في رفع التكليف لأنه لو لا الجهل بالواقع لكان اللازم تطبيق الاضطرار على غير فرد النجس مثلا في دوران الأمر بين اختيار هذا أو ذاك لرفع الاضطرار والمانع من ذلك هو الجهل.

واما الاضطرار فهو له دخل من جهة أنه لولاه لكان اللازم الاجتناب عن كل أطراف الشبهة ولم يحصل ما يوجب الترخيص في البعض فالتخيير في ارتكاب أحد الأطراف يكون مستندا إلى امرين الجهل والاضطرار وحينئذ فلا بد من ملاحظة

__________________

ـ عن التكليف أو تنجيزه ومع القول بوجوب امتثال التكليف أين الوساطة كما مر.

نعم لمثل الخراسانيّ (قده) ان يبحث عن ذلك ومع ذلك لا فائدة ظاهرا في تعيين كونه واسطة في التنجيز أو التكليف كما قال النائيني قده.

والحاصل ان البحث عن الوساطة في التكليف أو التنجيز لا يكون في كلام النائيني قده مشروحا بحيث يفهم منه الوساطة بالنسبة إلى بعض الأطراف أو جميعها وبالنسبة إلى البعض أيضا لا يكون الوساطة وساطة تامة في التنجيز أو التكليف في المعين وغيره.

وكلمات الشيخ قده في أصل عنوان الاضطرار إلى المعين أو إلى غير المعين لا يكون صريحا فيما نسب إليه من الوساطة في التكليف في غير المعين بل ما يظهر من عباراته هو الوساطة في التنجيز وان لم يكن هذا عنوانا مستقلا في كلماته.

(١) كلامه في فوائد الأصول الجزء الرابع ص ٣٣ و ٣٤ هذا حاصله.

٤٥٢

الجزء الأخير الّذي يكون سببا للترخيص في بعض الأطراف فان كان هو الجهل يكون الترخيص ظاهريا ويكون واسطة في التنجيز كما في ساير موارد الترخيص المستفاد من أدلة البراءة وأصالة الحل مع بقاء الواقع على ما هو عليه بلا تصرف فيه فان الترخيص الظاهري لا يصادم الواقع كما أوضحناه في محله وان كان الجزء الأخير هو الاضطرار فالترخيص يكون واقعا ويلزمه التوسط في التكليف والإنصاف أن لكل من الأمرين وجه قوى انتهى.

ولكن التحقيق ان العلم الإجمالي منجز ولا يكون الاضطرار إلى المعين مانعا من تنجيزه وقال الشيخ قده أنه لو لا رفع اليد عن الواقع لا يكون وجه للقول بالترخيص في أحد الأطراف فانه يكون كاشفا عن رفع اليد عنه.

الأمر الخامس (١) في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء

وقبل الشروع في المطلب يجب بيان ضابطة الخروج عن الابتلاء وعدمه فقال شيخنا النائيني قده ان الضابطة في ذلك هي الخروج عن القدرة العقلية في الأمر والخروج عن محل الابتلاء بحيث لا يمكن الجمع بين جميع الأطراف فحب حنطة نجسة في منّ موجود خارجا يوجب الاجتناب عن الجميع ولو كان نسبته كنسبة الواحد إلى الألف ووجود نجس في إناء البلد لا يكون موجبا للاجتناب لعدم القدرة على الجمع بين جميع الأطراف.

كما ان العلم الإجمالي بنجاسة هذا الجنس أو ما يكون في أقصى بلاد الهند لا يوجب التنجيز لخروج ما في الهند عن القدرة العادية بالنسبة إلينا.

__________________

(١) هذا الأمر هو الأمر الثالث في فوائد الأصول من تنبيهات العلم الإجمالي فارجع لتفصيله إلى ص ١٧ جزء ٤ وفي الرسائل أيضا التنبيه الثالث في ص ٢٣٦ ولقد أجاد النائيني قده في ترتيبه على الرسائل ولكن الأستاذ مد ظله يقدم ويؤخر هذه التنبيهات وقد صرنا في تعب من ذلك ولا ندري سره.

٤٥٣

وبين الأوامر والنواهي فرق عنده وهو انه في النواهي يلزم ان يكون مما إليه الابتلاء عادة فما يكون خارجا عن محل الابتلاء حيث انه منترك في نفسه لا يصح النهي عنه لاستهجان النهي عنه واما في الأوامر فليس هذا بشرط لأن المطلوب هو إيجاد الواقع وفي ترك بعض الأطراف المقدور أيضا احتمال مخالفة الواقع فيجب الامتثال وخروج بعض الأطراف عن الابتلاء لا يوجب سقوط الأمر لأن المصلحة التامة في المأمور به ربما تدعو إلى إتيان ما هو خارج عن القدرة عادة وان لزم منه الحرج لو لا دليل نفي الحرج نعم القدرة العقلية شرط فيه.

لا يقال ان الأوامر والنواهي كلاهما لا يكونان منوطين بإرادة المكلف وإلّا يلزم ان يكون المريد للوضوء للتبريد غير مأمور به لأنه يريده وان يكون الصارف عن شرب الخمر غير منهي ومعلوم ان الأمر والنهي يكون بالنسبة إلى الصارف عن المنهي عنه والطالب للمأمور به أيضا.

لأنا نقول ان ما لا يمكن ان يكون دخيلا في الأمر والنهي هو الإرادة التي تكون في سلسلة علل الأحكام.

ومن المعلوم ان الأحكام لا يكون إلّا تابعا للمصالح والمفاسد النّفس الأمرية لا إرادات المكلفين ولكن القدرة العادية على إتيان المكلف به أو تركه يمكن دخلها في التكليف وفي سلسلة العلل والحاصل فرق بين عدم القدرة على المأمور به أو المنهي عنه أو عدم الإرادة والكلام يكون بالنسبة إلى الخارج عن محل الابتلاء وهو يكون خارجا عن القدرة.

ولكن الّذي يمكن الإشكال عن النائيني قده به هو ان فرقه بين الأمر والنهي لا يكون في محله فان تلقى الخطابات يكون بيد العرف فربما يكون الخطاب بالنسبة إلى شيء مستهجنا عنده والأمر والنهي سواء في ذلك فان من لا يكون مظنة للاجتهاد أصلا لا يكون نهيه عن التسامح في الفتوى في محله وهكذا من لا يكون في شأنه عاديا تزويج بنات الملوك فأمره بتزويجهن يكون مستهجنا مضحكا فمن يكون أجنبيا بالنسبة إلى الخطاب يكون أجنبيا بالنسبة إلى الملاك أيضا فلا يقال ان الملاك حيث

٤٥٤

يكون تاما في الأوامر لا يضر خروج أحد الأطراف عن الابتلاء.

ولا يخفى ان الخطاب المشروط أيضا غلط بالنسبة إلى من يكون المتعلق خارجا عن قدرته عادة فانه يستهجن خطاب من لا يقدر على تزويج بنات الملوك بأنه ان قدرت فزوّجهن.

واما ما أجاب به عن الإشكال اللازم عليه من توقف الأحكام على إرادات المكلفين بأنه فرق بين عدم القدرة على الشيء أو عدم إرادته والكلام في عدم القدرة لا عدم الإرادة فلا يتم لما ذكرناه لأن الأوامر والنواهي سواء في ذلك فإذا لم يكن الخطاب متلقى في نظر العرف بالنسبة إلى شخص لا فرق بين الأمر والنهي والملاك هو القدرة على الإتيان أو الترك في وجود الخطاب والملاك هذا كله في صورة العلم بخروج الشيء عن محل الابتلاء.

واما إذا شك في شيء من حيث كونه محل الابتلاء وعدمه فله صور من جهة كون الشبهة مصداقية أو صدقية أو مفهومية ومن جهة كون الشبهة من جهة كون العلم الإجمالي قبل الخروج عن محل الابتلاء حتى لا يكون الخروج عنه مسقطا للتنجيز كما في إهراق أحد الإناءين بعد العلم بنجاسة أحدهما أو قبل العلم الإجمالي حتى لا يكون العلم منجزا فإذا كانت الشبهة في المصداق فالعلم الإجمالي يكون منجزا.

ووجهه هو أن التكليف بعد كونه معلوما يكون الشك في الصورة على امتثاله وقد حرر في محله ان الشك في القدرة وان كان يرجع إلى الشك في التكليف ولكن لا يكون هذا الشك في التكليف مرجعه إلى البراءة بل يجب الاحتياط أو الفحص ليظهر الواقع لأن الملاك في أصل التكليف موجود ورجوعه إلى الشك في التكليف لا يفيد هنا لجريان البراءة لأن روحه يرجع إلى الشك في الامتثال وهذا كلام متين عن شيخنا النائيني قده أيضا.

ولكن عدل عنه في الدورة الأخيرة لإشكال أورده على التقريب السابق وهو ان صورة الخروج عن الابتلاء أيضا تكون مثل هذه الصورة من جهة عدم إحراز الملاك فانه في صورة القطع بعدم كون ما في أقصى بلاد الهند مورد الابتلاء لا يكون

٤٥٥

الملاك للاجتناب عن الخمر الّذي يكون متعلق العلم محرزا.

فهكذا في صورة الشك في ذلك فإذا لم نعلم ان الفاصلة بيننا وبين البلد الكذائي كذا فرسخ حتى يكون خارجا عن الابتلاء أو أقل حتى لا يكون كذلك لا يكون الملاك بالنسبة إلى هذا الطرف محرزا فتصير الشبهة بالنسبة إلى الطرف الّذي يكون محل الابتلاء بدوية وغير لازمة الاجتناب ولا يكون عدم القدرة عقليا بل عاديا.

وسرّ عدم الاجتناب في صورة القطع عدم إحراز الملاك فهكذا في صورة الشك.

وفيه ان القياس مع الفارق فانه في صورة القطع بعدم القدرة العادية لا يكون التكليف محتملا أيضا ولا يكون مخالفته خروجا عن رسم العبودية واما في صورة الشك فيكون احتمال القدرة موجبا لاحتمال بقاء التكليف ويكون المخالفة بالنسبة إلى ما هو محل الابتلاء خروجا عن رسم العبودية فالاعتذار عن المولى في صورة القطع ممكن وفي صورة الشك لا يكون ممكنا ونحن نحرز عدم الدخل في الملاك فالتعليل بان عدم إحراز الملاك يكون فيهما ضعيف غايته وعلى فرض احتمال دخل القدرة في الملاك فالأصل وان كان يقتضى البراءة ولكن ليس المقام منه فان القدرة تكون عادية ومن شرائط الامتثال لا العقلية التي تكون من شرائط التكليف وليته (قده) لم يعدل ولعل هذا يكون من اشتباه المقرر.

لا يقال ما ذكرتم من وجوب الاحتياط يكون على فرض العلم التفصيلي بالتكليف والشك في القدرة العادية بالنسبة إليه واما إذا كان العلم الإجمالي به فلا يكون كذلك لأنه يلزم ان يكون موجبا للتكليف بأي طرف وقع ومعلوم انه مع الشك في القدرة لا يكون التكليف بالنسبة إلى ما هو المشكوك محرزا وفي الطرف الآخر أيضا تصير الشبهة بدوية فلنا الشك في متعلق التكليف والشك في التطبيق بالنسبة إلى ما هو مشكوك الابتلاء ولا يمكن إحراز التكليف على أي نحو كان.

لأنا نقول الشك في أصل التكليف بالنسبة إلى المتعلق لا يختص بالمقام بل كل علم إجمالي يكون الشك في أطرافه واما الشك من جهة احتمال التطبيق أيضا

٤٥٦

فلا يفيد لإسقاط التكليف لأنه على فرض وجود الابتلاء في الواقع يكون التكليف محرزا فيجب الاعتناء به لأنه يعد المخالف عاصيا بالنسبة إلى ما هو مورد الابتلاء فلا يكون أثر للشكين فالعلم منجز.

ومن هنا ظهر حكم الشبهة الصدقية التي كالمصداقية والمفهومية أيضا فانه إذا لم يعلم ان الخروج عن الابتلاء هل يصدق بالنسبة إلى الف فرسخ أو يجب ان يكون أزيد حتى يصدق من جهة عدم معلومية مفهوم الخروج عن الابتلاء فهو أيضا يكون من الشك في القدرة بعد إحراز التكليف فيجب الاجتناب عن الطرف الآخر لاحتمال القدرة على المشكوك أيضا.

هذا هو الوجه الأول للقول بالاشتغال في صورة الشك في الخروج عن الابتلاء وعدمه.

اما الوجه الثاني فهو عن الشيخ الأنصاري (قده) وحاصل ما أفاده هو ان التمسك بالإطلاقات أو العمومات مثل لا تشرب الخمر واجتنب عن النجس في مقام الشك في كون بعض الأطراف موردا للابتلاء أم لا يكون بلا مانع وان كانت الشبهة في المفهوم لتردده بين الأقل والأكثر لأن ما هو خارج عن تحت العموم يكون ما هو خارج قطعا عن الابتلاء وما يكون مشكوك الابتلاء فحيث يكون من الشك في زيادة التخصيص بالنسبة إليه يجري أصالة العموم وأصالة الإطلاق خصوصا في المقام الّذي يكون المخصص لبيا وهو حكم العقل.

فان التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية في المخصص اللبي يكون صحيحا فضلا عن كون الشبهة مفهومية ولا يكون استهجان الخطاب في المقام كما هو في مورد القطع بالخروج عن الابتلاء ولا تتوهم ان التمسك بالإطلاق في المقام يكون بعد إحراز النجس كما توهمه البعض بل يكون الكلام في مورد الشك كما هو واضح.

قال شيخنا النائيني في الفوائد (الجزء الرابع ص ١٩) فان قلت بأن الشبهة إذا كانت مفهومية لا ندري ان الخروج عن الابتلاء يصدق ببعد المسافة مقدار ألفين ويكون الف فرسخ أو المخصص متصلا بالعامّ يمنع عن انعقاد الظهور له وفي المقام

٤٥٧

يكون المخصص العقلي متصلا ولا يمكن القول بانعقاد الظهور له حتى يكون مرجع الشك إلى زيادة التخصيص وعدمها فيتمسك بالعامّ لدفع الشبهة ولا فرق بين كون المخصص لفظيا أو لبيا في سراية الإجمال.

فقال قلت لا يكون المقام من المخصص المتصل بل من المنفصل لأن ما هو متصل هو عدم القدرة العقلية فان العقل لا يتلقى الخطاب إذا لم يكن القدرة العقلية على امتثاله وإذا شك في وجود هذا النحو من القدرة يشك في وجود العام وعدمه ولا ينعقد الظهور.

واما إذا كان المخصص هو عدم القدرة العادية فلا يكون الحاكم الّذي هو العقل كالمخصص المتصل بل العقل بعد تعمّل شديد يفهم ان الخطاب مستهجن مع عدم القدرة العادية ففي مورد القطع بعدم الابتلاء يكون التخصيص مسلما وفي صورة الشك يتمسك بالعامّ ولا يسرى إجماله إليه لكونه في حكم المنفصل ولذا نفرق بين الأمر والنهي في القدرة العادية.

فنقول بأن تلقى الخطاب في النواهي مشروط بالقدرة العادية بخلاف الأوامر لتمامية الملاك بخلاف القدرة العقلية فانهما فيها سواء وهذا الكلام عنه قده متين جدا.

والحق مع الشيخ إلّا أنه لا فرق بين الأوامر والنواهي في تلقى الخطاب وعدمه في القدرة العادية كما مرّ.

ثم انه قده قد أجاب بجواب آخر غير تام وهو أنه قال علي فرض تسليم كون المخصص متصلا أيضا يمكن منع سراية إجماله إلى العام في المقام لأن سراية الإجمال تكون في المخصص الّذي يكون له عنوان واقعي غير مختلف المراتب مثل إذا قيل أكرم العلماء ثم خرج منه الفاسق فحصل الترديد من حيث المفهوم بين كون الفاسق هو مرتكب الكبيرة فقط أو يشمل حتى مرتكب الصغيرة أيضا فان الفسق حيث لا يكون له مراتب ففي مورد مرتكب الصغيرة لا يمكن التمسك بالعامّ ولا بالمخصص لسراية الإجمال إليه.

واما إذا كان الخاصّ مما له مراتب ويمكن تصوير الأقل والأكثر فيه فلا يكون

٤٥٨

إجمال حتى يسرى إلى العام كما في المقام لوجود القدر المتيقن فان مفهوم الخروج عن الابتلاء يكون له مراتب فان الخروج عنه بألفين من الفرسخ متيقن مثلا وبألف مشكوك فما هو المتيقن يكون خارجا عن تحت العام وما هو المشكوك يكون باقيا تحته للشك في زيادة التخصيص.

والجواب عنه قده أنه لا فرق بين المقام وصورة كون الخارج عن تحت العام عنوان واحد مثل الفسق ضرورة أنه لا يكون التمسك بأصالة العموم والإطلاق من باب التعبد المحض بل من باب بناء العقلاء وانعقاد الظهور ولا يكون عنوان الخارج عن الابتلاء الا مثل عنوان الفاسق الّذي يكون امره دائرا بين الوجود والعدم فإذا كان في المقام ما يحتمل كونه مخصصا أم لا يكون الشك في أن العام هل يشمل هذا المورد أم لا ولا ينعقد الظهور عند العقلاء.

وفرق بين الشك في أصل وجود المخصص أو في مخصصيّة الموجود فان الأول يكون الأصل عدمه واما الثاني فيمنع عن انعقاد الظهور عند العقلاء نظير صورة كون الشك في أصل وجود المانع عند الوضوء فان الأصل عدمه ووجود مانع مثل الخاتم يشك في مانعيته فانه يجب إحراز عدم المانعية فما يحتمل القرينية يكون مانعا عن التمسك بالعامّ فكيف فرق قده في المقام.

فتحصل ان التمسك بالعامّ يكون لخصوص كون المخصص منفصلا وعلى فرض اتصاله يسرى إجماله إليه.

وقد أشكل الخراسانيّ على الشيخ في الكفاية ص ٢٢٣ بما حاصله أن التمسك بالإطلاق يكون في صورة الشك في مطابقة الإرادة الاستعمالية للإرادة الجديّة كما إذا شك في دخل قيد وعدمه فهو يطرد القيد ويقال انه لو كان دخيلا لكان اللازم ذكره في الخطاب وحيث لم يذكر لم يكن دخيلا واما إذا كان الشك في وجود ما هو معتبر في صحة الخطاب فلا يتمسك بالإطلاق ففي المقام يكون الشك في وجود القدرة حيث لا نعلم أن المورد الفلاني خارج عن الابتلاء أم لا بعد إحراز أن الخارج عنه يكون غير مكلف به فيكون الأصل هنا البراءة ولا يكون القول بالاحتياط الا

٤٥٩

كالشبهة البدوية.

وقد أجاب (١) عنه شيخنا النائيني قده بما حاصله أن الوقوع يكون أخصّ من الإمكان فكل مورد حصل الوقوع يكون الإمكان مسلما بخلاف العكس ونحن إذا رأينا الخطاب وإطلاقه نكشف بذلك الإطلاق في مقام الظاهر الإطلاق الواقعي وإلّا فلا يصح التمسك بالإطلاق في كل مورد ضرورة أنه يكون الشك في حقيقة الإطلاق واقعا إذا كان الشك في دخل قيد من القيود مع أنه يكشف عدم الدخل بنصّ الإطلاق فلا يتم كلام الخراسانيّ قده.

ثم انه قد وجه شيخنا الأستاذ العراقي كلامه بما يكون جوابا عن النائيني وهذا التوجيه بعينه هو إشكال شيخنا الحائري وحاصله ان لنا حكما ظاهريا يكون كاشفه الخطاب وظهوره وحكم واقعي وهو يكون دائرا مدار الإطلاق في الواقع وكشف الواقع وان كان بواسطة الإطلاق في الظاهر ولكن في صورة تمامية ظهور المطلق في إطلاقه في مقام الظاهر واما إذا كان الشك في هذا الظهور فلا يكون وجه للقول بالإطلاق في الواقع مستندا بهذا الظاهر ومراد الخراسانيّ قده هو عدم تمامية ظهور الخطاب في الظاهر للشك في القدرة التي تكون شرطا لصحته فلا يكون لنا إطلاق ليكشف منه الواقع لا أنه يكون لنا الإطلاق ومع ذلك لا يكشف منه الواقع فالواقع والظاهر كلاهما مشكوكان عنده قده وهو متين.

وقد يجاب بأن الحكم الظاهري يكون تابعا لبناء العقلاء على هذا الظهور وهو غير محرز حتى يتمسك بالإطلاق الّذي سنده غير محرز.

وأجيب عنه بأنه على فرض مصادفة الواقع يكون الإطلاق حكمه تنجيزيا وعلى فرض عدم المصادفة يكون معذرا فقط لأن الظهور لا يكون إلّا طريقا محضا إلى الواقع فحيث يكون احتمال المصادفة يتمسك بالإطلاق.

__________________

(١) في الفوائد بعد عنوان الكلام بدون ذكر كونه هذا عن الخراسانيّ بقوله ان قلت وأجاب بقوله قلت فلاحظ كلامه.

٤٦٠